أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

كان أقرب إليه (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، تجوز بقرب الذات لقرب العلم لأنه موجبه و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) مثل في القرب قال : والموت أدنى من الوريد. وال (حَبْلِ) العرق وإضافته للبيان ، والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه ، وقيل سمي وريدا لأن الروح ترده.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(١٨)

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) مقدر باذكر أو متعلق ب (أَقْرَبُ) ، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما ، لكنه لحكمة اقتضته وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية ، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء وإلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد. (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي (عَنِ الْيَمِينِ) قعيد (وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) ، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله : فإني وقيار بها لغريب. وقد يطلق الفعيل للواحد والمتعدد كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ما يرمي به من فيه. (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) ملك يرقب عمله. (عَتِيدٌ) معد حاضر ، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب وفي الحديث «كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ)(٢٠)

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت وقيام الساعة ، ونبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي ، وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء للتعدية كما في قولك : جاء زيد بعمرو. والمعنى وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر أو الموعود الحق ، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء ، فإن الإنسان خلق له أو مثل الباء في (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ). وقرئ «سكرة الحق بالموت» على أنها لشدتها اقتضت الزهوق أو لاستعقابها له كأنها جاءت به ، أو على أن الباء بمعنى مع. وقيل سكرة الحق سكرة الله وإضافتها إليه للتهويل. وقرئ «سكرات الموت». (ذلِكَ) أي الموت. (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) تميل وتنفر عنه والخطاب للإنسان.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني نفخة البعث. (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي وقت ذلك يوم تحقق الوعيد وإنجازه والإشارة إلى مصدر (نُفِخَ).

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(٢٢)

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ملكان أحدهما يسوقه والآخر يشهد بعمله ، أو ملك جامع للوصفين. وقيل

السائق كاتب السيئات ، والشهيد كاتب الحسنات. وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله ، ومحل (مَعَها) النصب على الحال من كل لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) على إضمار القول والخطاب (لِكُلِّ نَفْسٍ) إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكفار. (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) الغطاء الحاجب لأمور المعاد ، وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإلف بها وقصور النظر عليها. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) نافذ لزوال المانع للإبصار. وقيل

١٤١

الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن ، (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون. ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ)(٢٥)

(وَقالَ قَرِينُهُ) قال الملك الموكل عليه. (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لدي ، أو الشيطان الذي قيض له هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم هيأته لها باغوائي وإضلالي ، و (ما) إن جعلت موصوفة ف (عَتِيدٌ) صفتها وإن جعلت موصولة فبدلها أو خبر بعد خبر أو خبر محذوف.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد ، أو لملكين من خزنة النار ، أو لواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كقوله :

فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا

أو الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ، ويؤيده أنه قرئ «ألقين» بالنون الخفيفة. (عَنِيدٍ) معاند للحق.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. وقيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه. (مُعْتَدٍ) متعد. (مُرِيبٍ) شاك في الله وفي دينه.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٢٧)

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) مبتدأ متضمن معنى الشرط وخبره. (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أو بدل من (كُلَّ كَفَّارٍ) فيكون (فَأَلْقِياهُ) تكريرا للتوكيد ، أو مفعول لمضمر يفسره (فَأَلْقِياهُ).

(قالَ قَرِينُهُ) أي الشيطان المقيض له ، وإنما استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول فإنه جواب لمحذوف دل عليه. (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) كأن الكافر قال هو أطغاني ف (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) بخلاف الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها للدلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه : (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) فأعنته عليه فإن إغواء الشياطين إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي مائلا إلى الفجور كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٢٩)

(قالَ) أي الله تعالى. (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه ، وهو استئناف مثل الأول. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة. وهو حال فيه تعليل للنهي أي (لا تَخْتَصِمُوا) عالمين بأني أوعدتكم ، والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم ، ويجوز أن يكون (بِالْوَعِيدِ) حالا والفعل واقعا على قوله :

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي بوقوع الخلف فيه فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي. وعفو بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فأعذب من

١٤٢

ليس لي تعذيبه.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(٣٠)

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سؤال وجواب جيء بهما للتخييل والتصوير ، والمعنى أنها مع اتساعها تطرح فيها الجنة والناس فوجا فوجا حتى تمتلئ لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) ، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ ، أو أنها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثرة لهم والطالبة لزيادتهم. وقرأ نافع وأبو بكر يقول بالياء وال (مَزِيدٍ) إما مصدر كالمحيد أو مفعول كالمبيع ، و (يَوْمَ) مقدر باذكر أو ظرف ل (نُفِخَ) فيكون ذلك إشارة إليه فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ)(٣٥)

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) قربت لهم. (غَيْرَ بَعِيدٍ) مكانا غير بعيد ، ويجوز أن يكون حالا وتذكيره لأنه صفة محذوف ، أو شيئا غير بعيد أو على زنة المصدر أو لأن الجنة بمعنى البستان.

