أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

مستحيل ، ولعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عداه نعمة ومنعم عليه فلا يجانس من هو مبدأ النعم كلها ومولي أصولها وفروعها ، فكيف يمكن أن يتخذه ولدا ثم صرح به في قوله :

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)(٩٥)

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما منهم. (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد ، وقرئ «آت الرّحمن» على الأصل.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوز علمه وقبضة قدرته. (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده بمقدار.

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) منفردا عن الاتباع والأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولدا ولا يناسبه ليشرك به.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا)(٩٧)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أحب الله عبدا يقول لجبريل أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم توضع له المحبة في الأرض». والسين إما لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام ، أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) بأن أنزلناه بلغتك ، والباء بمعنى على أو على أصله لتضمن (يَسَّرْناهُ) معنى أنزلناه أي أنزلناه بلغتك. (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) الصائرين إلى التقوى. (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أشداء الخصومة آخذين في كل لديد ، أي شق من المراء لفرط لجاجهم فبشر به وأنذر.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(٩٨)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنذارهم. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل تشعر بأحد منهم وتراه. (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) وقرئ (تَسْمَعُ) من أسمعت والركز الصوت الخفي ، وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض ، والركاز المال المدفون. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله».

٢١

(٢٠) سورة طه

مكية وهي مائة أربع وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه) (١)

(طه) فخمها قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب على الأصل ، وفخم الطاء وحده أبو عمرو وورش لاستعلائه وأمالهما الباقون. وهما من أسماء الحروف. وقيل معناه يا رجل على لغة عك ، فإن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار والاستشهاد بقوله :

إنّ السفاهة طاها في خلائقكم

لا قدّس الله أخلاق الملاعين

ضعيف لجواز أن يكون قسما كقوله حم لا ينصرون ، وقرئ (طه) على أنه أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه ، فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه وأن أصله طأ فقلبت همزته هاء أو قلبت في يطأ ألفا كقوله : لا هناك المرتع. ثم بني عليه الأمر وضم إليه هاء السكت وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل (طه) طأها والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية الأرض ، لكن يرد ذلك كتابتهما على صورة الحرف وكذا التفسير بيا رجل أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى)(٣)

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) خبر (طه) إن جعلته مبتدأ على أنه مؤول بالسورة ، أو (الْقُرْآنَ) والقرآن فيه واقع موقع العائد وجوابه إن جعلته مقسما به ومنادى له إن جعلته نداء ، واستئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدأ ، أو طائفة من الحروف محكية والمعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا أن تبلغ ، أو بكثرة الرياضة وكثرة التهجد والقيام على ساق. والشقاء شائع بمعنى التعب ومنه أشقى من رائض المهر ، وسيد القوم أشقاهم. ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد. وقيل رد وتكذيب للكفرة ، فإنهم لما رأوا كثرة عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به.

(إِلَّا تَذْكِرَةً) لكن تذكيرا ، وانتصابها على الاستثناء المنقطع ، ولا يجوز أن يكون بدلا من محل (لِتَشْقى) لاختلاف الجنسين ولا مفعولا له ل (أَنْزَلْنا) ، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين. وقيل هو مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن ، أو مفعول له على أن (لِتَشْقى) متعلق بمحذوف هو صفة القرآن أي ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه إلا تذكرة. (لِمَنْ يَخْشى) لمن في قلبه خشية ورقة تتأثر بالإنذار ، أو لمن علم الله منه أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع به.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤)

(تَنْزِيلاً) نصب بإضمار فعله أو ب (يَخْشى) ، أو على المدح أو البدل من (تَذْكِرَةً) إن جعل حالا ،

٢٢

وإن جعل مفعولا له لفظا أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه ولا بنوعه. (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) مع ما بعده إلى قوله (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل ، فبدأ بخلق الأرض والسموات الّتي هي أصول العالم ، وقدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات العلى ، وهو جمع العليا تأنيث الأعلى ، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام والتقادير ، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)(٦)

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ليدل بذلك على كمال قدرته وإرادته ، ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال :

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧)

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه ، وهو ضمير النفس. وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء والجهر فيما ليس لإعلام الله بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار ، ثم إنه لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية بين أنه المتفرد بها والمتوحد بمقتضاها فقال :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٨)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ومن في (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) صلة ل (تَنْزِيلاً) أو صفة له ، والانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام وتفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن ، ونسبته إلى المختص بصفات الجلال والإكرام والتنبيه على أنه واجب الإيمان به والانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه ، ويجوز أن يكون أنزلنا حكاية كلام جبريل والملائكة النازلين معه. وقرئ (الرَّحْمنُ) على الجر صفة لمن خلق فيكون (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) خبر محذوف ، وكذا إن رفع (الرَّحْمنُ) على المدح دون الابتداء ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ، والثرى الطبقة الترابية من الأرض وهي آخر طبقاتها ، و (الْحُسْنى) تأنيث الأحسن ، وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)(١٠)

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) قفى تمهيد نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة وتبليغ الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.

(إِذْ رَأى ناراً) ظرف لل (حَدِيثُ) لأنه حدث أو مفعول لأذكر. قيل إنه استأذن شعيبا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا. (فَقالَ لِأَهْلِهِ

٢٣

امْكُثُوا) أقيموا مكانكم. وقرأ حمزة «لأهله امكثوا ها هنا» ، وفي «القصص» بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها. (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه ، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) بشعلة من النار وقيل جمرة. (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين ، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم. ولما كان حصولهما مترتبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس ، فإنه كان محققا ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه ، ومعنى الاستعلاء في (عَلَى النَّارِ) أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في : مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)(١٢)

(فَلَمَّا أَتاها) أي النار وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. (نُودِيَ يا مُوسى).

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فتحه ابن كثير وأبو عمرو أي بأني وكسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه ، وتكرير الضمير للتوكيد والتحقيق. قيل إنه لما نودي قال : من المتكلم قال : إني أنا الله ، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات وبجميع الأعضاء. وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام تلقى من ربه كلامه تلقيا روحانيا ، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمره بذلك لأن الحفوة تواضع وأدب ولذلك طاف السلف حافين. وقيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال. (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) تعليل للأمر باحترام البقعة والمقدس يحتمل المعنيين. (طُوىً) عطف بيان للوادي ونونه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان. وقيل هو كثني من الطي مصدر ل (نُودِيَ) أو (الْمُقَدَّسِ) أي : نودي نداءين أو قدس مرتين.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١٤)

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوة وقرأ حمزة «وأنّا اخترناك». (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) للذي يوحى إليك ، أو للوحي واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة الّتي أناط بها إقامتها ، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وقيل (لِذِكْرِي) لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالثناء ، أو (لِذِكْرِي) خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري. وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)(١٦)

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) كائنة لا محالة. (أَكادُ أُخْفِيها) أريد إخفاء وقتها ، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولو لا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به ، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه ، ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلق ب (آتِيَةٌ) أو ب

٢٤

(أُخْفِيها) على المعنى الأخير.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) عن تصديق الساعة ، أو عن الصلاة. (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة والسلام عنها ، والمراد نهيه أن ينصد عنها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، تنبيها على أن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها ، وأنه ينبغي أن يكون راسخا في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها. (فَتَرْدى) فتهلك بالانصداد بصده.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)(١٨)

(وَما تِلْكَ) استفهام يتضمن استيقاظا لما يريه فيها من العجائب. (بِيَمِينِكَ) حال من معنى الإشارة ، وقيل صلة (تِلْكَ). (يا مُوسى) تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه.

(قالَ هِيَ عَصايَ) وقرئ «عصيّ» على لغة هذيل. (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي ، وقرئ «أهش» وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته ، وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجرا لها. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته ، وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل به ، وإذا قصر الرشاء وصله بها ، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها ، وكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها ، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع ، وتصيران دلوا عند الاستقاء ، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو ، وينبع الماء بركزها ، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها ، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها ، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلا ومجملا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)(٢١)

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جانا تارة نظرا إلى المبدأ وثعبانا مرة باعتبار المنتهى ، وحية أخرى باعتبار الاسم الّذي يعم الحالين. وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال (كَأَنَّها جَانٌّ).

