أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يحتمل الأوثان وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم في حكم عبدتهم ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما تلا الآية على المشركين قال له ابن الزبعري : قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك» فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية. وعلى هذا يعم الخطاب ويكون (ما) مؤولا بمن أو بما يعمه ، ويدل عليه ما روي أن ابن الزبعري قال : هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل لكل من عبد من دون الله». ويكون قوله (إِنَّ الَّذِينَ) بيانا للتجوز أو التخصيص تأخر عن الخطاب. (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه بحصبه إذا رماه بالحصباء وقرئ بسكون الصاد وصفا بالمصدر. (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) استئناف أو بدل من (حَصَبُ جَهَنَّمَ) واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أن ورودهم لأجلها.

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) لأن المؤاخذ بالعذاب لا يكون إلها. (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) لا خلاص لهم عنها.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أنين وتنفس شديد وهو من إضافة فعل البعض إلى الكل للتغلب إن أريد ب (ما تَعْبُدُونَ) الأصنام. (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) من الهول وشدة العذاب. وقيل (لا يَسْمَعُونَ) ما يسرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١٠٣)

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي الخصلة الحسنى وهي السعادة أو التوفيق بالطاعة أو البشرى بالجنة. (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لأنهم يرفعون إلى أعلى عليين. روي أن عليا كرم الله وجهه خطب وقرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح ، ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه ويقول :

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) وهو بدل من (مُبْعَدُونَ) أو حال من ضميره سيق للمبالغة في إبعادهم عنها ، والحسيس صوت يحس به. (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) النفخة الأخيرة لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أو الانصراف إلى النار أو حين يطبق على النار أو يذبح الموت. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تستقبلهم مهنئين لهم. (هذا يَوْمُكُمُ) يوم ثوابكم وهو مقدر بالقول. (الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(١٠٤)

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) مقدر باذكر أو ظرف (لا يَحْزُنُهُمُ) ، أو (تَتَلَقَّاهُمُ) أو حال مقدرة من العائد المحذوف من (تُوعَدُونَ) ، والمراد بالطي ضد النشر أو المحو من قولك اطو عني هذا الحديث ، وذلك لأنها

٦١

نشرت مظلة لبني آدم فإذا انتقلوا قوضت عنهم ، وقرئ بالياء والتاء والبناء للمفعول. (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) طيا كطي الطومار لأجل الكتابة أو لما يكتب أو كتب فيه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص على الجمع أي للمعاني الكثيرة المكتوبة فيه. وقيل «السجل» ملك يطوي كتب الأعمال إذا رفعت إليه أو كاتب كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ «السجل» كالدلو و «السجل» كالعتل وهما لغتان فيه. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونهما إيجادا عن العدم ، أو جمعا بين الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على الإبداء لشمول الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية. وتناول القدرة القديمة لهما على السواء ، و «ما» كافة أو مصدرية وأول مفعول ل (بَدَأْنا) أو لفعل يفسره (نُعِيدُهُ) أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره (نُعِيدُهُ) أي نعيد مثل الّذي بدأنا وأول خلق ظرف ل (بَدَأْنا) أو حال من ضمير الموصول المحذوف. (وَعْداً) مقدر بفعله تأكيدا ل (نُعِيدُهُ) أو منتصب به لأنه عدة بالإعادة. (عَلَيْنا) أي علينا إنجازه. (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ذلك لا محالة.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)(١٠٦)

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) في كتاب داود عليه‌السلام. (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي التوراة ، وقيل المراد ب (الزَّبُورِ) جنس الكتب المنزل وب (الذِّكْرِ) اللوح المحفوظ. (أَنَّ الْأَرْضَ) أي أرض الجنة أو الأرض المقدسة. (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ، أو أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ فِي هذا) أي فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد (لَبَلاغاً) لكفاية أو لسبب بلوغ إلى البغية. (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) همهم العبادة دون العادة.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٠٨)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم ، وقيل كونه رحمة للكفار أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي ما يوحى إلي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد ، وذلك لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد فالأولى لقصر الحكم على الشيء والثانية على العكس. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون العبادة لله تعالى على مقتضى الوحي المصدق بالحجة ، وقد عرفت أن التوحيد مما يصح إثباته بالسمع.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(١١١)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد. (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم. (عَلى سَواءٍ) مستوين في الإعلام به أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به ، أو في المعاداة أو إيذانا على سواء. وقيل أعلمتكم أني على (سَواءٍ) أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير. (وَإِنْ أَدْرِي) وما أدري. (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين أو الحشر لكنه كائن لا محالة.

