أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)(١٨)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) امتحناهم بإرسال موسى عليه‌السلام إليهم ، أو أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم. وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم. (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) على الله أو على المؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه.

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) بأن أدوهم إليّ وأرسلوهم معي ، أو بأن أدوا إلي حق الله من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد الله ، ويجوز أن تكون (أَنْ) مخففة ومفسرة لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) غير متهم لدلالة المعجزات على صدقه ، أو لائتمان الله إياه على وحيه وهو علة الأمر.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠)

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه ورسوله ، و (أَنْ) كالأولى في وجهيها.

(إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) علة للنهي ولذكر ال (أَمِينٌ) مع الأداء ، والسلطان مع العلاء شأن لا يخفى.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) التجأت إليه وتوكلت عليه. (أَنْ تَرْجُمُونِ) أن تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني. وقرئ «عت» بالإدغام فيه.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)(٢٢)

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ، ولا تتعرضوا إليّ بسوء فإنه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم.

(فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما كذبوه. (أَنَّ هؤُلاءِ) بأن هؤلاء (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به ولذلك سماه دعاء ، وقرئ بالكسر على إضمار القول.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)(٢٤)

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي فقال أسر أو قال إن كان الأمر كذلك (فَأَسْرِ) ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بوصل الهمزة من سرى (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) مفتوحا ذا فجوة واسعة أو ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته ولا تضربه بعصاك ولا تغير منه شيئا ليدخله القبط (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وقرئ بالفتح بمعنى لأنهم.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ)(٢٧)

(كَمْ تَرَكُوا) كثيرا تركوا. (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) محافل مزينة ومنازل حسنة.

(وَنَعْمَةٍ) وتنعم. (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) متنعمين ، وقرئ «فكهين».

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ)(٢٩)

(كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج أخرجناهم أو الأمر كذلك. (وَأَوْرَثْناها) عطف على المقدر أو على (تَرَكُوا). (قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل ، وقيل غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.

١٠١

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم :

بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك. ومنه ما روي في الأخبار : إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ومحل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه. وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ممهلين إلى وقت آخر.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) من استعباد فرعون وقتله أبناءهم.

(مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من (الْعَذابِ) على حذف المضاف ، أو جعله عذاب لإفراطه في التعذيب ، أو حال من المهين بمعنى واقعا من جهته ، وقرئ «من فرعون» على الاستفهام تنكير له لنكر ما كان عليه من الشيطنة. (إِنَّهُ كانَ عالِياً) متكبرا. (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) في العتو والشرارة ، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا ، أو حال من الضمير في (عالِياً) أي كان رفيع الطبقة من بينهم.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)(٣٣)

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) اخترنا بني إسرائيل. (عَلى عِلْمٍ) عالمين بأنهم أحقاء بذلك ، أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بعض الأحوال. (عَلَى الْعالَمِينَ) لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى. (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) نعمة جلية أو اختبار ظاهر.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ)(٣٥)

(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة ، والإنذار عن مثل ما حل بهم. (لَيَقُولُونَ).

(إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك. حج زيد الحجة الأولى ومات. وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم موتة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى ، أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى. (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) بمبعوثين.

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٣٧)

(فَأْتُوا بِآبائِنا) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في وعدكم ليدل عليه.

(أَهُمْ خَيْرٌ) في القوة والمنعة. (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند. وقيل هدمها وكان مؤمنا وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه. وعنه عليه الصلاة والسلام : «ما أدري أكان تبع نبيا أم غير نبي». وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيلون. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود. (أَهْلَكْناهُمْ) استئناف بمآل قوم تبع ، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به. (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) بيان للجامع المقتضي للإهلاك.

١٠٢

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٩)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) وما بين الجنسين وقرئ «وما بينهن». (لاعِبِينَ) لاهين ، وهو دليل على صحة الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها.

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإيمان والطاعة ، أو البعث والجزاء.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لقلة نظرهم.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٤٢)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) فصل الحق عن الباطل ، أو المحق عن المبطل بالجزاء ، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه. (مِيقاتُهُمْ) وقت موعدهم. (أَجْمَعِينَ) وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على أنه الاسم أي إن ميعاد جزائهم في (يَوْمَ الْفَصْلِ).