(هذا ما تُوعَدُونَ) على إضمار القول والإشارة إلى الثواب أو مصدر (أُزْلِفَتِ). وقرأ ابن كثير بالياء. (لِكُلِّ أَوَّابٍ) رجاع إلى الله تعالى ، بدل من «المتقين» بإعادة الجار. (حَفِيظٍ) حافظ لحدوده.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) بدل بعد بدل أو بدل من موصوف (أَوَّابٍ) ، ولا يجوز أن يكون في حكمه لأن (مَنْ) لا يوصف به أو مبتدأ خبره :

(ادْخُلُوها) على تأويل يقال لهم (ادْخُلُوها) ، فإن من بمعنى الجمع وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول ، أو صفة لمصدر أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب ، أو العقاب بعد غيب أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد. وتخصيص (الرَّحْمنَ) للإشعار بأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ، أو بأنهم يخشون مع علمهم بسعة رحمته ، ووصف القلب بالإنابة إذ الاعتبار برجوعه إلى الله. (بِسَلامٍ) سالمين من العذاب وزوال النعم ، أو مسلما عليكم من الله وملائكته. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) يوم تقدير الخلود كقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ).

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) وهو ما لا يخطر ببالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)(٣٦)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) قبل قومك. (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) قوة كعاد وثمود وفرعون. (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها ، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت ، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب ، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لهم من الله أو من الموت. وقيل الضمير في (فَنَقَّبُوا) لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيضا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ، ويؤيده أنه قرئ «فنقّبوا» على الأمر ، وقرئ «فنقّبوا» بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم.

١٤٣

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)(٣٨)

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر في هذه السورة. (لَذِكْرى) لتذكرة. (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي قلب واع يتفكر في حقائقه. (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي أصغى لاستماعه. (وَهُوَ شَهِيدٌ) حاضر بذهنه ليفهم معانيه ، أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره ، وفي تنكير ال (قَلْبٌ) وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كلا قلب.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مر تفسيره مرارا. (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) من تعب وإعياء ، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدا خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٤٠)

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ما يقول المشركون من إنكارهم البعث ، فإن من قدر على خلق العالم بلا اعياء قدر على بعثهم والانتقام منهم ، أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ونزهه عن العجز عما يمكن والوصف بما يوجب التشبيه حامدا له على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها. (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعني الفجر والعصر وقد عرفت فضيلة الوقتين.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي وسبحه بعض الليل. (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) وأعقاب الصلوات جمع دبر من أدبر ، وقرأ الحجازيان وحمزة وخلف بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة ، فالصلاة قبل الطلوع : الصبح وقبل الغروب : الظهر ، والعصر. ومن الليل : العشاءان ، والتهجد. وأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات ، وقيل الوتر بعد العشاء.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)(٤٣)

(وَاسْتَمِعْ) لما أخبرك به من أحوال القيامة ، وفيه تهويل وتعظيم للمخبر به. (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) إسرافيل أو جبريل عليهما‌السلام فيقول : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء ، ولعله في الإعادة نظير «كن» في الإبداء ، ويوم نصب بما دل عليه يوم الخروج.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) بدل منه و (الصَّيْحَةَ) النفخة الثانية. (بِالْحَقِ) متعلق ب (الصَّيْحَةَ) والمراد به البعث للجزاء. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور ، وهو من أسماء يوم القيامة وقد يقال للعيد.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) في الدنيا. (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) للجزاء في الآخرة.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)(٤٥)

١٤٤

(يَوْمَ تَشَقَّقُ) تتشقق ، وقرى «تنشق». وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو بتخفيف الشين. (الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) مسرعين. (ذلِكَ حَشْرٌ) بعث وجمع. (عَلَيْنا يَسِيرٌ) هين ، وتقديم الظرف للاختصاص فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال الله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمسلط تقسرهم على الإيمان ، أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت داع. (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فإنه لا ينتفع به غيره. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة «ق» هون الله عليه تارات الموت وسكراته». والله أعلم.

