أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى)(١١٩)

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى).

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف الّتي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنيا عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ، ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر عنها ، والعاطف وإن ناب عن أن لكنه ناب من حيث إنه عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن امتناع دخول إن عليه. وقرأ نافع وأبو بكر (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) بكسر الهمزة والباقون بفتحها.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)(١٢٢)

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) فانتهى إليه وسوسته. (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) الشجرة الّتي من أكل منها خلد ولم يمت أصلا. فأضافها إلى الخلد أي الخلود لأنها سببه بزعمه. (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) لا يزول ولا يضعف.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستر وهو ورق التين (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) بأكل الشجرة. (فَغَوى) فضل عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة ، أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو. وقرئ «فغوى» من غوى الفصيل إذا أتخم من اللبن وفي النعي عليه بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم للزلة وزجر بليغ لأولاده عنها.

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من أجبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها ، وأصل معنى الكلمة الجمع. (فَتابَ عَلَيْهِ) فقبل توبته لما تاب. (وَهَدى) إلى الثبات على التوبة والتشبث بأسباب العصمة.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)(١٢٤)

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) الخطاب لآدم وحواء ، أوله ولإبليس ولما كانا أصليّ الذرية خاطبهما مخاطبتهم فقال : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب ، أو لاختلال حال كل من النوعين بواسطة الآخر ويؤيد الأول قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) كتاب ورسول. (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ) في الدنيا. (وَلا يَشْقى) في الآخرة.

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي. (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقرئ «ضنكى» كسكرى ، وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآيات ، وقيل هو الضريع والزقوم في النار ، وقيل عذاب القبر (وَنَحْشُرُهُ) قرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفا على محل (فَإِنَّ لَهُ

٤١

مَعِيشَةً ضَنْكاً) لأنه جواب الشرط. (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول.

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)(١٢٧)

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) وقد أمالهما حمزة والكسائي لأن الألف منقلبة من الياء ، وفرق أبو عمرو بأن الأول رأس الآية ومحل الوقف فهو جدير بالتغيير.

(قالَ كَذلِكَ) أي مثل ذلك فعلت ثم فسره فقال : (أَتَتْكَ آياتُنا) واضحة نيرة. (فَنَسِيتَها) فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها. (وَكَذلِكَ) ومثل تركك إياها. (الْيَوْمَ تُنْسى) تترك في العمى والعذاب.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الآيات. (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) بل كذب بها وخالفها. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) وهو الحشر على العمى ، وقيل عذاب النار أي وللنار بعد ذلك (أَشَدُّ وَأَبْقى) من ضنك العيش أو منه ومن العمى ، ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محله وحاله أو مما فعله من ترك الآيات والكفر بها.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى(١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(١٢٩)

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه. (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها ، والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) ويشاهدون آثار هلاكهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة. (لَكانَ لِزاماً) لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازما لهؤلاء الكفرة ، وهو مصدر وصف به أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومه كقولهم لزاز خصم. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على كلمة أي ولو لا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم ، أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لكان العذاب لزاما والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ، ويجوز عطفه على المستكن في كان أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠)

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وصل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه ، أو نزهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص حامدا له على ما ميزك بالهدى معترفا بأنه المولى للنعم كلها. (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني الفجر. (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني الظهر والعصر لأنهما في آخر النهار أو العصر وحده. (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) ومن ساعاته جمع أنا بالكسر والقصر ، أو أناء بالفتح والمد. (فَسَبِّحْ) يعني المغرب والعشاء وإنما قدم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمز ولذلك قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً). (وَأَطْرافَ النَّهارِ) تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص ، ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس كقوله :

ظهرا هما مثل ظهور الترسين

٤٢

أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس ، أو بالتطوع في أجزاء النهار. (لَعَلَّكَ تَرْضى) متعلق ب (سَبِّحْ) أي سبح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك. وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء للمفعول أي يرضيك ربك.

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٣١)

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي نظر عينيك. (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله. (أَزْواجاً مِنْهُمْ) وأصنافا من الكفرة ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في به والمفعول منهم أي إلى الّذي متعنا به ، وهو أصناف بعضهم أو ناسا منهم. (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) منصوب بمحذوف دل عليه (مَتَّعْنا) أو (بِهِ) على تضمينه معنى أعطينا ، أو بالبدل من محل (بِهِ) أو من (أَزْواجاً) بتقدير مضاف ودونه ، أو بالذم وهي الزينة والبهجة. وقرأ يعقوب بالفتح وهو لغة كالجهرة في الجهرة ، أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهرو الدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنبلوهم ونختبرهم فيه ، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه. (وَرِزْقُ رَبِّكَ) وما ادخر لك في الآخرة ، أو ما رزقك من الهدى والنبوة. (خَيْرٌ) مما منحهم في الدنيا. (وَأَبْقى) فإنه لا ينقطع.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١٣٢)

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر بها ليتعاونوا على الاستعانة بها على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) وداوم عليها. (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) أي أن ترزق نفسك ولا أهلك. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) وإياهم ففرغ بالك لأم الآخرة. (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة. (لِلتَّقْوى) لذوي التقوى. روي «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية».

