أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه‌السلام.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥))

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) عن اتباع الحق والثبات عليه.

(وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) وقطع العطاء من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية وهي الصخرة الصلبة فترك الحفر. والأكثر على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعيره بعض بعض المشركين وقال : تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله تعالى فضمن أن يتحمل عنه العقاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطى بعض المشروط ثم بخل بالباقي.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) يعلم أن صاحبه يتحمل عنه.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٣٨)

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وفى وأتم ما التزمه أو أمر به ، أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله ، وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى أتاه جبريل عليه‌السلام حين ألقي في النار فقال ألك حاجة ، فقال أما إليك فلا ، وذبح الولد وأنه كان يمشي كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم ، وتقديم موسى عليه الصلاة والسلام لأن صحفه وهي التوراة كانت أشهر وأكبر عندهم.

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن هي المخففة من الثقيلة وهي بما بعدها في محل الجر بدلا مما (فِي صُحُفِ مُوسى) ، أو الرفع على هو أن (أَلَّا تَزِرُ) كأنه قيل ما في صحفهما؟ فأجاب به ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يخالف ذلك قوله تعالى : (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) وقوله عليه الصلاة والسلام ، «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك للدلالة والتسبب الذي هو وزره.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى)(٤١)

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) إلا سعيه أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله ، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت فلكون الناوي له كالنائب عنه.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجزي العبد سعيه بالجزاء الأوفر فنصب بنزع الخافض ، ويجوز أن يكون مصدرا وأن تكون الهاء للجزاء المدلول عليه بيجزي و (الْجَزاءَ) بدله.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)(٤٤)

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) انتهاء الخلائق ورجوعهم ، وقرئ بالكسر على أنه منقطع عما في الصحف وكذلك ما بعده.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) لا يقدر على الإماتة والإحياء غيره فإن القاتل ينقض البنية والموت يحصل عنده بفعل الله تعالى على سبيل العادة.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى)(٤٧)

١٦١

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) تدفق في الرحم أو تخلق ، أو يقدر منها الولد من منى إذا قدر.

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الإحياء بعد الموت وفاء بوعده ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدة وهو أيضا مصدر نشأ.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى)(٤٩)

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) وأعطى القنية وهو ما يتأثل من الأموال ، وإفرادها لأنها أشف الأموال أو أرضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) يعني العبور وهي أشد ضياء من الغميصاء ، عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخالف قريشا في عبادة الأوثان ، ولذلك كانوا يسمون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي كبشة ، ولعل تخصيصها للإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وإن وافق أبا كبشة في مخالفتهم خالفه أيضا في عبادتها.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى)(٥٤)

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه والسلام. وقيل «عاد الأولى» قوم هود وعاد الأخرى إرم. وقرئ «عادا لولى» بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى لام التعريف وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الاولى بضم اللام بحركة الهمزة وبإدغام التنوين ، وقالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.

وثمودا عطف على (عاداً) لأن ما بعده لا يعمل فيه ، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين ويقفان بغير الألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف. (فَما أَبْقى) الفريقين.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أيضا معطوف عليه. (مِنْ قَبْلُ) من قبل عاد وثمود. (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من الفريقين لأنهم كانوا يؤذونه وينفرون عنه ويضربونه حتى لا يكون به حراك.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ) والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهي قرى قوم لوط. (أَهْوى) بعد أن رفعها فقلبها.

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) فيه تهويل وتعميم لما أصابهم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى)(٥٦)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) تتشكك والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد والمعدودات وإن كانت نعما ونقما سماها (آلاءِ) من قبل ما في نقمه من العبر والمواعظ للمعتبرين ، والانتقام للأنبياء والمؤمنين.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة ، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)(٥٨)

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ).

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله لكنه لا يكشفها ، أو

١٦٢

الآن بتأخيرها إلا الله ، أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله إذ لا يطلع عليه سواه ، أو ليس لها من غير الله كشف على أنها مصدر كالعافية.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٦٢)

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (تَعْجَبُونَ) إنكارا.

(وَتَضْحَكُونَ) استهزاء. (وَلا تَبْكُونَ) تحزنا على ما فرطتم.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه ، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود وهو الغناء.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي واعبدوه دون الآلهة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة».