(يَوْمَ لا يُغْنِي) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ) أو صفة ل (مِيقاتُهُمْ) ، أو ظرف لما دل عليه الفصل لا له الفصل. (مَوْلًى) من قرابة أو غيرها. (عَنْ مَوْلًى) أي مولى كان. (شَيْئاً) من الإغناء. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الضمير ل (مَوْلًى) الأول باعتبار المعنى لأنه عام.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه ، ومحله الرفع على البدل من الواو أو النصب على الاستثناء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) لا ينصر منه من أراد تعذيبه. (الرَّحِيمُ) لمن أراد أن يرحمه.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦)

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) وقرئ بكسر الشين ومعنى (الزَّقُّومِ) سبق في «الصافات».

(طَعامُ الْأَثِيمِ) الكثير الأثام ، والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه.

(كَالْمُهْلِ) وهو ما يمهل في النار حتى يذوب. وقيل دردي الزيت. تغلي في البطون وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء على أن الضمير لل (طَعامُ) ، أو (الزَّقُّومِ) لا «للمهل» إذ الأظهر أن الجملة حال من أحدهما.

(كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) غليانا مثل غليه.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)(٥٠)

(خُذُوهُ) على إرادة القول والمقول له الزبانية. (فَاعْتِلُوهُ) فجروه والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر ، وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب بالضم وهما لغتان. (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) كان أصله يصب من فوق رؤوسهم الحميم فقيل يصب من (فَوْقَ) رؤوسهم (عَذابِ) هو (الْحَمِيمِ) للمبالغة ، ثم أضيف ال (عَذابِ) إلى (الْحَمِيمِ) للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.

١٠٣

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي وقولوا له ذلك استهزاء به وتقريعا على ما كان يزعمه ، وقرأ الكسائي (إِنَّكَ) بالفتح أي ذق لأنك أو (عَذابِ إِنَّكَ).

(إِنَّ هذا) إن هذا. العذاب. (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكون وتمارون فيه.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ)(٥٥)

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٥٧)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ) في موضع إقامة ، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم (أَمِينٍ) يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال.

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بدل من مقام جيء به للدلالة على نزاهته ، واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف ، والسندس ما رقّ من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره ، أو مشتق من البراقة. (مُتَقابِلِينَ) في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض. (كَذلِكَ) الأمر كذلك أو آتيناهم مثل ذلك. (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قرناهم بهن ولذلك عدي بالباء ، والحوراء البيضاء والعيناء عظيمة العينين ، واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها.

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا بزمان. (آمِنِينَ) من الضرر.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) بل يحيون فيها دائما ، والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة و (الْمَوْتَ) أول أحوالها ، أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها ، أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع (الْمَوْتَ) فكأنه قال : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل. (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وقرئ «ووقّاهم» على المبالغة.

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه. وقرئ بالرفع أي ذلك فضل. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)(٥٩)

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) سهلناه حيث أنزلناه بلغتك وهو فذلكة السورة. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يفهمونه فيتذكرون به ما لم يتذكروا.

(فَارْتَقِبْ) فانتظر ما يحل بهم. (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) منتظرون ما يحل بك.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفورا له».

١٠٤

(٤٥) سورة الجاثية

مكية وآيها سبع أو ست وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٤)

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) إن جعلت (حم) مبتدأ خبره (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) احتجت إلى إضمار مثل ذلك (تَنْزِيلُ حم) ، وإن جعلتها تعديدا للحروف كان (تَنْزِيلُ) مبتدأ خبره : (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وقيل (حم) مقسم به و (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) صفته وجواب القسم :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهو يحتمل أن يكون على ظاهره وأن يكون المعنى إن في خلق السموات لقوله :

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) ولا يحسن عطف ما على الضمير المجرور بل عطفه على المضاف إليه بأحد الاحتمالين ، فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما به يتم معاشه إلى غير ذلك دلائل على وجود الصانع المختار. (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) محمول على محل إن واسمها ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملا على الاسم.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)(٦)