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)(١٣٣)

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بآية تدل على صدقه في ادعاء النبوة ، أو بآية مقترحة إنكارا لما جاء به من الآيات ، أو للاعتداد به تعنتا وعنادا فألزمهم بإتيانه بالقرآن الّذي هو أم المعجزات وأعظمها وأبقاها ، لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة ، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرا وأبقى أثرا فكذا ما كان من هذا القبيل ، ونبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجاز المختصة بهذا الباب فقال : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية ، فإن اشتمالها على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع أن الآتي بها أميّ لم يرها ولم يتعلم ممن علمها إعجاز بين ، وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته برهان لما تقدمه من الكتب من حيث إنه معجز وتلك ليست كذلك ، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد على صحتها. وقرئ «الصحف» بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) بالتاء والباقون بالياء.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل محمّد عليه الصلاة والسلام أو البينة والتذكير لأنها في معنى

٤٣

البرهان ، أو المراد بها القرآن. (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالقتل والسبي في الدنيا. (وَنَخْزى) بدخول النار يوم القيامة ، وقد قرئ بالبناء للمفعول فيهما.

(قُلْ كُلٌ) أي كل واحد منا ومنكم. (مُتَرَبِّصٌ) منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم. (فَتَرَبَّصُوا) وقرئ «فتمتعوا». (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) المستقيم ، وقرئ «السواء» أي الوسط الجيد و «السوءى» و «السوء» أي الشر ، و «السوي» هو تصغيره. (وَمَنِ اهْتَدى) من الضلالة و (مَنْ) في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء ، ويجوز أن تكون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط على أن المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين».

٤٤

(٢١) سورة الأنبياء

مكية وآيها مائة واثنتا عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٢)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) بالإضافة إلى ما مضى أو عند الله لقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداًوَنَراهُ قَرِيباً) وقوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أو لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى ، واللام صلة ل (اقْتَرَبَ) أو تأكيد للإضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم ، وخص الناس بالكفار لتقييدهم بقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أي في غفلة عن الحساب. (مُعْرِضُونَ) عن التفكر فيه وهما خبران للضمير ، ويجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في (مُعْرِضُونَ).

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة. (مِنْ رَبِّهِمْ) صفة ل (ذِكْرٍ) أو صلة ل (يَأْتِيهِمْ). (مُحْدَثٍ) تنزيله ليكرر على أسماعهم التنبيه كي يتعظوا ، وقرئ بالرفع حملا على المحل. (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يستهزئون به ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال من الواو وكذلك :

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣)

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي استمعوه جامعين بين الاستهزاء والتلهي والذهول عن التفكر فيه ، ويجوز أن يكون من واو (يَلْعَبُونَ) وقرئت بالرفع على أنها خبر آخر للضمير. (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث خفي تناجيهم بها. (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو (وَأَسَرُّوا) للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به ، أو فاعل له والواو لعلامة الجمع أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره وأصله وهؤلاء أسروا النجوى فوضع الموصول موضعه تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم أو منصوب على الذم. (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) بأمره في موضع النصب بدلا من (النَّجْوَى) ، أو مفعولا لقول مقدر كأنهم استدلوا بكونه بشرا على كذبه في ادعاء الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر فأنكروا حضوره ، وإنما أسروا به تشاورا في استنباط ما يهدم أمره ويظهر فساده للناس عامة.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥)

٤٥

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) جهرا كان أو سرا فضلا عما أسروا به فهو آكد من قوله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولذلك اختير هاهنا وليطابق قوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) في المبالغة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (قالَ) بالإخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) إضراب لهم عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام افتراه ، ثم إلى أنه قول شاعر والظاهر أن (بَلْ) الأولى لتمام حكاية والابتداء بأخرى أو للإضراب عن تحاورهم في شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ظهر عليه من الآيات إلى تقاولهم في أمر القرآن ، والثانية والثالثة لإضرابهم عن كونه أباطيل خيلت إليه وخلطت عليه إلى كونه مفتريات اختلقها من تلقاء نفسه ، ثم إلى أنه كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ويرغبه فيها ، ويجوز أن يكون الكل من الله تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد لأن كونه شعرا أبعد من كونه مفترى لأنه مشحون بالحقائق والحكم وليس فيه ما يناسب قول الشعراء ، وهو من كونه أحلاما لأنه مشتمل على مغيبات كثيرة طابقت الواقع والمفترى لا يكون كذلك بخلاف الأحلام ، ولأنهم جربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نيفا وأربعين سنة وما سمعوا منه كذبا قط ، وهو أبعد من كونه سحرا لأنه يجانسه من حيث إنهما من الخوارق. (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي كما أرسل به الأولون مثل اليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى ، وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٧)

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية. (أَهْلَكْناها) باقتراح الآيات لما جاءتهم. (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) لو جئتهم بها وهم أعتى منهم ، وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتي به ولم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) جواب لقولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ليزول عنهم الشبهة والإحالة عليهم إما للإلزام فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ويثقون بقولهم ، أو لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفارا. وقرأ حفص (نُوحِي) بالنون.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠)