٦٢

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام. (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) من الإحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لينظر كيف تعملون. (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وتمتع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١١٢)

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لاستعجال العذاب والتشديد عليهم ، وقرأ حفص (قالَ) على حكاية قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ «رب» بالضم و «ربي أحكم» على بناء التفضيل و «احكم» من الأحكام. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) كثير الرحمة على خلقه. (الْمُسْتَعانُ) المطلوب منه المعونة. (عَلى ما تَصِفُونَ) من الحال بأن الشوكة تكون لهم وأن راية الإسلام تخفق أياما ثم تسكن ، وأن الموعد به لو كان حقا لنزل بهم فأجاب الله تعالى دعوة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخيب أمانيهم ونصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وقرئ بالياء. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ اقترب حاسبه الله حسابا يسيرا وصافحه وسلّم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن» والله تعالى أعلم.

٦٣

(٢٢) سورة الحج

مكية إلا ست آيات من (هذانِ خَصْمانِ) إلى (صِراطِ الْحَمِيدِ)

وآيها ثمان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي ، أو تحريك الأشياء فيها فأضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به. وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها. (شَيْءٌ عَظِيمٌ) هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) تصوير لهولها والضمير لل (زَلْزَلَةَ) ، و (يَوْمَ) منصوب ب (تَذْهَلُ) ، وقرئ «تذهل» و «تذهل» مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة ، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت الّتي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه ، و «ما» موصولة أو مصدرية. (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) جنينها. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) كأنهم سكارى. (وَما هُمْ بِسُكارى) على الحقيقة. (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم ، وقرئ «ترى» من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل ، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع ، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٤)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا بعث بعد الموت هي تعمه وأضرابه. (وَيَتَّبِعُ) في المجادلة أو في عامة أحواله. (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) متجرد للفساد وأصله العري.

(كُتِبَ عَلَيْهِ) على الشيطان. (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) تبعه والضمير للشأن. (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) خبر لمن أو جواب له ، والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه ، وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام. وقرئ بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو

٦٤

تضمين الكتب معناه. (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) بالحمل على ما يؤدي إليه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(٥)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) من إمكانه وكونه مقدورا ، وقرئ «من البعث» بالتحريك كالجلب. (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم. (مِنْ تُرابٍ) بخلق آدم منه ، أو الأغذية الّتي يتكون منها المني. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) مني من النطف وهو الصب. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطعة من الدم جامدة. (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ. (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر. (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) أن نقره. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ «ونقر» بالنصب وكذا قوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) عطفا على «نبيّن» كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشئوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعا ونصبا ويقر بالياء (وَنُقِرُّ) من قررت الماء إذا صببته ، و (طِفْلاً) حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) عند بلوغ الأشد أو قبله. وقرئ (يُتَوَفَّى) أو يتوفاه الله تعالى. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم والخرف ، وقرئ بسكون الميم. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات. (وَرَبَتْ) وانتفخت ، وقرئ «وربأت» أي ارتفعت. (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) من كل صنف (بَهِيجٍ) حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(٧)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة ، وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي بسبب أنه الثابت في نفسه الّذي به تتحقق الأشياء. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وأنه يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن قدرته لذاته الّذي نسبته إلى الكل على سواء ، فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها.

٦٥

(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) فإن التغير من مقدمات الانصرام وطلائعه. (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بمقتضى وعده الّذي لا يقبل الخلف.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٠)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة بقوله : (وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) على أنه لا سند له من استدلال أو وحي ، أو الأول في المقلدين وهذا في المقلدين ، والمراد بالعلم العلم الفطري ليصح عطف ال (هُدىً) وال (كِتابٍ) عليه.