١٤٥

(٥١) سورة والذاريات

مكية وآيها ستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) يعني الرياح تذرو التراب وغيره ، أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد ، أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) فالسحب الحاملة للأمطار ، أو الرياح الحاملة للسحاب ، أو النساء الحوامل ، أو أسباب ذلك. وقرئ «وقرا» على تسمية المحمول بالمصدر.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) فالسفن الجارية في البحر سهلا ، أو الرياح الجارية في مهابها ، أو الكواكب التي تجري في منازلها. و (يُسْراً) صفة مصدر محذوف أي جريا ذا يسر.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ)(٦)

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها ، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة ، أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب ، فإن حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة ، وإلا فالفاء لترتيب الأفعال إذ الريح مثلا تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابا ، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به فتقسم المطر. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ).

(وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) جواب القسم كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث للجزاء الموعود ، وما موصولة أو مصدرية و (الدِّينَ) الجزاء والواقع الحاصل.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)(٩)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الطرائق ، والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار وتتوصل بها إلى المعارف ، أو النجوم فإن لها طرائق أو أنها تزينها كما يزين الموشي طرائق الوشي. جمع حبيكة كطريقة وطرق أو حباك كمثال ومثل. وقرئ «الحبك» بالسكون و «الحبك» كالإبل و «الحبك» كالسلك و «الحبك» كالجبل و «الحبك» كالنعم و «الحبك» كالبرق.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قولهم تارة أنه (شاعِرٌ) وتارة أنه (ساحِرٍ) وتارة أنه (مَجْنُونٍ) ، أو في القرآن أو القيامة أو أمر الديانة ، ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السّموات في تباعدها واختلاف غاياتها.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يصرف عنه والضمير للرسول أو القرآن أو الإيمان ، من صرف إذ لا صرف أشد

١٤٦

منه فكأنه لا صرف بالنسبة إليه ، أو يصرف من صرف في علم الله وقضائه ويجوز أن يكون الضمير لل (قَوْلٍ) على معنى يصدر إفك من أفك عن القول المختلف وبسببه كقوله : ينهون عن أكل وعن شرب. أي يصدر تناهيهم عنهما وبسببهما وقرئ «أفك» بالفتح أي من أفك الناس وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإيمان.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(١٤)

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) الكذابون من أصحاب القول المختلف ، وأصله الدعاء بالقتل أجري مجرى اللعن.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) في جهل يغمرهم. (ساهُونَ) غافلون عما أمروا به.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي فيقولون متى يوم الجزاء أي وقوعه ، وقرئ «إيان» بالكسر.

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يحرقون جواب للسؤال أي يقع (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، أو هو (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، وفتح (يَوْمَ) لإضافته إلى غير متمكن ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي مقولا لهم هذا القول. (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون ، ويجوز أن يكون هذا بدلا من (فِتْنَتَكُمْ) و (الَّذِي) صفته.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(١٩)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قابلين لما أعطاهم راضين به ، ومعناه أن كل ما آتاهم حسن مرضي متلقى بالقبول. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) قد أحسنوا أعمالهم وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) تفسير لإحسانهم و (ما) مزيدة أي يهجعون في طائفة من الليل ، أو (يَهْجَعُونَ) هجوعا قليلا أو مصدرية أو موصولة أي في قليل من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وفيه مبالغات لتقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل و (اللَّيْلِ) الذي هو وقت السبات ، والهجوع الذي هو الفرار من النوم وزيادة (ما).

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ، وفي بناء الفعل على الضمير إشعارا بأنهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله وخشيتهم منه.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) نصيب يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله وإشفاقا على الناس. (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) للمستجدي والمتعفف الذي يظن غنيا فيحرم الصدقة.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٢١)

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي فيها دلائل من أنواع المعادن والحيوانات ، أو وجوه دلالات من الدحو والسكون وارتفاع بعضها عن الماء واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص والمنافع ، تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي وفي أنفسكم آيات إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإنسان له نظير يدل دلالته مع ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة ، والتمكن من الأفعال الغريبة واستنباط الصنائع

١٤٧

المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تنظرون نظر من يعتبر.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣)

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أسباب رزقكم أو تقديره. وقيل المراد ب (السَّماءِ) السحاب وبالرزق المطر فإنه سبب الأقوات. (وَما تُوعَدُونَ) من الثواب لأن الجنة فوق السماء السابعة ، أو لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء. وقيل إنه مستأنف خبره :