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) نفي لما اعتقدوا أنها من خواص الملك عن الرسل تحقيقا لأنهم كانوا أبشارا مثلهم. وقيل جواب لقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)(وَما كانُوا خالِدِينَ) تأكيد وتقرير له فإن التعيش بالطعام من توابع التحليل المؤدي إلى الفناء وتوحيد الجسد لا إرادة الجنس ، أو لأنه مصدر في الأصل أو على حذف المضاف أو تأويل الضمير بكل واحد وهو جسم ذو لون فلذلك لا يطلق على الماء والهواء ، ومنه الجساد للزعفران. وقيل جسم ذو تركيب لأن أصله لجمع الشيء واشتداده.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي في الوعد. (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) يعني المؤمنين بهم ومن في إبقائه حكمة

٤٦

كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته ، ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال. (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) في الكفر والمعاصي.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا قريش (كِتاباً) يعني القرآن. (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) صيتكم كقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أو موعظتكم أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنون.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ)(١٣)

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) واردة عن غضب عظيم لأن القصم كسر يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم. (كانَتْ ظالِمَةً) صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامه. (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) بعد إهلاك أهلها. (قَوْماً آخَرِينَ) مكانهم.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) فلما أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس ، والضمير للأهل المحذوف. (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) يهربون مسرعين راكضين دوابهم ، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم.

(لا تَرْكُضُوا) على إرادة القول أي قيل لهم استهزاء لا تركضوا إما بلسان الحال أو المقال ، والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين. (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة. (وَمَساكِنِكُمْ) الّتي كانت لكم. (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) غدا عن أعمالكم أو تعذبون فإن السؤال من مقدمات العذاب ، أو تقصدون للسؤال والتشاور في المهام والنوازل.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(١٥)

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لما رأوا العذاب ولم يروا وجه النجاة فلذلك لم ينفعهم. وقيل إن أهل حضور من قرى اليمن بعث إليهم نبي فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فوضع السيف فيهم فنادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء فندموا وقالوا ذلك.

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) فما زالوا يرددون ذلك ، وإنما سماه دعوى لأن المولول كأنه يدعو الويل ويقول : يا ويل تعال فهذا أوانك ، وكل من (تِلْكَ) و (دَعْواهُمْ) يحتمل الاسمية والخبرية. (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) مثل الحصيد وهو النبت المحصود ولذلك لم يجمع. (خامِدِينَ) ميتين من خمدت النار وهو مع (حَصِيداً) منزلة المفعول الثاني كقولك : جعلته حلوا حامضا إذ المعنى : وجعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو صفة له أو حال من ضميره.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ)(١٧)

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار وتذكرة لذوي الاعتبار وتسببا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد ، فينبغي أن يتسلقوا بها إلى تحصيل الكمال ولا يغتروا بزخارفها فإنها سريعة الزوال.

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ما يتلهى به ويلعب. (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) من جهة قدرتنا ، أو من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة والأجرام المبسوطة كعادتكم في رفع السقوف وتزويقها وتسوية الفرش وتزيينها ، وقيل اللهو الولد بلغة اليمن وقيل الزوجة والمراد به الرد على النصارى (إِنْ كُنَّا

٤٧

فاعِلِينَ) ذلك ويدل على جواب الجواب المتقدم. وقيل (أَنْ) نافية والجملة كالنتيجة للشرطية.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨)

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب أي بل من شأننا أن نغلب الحق الّذي من جملته الجد على الباطل الّذي من عداده اللهو. (فَيَدْمَغُهُ) فيمحقه ، وإنما استعار لذلك القذف وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمى ، والدمغ الّذي هو كسر الدماغ بحيث يشق غشاؤه المؤدي إلى زهوق الروح تصويرا لإبطاله به ومبالغة فيه ، وقرئ «فيدمغه» بالنصب كقوله :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

ووجهه مع بعده الحمل على المعنى والعطف على «الحق». (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) هالك والزهوق ذهاب الروح وذكره لترشيح المجاز. (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) مما تصفونه به مما لا يجوز عليه ، وهو في موضع الحال وما مصدرية أو موصولة أو موصوفة.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)(٢٠)

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا. (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك ، وهو معطوف على (مَنْ فِي السَّماواتِ) وإفراده للتعظيم أو لأنه أعم منه من وجه ، أو المراد به نوع من الملائكة متعال عن التبوؤ في السماء والأرض أو مبتدأ خبره : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لا يتعظمون عنها. (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ولا يعيون منها ، وإنما جيء بالاستحسار الّذي هو أبلغ من الحسور تنبيها على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ينزهونه ويعظمونه دائما. (لا يَفْتُرُونَ) حال من الواو في (يُسَبِّحُونَ) وهو استئناف أو حال من ضمير قبله.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(٢٣)

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) بل اتخذوا والهمزة لإنكار اتخاذهم. (مِنَ الْأَرْضِ) صفة لآلهة أو متعلقة بالفعل على معنى الابتداء ، وفائدتها التحقير دون التخصيص. (هُمْ يُنْشِرُونَ) الموتى وهم وإن لم يصرحوا به لكن لزم ادعاؤهم لها الإلهية ، فإن من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات والمراد به تجهيلهم والتهكم بهم ، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الإنشار بهم.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) غير الله ، وصف ب (إِلَّا) لتعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها ودلالته على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه ، والمراد ملازمته لكونها مطلقا أو معه حملا لها على غير كما استثنى بغير حملا عليها ، ولا يجوز الرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب. (لَفَسَدَتا) لبطلتا لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع ، فإنها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه. (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) المحيط بجميع الأجسام الّذي هو محل التدابير ومنشأ التقادير. (عَمَّا يَصِفُونَ) من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية. (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لأنهم