(ثانِيَ عِطْفِهِ) متكبرا وثني العطف كناية عن التكبر كلّي الجيد ، أو معرضا عن الحق استخفافا به. وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) علة للجدال ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال ، وأنه من حيث مؤداه كالغرض له. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وهو ما أصابه يوم بدر. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) المحروق وهو النار.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) على الالتفات ، أو إرادة القول أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم المبالغة لكثرة العبيد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)(١١)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب. وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقلني فقال «إن الإسلام لا يقال» فنزلت. (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ «خاسرا» بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) إذ لا خسران مثله.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣)

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) يعبد جمادا لا يضر بنفسه ولا ينفع. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن المقصد مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) بكونه معبودا لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) الّذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى ، واللام معلقة ل (يَدْعُوا) من حيث إنه بمعنى

٦٦

يزعم والزعم قول مع اعتقاد ، أو داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى يقول : أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به ، أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره (لَبِئْسَ الْمَوْلى) الناصر. (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الصاحب.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ(١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ)(١٥)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك الطالح لا دافع له ولا مانع.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) كلام فيه اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه. وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظا ، أو المبالغ جزعا حتى يمد حبلا إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق ، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. وقيل فليمدد حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه. وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر ليقطع بكسر اللام. (فَلْيَنْظُرْ) فليتصور في نفسه. (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) فعله ذلك وسماه على الأول كيدا لأنه منتهى ما يقدر عليه. (ما يَغِيظُ) غيظه أو الّذي يغيظه من نصر الله. وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطئوا نصر الله لاستعجالهم وشدة غيظهم على المشركين.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١٧)

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال. (أَنْزَلْناهُ) أنزلنا القرآن كله. (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات. (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي) ولأن الله يهدي به أو يثبت على الهدى. (مَنْ يُرِيدُ) هدايته أو إثباته أنزله كذلك مبينا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالحكومة بينهم وإظهار المحق منهم على المبطل ، أو الجزاء فيجازي كلّا ما يليق به ويدخله المحل المعد له ، وإنما أدخلت إن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) عالم به مراقب لأحواله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(١٨)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يتسخر لقدرته ولا يتأنى عن تدبيره ، أو يدل بذلته على عظمة مدبره ، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها. وقرئ «والدواب» بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين. (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في

٦٧

كل واحد من مفهوميه ، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر ، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم ، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب ، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بكفره وإبائه عن الطاعة ، ويجوز أن يجعل «وكثير» تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب أن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده. وقرئ «حق» بالضم و «حقا» بإضمار فعله. (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بالشقاوة (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) يكرمه بالسعادة ، وقرئ بالفتح بمعنى الإكرام. (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإكرام والإهانة.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ)(٢٠)

(هذانِ خَصْمانِ) أي فوجان مختصمان. ولذلك قال : (اخْتَصَمُوا) حملا على المعنى ولو عكس لجاز ، والمراد بها المؤمنون والكافرون. (فِي رَبِّهِمْ) في دينه أو في ذاته وصفاته. وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمّد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ). (قُطِّعَتْ لَهُمْ) قدرت لهم على مقادير جثثهم ، وقرئ بالتخفيف. (ثِيابٌ مِنْ نارٍ) نيران تحيط بهم إحاطة الثياب. (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) حال من الضمير في (لَهُمْ) أو خبر ثان ، والحميم الماء الحار.

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم ، والجملة حال من (الْحَمِيمُ) أو من ضميرهم. وقرئ بالتشديد للتكثير.

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)(٢٢)

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) سياط منه يجلدون بها جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف.

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) من النار. (مِنْ غَمٍ) من غمومها بدل من الهاء بإعادة الجار. (أُعِيدُوا فِيها) أي فخرجوا أعيدوا لأن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهوون فيها. (وَذُوقُوا) أي وقيل لهم ذوقوا. (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار البالغة في الإحراق.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحمادا لحال المؤمنين وتعظيما لشأنهم. (يُحَلَّوْنَ فِيها) من حليت المرأة إذا ألبستها الحلي ، وقرئ بالتخفيف والمعنى واحد. (مِنْ أَساوِرَ) صفة مفعول محذوف و (أَساوِرَ) جمع أسورة وهو جمع سوار. (مِنْ ذَهَبٍ) بيان له. (وَلُؤْلُؤاً) عطف عليها لا على (ذَهَبٍ) لأنه لم يعهد السوار

٦٨

منه إلا أن يراد المرصعة به ، ونصبه نافع وعاصم عطفا على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون ، وروى حفص بهمزتين وترك أبو بكر والسوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى ، وقرئ «لؤلوا» بقلب الثانية واوا و «لوليا» بقلبهما واوين ثم قلب الثانية ياء و «ليليا» بقلبهما ياءين و «لول» كأدل. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة ، أو للمحافظة على هيئة الفواصل.