١٦٣

(٥٤) سورة القمر

مكية وآيها خمس وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣)

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روي أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فانشق القمر. وقيل معناه سينشق يوم القيامة ويؤيد الأول أنه قرئ «وقد انشق القمر» أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها انشقاق القمر ، وقوله :

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) عن تأملها والإيمان بها. (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) مطرد وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخر مترادفة ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك ، أو محكم من المرة يقال أمررته فاستمر إذا أحكمته فاستحكم ، أو مستبشع من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته أو مارّ ذاهب لا يبقى.

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وهو ما زين لهم الشيطان من رد الحق بعد ظهوره ، وذكرهما بلفظ الماضي للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاوة ، أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر ، وقرئ بالفتح أي ذو مستقر بمعنى استقرار وبالكسر والجر على أنه صفة أمر ، وكل معطوف على الساعة.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ)(٥)

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ) في القرآن (مِنَ الْأَنْباءِ) أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة. (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) ازدجار من تعذيب أو وعيد ، وتاء الافتعال تقلب دالا مع الذال والدال والزاي للتناسب ، وقرئ «مزجر» بقلبها زايا وإدغامها.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) غايتها لا خلل فيها وهي بدل من ما أو خبر لمحذوف ، وقرئ بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو مخصوصة بالصفة نصب الحال عنها. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) نفي أو استفهام إنكار ، أي فأي غناء تغني النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر ، أو المنذر منه أو مصدر بمعنى الإنذار.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ)(٨)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك بأن الإنذار لا يغني فيهم. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) إسرافيل ، ويجوز أن يكون الدعاء فيه كالأمر في قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة للتخفيف وانتصاب (يَوْمَ) ب (يَخْرُجُونَ) أو بإضمار أذكر. (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله وهو هول يوم القيامة ، وقرأ ابن كثير بالتخفيف ، وقرئ «نكر» بمعنى أنكر.

١٦٤

خاشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث أي يخرجون من قبورهم خاشعا ذليلا أبصارهم من الهول ، وإفراده وتذكيره لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث ، وقرئ «خاشعة» على الأصل ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم (خُشَّعاً) ، وإنما حسن ذلك ولم يحسن مررت برجال قائمين غلمانهم لأنه ليس على صيغة تشبه الفعل ، وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء والخبر فتكون الجملة حالا. (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين مادي أعناقهم إليه ، أو ناظرين إليه. (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) صعب.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(١٠)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) قبل قومك. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام وهو تفصيل بعد إجمال ، وقيل معناه كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبوه بعد ما كذبوا الرسل. (وَقالُوا مَجْنُونٌ) هو مجنون. (وَازْدُجِرَ) وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية ، وقيل إنه من جملة قيلهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) بأني وقرئ بالكسر على إرادة القول. (مَغْلُوبٌ) غلبني قومي. (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم وذلك بعد يأسه منهم. فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه فيفيق ويقول : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)(١٢)

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصب ، وهو مبالغة وتمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها ، وقرأ ابن عامر ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة ، وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير للمبالغة. (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض ، وقرئ «الماءان» لاختلاف النوعين «الماوان» بقلب الهزة واوا. (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت ، أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما أخرج ، أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)(١٤)

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) ذات أخشاب عريضة. (وَدُسُرٍ) ومسامير جمع دسار من الدسر ، وهو الدفع الشديد وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها من حيث إنها كالشرح لها تؤدي مؤداها.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك جزاء لنوح لأنه نعمة كفروها ، فإن كل نبي نعمة من الله تعالى ورحمة على أمته ، ويجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير ، وقرئ «لمن كفر» أي للكافرين.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١٧)

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي السفينة أو الفعلة. (آيَةً) يعتبر بها إذ شاع خبرها واشتهر. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

١٦٥

معتبر ، وقرئ «مذتكر» على الأصل ، و «مذكر» بقلب التاء ذالا والإدغام فيها.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) استفهام تعظيم ووعيد ، والنذر يحتمل المصدر والجمع.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) سهلناه أو هيأناه من يسر ناقته للسفر إذا رحلها. (لِلذِّكْرِ) للادكار والاتعاظ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر ، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)(٢١)

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وإنذاري أتى لهم بالعذاب قبل نزوله ، أو لمن بعدهم في تعذيبهم.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردا أو شديد الصوت. (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم. (مُسْتَمِرٍّ) أي استمر شؤمه ، أو استمر عليهم حتى أهلكهم ، أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم فلم يبق منهم أحدا ، أو اشتد مرارته وكان يوم الأربعاء آخر الشهر.

(تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم ، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى. (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض. وقيل شبهوا بالأعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم ، وتذكير (مُنْقَعِرٍ) للحمل على اللفظ ، والتأنيث في قوله (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) للمعنى.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كرره للتهويل. وقيل الأول لما حاق بهم في الدنيا ، والثاني لما يحيق بهم في الآخرة كما قال أيضا في قصتهم (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)(٢٥)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) بالإنذارات والمواعظ ، أو الرسل.

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) من جنسنا أو من جملتنا لا فضل له علينا ، وانتصابه بفعل يفسره وما بعده وقرئ بالرفع على الابتداء والأول أوجه للاستفهام. (واحِداً) منفردا لاتبع له أو من آحادهم دون أشرافهم. (نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) جمع سعير كأنه عكسوا عليه فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على ترك اتباعهم له ، وقيل السعر الجنون ومنه ناقة مسعورة.

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) الكتاب أو الوحي. (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) وفينا من هو أحق منه بذلك. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) حمله بطره على الترفع علينا بادعائه إياه.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ)(٢٨)

(سَيَعْلَمُونَ غَداً) عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق وطلب الباطل أصالح عليه‌السلام أم من كذبه؟ وقرأ ابن عامر وحمزة ورويس ستعلمون على الالتفات أو حكاية ما أجابهم به صالح ، وقرئ «الأشر» كقولهم حذر في حذر و «الأشر» أي الأبلغ في الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير.

١٦٦

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مخرجوها وباعثوها. (فِتْنَةً لَهُمْ) امتحانا لهم. (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم وتبصر ما يصنعون. (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم لها يوم ولهم يوم ، و (بَيْنَهُمْ) لتغليب العقلاء. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه في نوبته أو يحضره عنه غيره.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)(٣١)

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف أحيمر ثمود (فَتَعاطى فَعَقَرَ) فاجترأ على تعاطي قتلها فقتلها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطي تناول الشيء بتكلف.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) صيحة جبريل عليه‌السلام. (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء ، وقرئ بفتح الظاء أي كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ)(٣٥)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ). (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ريحا تحصبهم بالحجارة أي ترميهم. (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) في سحر وهو آخر الليل أو مسحرين.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) إنعاما منا وهو علة لنجينا. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمتنا بالإيمان والطاعة.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٩)

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط. (بَطْشَتَنا) أخذتنا بالعذاب. (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) فكذبوا بالنذر متشاكين.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قصدوا الفجور بهم. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فمسحناها وسويناها بسائر الوجه. روي أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه‌السلام صفقة فأعماهم. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) وقرئ «بكرة» غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار معين. (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) يستقر بهم حتى يسلمهم إلى النار.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)(٤٢)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) كرر ذلك في كل قصة إشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب واستماع كل قصة مستدع للادكار والاتعاظ ، واستئنافا للتنبيه والاتعاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة ، وهكذا تكرير قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ونحوهما.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك منهم.

١٦٧

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) يعني الآيات التسع. (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب. (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شيء.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥)

(أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر العرب. (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الكفار المعدودين قوّة وعدّة أو مكانة ودينا عند الله تعالى. (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أم نزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب.

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ) جماعة أمرنا مجتمع (مُنْتَصِرٌ) ممتنع لا نرام أو منتصر من الأعداء لا نغلب ، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا والتوحيد على لفظ الجميع.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار وإفراده لإرادة الجنس ، أو لأن كل واحد يولي دبره وقد وقع ذلك يوم بدر وهو من دلائل النبوة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزلت قال لم أعلم ما هو فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس الدرع ويقول. سيهزم الجمع ، فعلمته».

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)(٤٨)

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) موعد عذابهم الأصلي وما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أشد ، والداهية أمر فظيع لا يهتدي لدوائه. (وَأَمَرُّ) مذاقا من عذاب الدنيا.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) عن الحق في الدنيا. (وَسُعُرٍ) ونيران في الآخرة.

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يجرون عليها. (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يقال لهم ذوقوا حر النار وألمها فإن مسها سبب التألم بها ، وسقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)(٥٠)

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إنا خلقنا كل شيء مقدرا مرتبا على مقتضى الحكمة ، أو مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده ، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبرا لا نعتا ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر ، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإضمار لما فيه من النصوصية على المقصود.