٤٨

مملوكون مستعبدون والضمير لل (آلِهَةٌ) أو للعباد.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٤)

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) كرره استعظاما لكفرهم واستفظاعا لأمرهم وتبكيتا وإظهارا لجهلهم ، أو ضما لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل على معنى أوجدوا آلهة ينشرون الموتى فاتخذوهم آلهة ، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية ، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم فاتخذوهم متابعة للأمر ، ويعضد ذلك أنه رتب على الأول ما يدل على فساده عقلا وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلا. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك إما من العقل أو من النقل ، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا ونقلا. (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الكتب السماوية فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، والتوحيد لما لم يتوقف على صحته بعثة الرسل وإنزال الكتب صح الاستدلال فيه بالنقل و (مَنْ مَعِيَ) أمته و (مَنْ قَبْلِي) الأمم المتقدمة وإضافة ال (ذِكْرُ) إليهم لأنه عظتهم ، وقرئ بالتنوين والإعمال وبه وب (مِنْ) الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وشبههما وبعدمها. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ولا يميزون بينه وبين الباطل ، وقرئ «الحق» بالرفع على أنه خبر محذوف وسط للتأكيد بين السبب والمسبب. (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) تعميم بعد تخصيص ، فإن (ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من حيث إنه خبر لاسم الإشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم وهو الكتب الثلاثة ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي (نُوحِي إِلَيْهِ) بالنون وكسر الحاء والباقون بالياء وفتح الحاء.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك. (بَلْ عِبادٌ) بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون وليسوا بالأولاد. (مُكْرَمُونَ) مقربون وفيه تنبيه على مدحض القوم ، وقرئ بالتشديد.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يقولون شيئا حتى يقوله كما هو ديدن العبيد المؤدبين ، وأصله لا يسبق قولهم قوله فنسب السبق إليه وإليهم ، وجعل القول محله وأداته تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله ، وأنيبت اللام على الإضافة اختصارا وتجافيا عن تكرير الضمير ، وقرئ «لا يسبقونه» بالضم من سابقته فسبقته أسبقه. (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) لا يعملون قط ما لم يأمرهم به.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٢٩)

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا ، وهو كالعلة لما قبلهوالتمهيد لما بعده فإنهم لإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أن يشفع له مهابة منه. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) عظمته ومهابته. (مُشْفِقُونَ) مرتعدون ، وأصل الخشية خوف مع تعظيم

٤٩

ولذلك خص بها العلماء. والإشفاق خوف مع اعتناء فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدي بعلى فبالعكس.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الملائكة أو من الخلائق. (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) يريد به نفي النبوة وادعاء ذلك عن الملائكة وتهديد المشركين بتهديد مدعي الربوبية. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) من ظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(٣٠)

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو. (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام أي كانتا شيئا واحدا وحقيقة متحدة. (فَفَتَقْناهُما) بالتنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم. وقيل (كانَتا) بحيث لا فرجة بينهما ففرج. وقيل (كانَتا رَتْقاً) لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات ، فيكون المراد ب (السَّماواتِ) سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو (السَّماواتِ) بأسرارها على أن لها مدخلا ما في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب ابتداء أو بوسط ، أو استفسارا من العلماء ومطالعة للكتب ، وإنما قال (كانَتا) ولم يقل كن لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرض. وقرئ «رتقا» بالفتح على تقدير شيئا رتقا أي مرتوقا كالرفض بمعنى المرفوض. (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى (اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه. وقرئ «حيا» على أنه صفة (كُلَ) أو مفعول ثان ، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) مع ظهور الآيات.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ)(٣٢)

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ثابتات من رسا الشيء إذا ثبت. (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) كراهة أن تميل بهم وتضطرب ، وقيل لأن لا تميد فحذف لا لأمن الإلباس. (وَجَعَلْنا فِيها) في الأرض أو الرواسي. (فِجاجاً سُبُلاً) مسالك واسعة وإنما قدم فجاجا وهو وصف له ليصير حالا فيدل على أنه حين خلقها خلقها كذلك ، أو ليبدل منها (سُبُلاً) فيدل ضمنا على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى مصالحهم.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن الوقوع بقدرته أو الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته ، أو استراق السمع بالشهب. (وَهُمْ عَنْ آياتِها) عن أحوالها الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهي حكمته الّتي يحس ببعضها ويبحث عن بعضها في علمي الطبيعة والهيئة. (مُعْرِضُونَ) غير متفكرين.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بيان لبعض تلك الآيات. (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي كل واحد منهما ، والتنوين بدل من المضاف إليه والمراد بالفلك الجنس كقولهم : كساهم الأمير حلة. (يَسْبَحُونَ) يسرعون على سطح الفلك إسراع السابح على سطح الماء ، وهو خبر (كُلٌ) والجملة حال من (الشَّمْسَ