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو قولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أو كلمة التوحيد. (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة ، أو الحق أو المستحق لذاته الحمد وهو الله سبحانه وتعالى وصراطه الإسلام.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(٢٥)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لا يريد به حالا ولا استقبالا وإنما يريد به استمرار الصد منهم كقولهم : فلان يعطي ويمنع ، ولذلك حسن عطفه على الماضي. وقيل هو حال من فاعل (كَفَرُوا) وخبر (إِنَ) محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على اسم الله وأوّله الحنفية بمكة واستشهدوا بقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي المقيم والطارئ ، على عدم جواز بيع دورها وإجارتها ، وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وشراء عمر رضي الله عنه دار السجن فيها من غير نكير ، و (سَواءً) خبر مقدم والجملة مفعول ثان ل (جَعَلْناهُ) إن جعل (لِلنَّاسِ) حالا من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه ، ونصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و (الْعاكِفُ) مرتفع به ، وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرئ بالفتح من الورود. (بِإِلْحادٍ) عدول عن القصد (بِظُلْمٍ) بغير حق وهما حالان مترادفان ، أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له : أي ملحدا بسبب الظّلم كالإشراك واقتراف الآثام (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) جواب ل (مَنْ).

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢٦)

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة. وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه. قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها فكنست ما حوله فبناه على أسه القديم. (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أَنْ) مفسرة ل (بَوَّأْنا) من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة ، أو مصدرية موصولة بالنهي أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ، ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت ، وقرئ يشرك بالياء وقرأ نافع وحفص وهشام (بَيْتِيَ) بفتح الياء.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ)(٢٨).

٦٩

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) ناد فيهم وقرئ «وآذن». (بِالْحَجِ) بدعوة الحج والأمر به. روي أنه عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم ، فأسمعه الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه أن يحج. وقيل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بذلك في حجة الوداع. (يَأْتُوكَ رِجالاً) مشاة جمع راجل كقائم وقيام ، وقرئ بضم الراء مخفف الجيم ومثقلة و «رجالي» كعجالى. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد السفر فهزله. (يَأْتِينَ) صفة ل (ضامِرٍ) محمولة على معناه ، وقرئ «يأتون» صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير ل (النَّاسِ). (مِنْ كُلِّ فَجٍ) طريق. (عَمِيقٍ) بعيد ، وقرئ «معيق» يقال بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى.

(لِيَشْهَدُوا) ليحضروا. (مَنافِعَ لَهُمْ) دينية ودنيوية ، وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها. وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيها على أنه المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى. (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي عشر ذي الحجة ، وقيل أيام النحر. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) علق الفعل بالمرزوق وبينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر. (فَكُلُوا مِنْها) من لحومها أمر بذلك إباحة وإزاحة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه ، أو ندبا إلى مواساة الفقراء ومساواتهم ، وهذا في المتطوع به دون الواجب. (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) الّذي أصابه بؤس أي شدة. (الْفَقِيرَ) المحتاج ، والأمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(٣٠)

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ما ينذرون من البر في حجهم ، وقيل مواجب الحج. وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء. (وَلْيَطَّوَّفُوا) طواف الركن الّذي به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث ، وقيل طواف الوداع. وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما. (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) القديم لأنه أول بيت وضع للناس ، أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى ، وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه.

(ذلِكَ) خبر محذوف أي الأمر ذلك وهو وأمثاله تطلق للفصل بين كلامين. (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه ، أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف. وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) فالتعظيم (خَيْرٌ لَهُ). (عِنْدَ رَبِّهِ) ثوابا. (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) إلا المتلو عليكم تحريمه ، وهو ما حرم منها لعارض : كالميتة وما أهل به لغير الله فلا تحرموا منها غير ما حرمه الله كالبحيرة والسائبة. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) فاجتنبوا الرجس الّذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس ، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك. وقيل شهادة الزور لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثا وتلا هذه الآية». و (الزُّورِ) من الزور وهو الانحراف كما أن الإفك من الأفك وهو الصرف ، فإن

٧٠

الكذب منحرف مصروف عن الواقع.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(٣٢)

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) مخلصين له. (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وهما حالان من الواو. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر. (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) فإن الأهواء الرديئة توزع أفكاره ، وقرأ نافع وحده (فَتَخْطَفُهُ) بفتح الخاء وتشديد الطاء. (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة وأو للتخيير كما في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، أو للتنويع فإن المشركين من لا خلاص له أصلا ، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد ، ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى : ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا يشبه أحد الهلاكين.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه ، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده ، وتعظيمها أن تختارها حسانا سمانا غالية الأثمان. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٣٣)

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر ، ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم ، و (ثُمَ) تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة ، أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها ، وهو على الأولين إما متصل بحديث (الْأَنْعامِ) والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى أجل مسمى هو الموت ، ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الّذي ترفع إليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة ، وعلى الثاني (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(٣٥)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ولكل أهل دين. (جَعَلْنا مَنْسَكاً) متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله ، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر أي موضع نسك. (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه ، علل الجعل به تنبيها على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) عند ذبحها ، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) المتواضعين أو المخلصين فإن الإخبات صفتهم.