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) وعلى هذا فالضمير ل (ما) وعلى الأول يحتمل أن يكون له ولما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد. (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في تحقق ذلك ، ونصبه على الحال من المستكن في (لَحَقٌ) أو الوصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقا مثل نطقكم. وقيل إنه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت بمعنى شيء ، وأن بما في حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على أنه صفة (لَحَقٌ) ، ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر بالرفع.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(٢٥)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه أوحى إليه ، والضيف في الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد. قيل كانوا اثني عشر ملكا. وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وسماهم ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف. (الْمُكْرَمِينَ) أي مكرمين عند الله أو عند إبراهيم إذ خدمهم بنفسه وزوجته.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ظرف لل (حَدِيثُ) أو ال (ضَيْفِ) أو (الْمُكْرَمِينَ). (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم عليك سلاما. (قالَ سَلامٌ) أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم ، وقرئا مرفوعين وقرأ حمزة والكسائي «قال سلم» وقرئ منصوبا والمعنى واحد. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي أنتم قوم منكرون ، وإنما أنكرهم لأنه ظن أنهم بنو آدم ولم يعرفهم ، أو لأن السلام لم يكن تحيتهم فإنه علم الإسلام وهو كالتعرف عنهم.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٢٨)

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) فذهب إليهم في خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى حذرا من أن يكفه الضيف أو يصير منتظرا. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) لأنه كان عامة ماله البقر.

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه بين أيديهم. (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) أي منه ، وهو مشعر بكونه حنيذا ، والهمزة فيه للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب إن قاله أول ما وضعه ، وللإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم.

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فأضمر منهم خوفا لما رأى إعراضهم عن طعامه لظنه أنهم جاءوه لشر. وقيل وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. (قالُوا لا تَخَفْ) إنا رسل الله. قيل مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ) هو اسحق عليه‌السلام. (عَلِيمٍ) يكمل علمه إذ بلغ.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ

١٤٨

الْعَلِيمُ)(٣٠)

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) سارة إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم. (فِي صَرَّةٍ) في صيحة من الصرير ، ومحله النصب على الحال أو المفعول إن أول فأقبلت بأخذت. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) فلطمت بأطراف الأصابع جبهتها فعل المتعجب. وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء. (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد.

(قالُوا كَذلِكَ) مثل ذلك الذي بشرنا به. (قالَ رَبُّكِ) وإنما نخبرك به عنه. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) فيكون قوله حقا وفعله محكما.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)(٣٤)

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط.

(لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) يريد السجيل فإنه طين متحجر.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) مرسلة من أسمت الماشية ، أو معلمة من السومة وهي العلامة. (لِلْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحد في الفجور.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٣٧)

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) في قرى قوم لوط وإضمارها ولم يجر ذكرها لكونها معلومة. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن آمن بلوط.

(فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) غير أهل بيت من المسلمين ، واستدل به على اتحاد الإيمان والإسلام وهو ضعيف لأن ذلك لا يقتضي إلا من صدق المؤمن والمسلم على من اتبعه ، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) علامة. (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فإنهم المعتبرون بها وهي تلك الأحجار ، أو صخر منضود فيها أو ماء أسود منتن.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)(٤٠)

(وَفِي مُوسى) عطف على وفي الأرض ، أو (تَرَكْنا فِيها) على معنى وجعلنا في موسى كقوله : علفتها تبنا وماء باردا. (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو معجزاته كالعصا واليد.

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) فأعرض عن الإيمان به كقوله (وَنَأى بِجانِبِهِ) أو فتولى بما كان يتقوى به من جنوده ، وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به. وقرئ بضم الكاف. (وَقالَ ساحِرٌ) أي هو ساحر. (أَوْ مَجْنُونٌ) كأنه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوبا إلى الجن ، وتردد في أنه حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما.

١٤٩

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) فأغرقناهم في البحر. (وَهُوَ مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه من الكفر والعناد ، والجملة حال من الضمير في (فَأَخَذْناهُ).

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)(٤٢)

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) سماها عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، أو لأنها لم تتضمن منفعة ، وهي الدبور أو الجنوب أو النكباء.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ) مرت. (عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) كالرماد من الرم وهو البلي والتفتت.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ(٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ)(٤٥)

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) تفسيره قوله : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ).