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) من مطر وسماه رزقا لأنه سببه. (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) باختلاف جهاتها وأحوالها ، وقرأ حمزة والكسائي «وتصريف الريح». (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فيه القراءتان ويلزمهما العطف على عاملين في والابتداء ، أو إن إلا أن يضمر في أو ينصب (آياتٌ) على الاختصاص أو يرفع بإضمار هي ، ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي تلك الآيات دلائله (نَتْلُوها عَلَيْكَ) حال عاملها معنى الإشارة. (بِالْحَقِ) ملتبسين به أو ملتبسة به. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) أي بعد آيات الله ، وتقديم اسم (اللهِ) للمبالغة والتعظيم كما في قولك أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث (اللهِ) وهو القرآن كقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) و (آياتِهِ) دلائله المتلوة أو القرآن ، والعطف لتغاير الوصفين. وقرأ الحجازيان وحفص وأبو عمرو وروح (يُؤْمِنُونَ) بالياء ليوافق ما قبله.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا

١٠٥

شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠)

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كذاب. (أَثِيمٍ) كثير الآثام.

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) يقيم على كفره. (مُسْتَكْبِراً) عن الإيمان بالآيات و (ثُمَ) لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات كقوله : يرى غمرات ثمّ يزورها. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه فخففت وحذف ضمير الشأن والجملة في موضع الحال ، أي يصر مثل غير السامع. (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) على إصراره والبشارة على الأصل أو التهكم.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) وإذا بلغه شيء من (آياتِنا) وعلم أنه منها. (اتَّخَذَها هُزُواً) لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء ، والضمير ل (آياتِنا) وفائدته الإشعار بأنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من الآيات بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه ، أو لشيء لأنه بمعنى الآية. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) من قدامهم لأنهم متوجهون إليها ، أو من خلفهم لأنها بعد آجالهم. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) ولا يدفع عنهم. (ما كَسَبُوا) من الأموال والأولاد. (شَيْئاً) من عذاب الله. (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي الأصنام. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يتحملونه.

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(١١)

(هذا هُدىً) الإشارة إلى القرآن ويدل عليه قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع (أَلِيمٌ) وال (رِجْزٍ) أشد العذاب.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١٣)

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه. (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) بتسخيره وأنتم راكبوها. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) التجارة والغوص والصيد وغيرها. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بأن خلقها نافعة لكم. (مِنْهُ) حال من ما أي سخر هذه الأشياء كائنة منه ، أو خبر لمحذوف أي هي جميعا منه ، أو ل (ما فِي السَّماواتِ وَسَخَّرَ لَكُمْ) تكرير للتأكيد أو ل (ما فِي الْأَرْضِ) ، وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل (سَخَّرَ) على الإسناد المجازي أو خبر محذوف. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنائعه.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١٥)

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) حذف المقول لدلالة الجواب عليه ، والمعنى قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا. (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا يتوقعون وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم ، أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لنصر المؤمنين وثوابهم ووعدهم بها. والآية نزلت في عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهم أن يبطش به ، وقيل إنها منسوخة بآية القتال. (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) علة للأمر ، والقوم هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو الشيوع ، والكسب المغفرة أو

١٠٦

الإساءة أو ما يعمهما. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوما» أي ليجزي الخير أو الشر أو الجزاء ، أعني ما يجزى به لا المصدر فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي لها ثواب العمل وعليها عقابه. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ(١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) التوراة. (وَالْحُكْمَ) والحكمة النظرية والعملية أو فصل الخصومات. (وَالنُّبُوَّةَ) إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مما أحل الله من اللذائذ. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أدلة في أمر الدين ويندرج فيها المعجزات. وقيل آيات من أمر النبي عليه الصلاة والسلام مبينة لصدقه. (فَمَا اخْتَلَفُوا) في ذلك الأمر. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقيقة الحال. (بَغْياً بَيْنَهُمْ) عداوة وحسدا. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بالمؤاخذة والمجازاة.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)(١٩)