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) هيبة منه لإشراق أشعة جلاله عليها. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من الكلف والمصائب. (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها ، وقرئ «والمقيمين الصلاة» على الأصل. (وَمِمَّا

٧١

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في وجوه الخير.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٣٦)

(وَالْبُدْنَ) جمع بدنة كخشب وخشبة ، وأصله الضم وقد قرئ به وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة ، ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في إجزائها عن سبعة بقوله عليه‌السلام «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» تناول اسم البدنة لها شرعا ، بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره. (جَعَلْناها لَكُمْ) ومن رفعه جعله مبتدأ. (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من أعلام دينه الّتي شرعها الله تعالى. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) منافع دينية ودنيوية. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. (صَوافَ) قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، وقرئ «صوافن» من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث ، وقرئ «صوافنا» بإبدال التنوين من حرف الإطلاق عند الوقف و «صوافيّ» أي خوالص لوجه الله ، و «صوافي» بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقا كقولهم : أعط القوس باريها. (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده قراءة «القنع» ، أو السائل من قنعت إليه قنوعا إذا خضعت له في السؤال. (وَالْمُعْتَرَّ) والمعترض بالسؤال ، وقرئ «والمعتري» يقال عره وعراه واعتره واعتراه. (كَذلِكَ) مثل ما وصفنا من نحرها قياما. (سَخَّرْناها لَكُمْ) مع عظمها وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧)

(لَنْ يَنالَ اللهَ) لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول. (لُحُومُها) المتصدق بها. (وَلا دِماؤُها) المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء. (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم الّتي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقرب إليه والإخلاص له ، وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى فهم به المسلمون فنزلت. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء. وقيل هو التكبير عند الإحلال أو الذبح. (عَلى ما هَداكُمْ) أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها ، و (ما) تحتمل المصدرية والخبرية و (عَلى) متعلقة ب (لِتُكَبِّرُوا) لتضمنه معنى الشكر. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) المخلصين فيما يأتونه ويذرونه.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)(٣٨)

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) غائلة المشركين ، وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون (يُدافِعُ) أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانة الله. (كَفُورٍ) لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩).

٧٢

(أُذِنَ) رخص ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي على البناء للفاعل وهو الله. (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء أي للذين يقاتلهم المشركون. (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت. وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية. (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٤٠)

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني مكة. (بِغَيْرِ حَقٍ) بغير موجب استحقوه به. (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) على طريقة قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقيل منقطع. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين. (لَهُدِّمَتْ) لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل ، وقرأ نافع دفاع وقرأ نافع وابن كثير (لَهُدِّمَتْ) بالتخفيف. (صَوامِعُ) صوامع الرهبانية. (وَبِيَعٌ) بيع النصارى. (وَصَلَواتٌ) كنائس اليهود ، سميت بها لأنها يصلى فيها ، وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت. (وَمَساجِدُ) مساجد المسلمين. (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلا. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) من ينصر دينه ، وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على نصرهم. (عَزِيزٌ) لا يمانعه شيء.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء ، وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين. وقيل بدل ممن ينصره. (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) فإن مرجعها إلى حكمه ، وفيه تأكيد لما وعده.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٤)

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأوحدي في التكذيب ، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. (وَكُذِّبَ مُوسى) غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بنو إسرائيل ، ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشيع. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا.

٧٣

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥)

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بإهلاك أهلها ، وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقا ب (خاوِيَةٌ) ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي : مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها ، والجملة معطوفة على (أَهْلَكْناها) لا على (وَهِيَ ظالِمَةٌ) فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره (أَهْلَكْناها) وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع. (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على (قَرْيَةٍ) أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه ، وذلك يقوي أن معنى (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) خالية مع بقاء عروشها ، وقيل المراد ب (بِئْرٍ) بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(٤٦)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهم وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك. (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال. (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم. (فَإِنَّها) الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار. وفي (تَعْمَى) راجع إليه والظاهر أقيم مقامه. (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر (الصُّدُورِ) للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الّذي يخص البصر. قيل لما نزل (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ).