٥٠

وَالْقَمَرَ) ، وجاز انفرادهما بها لعدم اللبس والضمير لهما ، وإنما جمع باعتبار المطالع وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة فعلهم.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥)

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) نزلت حين قالوا نتربص به ريب المنون وفي معناه قوله :

فقل للشّامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشّامتون كما لقينا

والفاء لتعلق الشرط بما قبله والهمزة لإنكاره بعد ما تقرر ذلك.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، وهو برهان على ما أنكروه. (وَنَبْلُوكُمْ) ونعاملكم معاملة المختبر. (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) بالبلايا والنعم. (فِتْنَةً) ابتلاء مصدر من غير لفظه. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر ، وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة والابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)(٣٧)

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) ما يتخذونك. (إِلَّا هُزُواً) إلا مهزوءا به ويقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي بسوء ، وإنما أطلقه لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بالتوحيد أو بإرشاد الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم أو بالقرآن. (هُمْ كافِرُونَ) منكرون فهم أحق أن يهزأ بهم ، وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص ولحيلولة الصلة بينه وبين الخبر.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك : خلق زيد من الكرم ، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل : إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد. روي أنها نزلت في النضر بن الحرث حين استعجل العذاب. (سَأُرِيكُمْ آياتِي) نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار. (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) بالإتيان بها ، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(٤٠)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) وقت وعد العذاب أو القيامة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنون النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم.

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) محذوف الجواب و (حِينَ) مفعول (يَعْلَمُ) أي : لو يعلمون الوقت الّذي يستعجلون منه بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يقدرون على دفعها ولا يجدون ناصرا يمنعها لما استعجلوا ، ويجوز أن يترك مفعول (يَعْلَمُ) ويضمر لحين فعل بمعنى : لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون

٥١

بطلان ما هم عليه حين لا يكفون ، وإنما وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على ما أوجب لهم ذلك.

(بَلْ تَأْتِيهِمْ) العدة أو النار أو الساعة. (بَغْتَةً) فجأة مصدر أو حال. وقرئ بفتح الغين. (فَتَبْهَتُهُمْ) فتغلبهم أو تحيرهم. وقرئ الفعلان بالياء والضمير ل (الْوَعْدُ) أو ال (حِينَ) وكذا في قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) لأن الوعد بمعنى النار أو العدة والحين بمعنى الساعة ، ويجوز أن يكون ل (النَّارَ) أو لل (بَغْتَةً). (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)(٤٢)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وعد له بأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا يعني جزاءه.

(قُلْ) يا محمّد للمستهزئين. (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحفظكم. (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من بأسه إن أراد بكم ، وفي لفظ (الرَّحْمنِ) تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامة وأن اندفاعه بمهلته (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه حتى إذا كلؤا منه عرفوا الكالئ. وصلحوا للسؤال عنه.

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)(٤٤)

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) بل ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا ، أو من عذاب يكون من عندنا والإضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب ، فإنه عن المعرض الغافل عن الشيء بعيد وعن المعتقد لنقيضه أبعد. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) استئناف بإبطال ما اعتقدوه فإن من لا يقدر على نصر نفسه ولا يصحبه نصر من الله فكيف ينصر غيره.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) إضراب عما توهموا ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتيع بما قدر لهم من الأعمار ، أو عن الدلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك ، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفرة. (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتسليط المسلمين عليها ، وهو تصوير لما يجريه الله تعالى على أيدي المسلمين. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) رسول الله والمؤمنين.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٤٦)

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) بما أوحي إلي. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) وقرأ ابن عامر ولا تسمع الصم على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرئ بالياء على أن فيه ضميره ، وإنما سماهم (الصُّمُ) ووضعه موضع ضميرهم للدلالة على تصامهم وعدم انتفاعهم بما يسمعون. (إِذا ما يُنْذَرُونَ) منصوب ب (يَسْمَعُ) أو ب (الدُّعاءَ) والتقييد به لأن الكلام في الإنذار أو للمبالغة في تصامهم وتجاسرهم.

٥٢

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أدنى شيء ، وفيه مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة ، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء والبناء الدال على المرة. (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) من الّذي ينذرون به. (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لدعوا على أنفسهم بالويل واعترفوا عليها بالظلم.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(٤٧)

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) العدل توزن بها صحائف الأعمال. وقيل وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل ، وإفراد (الْقِسْطَ) لأنه مصدر وصف به للمبالغة. (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) لجزاء يوم القيامة أو لأهله ، أو فيه كقولك : جئت لخمس خلون من الشهر. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من حقها أو من الظلم. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة ، ورفع نافع (مِثْقالَ) على (كانَ) التامة. (أَتَيْنا بِها) أحضرناها ، وقرئ «آتينا» بمعنى جازينا بها من الإيتاء فإنه قريب من أعطينا ، أو من المؤاتاة فإنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وأثبنا من الثواب وجئنا ، والضمير للمثقال وتأنيثه لإضافته إلى ال (حَبَّةٍ). (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٠)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي الكتاب الجامع لكونه فارقا بين الحق والباطل ، (وَضِياءً) يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة ، (وَذِكْراً) يتعظ به المتقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع. وقيل (الْفُرْقانَ) النصر ، وقيل فلق البحر وقرئ «ضياء». بغير واو على أنه حال من (الْفُرْقانَ).