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) طريقة (مِنَ الْأَمْرِ) من أمر الدين. (فَاتَّبِعْها) فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) آراء الجهال التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش قالوا له ارجع إلى دين آبائك.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) مما أراد بك. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالهم باتباع أهوائهم. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) فواله بالتقي واتباع الشريعة.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٢١)

(هذا) أي القرآن أو اتباع الشريعة. (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) بينات تبصرهم وجه الفلاح. (وَهُدىً) من الضلالة. (وَرَحْمَةٌ) ونعمة من الله. (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يطلبون اليقين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة. (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) أن نصيرهم. (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول لأن المماثلة فيه إذ المعنى انكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف ، أو المفعولية والكاف حال وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للإنكار ، وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني ، وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة ،

١٠٧

أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال ، وقرئ «مماتهم» بالنصب على أن (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) ظرفان كمقدم الحاج. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ساء حكمهم هذا أو بئس شيئا حكموا به ذلك.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٢)

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) كأنه دليل على الحكم السابق من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم ، والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) عطف على بالحق لأنه في معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل (وَلِتُجْزى). (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وتضعيف عقاب ، وتسمية ذلك ظلما ولو فعله الله لم يكن منه ظلما لأنه لو فعله غيره لكان ظلما كالابتلاء والاختبار.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢٥)

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى فكأنه يعبده ، وقرئ «آلهة هواه» لأنه كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ) وخذله. (عَلى عِلْمٍ) عالما بضلاله وفساد جوهر روحه. (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) فلا يبالي بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار ، وقرأ حمزة والكسائي «غشوة». (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) من بعد إضلاله. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وقرئ «تتذكرون».

(وَقالُوا ما هِيَ) ما الحياة أو الحال. (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) التي نحن فيها. (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نكون أمواتا نطفا وما قبلها ونحيا بعد ذلك ، أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا ، أو يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة ويحتمل أنهم أرادوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان. (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره إذا غلبه. (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعني نسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال ، أو إنكار البعث أو كليهما. (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) إذ لا دليل لهم عليه وإنما قالوه بناء على التقليد والإنكار لما لم يحسوا به.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم أو مبينات له. (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) ما كان لهم متشبث يعارضونها به. (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وإنما سماه حجة على حسبانهم ومساقهم ، أو على أسلوب قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع. فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا امتناعه مطلقا.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)(٢٧)

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) على ما دلت عليه الحجج. (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما قرر مرارا ، والوعد

١٠٨

المصدق بالآيات دل على وقوعها ، وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم لكن الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسونه.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعميم للقدرة بعد تخصيصها. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي ويخسر يوم تقوم و (يَوْمَئِذٍ) بدل منه.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٩)

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة ، أو باركة مستوفزة على الركب. وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع لاستيفازهم. (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) صحيفة أعمالها. وقرأ يعقوب (كُلَ) على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو مفعول ثان. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) محمول على القول.

(هذا كِتابُنا) أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم. (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان. (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) نستكتب الملائكة. (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أعمالكم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)(٣١)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) التي من جملتها الجنة. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الظاهر لخلوصه عن الشوائب.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي فيقال لهم ألم يأتكم رسلي (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) ، فحذف القول والمعطوف عليه اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة. (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بها. (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) عادتكم الإجرام.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٣)

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) يحتمل الموعود به والمصدر. (حَقٌ) كائن هو أو متعلقه لا محالة : (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) إفراد للمقصود ، وقرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم إن. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي شيء الساعة استغرابا لها. (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أصله نظن ظنا فأدخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفى ما عداه كأنه قال : ما نحن إلّا نظن ظنا ، أو لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة ثم أكده بقوله : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي لإمكانه ، ولعل ذلك قول بعضهم تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم وما تليت عليهم من الآيات في أمر الساعة.