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨)

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) المتوعد به. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال ، أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقة ، أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ، ورجع الضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه بالواو ، لأن الأولى بدل من قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وهذه في حكم ما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى. (أَمْلَيْتُ لَها) كما أمهلتكم. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مثلكم. (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب. (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) وإلى حكمي مرجع الجميع.

٧٤

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أوضح لكم ما أنذركم به ، والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما بدر منهم. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هي الجنة وال (كَرِيمٌ) من كل نوع ما يجمع فضائله.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالرد والإبطال. (مُعاجِزِينَ) مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق ، من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلّا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين على أنه حال مقدرة. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) النار الموقدة ، وقيل اسم دركة.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٢)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم‌السلام ، ولذلك شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له. وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام. (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) زور في نفسه ما يهواه. (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام «وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزيحه. (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال الناس. (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت. وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة (وَالنَّجْمِ) فأخذ يقرؤها فلما بلغ (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لمّا سجد في آخرها ، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه‌السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية. وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

تمنّي داود الزّبور على رسل

وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) لأنه أيضا يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي

٧٥

شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٤)

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) علة لتمكين الشيطان منه ، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل. (فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق. (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المشركين. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم. (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أن القرآن هو الحق النازل من عند الله ، أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق الصادر من الله لأنه مما جرت به عادته في الإنس من لدن آدم. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالقرآن أو بالله. (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) بالانقياد والخشية. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) فيما أشكل. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(٥٦)

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) في شك. (مِنْهُ) من القرآن أو الرسول ، أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولون ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) القيامة أو أشراطها أو الموت. (بَغْتَةً) فجأة. (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ، سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم ، أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيما ، فوصف اليوم بوصفها اتساعا أو لأنه لا خير لهم فيه ، ومنه الريح العقيم لما لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا ، أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه ، أو يوم القيامة على أن المراد ب (السَّاعَةُ) غيره أو على وضعه ، موضع ضميرها للتهويل.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) التنوين فيه ينوب عن الجملة الّتي دلت عليها الغاية أي : يوم تزول مريتهم. (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بالمجازاة ، والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى ، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال (لَهُمْ عَذابٌ) ولم يقل : هم في عذاب.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)(٥٩)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد. (أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) الجنة ونعيمها ، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل. روي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه يرزق بغير حساب.

٧٦

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) هو الجنة فيها ما يحبونه. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوالهم وأحوال معادهم. (حَلِيمٌ) لا يعاجل في العقوبة.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠)

(ذلِكَ) أي الأمر ذلك. (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ولم يزد في الاقتصاص ، وإنما سمي الابتداء بالعقاب الّذي هو الجزاء للازدواج أو لأنه سببه. (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) بالمعاودة إلى العقوبة. (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) لا محالة. (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام وأعرض عما ندب الله إليه بقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة ، فإنه تعالى مع كمال قدرته وتعالي شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى ، وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)

(ذلِكَ) أي ذلك النصر. (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بسبب أن الله تعالى قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض ، جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك إيلاج أحد الملوين في الآخر ، بأن يزيد فيه ما ينقص منه ، أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس وعكس ذلك باطلاعها. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع قول المعاقب والمعاقب. (بَصِيرٌ) يرى أفعالهما فلا يهملهما.

(ذلِكَ) الوصف بكمال القدرة والعلم. (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده ، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالما بذاته وبما عداه ، أو الثابت الإلهية ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر بالتاء على مخاطبة المشركين ، وقرأ بالبناء للمفعول فتكون الواو لما فإنه في معنى الآلهة. (هُوَ الْباطِلُ) المعدوم في حد ذاته ، أو باطل الألوهية. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) على الأشياء. (الْكَبِيرُ) على أن يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر منه سلطانا.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٦٤)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) استفهام تقرير ولذلك رفع. (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) عطف على (أَنْزَلَ) إذ لو نصب جوابا لدل على نفي الاخضرار كما في قولك : ألم تر أني جئتك فتكرمني ، والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صيغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق. (خَبِيرٌ) بالتدابير الظاهرة والباطنة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) في ذاته عن كل شيء. (الْحَمِيدُ) المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى

٧٧

الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦٦)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم. (وَالْفُلْكَ) عطف على (ما) أو على اسم (أَنَ) ، وقرئ بالرفع على الابتداء. (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) حال منها أو خبر. (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) من أن تقع أو كراهة أن تقع بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها. (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) إذا جاء أجلكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في الآخرة. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) لجحود لنعم الله مع ظهورها.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ)(٦٧)

(لِكُلِّ أُمَّةٍ) أهل دين. (جَعَلْنا مَنْسَكاً) متعبدا أو شريعة تعبدوا بها ، وقيل عيدا. (هُمْ ناسِكُوهُ) ينسكونه. (فَلا يُنازِعُنَّكَ) سائر أرباب الملل. (فِي الْأَمْرِ) في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد ، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع ، وقيل المراد نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم ، فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء ، أو عن منازعتهم كقولك : لا يضار بك زيد ، وهذا إنما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم ، وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ، وقرئ فلا ينزعنك على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته فنزعته إذا غلبته. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته. (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) طريق إلى الحق سوي.

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٦٩)

(وَإِنْ جادَلُوكَ) وقد ظهر الحق ولزمت الحجة. (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من المجادلة الباطلة وغيرها فيجازيكم عليها ، وهو وعيد فيه رفق.

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات. (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(٧١)

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء. (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) هو اللوح كتبه فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له. (إِنَّ ذلِكَ) إن الإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ ، أو الحكم بينكم. (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء.

٧٨

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة تدل على جواز عبادته. (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله. (وَما لِلظَّالِمِينَ) وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم. (مِنْ نَصِيرٍ) يقرر مذهبهم أو يدفع العذاب عنهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٢)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) من القرآن. (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على العقائد الحقية والأحكام الإلهية. (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) الإنكار لفرط نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليدا ، وهذا منتهى الجهالة وللإشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) يثبون ويبطشون بهم. (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم ، أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم. (لنَّارُ) أي هو النار كأنه جواب سائل قال : ما هو ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلا من شر فتكون الجملة استئنافا كما إذا رفعت خبرا أو حالا منها. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٧٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) بين لكم حال مستغربة أو قصة رائعة ولذلك سماها مثلا ، أو جعل لله مثل أي مثل في استحقاق العبادة. (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) للمثل أو لشأنه استماع تدبر وتفكر. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام ، وقرأ يعقوب بالياء وقرئ به مبنيا للمفعول والراجع إلى الموصول محذوف على الأولين. (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن (لَنْ) بما فيها من تأكيد النفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه ، والذباب من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة وذبان. (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي للخلق هو بجوابه المقدر في موضع حال جيء به للمبالغة ، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) جهلهم غاية التجهيل بأن أشركوا إلها قدر على المقدورات كلها وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها ـ تماثيل هي أعجز الأشياء ، وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ، بل لا تقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنقاذ ما يختطفه من عندها. قيل كانوا يطلونها بالطيب والعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) عابد الصنم ومعبوده ، أو الذباب يطلب ما يسلب عن الصنم من الطيب والصنم يطلب الذباب منه السلب ، أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف بدرجات.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٧٦)

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على خلق الممكنات بأسرها. (عَزِيزٌ) لا يغلبه شيء وآلهتهم الّتي يعبدونها عاجزة

٧٩

عن أقلها مقهورة من أذلها.

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي. (وَمِنَ النَّاسِ) يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغون إليهم ما نزل عليهم ، كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها بين أن له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن سواه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، والملائكة بنات الله تعالى ، ونحو ذلك. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) مدرك للأشياء كلها.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) عالم بواقعها ومترقبها. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وإليه ترجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٧٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) في صلاتكم ، أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإسلام ، أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها ، أو اخضعوا لله وخروا له سجدا. (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بسائر ما تعبدكم به. (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وتحروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم ، والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولقوله عليه الصلاة والسلام «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها».

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٧٨)

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». (حَقَّ جِهادِهِ) أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك : هو حق عالم ، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله. (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته ، وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه وفي قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم ، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه ، أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به من حيث شق عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم». وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة ، وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، أو على الإغراء أو على الاختصاص ، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم. (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) من قبل القرآن في الكتب المتقدمة. (وَفِي هذا) وفي القرآن ، والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ «الله سماكم» ، أو ل (إِبْراهِيمَ) وتسميتهم بمسلمين في

٨٠