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) صفة (لِلْمُتَّقِينَ) أو مدح لهم منصوب أو مرفوع. (بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل أو المفعول. (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) خائفون وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض.

(وَهذا ذِكْرٌ) يعني القرآن. (مُبارَكٌ) كثير خيره. (أَنْزَلْناهُ) على محمّد عليه الصلاة والسلام. (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) (٥٣)

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) الاهتداء لوجوه الصلاح وإضافته ليدل على أنه رشد مثله وأن له شأنا. وقرئ (رُشْدَهُ) وهو لغة. (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون أو محمّد عليه الصلاة والسلام. وقيل من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ)(وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) علمنا أنه أهل لما آتيناه ، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال وفيه إشارة إلى أن فعله سبحانه وتعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) متعلق ب (آتَيْنا) أو ب (رُشْدَهُ) أو بمحذوف : أي اذكر من أوقات رشده وقت قوله : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) تحقير لشأنها وتوبيخ على إجلالها ، فإن التمثال صورة لا روح فيها لا يضر ولا ينفع ، واللام للاختصاص لا للتعدية فإن تعدية العكوف بعلى. والمعنى أنتم فاعلون العكوف لها ويجوز أن يؤول بعلى أو يضمن العكوف معنى العبادة.

٥٣

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فقلدناهم وهو جواب عما لزم الاستفهام من السؤال عما اقتضي عبادتها وحملهم عليها.

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(٥٦)

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منخرطين في سلك ضلال لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل ، والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) كأنهم لاستبعادهم تضليله إياهم ظنوا أن ما قاله إنما قاله على وجه الملاعبة ، فقالوا أبجد تقوله أم تلعب به.

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه وهن للسموات والأرض أو للتماثيل ، وهو أدخل في تضليلهم وإلزام الحجة عليهم. (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي المذكور من التوحيد. (مِنَ الشَّاهِدِينَ) من المتحققين له والمبرهنين عليه ، فإن الشاهد من تحقق الشيء وحققه.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)(٥٨)

(وَتَاللهِ) وقرئ بالباء وهي الأصل والتاء بدل من الواو المبدلة منها وفيها تعجب. (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأجتهدن في كسرها ، ولفظ الكيد وما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر وتوقفه على نوع من الحيل. (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا) عنها. (مُدْبِرِينَ) إلى عيدكم ولعله قال ذلك سرا.

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) قطاعا فعال بمعنى مفعول كالحطام من الجذ وهو القطع. وقرأ الكسائي بالكسر وهو لغة ، أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف. وقرئ بالفتح و «جذذا» جمع جذيذ و «جذذا» جمع جذة. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) للأصنام كسر غيره واستبقاه وجعل الفأس على عنقه. (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) لأنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لتفرده واشتهاره بعداوة آلهتهم فيحاجهم بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فيحجهم ، أو أنهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حل العقد فيبكتهم بذلك ، أو إلى الله أي (يَرْجِعُونَ) إلى توحيده عند تحققهم عجز آلهتهم.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)(٦١)

(قالُوا) حين رجعوا. (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام ، أو بإفراطه في حطمها أو بتوريط نفسه للهلاك.

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) يعيبهم فلعله فعله ويذكر ثاني مفعولي سمع ، أو صفة ل (فَتًى) مصححة لأن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إليه. (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) خبر محذوف أي هو إبراهيم ، ويجوز أن يرفع بالفعل لأن المراد به الاسم.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) بمرأى منهم بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب. (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بفعله أو قوله أو يحضرون عقوبتنا له.

٥٤

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)(٦٣)

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) حين أحضروه.

(قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أسند الفعل إليه تجوزا لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه ، أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أأنت كتبت هذا فقلت بل كتبته أنت ، أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه ، وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وما بينهما اعتراض أو إلى ضمير (فَتًى) أو (إِبْراهِيمُ) ، وقوله (كَبِيرُهُمْ هذا) مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله. وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «لإبراهيم ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٦٥)

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) وراجعوا عقولهم. (فَقالُوا) فقال بعضهم لبعض. (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع لا من ظلمتموه بقولكم (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة ، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه. وقرئ «نكّسوا» بالتشديد و «نكسوا» أي نكسوا أنفسهم. (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تأمرنا بسؤالها وهو على إرادة القول.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(٦٨)

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) إنكار لعبادتهم لها بعد اعترافهم بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر فإنه ينافي الألوهية.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تضجر منه على إصرارهم بالباطل البين ، و (أُفٍ) صوت المتضجر ومعناه قبحا ونتنا واللام لبيان المتأفف له. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم.

(قالُوا) أخذا في المضارة لما عجزوا عن المحاجة. (حَرِّقُوهُ) فإن النار أهول ما يعاقب به. (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بالانتقام لها. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم ناصرين لها نصرا مؤزرا ، والقائل فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون خسف به الأرض وقيل نمروذ.