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة ، أو (إِلَّا) كلمة واحدة وهو قوله كن. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في اليسر والسرعة ، وقيل معناه معنى قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(٥٣)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أشباهكم في الكفر ممن قبلكم. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متعظ.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) مكتوب في كتب الحفظة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال. (مُسْتَطَرٌ) مسطور في اللوح.

١٦٨

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)(٥٥)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) أنهار واكتفى باسم الجنس ، أو سعة أو ضياء من النهار. وقرئ «نهر» وبضم الهاء جمع نهر كأسد وأسد.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مكان مرضي ، وقرئ «مقاعد صدق». (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) مقربين عند من تعالى أمره في الملك ، والاقتدار بحيث أبهمه ذوو الأفهام.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر».

١٦٩

(٥٥) سورة الرحمن

مكية أو مدنية أو متبعضة وآيها ثمان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(٤)

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها ب (الرَّحْمنُ) ، وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوحي وأعز الكتب ، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها ، ثم أتبعه قوله :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان ، وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع ، وإخلاء الجمل الثلاث التي هي أخبار مترادفة ل (الرَّحْمنُ) عن العاطف لمجيئها على نهج التعديد.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(٦)

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما ، وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ، ويعلم السنون والحساب.

(وَالنَّجْمُ) والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له. (وَالشَّجَرُ) الذي له ساق. (يَسْجُدانِ) ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجد من المكلفين طوعا ، وكان حق النظم في الجملتين أن يقال : وأجرى الشمس والقمر ، وأسجد النجم والشجر. أو (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) له ، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتصالهما ب (الرَّحْمنُ) ، لكنهما جردتا عما يدل على الاتصال إشعارا بأن وضوحه يغنيه عن البيان ، وإدخال العاطف بينهما لاشتراكهما في الدلالة على أن ما يحس به من تغيرات أحوال الأجرام العلوية والسفلية بتقديره وتدبيره.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)(٩)

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) خلقها مرفوعة محلا ومرتبة ، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته ، وقرئ بالرفع على الابتداء. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه ، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه‌السلام «بالعدل قامت السموات والأرض». أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما ، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقدار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والمواجب.

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) لئلا تطغوا فيه أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الإنصاف ، وقرئ «لا تطغوا» على

١٧٠

إرادة القول.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) ولا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه ، وتكريره مبالغة في التوصية به وزيادة حث على استعماله ، وقرئ (وَلا تُخْسِرُوا) بفتح التاء وضم السين وكسرها ، و (تُخْسِرُوا) بفتحها على أن الأصل (وَلا تُخْسِرُوا) في (الْمِيزانَ) فحذف الجار وأوصل الفعل.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(١٣)

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها) خفضها مدحوة. (لِلْأَنامِ) للخلق. وقيل الأنام كل ذي روح.

(فِيها فاكِهَةٌ) ضروب مما يتفكه به. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أوعية التمر جمع كم ، أو كل ما يكم أي يغطى من ليف وسعف وكفرى فإنه ينتفع به كالمكموم كالجذع والجمار والتمر.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به ، و (الْعَصْفِ) ورق النبات اليابس كالتين. (وَالرَّيْحانُ) يعني المشموم ، أو الرزق من قولهم : خرجت أطلب ريحان الله ، وقرأ ابن عامر «والحب ذا العصف والريحان» أي وخلق الحب والريحان أو وأخص ، ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف ، وقرأ حمزة والكسائي «والريحان» بالخفض ما عدا ذلك بالرفع ، وهو فيعلان من الروح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف ، وقيل «روحان» فقلبت واوه ياء للتخفيف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله : (لِلْأَنامِ) وقوله : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ).

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(١٦)

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة ، والفخار الخزف وقد خلق الله آدم من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ، ثم صلصالا فلا يخالف ذلك قوله خلقه من تراب ونحوه.

(وَخَلَقَ الْجَانَ) الجن أو أبا الجن. (مِنْ مارِجٍ) من صاف من الدخان. (مِنْ نارٍ) بيان ل (مارِجٍ) فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ)(٢٠)

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى ، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها ، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب. (يَلْتَقِيانِ) يتجاوران ويتماس سطوحهما ، أو بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه.

١٧١

(بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله تعالى أو من الأرض. (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية ، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ)(٢٤)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) كبار الدر وصغاره ، وقيل المرجان الخرز الأحمر ، وإن صح أن الدر يخرج من الملح فعلى الأول إنما قال منهما لأنه مخرج من مجتمع الملح والعذب ، أو لأنهما لما اجتمعا صارا كالشيء الواحد فكأن المخرج من أحدهما كالمخرج منهما. وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب (يَخْرُجُ) ، وقرئ «نخرج» و «يخرج» بنصب (اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ).