(وَبَدا لَهُمْ) ظهر لهم. (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) على ما كانت عليه بأن عرفوا قبحها وعاينوا وخامة عاقبتها ، أو جزاءها. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو الجزاء.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ

١٠٩

آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٣٥)

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) نترككم في العذاب ترك ما ينسى. (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) كما تركتم عدته ولم تبالوا به ، وإضافة لقاء إلى يوم إضافة المصدر إلى ظرفه. (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها. (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحسبتم أن لا حياة سواها. (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه لفوات أوانه.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٣٧)

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذ الكل نعمة منه ودال على كمال قدرته. (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذ ظهر فيها آثارها. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب. (الْحَكِيمُ) فيما قدر وقضى فاحمدوه وكبروه وأطيعوا له. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب».

١١٠

(٤٦) سورة الأحقاف

مكية وآيها أربع أو خمس وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)(٣)

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إلا خلقا ملتبسا بالحق وهو ما تقتضيه الحكمة والمعدلة ، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم ، والبعث للمجازاة على ما قررناه مرارا. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل وهو يوم القيامة ، أو كل واحد وهو آخر مدة بقائه المقدرة له. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) من هول ذلك الوقت ، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية. (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيه ولا يستعدون لحلوله.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها ، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم فتستحق به العبادة. وتخصيص الشرك بالسموات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) من قبل هذا الكتاب يعني القرآن فإنه ناطق بالتوحيد. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين عل فيها ما يدل على استحقاقهم للعبادة أو الأمر به. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، وهو إلزام بعدم ما يدل على ألوهيتهم بوجه ما نقلا بعد إلزامهم بعدم ما يقتضيها عقلا ، وقرئ «إثارة» بالكسر أي مناظرة فإن المناظرة تثير المعاني ، و «أثرة» أي شيء أوثرتم به و «أثرة» بالحركات الثلاث في الهمزة وسكون الثاء فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث إذا رواه والمكسورة بمعنى الأثرة والمضمومة اسم ما يؤثر.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ(٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)(٦)

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم ، فضلا أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ما دامت الدنيا. (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) يضرونهم ولا ينفعونهم. (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) مكذبين بلسان

١١١

الحال أو المقال. وقيل الضمير للعابدين وهو كقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٨)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات أو مبينات. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) لأجله وفي شأنه ، والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها ووضع (الَّذِينَ كَفَرُوا) موضع ضمير المتلوّ عليهم للتسجيل عليها بالحق وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة. (لَمَّا جاءَهُمْ) حينما جاءهم من غير نظر وتأمل. (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر بطلانه.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) على الفرض. (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إن عاجلني الله بالعقوبة فلا تقدرون على دفع شيء منها فكيف أجترئ عليه وأعرض نفسي للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضر من قبلكم. (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) تندفعون فيه من القدح في آياته. (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والإنكار ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم ، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرمهم.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٩)

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) بديعا منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه ، أو أقدر على ما لم يقدروا عليه ، وهو الإتيان بالمقترحات كلها ونظيره الخف بمعنى الخفيف. وقرئ بفتح الدال على أنه كقيم أو مقدر بمضاف أي ذا بدع. (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) في الدارين على التفضيل إذ لا علم لي بالغيب ، و (لا) لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي (وَما) إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة. وقرئ «يفعل» أي يفعل الله. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) لا أتجاوزه ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب ، أو استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين. (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) من عقاب الله. (مُبِينٌ) بين الإنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي القرآن. (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) وقد كفرتم به ، ويجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط وكذا الواو في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله ، والشاهد هو عبد الله بن سلام وقيل موسى عليه الصلاة والسلام وشهادته ما في التوراة من نعت الرسول عليه الصلاة والسلام. (عَلى مِثْلِهِ) مثل القرآن وهو ما في التوراة من المعاني المصدقة للقرآن المطابقة له ، أو مثل ذلك وهو كونه من عند الله. (فَآمَنَ) أي بالقرآن لما رآه من جنس الوحي مطابقا للحق. (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) استئناف مشعر بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم ، ودليل على الجواب المحذوف مثل ألستم ظالمين.