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) فاستكبروا عن امتثاله. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي العذاب بعد الثلاث. وقرأ الكسائي «الصعقة» وهي المرة من الصعق. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) كقوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). وقيل من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه. (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) ممتنعين منه.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه. أو اذكر ويجوز أن يكون عطفا على محل (فِي عادٍ) ، ويؤيده قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بالجر. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هؤلاء المذكورين. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٤٩)

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) بقوة. (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الإنفاق. أو (لَمُوسِعُونَ) السماء أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) مهدناها لتستقروا عليها. (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي نحن.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من الأجناس. (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) نوعين (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات لا يقبل التعدد والانقسام.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٥١)

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) من عقابه بالإيمان والتوحيد وملازمة الطاعة. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من عذابه المعد لمن أشرك أو عصى. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) بين كونه منذرا من الله بالمعجزات ، أو (مُبِينٌ) ما يجب أن يحذر عنه.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إفراد لأعظم ما يجب أن يفر منه. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير للتأكيد ، أو الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة والثاني على الإشراك.

١٥٠

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(٥٥)

(كَذلِكَ) أي الأمر مثل ذلك ، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحرا أو مجنونا وقوله : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) كالتفسير له ، ولا يجوز نصبه ب (أَتَى) أو ما يفسره لأن ما بعد (ما) النافية لا يعمل فيما قبلها.

(أَتَواصَوْا بِهِ) أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن مجادلتهم بعد ما كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإصرار والعناد. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ.

(وَذَكِّرْ) ولا تدع التذكير والموعظة. (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) من قدر الله إيمانه أو من آمن فإنه يزداد بها بصيرة.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(٥٨)

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها ، جعل خلقهم مغيا بها مبالغة في ذلك ، ولو حمل على ظاهره مع أن الدليل يمنعه لنا في ظاهر قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقيل معناه إلا لأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عبادا لي.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي ما أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي فاشتغلوا بما أنتم كالمخلوقين له والمأمورين به ، والمراد أن يبين أن شأنه مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم ، فإنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم ، ويحتمل أن يقدر بقل فيكون بمعنى قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً).

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق ، وفيه إيماء باستغنائه عنه ، وقرئ «إني أنا الرزاق» (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) شديد القوة ، وقرئ «المتين» بالجر صفة ل (الْقُوَّةِ).

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٦٠)

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أي للذين ظلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب نصيبا من العذاب. (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة ، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء ، فإن الذنوب هو الدلو العظيم المملوء. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) جواب لقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) من يوم القيامة أو يوم بدر. عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا».

١٥١

(٥٢) سورة والطور

مكية وآيها تسع أو ثمان وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)(٣)

(وَالطُّورِ) يريد طور سينين ، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، (وَالطُّورِ) الجبل بالسريانية أو ما طار من أوج الإيجاد إلى حضيض المواد ، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) مكتوب ، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به القرآن أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ ، أو ألواح موسى عليه‌السلام ، أو في قلوب أوليائه من المعارف والحكم أو ما تكتبه الحفظة.

(فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرق الجلد الذي يكتب فيه استعير لما كتب فيه الكتاب ، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)(٦)

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) يعني الكعبة وعمارتها بالحجاج والمجاورين ، أو الضراح وهو في السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة ، أو قلب المؤمن وعمارته بالمعرفة والإخلاص.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي المملوء وهو المحيط ، أو الموقد من قوله : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) روي أنه تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجر بها نار جهنم ، أو المختلط من السجير وهو الخليط.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً)(١٠)

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) لنازل.

(ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) يدفعه ، ووجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنها أمور تدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته وصدق أخباره وضبطه أعمال العباد للمجازاة.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) تضطرب ، والمور تردد في المجيء والذهاب ، وقيل تحرك في تموج و (يَوْمَ) ظرف.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا(١٣)

١٥٢

هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(١٤)

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي إذا وقع ذلك فويل لهم.

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي في الخوض في الباطل.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) يدفعون إليها دفعا بعنف ، وذلك بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار. وقرئ «يدعون» من الدعاء فيكون دعا حالا بمعنى مدعوين ، و (يَوْمَ) بدل من (يَوْمَ تَمُورُ) أو ظرف لقول مقدر محكيه.

(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك.

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٦)

(أَفَسِحْرٌ هذا) أي كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفهذا المصداق أيضا سحر ، وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ. (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) هذا أيضا كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، ما يدل عليه وهو تقريع وتهكم أو : أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حين قلتم (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا).

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا محيص لكم عنها. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الأمران الصبر وعدمه. (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء فإنه لما كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)(٢٠)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) في أية جنات وأي نعيم ، أو في (جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) مخصوصة بهم.