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ) أي السفن جمع جارية ، وقرئ بحذف الياء ورفع الراء كقوله:

لها ثنايا أربع حسان

وأربع فكلها ثمان

(الْمُنْشَآتُ) المرفوعات الشرع ، أو المصنوعات وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين أي الرافعات الشرع ، أو اللاتي ينشئن الأمواج أو السير. (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٢٧)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) من على الأرض من الحيوانات أو المركبات و (مَنْ) للتغليب ، أو من الثقلين. (فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ذاته ولو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله أي الوجه الذي يلي جهته. (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ذو الاستغناء المطلق والفضل العام.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٠)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما ذكرنا قبل من بقاء الرب وإبقاء ما لا يحصى مما هو على صدد الفناء رحمة وفضلا ، أو مما يترتب على فناء الكل من الإعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم ، ويعن لهم والمراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء في ذواتهم وصفاتهم نطقا كان أو غيره. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كل وقت يحدث أشخاصا ويجدد أحوالا على ما سبق به قضاؤه ، وفي الحديث «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين». وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ)(٣٣)

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة ، فإنه تعالى لا يفعل فيه

١٧٢

غيره وقيل تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك ، فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وأجد فيه ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وقرئ «سنفرغ إليكم» أي سنقصد إليكم. و (الثَّقَلانِ) الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما ، أو لأنهما مثقلان بالتكليف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه. (فَانْفُذُوا) فاخرجوا. (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ. (إِلَّا بِسُلْطانٍ) إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك ، أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض (فَانْفُذُوا) لتعلموا لكن (لا تَنْفُذُونَ) ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٦)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة ، أو مما نصب من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) لهب. (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) ودخان قال :

تضيء كضوء السراج السّلي

ط لم يجعل الله فيه نحاسا

أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم ، وقرأ ابن كثير (شُواظٌ) بالكسر وهو لغة (وَنُحاسٌ) بالجر عطفا على (نارٍ) ، ووافقه فيه أبو عمرو ويعقوب في رواية ، وقرئ «ونحس» وهو جمع كلحف. (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تمتنعان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٤٠)

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً) أي حمراء كوردة وقرئت بالرفع على كان التامة فيكون من باب التجريد كقوله :

ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

(كَالدِّهانِ) مذابة كالدهن وهو اسم لما يدهن به كالحزام ، أو جمع دهن وقيل هو الأديم الأحمر.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما يكون بعد ذلك.

(فَيَوْمَئِذٍ) أي فيوم تنشق السماء. (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) لأنهم يعرفون بسيماهم وذلك حين ما يخرجون من قبورهم ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم ، وأما قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) ونحوه فحين يحاسبون في المجمع ، والهاء للإنس باعتبار اللفظ فإنه وإن تأخر لفظا تقدم رتبة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ)(٤٦)

١٧٣

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) وهو ما يعلوهم من الكآبة والحزن. (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) مجموعا بينهما ، وقيل يؤخذون (بِالنَّواصِي) تارة وب (الْأَقْدامِ) أخرى.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها) بين النار يحرقون بها. (وَبَيْنَ حَمِيمٍ) ماء حار. (آنٍ) بلغ النهاية في الحرارة يصب عليهم ، أو يسقون منه ، وقيل إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب ، أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه ، أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضيف إلى الرب تفخيما وتهويلا ، أو ربه و (مَقامَ) مقحم للمبالغة كقوله :

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

(جَنَّتانِ) جنة للخائف الإنسي والأخرى للخائف الجني ، فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله ، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي ، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه ، أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ)(٥٠)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ) أنواع من الأشجار والثمار جمع فن ، أو أغصان جمع فنن وهي الغصنة التي تتشعب من فرع الشجرة ، وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل. قيل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ)(٥٤)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان غريب ومعروف ، أو رطب ويابس.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) من ديباج ثخين وإذا كانت البطائن كذلك فما ظنك بالظهائر ، و (مُتَّكِئِينَ) مدح للخائفين أو حال منهم ، لأن من خاف في معنى الجمع. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) قريب يناله القاعد والمضطجع ، (وَجَنَى) اسم بمعنى مجنى وقرئ بكسر الجيم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)(٥٨)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ) في الجنان فإن جنتان تدل على جنان هي للخائفين أو فيما فيهما من الأماكن والقصور ، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش. (قاصِراتُ الطَّرْفِ) نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) لم يمس الإنسيات إنس ولا الجنيات جن ، وفيه دليل على أن الجن يطمثون. وقرأ الكسائي بضم الميم. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) أي وحمرة الوجنة وبياض البشرة وصفائهما.