١١٢

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ)(١٢)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأجلهم. (لَوْ كانَ) الإيمان أو ما أتى به محمد عليه الصلاة والسلام. (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وهم سقاط إذ عامتهم فقراء وموال ورعاة ، وإنما قاله قريش وقيل بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم جهينة ومزينة وأسلم وغفار ، أو اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه. (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ظرف لمحذوف مثل ظهر عنادهم وقوله : (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) مسبب عنه وهو كقولهم : أساطير الأولين. (وَمِنْ قَبْلِهِ) ومن قبل القرآن وهو خبر لقوله : (كِتابُ مُوسى) ناصب لقوله : (إِماماً وَرَحْمَةً) على الحال. (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى أو لما بين يديه وقد قرئ به. (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير (كِتابُ) في (مُصَدِّقٌ) أو منه لتخصصه بالصفة ، وعاملها معنى الإشارة وفائدتها الإشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا للتوراة كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله سبحانه وتعالى. وقيل مفعول (مُصَدِّقٌ) أي يصدق ذا لسان عربي بإعجازه. (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) علة (مُصَدِّقٌ) ، وفيه ضمير الكتاب أو الله أو الرسول ، ويؤيد الأخير قراءة نافع وابن عامر والبزي بخلاف عنه ويعقوب بالتاء (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) عطف على محله.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الأمور التي هي منتهى العمل ، وثم للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوات محبوب ، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اكتساب الفضائل العلمية والعملية ، وخالدين حال من المستكن في أصحاب وجزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(١٥)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) وقرأ الكوفيون «إحسانا» ، وقرئ حسنا أي إيصاء «حسنا». (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة ، وقرأ الحجازيان وأبو عمرو وهشام بالفتح وهما لغتان كالفقر والفقر. وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر. (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) ومدة (حَمْلُهُ وَفِصالُهُ) ، والفصال الفطام ويدل عليه قراءة يعقوب «وفصله» أو وقته والمراد به الرضاع التام المنتهي به ولذلك عبر به كما يعبر بالأمد عن المدة ، قال :

كلّ حيّ مستكمل عدّة العم

ر ومود إذا انتهى أمدّه

(ثَلاثُونَ شَهْراً) كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها ، وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)

١١٣

بقي ذلك وبه قال الأطباء ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله. (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) قيل لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني وأصله أولعني من أوزعته بكذا. (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) يعني نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها ، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) نكره للتعظيم أو لأنه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا الله عزوجل. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) واجعل لي الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم ونحوه قوله :

وإن تعتذر بالمحل عن ذي ضروعها

إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عما لا ترضاه أو يشغل عنك. (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المخلصين لك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(١٧)

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه. (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لتوبتهم ، وقرأ حمزة الكسائي وحفص بالنون فيهما. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم. (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد. (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي في الدنيا.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) مبتدأ خبره (أُولئِكَ) ، والمراد به الجنس وإن صح نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. وفي (أُفٍ) قراءات ذكرت في سورة «بني إسرائيل». (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أبعث ، وقرأ هشام «أتعداني» بنون واحدة مشددة. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فلم يرجع أحد منهم. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يقولان الغياث بالله منك ، أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان. (وَيْلَكَ آمِنْ) أي يقولان له (وَيْلَكَ) ، وهو الدعاء بالثبور بالحث على ما يخاف على تركه. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم التي كتبوها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ(١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٩)

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بأنهم أهل النار وهو يرد النزول في عبد الرحمن لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جب عنه إن كان لإسلامه. (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوله في أصحاب الجنة. (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بيان للأمم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل للحكم على الاستئناف.

(وَلِكُلٍ) من الفريقين. (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أو من أجل ما عملوا وال (دَرَجاتٌ) غالبة في المثوبة وها هنا جاءت على التغليب. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) جزاءها ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان بالنون. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وزيادة عقاب.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)(٢٠)

١١٤

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) يعذبون بها. وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم : عرضت الناقة على الحوض. (أَذْهَبْتُمْ) أي يقال لهم أذهبتم ، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين. (طَيِّباتِكُمْ) لذاتكم. (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) باستيفائها. (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) فما بقي لكم منها شيء. (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) الهوان وقد قرئ به. (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله ، وقرئ «تفسقون» بالكسر.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٣)