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(٦٩)

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار ، وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته مأمورة مطيعة وإقامة (كُونِي) ذات برد مقام ابردي ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل نصب (سَلاماً) بفعله أي وسلمنا سلاما عليه. روي أنهم بنوا حظيرة بكوثى وجمعوا فيها نارا عظيمة ثم وضعوه في المنجنيق مغلولا فرموا به فيها فقال له جبريل : هل لك حاجة ، فقال : أما إليك فلا فقال : فسل ربك فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فجعل الله تعالى ـ ببركة قوله ـ الحظيرة

٥٥

روضة ولم يحترق منه إلا وثاقه ، فاطلع عليه نمروذ من الصرح فقال إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم عليه‌السلام. وكان إذ ذاك ابن ست عشرة سنة وانقلاب النار هواء طيبا ليس ببدع غير أنه هكذا على خلاف المعتاد فهو إذن من معجزاته. وقيل كانت النار بحالها لكنه سبحانه وتعالى دفع عنه أذاها كما ترى في السمندل ويشعر به قوله على إبراهيم.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ)(٧١)

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) مكرا في إضراره. (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل وإبراهيم على الحق وموجبا لمزيد درجته واستحقاقهم أشد العذاب.

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم الّتي هي مبادي الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية. وقيل كثرة النعم والخصب الغالب. روي أنه عليه‌السلام نزل بفلسطين ولوط عليه‌السلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)(٧٣)

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) عطية فهي حال منهما أو ولد ولد ، أو زيادة على ما سأل وهو إسحاق فتختص بيعقوب ولا بأس به للقرينة. (وَكُلًّا) يعني الأربعة. (جَعَلْنا صالِحِينَ) بأن وفقناهم للصلاح وحملناهم عليه فصاروا كاملين.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم. (يَهْدُونَ) الناس إلى الحق. (بِأَمْرِنا) لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ليحثوهم عليها فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم ، وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم (فِعْلَ الْخَيْراتِ) وكذلك قوله : (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) وهو من عطف الخاص على العام للتفضيل ، وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامها. (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) موحدين في العبادة ولذلك قدم الصلة.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم. (وَعِلْماً) بما ينبغي علمه للأنبياء.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) قرية سدوم. (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) يعني اللواطة وصفها بصفة أهلها أو أسندها إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه ويدل عليه : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) فإنه كالتعليل له.

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) في أهل رحمتنا أو جنتنا. (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)(٧٧)

(وَنُوحاً إِذْ نادى) إذ دعا الله سبحانه على قومه بالهلاك. (مِنْ قَبْلُ) من قبل المذكورين. (فَاسْتَجَبْنا

٥٦

لَهُ) دعاءه. (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من الطوفان أو أذى قومه ، والكرب الغم الشديد.

(وَنَصَرْناهُ) مطاوع انتصر أي جعلناه منتصرا. (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر ، ولعلهما لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)(٧٩)

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) في الزرع ، وقيل في كرم تدلت عناقيده. (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) رعته ليلا. (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما عالمين.

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ «فأفهمناها». روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان. ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق ، وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا وهكذا قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته فقال «على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل». وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جرح العجماء جبار». (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه. وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها) ولو لا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإظهار ما تفضل عليه في صغره. (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله تعالى فيها الكلام. وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و (مَعَ) متعلقة ب (سَخَّرْنا) أو (يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) أو مفعول معه. وقرئ بالرفع على الابتداء أو العطف على الضمير على ضعف. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجبا عندكم.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ)(٨٠)

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال :

البس لكل حالة لبوسها

إمّا نعيمها وإما بوسها

قيل كانت صفائح فحلقها وسردها. (لَكُمْ) متعلق بعلم أو صفة ل (لَبُوسٍ) ليحصنكم من بأسكم بدل منه بدل الاشتمال بإعادة الجار ، والضمير لداود عليه‌السلام أو ل (لَبُوسٍ) وفي قراءة ابن عامر وحفص بالتاء للصنعة أو ل (لَبُوسٍ) على تأويل الدرع وفي قراءة أبي بكر ورويس بالنون لله عزوجل (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ)(٨٢)

٥٧

(وَلِسُلَيْمانَ) وسخرنا له ولعل اللام فيه دون الأول لأن الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له ، وفي الأول أمر يظهر في الجبال والطير مع داود وبالإضافة إليه. (الرِّيحَ عاصِفَةً) شديدة الهبوب من حيث إنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة كما قال تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) وكانت رخاء في نفسها طيبة. وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته. (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها. (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منه بكرة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فنجريه على ما تقتضيه الحكمة.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في البحار ويخرجون نفائسها ، (وَمِنَ) عطف على (الرِّيحَ) أو مبتدأ خبره ما قبله وهي نكرة موصوفة. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) ويتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ). (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)(٨٤)

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) بأني مسني الضر ، وقرئ بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه و (الضُّرُّ) بالفتح شائع في كل ضرر ، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وصف ربه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى بذلك عن عرض المطلوب لطفا في السؤال ، وكان روميا من ولد عيص بن إسحاق استنبأه الله وكثر أهله وماله فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله ، والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات. روي أن امرأته ما خير بنت ميشا بن يوسف ، أو رحمة بنت إفراثيم بن يوسف قالت له يوما : لو دعوت الله فقال : كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة فقال : أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) بالشفاء من مرضه. (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) بأن ولد له ضعف ما كان أو أحيي ولده وولد له منهم نوافل. (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) رحمة على أيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب ، أو لرحمتنا للعابدين فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٨٦)