١٧٤

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦١)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل. (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب وهو الجنة.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦٥)

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين (جَنَّتانِ) لمن دونهم من أصحاب اليمين.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ) خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة ، وفيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض ، وعلى الأوليين الأشجار والفواكه دلالة على ما بينهما من التفاوت (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦٩)

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) فوارتان بالماء هو أيضا أقل مما وصف به الأوليين وكذا ما بعده.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما ، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء وثمرة الرمان فاكهة ودواء ، واحتج به أبو حنيفة رضي الله عنه على أن من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)(٧٤)

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ) أي خيرات فخففت لأن خيرا الذي بمعنى أخير لا يجمع ، وقد قرئ على الأصل.

(حِسانٌ) حسان الخلق والخلق.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) قصرن في خدورهن ، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي مخدرة ، أو مقصورات الطرف على أزواجهن.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) كحور الأولين وهم أصحاب الجنتين فإنهما يدلان عليهم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٧٨)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) وسائد أو نمارق جمع رفرفة. وقيل الرفرف ضرب من البسط أو ذيل الخيمة وقد يقال لكل ثوب عريض. (خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقري منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه اسم بلد للجن فينسبون إليه كل شيء عجيب ، والمراد به الجنس ولذلك جمع (حِسانٍ) حملا على المعنى.

١٧٥

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تعالى اسمه من حيث إنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته ، وقيل الإسم بمعنى الصفة أو مقحم كما في قوله :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

(ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقرأ ابن عامر بالرفع صفة للاسم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله تعالى عليه».

١٧٦

(٥٦) سورة الواقعة

مكية وآيها ست وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ)(٣)

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إذا حدثت القيامة ، سماها واقعة لتحقق وقوعها وانتصاب (إِذا) بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت.

(لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى ، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن ، واللام مثلها في قوله : (قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أو ليس لأحد في وقعتها كاذبة فإن من أخبر عنها صدق ، أو ليس لها حينئذ نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها من قولهم : كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته عليه وسولت له أنه يطيقه.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض قوما وترفع آخرين ، وهو تقرير لعظمتها فإن الوقائع العظام كذلك ، أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء الله ورفع أوليائه ، أو إزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو ، وقرئتا بالنصب على الحال.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً)(٧)

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) حركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ، والظرف متعلق ب (خافِضَةٌ) أو بدل من (إِذا وَقَعَتِ).

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته ، أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها ، (فَكانَتْ هَباءً) غبارا. (مُنْبَثًّا) منتشرا.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أصنافا. (ثَلاثَةً) وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ)(٩)

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنيئة من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، أو (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) و (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم ، أو أصحاب اليمن والشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. والجملتان الاستفهاميتان خبران لما قبلهما بإقامة الظاهر مقام الضمير ومعناهما التعجب من حال الفريقين.

١٧٧

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(١٢)

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) والذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، أو سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات ، أو الأنبياء فإنهم مقدمو أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم وعرفت مآلهم كقول أبي النجم :

أنا أبو النّجم وشعري شعري

أو الذين سبقوا إلى الجنة (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الذين قربت درجاتهم في الجنة وأعليت مراتبهم.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(١٤)

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي هم كثير من الأولين يعني الأمم السالفة من لدن آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام.

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إن أمتي يكثرون سائر الأمم». لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة ، وتابعو هذه أكثر من تابعيهم ، ولا يرده قوله في أصحاب اليمين ، (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ). لأن كثرة الفريقين لا تنافي أكثرية أحدهما ، وروي مرفوعا أنهما من هذه الأمة ، واشتقاقها من الثل وهو القطع.

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ)(١٩)

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) خبر آخر للضمير المحذوف ، وال (مَوْضُونَةٍ) المنسوجة بالذهب مشبكة بالدار والياقوت ، أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع.

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في (عَلى سُرُرٍ).