(فاكِهِينَ) ناعمين متلذذين. (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) وقرئ «فكهين» و «فاكهون» على أنه الخبر والظرف لغو. (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) عطف على (آتاهُمْ) إن جعل ما مصدرية ، أو (فِي جَنَّاتٍ) أو حال بإضمار قد من المستكن في الظرف أو الحال ، أو من فاعل آتى أو مفعوله أو منهما.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي أكلا وشرابا (هَنِيئاً) ، أو طعاما وشرابا (هَنِيئاً) وهو الذي لا تنغيص فيه. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسببه أو بدله ، وقيل الباء زائدة و «ما» فاعل (هَنِيئاً) ، والمعنى هنأكم ما كنتم تعملون أي جزاؤه.

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) مصطفة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) الباء لما في التزويج من معنى الوصل والإلصاق ، أو للسببية إذ المعنى صيرناهم أزواجا بسببهن ، أو لما في التزويج من معنى الإلصاق والقرن ولذلك عطف :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)(٢١)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين. وقيل إنه مبتدأ خبره (أَلْحَقْنا بِهِمْ) وقوله : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) اعتراض للتعليل ، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» بالجمع وضم التاء

١٥٣

للمبالغة في كثرتهم والتصريح ، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير ، وقرأ أبو عمرو و «أتبعناهم ذرياتهم» أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان. وقيل (بِإِيمانٍ) حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان. (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في دخول الجنة أو الدرجة. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية» وقرأ نافع وابن عامر والبصريان ذرياتهم. (وَما أَلَتْناهُمْ) وما نقصناهم. (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بهذا الإلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم ، ويحتمل أن يكون بالتفضل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه. وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت ، وعنه «لتناهم» من لات يليت و «آلتناهم» من آلت يولت ، و «ولتناهم» من ولت يلت ومعنى الكل واحد. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحا فكه وإلا أهلكه.

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)(٢٤)

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم وقتا بعد وقت ما يشتهون من أنواع التنعم.

(يَتَنازَعُونَ فِيها) يتعاطون هم وجلساؤهم بتجاذب. (كَأْساً) خمرا سماها باسم محلها ولذلك أنث الضمير في قوله : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها ، ولا يفعلوا ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا ، وذلك مثل قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) وقرأهما ابن كثير والبصريان بالفتح.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي بالكأس. (غِلْمانٌ لَهُمْ) أي مماليك مخصوصون بهم. وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم. (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مصون في الصدف من بياضهم وصفائهم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٢٨)

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) خائفين من عصيان الله معتنين بطاعته ، أو وجلين من العاقبة.

(فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالرحمة والتوفيق. (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم ، وقرئ «ووقّانا» بالتشديد.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) من قبل ذلك في الدنيا. (نَدْعُوهُ) نعبده أو نسأله الوقاية. (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن ، وقرأ نافع والكسائي (إِنَّهُ) بالفتح. (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)(٣٢)

(فَذَكِّرْ) فاثبت على التذكير ولا تكترث بقولهم. (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بحمد الله وإنعامه. (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ، كما يقولون.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) ما يقلق النفوس من حوادث الدهر ، وقيل (الْمَنُونِ) الموت

١٥٤

فعول من منه إذا قطعه.

(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم. (بِهذا) بهذا التناقض في القول فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى عقله والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق مخيل ، ولا يتأتى ذلك من المجنون وأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه. (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) مجاوزون الحد في العناد وقرئ «بل هم».

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)(٣٦)

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) اختلقه من تلقاء نفسه. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم.

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) مثل القرآن. (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في زعمهم إذ فيهم كثير ممن عدوا فضحاء فهو رد للأقوال المذكورة بالتحدي ، ويجوز أن يكون ردا للتقول فإن سائر الأقسام ظاهر الفساد.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أم أحدثوا وقدروا من غير محدث ومقدر فلذلك لا يعبدونه ، أو من أجل لا شيء من عبادة ومجازاة. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) يؤيد الأول فإن معناه أم خلقوا أنفسهم ولذاك عقبه بقوله :

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) و (أَمْ) في هذه الآيات منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار. (بَلْ لا يُوقِنُونَ) إذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا الله إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٣٨)

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) خزائن رزقه حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا ، أو خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختارته حكمته. (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الغالبون على الأشياء يدبرونها كيف شاؤوا. وقرأ قنبل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين وحمزة بخلاف عن خلاد بين الصاد والزاي ، والباقون بالصاد خاصة.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) مرتقى إلى السماء. (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة تصدق استماعه.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٣)

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فيه تسفيه لهم وإشعار بأن من هذا رأيه لا يعد من العقلاء فضلا أن يترقى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلع على الغيوب.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على تبليغ الرسالة. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) من التزام غرم. (مُثْقَلُونَ) محملون الثقل فلذلك زهدوا في اتباعك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) اللوح المحفوظ المثبت فيه المغيبات. (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل العموم والخصوص فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم ، والدلالة على أنه الموجب للحكم المذكور.