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) يعني إلياس ، وقيل يوشع ، وقيل زكريا سمي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفل أمته أو له ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم ، والكفل يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضعف. (كُلٌ) كل هؤلاء. (مِنَ الصَّابِرِينَ) على مشاق التكاليف وشدائد النوب.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) يعني النبوة أو نعمة الآخرة. (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(٨٨)

٥٨

(وَذَا النُّونِ) وصاحب الحوت يونس بن متى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) لقومه لما برم بطول دعوتهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم ، قبل أن يؤمر وقيل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذبهم وغضب من ذلك ، وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرئ «مغضبا». (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر ، ويعضده أنه قرئ مثقلا أو لن نعمل فيه قدرتنا ؛ وقيل هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا ، أو خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظنا للمبالغة. وقرئ بالياء وقرأ يعقوب على البناء للمفعول وقرئ به مثقلا. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) بأنه لا إله إلا أنت. (سُبْحانَكَ) من أن يعجزك شيء. (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة. وعن النبي عليه الصلاة والسلام «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا أستجيب له».

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه. وقيل ثلاثة أيام والغم غم الالتقام وقيل غم الخطيئة. (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص وفي الإمام : «نجي» ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بتشديد الجيم على أن أصله (نُنْجِي) فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في (تَظاهَرُونَ) ، وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الّتي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتناع الحذف في تتجافى ، لخوف اللبس. وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفا ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)(٩٠)

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) وحيدا بلا ولد يرثني. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي به.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو ل (زَكَرِيَّا) بتحسين خلقها وكانت حردة. (إِنَّهُمْ) يعني المتوالدين أو المذكورين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون إلى أبواب الخير. (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) ذوي رغب ورهب ، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة ، أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية. (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) مخبتين أو دائبين الوجل ، والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(٩٢)

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من الحلال والحرام يعني مريم. (فَنَفَخْنا فِيها) أي في عيسى عليه الصلاة والسلام فيها أي أحييناه في جوفها ، وقيل فعلنا النفخ فيها. (مِنْ رُوحِنا) من الروح الّذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا يعني جبريل عليه الصلاة والسلام. (وَجَعَلْناها وَابْنَها) أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحد قوله : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى.

٥٩

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي إن ملة التوحيد والإسلام ملتكم الّتي يجب أن تكونوا عليها فكونوا عليها. (أُمَّةً واحِدَةً) غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع. وقرئ «أمتكم» بالنصب على البدل و «أمة» بالرفع على الخبر وقرئتا بالرفع عن أنهما خبران. (وَأَنَا رَبُّكُمْ) لا إله لكم غيري. (فَاعْبُدُونِ) لا غير.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)(٩٤)

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) صرفه إلى الغيبة التفاتا لينعي على الذين تفرقوا في الدين وجعلوا أمره قطعا موزعة بقبيح فعلهم إلى غيرهم. (كُلٌ) من الفرق المتحزبة. (إِلَيْنا راجِعُونَ) فنجازيهم.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ورسله. (فَلا كُفْرانَ) فلا تضييع. (لِسَعْيِهِ) استعير لمنع الثواب كما استعير الشكر لإعطائه ونفي الجنس للمبالغة. (وَإِنَّا لَهُ) لسعيه. (كاتِبُونَ) مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(٩٥)

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) وممتنع على أهلها غير متصور منهم. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي «وحرم» بكسر الحاء وإسكان الراء وقرئ «حرم». (أَهْلَكْناها) حكمنا بإهلاكها أو وجدناها هالكة. (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) رجوعهم إلى التوبة أو الحياة ولا صلة ، أو عدم رجوعهم للجزاء وهو مبتدأ خبره حرام أو فاعل له ساد مسد خبره أو دليل عليه وتقديره : توبتهم أو حياتهم أو عدم بعثهم ، أو لأنهم (لا يَرْجِعُونَ) ولا ينيبون (وَحَرامٌ) خبر محذوف أي وحرام عليها ذاك وهو المذكور في الآية المتقدمة ويؤيده القراءة بالكسر. وقيل (حَرامٌ) عزم وموجب عليهم (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)(٩٧)

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) متعلق ب (حَرامٌ) أو بمحذوف دل الكلام عليه ، أو ب (لا يَرْجِعُونَ) أي يستمر الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها : وهو فتح سد يأجوج ومأجوج وهي حتى الّتي يحكى الكلام بعدها ، والمحكي هي الجملة الشرطية. وقرأ ابن عامر ويعقوب (فُتِحَتْ) بالتشدد. (وَهُمْ) يعني يأجوج ومأجوج أو الناس كلهم. (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) نشز من الأرض ، وقرئ «جدث» وهو القبر. (يَنْسِلُونَ) يسرعون من نسلان الذئب وقرئ بضم السين.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) وهو القيامة. (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب الشرط و «إذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء الجزائية كقوله تعالى : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فإذا جاءت الفاء معها تظاهرتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، والضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار. (يا وَيْلَنا) مقدر بالقول واقع موقع الحال من الموصول. (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) لم نعلم أنه حق. (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بالإخلال بالنظر وعدم الاعتداد بالنذر.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨).

٦٠