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) للخدمة. (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) مبقون أبدا على هيئة الولدان وطراوتهم.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) حال الشرب وغيره ، والكوب إناء بلا عروة ولا خرطوم له ، والإبريق إناء له ذلك. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) من خمر.

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) بخمار. (وَلا يُنْزِفُونَ) ولا تنزف عقولهم ، أو لا ينفد شرابهم. وقرأ الكوفيون بكسر الزاي (لا يُصَدَّعُونَ) بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٤)

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يختارون.

(وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يتمنون.

(وَحُورٌ عِينٌ) عطف على (وِلْدانٌ) ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أو ولهم حور ، وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطفا على (جَنَّاتِ) بتقدير مضاف أي هم في جنات ومصاحبة حور ، أو على أكواب لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ) ينعمون بأكواب ، وقرئتا بالنصب على ويؤتون حورا.

١٧٨

(كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) المصون عما يضربه في الصفاء والنقاء.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً)(٢٦)

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) باطلا. (وَلا تَأْثِيماً) ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم.

(إِلَّا قِيلاً) أي قولا. (سَلاماً سَلاماً) بدل من (قِيلاً) كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) أو صفته أو مفعوله بمعنى إلا أن يقولوا سلاما ، أو مصدر والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(٣٠)

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) لا شوك فيه من خضد الشوك إذا قطعه ، أو مثنى أغصانه من كثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب.

(وَطَلْحٍ) وشجر موز ، أو أم غيلان وله أنوار كثيرة طيبة الرائحة ، وقرئ بالعين. (مَنْضُودٍ) نضد حمله من أسفله إلى أعلاه.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت.

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ)(٣٣)

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا بلا تعب ، أو مصبوب سائل كأنه لما شبه حال السابقين في التنعم بأعلى ما يتصور لأهل المدن شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمناه أهل البوادي إشعارا بالتفاوت بين الحالين.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) كثيرة الأجناس.

(لا مَقْطُوعَةٍ) لا تنقطع في وقت. (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لا تمنع عن متناولها بوجه.

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً)(٣٧)

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة. وقيل الفرش النساء وارتفاعها أنها على الأرائك ، ويدل عليه قوله :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أي ابتدأناهن ابتداء جديدا من غير ولادة إبداء أو إعادة. وفي الحديث «هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا ، جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد ، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا».

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً). (عُرُباً) متحببات إلى أزواجهن جمع عروب ، وسكن راءه حمزة وأبو بكر وروي عن نافع وعاصم مثله. (أَتْراباً) فإن كلهن بنات ثلاث وثلاثين وكذا أزواجهن.

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(٤٠)

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلق ب (أَنْشَأْناهُنَ) أو «جعلنا» ، أو صفة ل (أَبْكاراً) أو خبر لمحذوف مثل هن أو لقوله :

١٧٩

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وهي على الوجه الأول خبر محذوف.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ)(٤٤)

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ) في حر نار ينفذ في المسام. (وَحَمِيمٍ) وماء متناه في الحرارة.

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان أسود يفعول من الحممة.

(لا بارِدٍ) كسائر الظل. (وَلا كَرِيمٍ) ولا نافع ، نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ)(٤٦)

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) منهمكين في الشهوات.

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الذنب العظيم يعني الشرك ، ومنه بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب ، وحنث في يمينه خلاف بر فيها وتحنث إذا تأثم.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٥٠)

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كررت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا وخصوصا في هذا الوقت كما دخلت العاطفة في قوله :

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) للدلالة على أن ذلك أشد إنكارا في حقهم لتقادم زمانهم وللفصل بها حسن العطف على المستكن في (لَمَبْعُوثُونَ) ، وقرأ نافع وابن عامر أو بالسكون وقد سبق مثله ، والعامل في الظرف ما دل عليه «مبعوثون» لا هو للفصل بأن والهمزة.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ). وقرئ «لمجمعون». (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) إلى ما وقت به الدنيا وحدت من يوم معين عند الله معلوم له.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ)(٥٣)

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) أي بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.

(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ) الأولى للابتداء والثانية للبيان.

(فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) من شدة الجوع.

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٥٦)

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) لغلبة العطش ، وتأنيث الضمير في منها وتذكيره في (عَلَيْهِ) على معنى الشجر ولفظه ، وقرئ «من شجرة» فيكون التذكير لل (زَقُّومٍ) فإنه تفسيرها.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الإبل التي بها الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء ، جمع أهيم وهيماء قال ذو الرمة :

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضي عليها هيامها

١٨٠