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) يعني هودا. (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بالشجر من اليمن. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) الرسل. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) قبل هود وبعده والجملة حال أو اعتراض. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي لا تعبدوا ، أو بأن لا تعبدوا فإن النهي عن الشيء إنذار من مضرته. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هائل بسبب شرككم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا. (عَنْ آلِهَتِنا) عن عبادتها. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشرك. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في وعدك. (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) لا علم لي بوقت عذابكم ولا مدخل لي فيه فأستعجل به ، وإنما علمه عند الله فيأتيكم به في وقته المقدر له. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم وما على الرسول إلا البلاغ. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) لا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا معذبين مقترحين.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)(٢٥)

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) سحابا عرض في أفق السماء. (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) متوجه أوديتهم ، والإضافة فيه لفظية وكذا في قوله : (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي يأتينا بالمطر. (بَلْ هُوَ) أي قال هود عليه الصلاة والسلام (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب ، وقرئ «قل» «بل» : (رِيحٌ) هي ريح ، ويجوز أن يكون بدل ما. (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفتها وكذا قوله :

(تُدَمِّرُ) تهلك. (كُلَّ شَيْءٍ) من نفوسهم وأموالهم. (بِأَمْرِ رَبِّها) إذ لا توجد نابضة حركة ولا قابضة سكون إلا بمشيئته ، وفي ذكر الأمر والرب وإضافة إلى الريح فوائد سبق ذكرها مرارا ، وقرئ «يدمر كل شيء» من دمر دمارا إذا هلك فيكون العائد محذوفا أو الهاء في (رَبِّها) ، ويحتمل أن يكون استئنافا للدلالة على أن لكل ممكن فناء مقضيا لا يتقدم ولا يتأخر ، وتكون الهاء لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم أي فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) بالياء المضمومة ورفع المساكن. (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). روي أن هودا عليه‌السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين في الحظيرة وجاءت الريح فأمالت الأحقاف على الكفرة ، وكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت عنهم واحتملتهم فقذفتهم في البحر.

١١٥

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢٦)

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ إِنْ) نافية وهي أحسن من ما هاهنا لأنها توجب التكرير لفظا ولذلك قلبت ألفها هاء في مهما ، أو شرطية محذوفة الجواب والتقدير ، ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر ، أو صلة كما في قوله :

يرجّي المرء ما إن لا يراه

ويعرض دون أدناه الخطوب

والأول أظهر وأوفق لقوله : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً). (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها تعالى ويواظبوا على شكرها. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الإغناء وهو القليل. (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) صلة (فَما أَغْنى) وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه وكذلك حيث. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٨)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة. (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود وقرى قوم لوط. (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) بتكريرها. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) فهلا منعتهم من الهلاك آلهتهم الذين يتقربون بهم إلى الله تعالى حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وأول مفعولي (اتَّخَذُوا) الراجع إلى الموصول محذوف ، وثانيهما (قُرْباناً) و (آلِهَةً) بدل أو عطف بيان ، أو (آلِهَةً) و (قُرْباناً) حال أو مفعول له على أنه بمعنى التقرب. وقرئ «قربانا» بضم الراء. (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) غابوا عن نصرهم وامتنع أن يستمدوا بهم امتناع الاستمداد بالضال. (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره صرفهم عن الحق ، وقرئ «أفكهم» بالتشديد للمبالغة ، و «آفكهم» أي جعلهم آفكين و «آفكهم» أي قولهم الآفك أي ذو الإفك. (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ).

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣٠)

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار. (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) حال محمولة على المعنى. (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن أو الرسول. (قالُوا أَنْصِتُوا) قال بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه. (فَلَمَّا قُضِيَ) أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام. (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي منذرين إياهم بما سمعوا. روي أنهم وافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) قيل إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا أو ما سمعوا بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد. (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) من

١١٦

الشرائع.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣٢)

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم ، وهو ما يكون في خالص حق الله فإن المظالم لا تغفر بالإيمان. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هو معد للكفار ، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه باقتصارهم على المغفرة والإجارة على أن لا ثواب لهم ، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم.