١٥٥

(هُمُ الْمَكِيدُونَ) هم الذين يحيق بهم الكيد أو يعود عليهم وبال كيدهم ، وهو قتلهم يوم بدر أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعينهم ويحرسهم من عذابه. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو شركة ما يشركونه به.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٤٧)

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) قطعة. (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم. (سَحابٌ مَرْكُومٌ) هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ، وهو جواب قولهم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ).

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) وهو عند النفخة الأولى ، وقرئ. «يلقوا» وقرأ ابن عامر وعاصم (يُصْعَقُونَ) على المبني للمفعول من صعقه أو أصعقه.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي شيئا من الإغناء في رد العذاب. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يحتمل العموم والخصوص. (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي دون عذاب الآخرة وهو عذاب القبر أو المؤاخذة في الدنيا كقتلهم ببدر والقحط سبع سنين. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)(٤٩)

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وإبقائك في عنائهم. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) في حفظنا بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين لجمع الضمير والمبالغة بكثرة أسباب الحفظ. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) من أي مكان قمت أو من منامك أو إلى الصلاة.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء ، ولذلك أفرده بالذكر وقدمه على الفعل (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل ، وقرئ بالفتح أي في أعقابها إذا غربت أو خفيت. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته».

١٥٦

(٥٣) سورة والنجم

مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤)

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال. هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب ، وهويا بالضم إذا علا وصعد ، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض ، أو إذا نما وارتفع على قوله.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) ما عدل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الطريق المستقيم ، والخطاب لقريش. (وَما غَوى) وما اعتقد باطلا والخطاب لقريش ، والمراد نفي ما ينسبون إليه.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى.

(إِنْ هُوَ) ما القرآن أو الذي ينطق به. (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي إلا وحي يوحيه الله إليه ، واحتج به من لم ير الاجتهاد له. وأجيب عنه بأنه إذا أوحى إليه بأن يجتهد كان اجتهاده وما يستند إليه وحيا ، وفيه نظر لأن ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى)(٧)

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ملك شديد قواه وهو جبريل عليه‌السلام فإن الواسطة في إبداء الخوارق ، روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين.

(ذُو مِرَّةٍ) حصافة في عقله ورأيه. (فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها. قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمد عليه الصلاة والسلام مرتين ، مرة في السماء ومرة في الأرض ، وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) في أفق السماء والضمير لجبريل.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى)(١٠)

(ثُمَّ دَنا) من النبي عليه الصلاة والسلام. (فَتَدَلَّى) فتعلق به وهو تمثيل لعروجه بالرسول. وقيل ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من الرسول فيكون إشعارا بأنه عرج به غير منفصل عن محله تقريرا لشدة قوته ، فإن التدلي استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة ، ويقال دلى رجليه من السرير وأدلى دلوه ، والدوالي الثمر المعلق.

(فَكانَ) جبريل عليه‌السلام كقولك : هو مني معقد الإزار ، أو المسافة بينهما. (قابَ قَوْسَيْنِ) مقدارهما. (أَوْ أَدْنى) على تقديركم كقوله أو يزيدون ، والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما

١٥٧

أوحي إليه بنفي البعد الملبس.

(فَأَوْحى) جبريل عليه‌السلام. (إِلى عَبْدِهِ) عبد الله وإضماره قبل الذكر لكونه معلوما كقوله : (عَلى ظَهْرِها)(ما أَوْحى) جبريل عليه‌السلام وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه ، وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بشراشره إلى جناب القدس.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)(١٢)

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام أو الله تعالى ، أي ما كذب بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر ، أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك كان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره ، أو ما رآه بقلبه والمعنى أنه لم يكن تخيلا كاذبا. ويدل عليه «أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل رأيت ربك؟ فقال رأيته بفؤادي». وقرأ هشام ما كذب أي صدقه ولم يشك فيه.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أفتجادلونه عليه ، من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب «أفتمرونه» أي أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ، أو أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده وعلى لتضمين الفعل معنى الغلبة فإن المماري والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)(١٦)

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) مرة أخرى فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعارا بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضا بنزول ودنو والكلام في المرئي والدنو ما سبق. وقيل تقديره ولقد رآه نازلا نزلة أخرى ، ونصبها على المصدر والمراد به نفي الريبة عن المرة الأخيرة.