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) إذ لا ينجي منه مهرب. (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) يمنعونه منه. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٣٤)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) ولم يتعب ولم يعجز ، والمعنى أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإيجاد أبد الآباد. (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي قادر ، ويدل عليه قراءة يعقوب «يقدر» ، والباء مزيدة لتأكيد النفي فإنه مشتمل على (أَنَ) وما في حيزها ولذلك أجاب عنه بقوله : (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود ، كأنه صدّر السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) منصوب بقول مضمر مقوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) والإشارة إلى العذاب. (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بكفركم في الدنيا ، ومعنى الأمر هو الإهانة بهم والتوبيخ لهم.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣٥)

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أولوا الثبات والجد منهم فإنك من جملتهم ، و (مِنَ) للتبيين ، وقيل للتبعيض ، و (أُولُوا الْعَزْمِ) أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ، ومشاهيرهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى صلّى الله وسلم عليهم. وقيل الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذى قومه ، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح ولده والذبيح على الذبح ، ويعقوب على فقد الولد والبصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى قال له قومه (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة. (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) لكفار قريش بالعذاب فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) استقصروا من هوله مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة. (بَلاغٌ) هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية ، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيده أنه قرئ «بلغ» ، وقيل (بَلاغٌ) مبتدأ خبره (لَهُمْ) و (ما) بينهما اعتراض أي لهم وقت يبلغون إليه كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم ، وقرئ بالنصب أي بلغوا بلاغا. (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)

١١٧

الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة ، وقرئ «يهلك» بفتح اللام وكسرها من هلك وهلك ، و «نهلك» بالنون ونصب القوم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا».

١١٨

(٤٧) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وتسمه سورة القتال وهي مدينة وقيل مكية

وآيها سبع أو ثمان وثلاثون أو أربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)(٢)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه ، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر ، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب. أو عام في جميع من كفر وصد. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) جعل مكارمهم كصلة الرحم وفك الأسارى وحفظ الجوار ضالة أي ضائعة محبطة بالكفر ، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن ، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه الله ، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم. (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه ، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) اعتراضا على طريقة الحصر. وقيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ ، وقرئ «نزل» على البناء للفاعل و «أنزل» على البناءين و «نزل» بالتخفيف. (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) سترها بالإيمان وعملهم الصالح. (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)(٣)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره. (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) بسبب اتباع هؤلاء الباطل واتباع هؤلاء الحق ، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها ولذلك سمي تفسيرا. (كَذلِكَ) مثل ذلك الضرب. (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ) يبين لهم. (أَمْثالَهُمْ) أحوال الفريقين أو أحوال الناس ، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا للمؤمنين ، وتكفير السيئات مثلا لفوزهم.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)(٦).

١١٩

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في المحاربة. (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول ضما إلى التأكيد والاختصار. والتعبير به عن القتل إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن ، وتصوير له بأشنع صورة. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ. (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) فأسروهم واحفظوهم ، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به. (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء ، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإطلاق وبين أخذ الفداء ، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإمام بين القتل والمن والفداء ، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق. وقرئ «فدا» كعصا. (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع ، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم. وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيها حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام (ذلِكَ) أي الأمر ذلك ، أو افعلوا بهم ذلك. (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لا لانتقم منهم بالاستئصال. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا ، وقرأ البصريان وحفص (قُتِلُوا) أي استشهدوا. (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) فلن يضيعها ، وقرئ «يضل» من ضل و «يضل» على البناء للمفعول.

(سَيَهْدِيهِمْ) إلى الثواب ، أو سيثبت هدايتهم. (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ).

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) وقد عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها فعملوا ما استحقوها به ، أو بينها لهم بحيث يعلم كل واحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق ، أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة ، أو حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) إن تنصروا دينه ورسوله. (يَنْصُرْكُمْ) على عدوكم. (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في القيام بحقوق الإسلام والمجاهدة مع الكفار.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) فعثورا لهم وانحطاطا ونقيضه لما قال الأعشى. فالتعس أولى بها من أن أقول لعا. وانتصابه بفعله الواجب إضماره سماعا ، والجملة خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا) أو مفسرة لناصبه. (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) عطف عليه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) القرآن لما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم ، وهو تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) كرره إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)(١١)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استأصل عليهم ما

١٢٠