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) التي ينتهي إليها أعمال الخلائق وعلمهم ، أو ما ينزل من فوقها ويصعد من تحتها ، ولعلها شبهت بالسدرة وهي شجرة النبق لأنهم يجتمعون في ظلها. وروي مرفوعا أنها في السماء السابعة.

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الجنة التي يأوي إليها المتقون أو أرواح الشهداء.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يكتنهها نعت ولا يحصبها عد ، وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)(١٨)

(ما زاغَ الْبَصَرُ) ما مال بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه. (وَما طَغى) وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي والله لقد رأى الكبرى من آياته وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج وقد قيل إنها المعنية بما (رَأى). ويجوز أن تكون (الْكُبْرى) صفة لل (آياتِ) على أن المفعول محذوف أي شيئا من آيات ربه أو (مِنْ) مزيدة.

١٥٨

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢)

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هي أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون. وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب (اللَّاتَ) بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج. (وَالْعُزَّى) بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، وأصلها تأنيث الأعز (وَمَناةَ) صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناه إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى. وقرأ ابن كثير مناءة وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركا بها ، وقوله (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) صفتان للتأكيد كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أو (الْأُخْرى) من التأخر في الرتبة.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) إنكار لقولهم الملائكة بنات الله ، وهذه الأصنام استوطنها جنيات هن بناته ، أو هياكل الملائكة وهو المفعول الثاني لقوله (أَفَرَأَيْتُمُ).

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) جائرة حيث جعلتم له ما تستنكفون منه وهي فعلى من الضيز وهو الجور ، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في بيض فإن فعلى بالكسر لم تأت وصفا. وقرأ ابن كثير بالهمزة من ضأزه إذا ظلمه على أنه مصدر نعت به.

(إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)(٢٣)

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ) الضمير للأصنام أي ما هي باعتبار الألوهية إلا أسماء تطلقونها عليها لأنهم يقولون أنها آلهة وليس فيها شيء من معنى الألوهية ، أو للصفة التي تصفونها بها من كونها آلهة وبنات وشفعاء ، أو للأسماء المذكورة فإنهم كانوا يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها ، والعزى لعزتها ومناة لاعتقادهم أنها تستحق أن يتقرب إليها بالقرابين. (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها.

(أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) بهواكم. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) برهان تتعلقون به. (إِنْ يَتَّبِعُونَ) وقرئ بالتاء. (إِلَّا الظَّنَ) إلا توهم أن ما هم عليه حق تقليدا وتوهما باطلا. (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) وما تشتهيه أنفسهم. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) الرسول أو الكتاب فتركوه.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)(٢٦)

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، والمعنى ليس له كل ما يتمناه والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة وقولهم : (لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ونحوهما.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) يعطي منهما ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئا ولا تنفع.

١٥٩

(إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) في الشفاعة. (لِمَنْ يَشاءُ) من الملائكة أن يشفع أو من الناس أن يشفع له. (وَيَرْضى) ويراه أهلا لذلك فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢٨)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) أي كل واحد منهم. (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) بأن يسموه بنتا.

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بما يقولون ، وقرئ بها أي بالملائكة أو بالتسمية. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن الحق الذي هو حقيقة الشيء لا يدرك إلا بالعلم ، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية ، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى)(٣٠)

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) فأعرض عن دعوته والاهتمام بشأنه فإن من غفل عن الله وأعرض عن ذكره. وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته ومبلغ علمه لا تزيده الدعوة إلا عنادا وإصرارا على الباطل.

(ذلِكَ) أي أمر الدنيا أو كونها شهية. (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) لا يتجاوزه علمهم والجملة اعتراض مقرر لقصور هممهم بالدنيا وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)(٣٢)

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء ، وهو علة لما دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء ، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه. وقيل ما أوجب الحد. وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك. (وَالْفَواحِشَ) وما فحش من الكبائر خصوصا. (إِلَّا اللَّمَمَ) إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر ، والاستثناء منقطع ومحل (الَّذِينَ) النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) أعلم بأحوالكم منكم. (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام. (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فلا تثنوا

١٦٠