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) فإنه لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها. (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) هيئتها وحالتها المتقدمة ، وهي فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه ، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل. قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى(٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى)(٢٤)

٢٥

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر ، استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) كأنها مشعة. (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير عاهة وقبح ، كني به عن البرص كما كني بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه وتنفر عنه. (آيَةً أُخْرى) معجزة ثانية وهي حال من ضمير (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أو من ضميرها ، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة الّتي دللنا بها ، أو فعلنا ذلك (لِنُرِيَكَ) و (الْكُبْرى) صفة (آياتِنَا) أو مفعول «نريك» و (مِنْ آياتِنَا) حال منها.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة. (إِنَّهُ طَغى) عصى وتكبر.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي)(٢٨)

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) لما أمره الله بخطب عظيم وأمر جسيم سأله أن يشرح صدره ويفسح قلبه لتحمل أعبائه والصبر على مشاقه ، والتلقي لما ينزل عليه ويسهل الأمر له بإحداث الأسباب ورفع الموانع ، وفائدة لي إبهام المشروح والميسر أولا ، ثم رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيدا ومبالغة.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه ، وذلك أن فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته ونتفها ، فغضب وأمر بقتله فقالت آسية : إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت ، فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه. ولعل تبييض يده كان لذلك. وقيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ، ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الّذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ومن لم يقل احتج بقوله (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) وقوله (وَلا يَكادُ يُبِينُ) وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقا بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر ، ومن لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة وأن يكون صلة احلل.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(٣٢)

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) يعينني على ما كلفتني به ، واشتقاق الوزير إما من الوزر لأنه يحمل الثقل عن أميره ، أو من الوزر وهو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره ، ومنه الموازرة وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ، فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر. ومفعولا اجعل (وَزِيراً) ، و (هارُونَ) قدم ثانيهما للعناية به و (لِي) صلة أو حال أو (لِي وَزِيراً) و (هارُونَ) عطف بيان للوزير ، أو (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) و (لِي) تبيين كقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). و (أَخِي) على الوجوه بدل من (هارُونَ) أو مبتدأ خبره.

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) على لفظ الأمر وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر.

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)(٣٥)

(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا ، وأن هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به.

٢٦

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى)(٣٨)

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي مسؤولك ، فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي أنعمنا عليك في وقت آخر.

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك. لا على وجه النبوة. كما أوحي إلى مريم. (ما يُوحى) ما لا يعلم إلا بالوحي ، أو مما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به.

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)(٣٩)

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) بأن اقذفيه ، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول. (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) والقذف يقال للإلقاء وللوضع كقوله تعالى : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وكذلك الرمي كقوله : غلام رماه الله بالحسن يافعا. (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق الإرادة به ، جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر ، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم ، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب (فَلْيُلْقِهِ) وتكرير (عَدُوٌّ) للمبالغة ، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع. قيل إنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قبرته وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه حبا شديدا كما قال سبحانه وتعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون ، ويجوز أن يتعلق (مِنِّي) ب (أَلْقَيْتُ) أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه ، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره. (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك ، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك ، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك. وقرئ (وَلِتُصْنَعَ) بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر (وَلِتُصْنَعَ) بالنصب وفتح التاء أي وليكون عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى)(٤٠)

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ظرف ل (أَلْقَيْتُ) أو (لِتُصْنَعَ) أو بدل من (إِذْ أَوْحَيْنا) على أن المراد بها وقت متسع. (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع ، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ) فجاءت بأمه فقبل ثديها. (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) وفاء بقولنا (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)(كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك. (وَلا تَحْزَنَ) هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) نفس القبطي الّذي استغاثه عليه الإسرائيلي. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) غم قتله خوفا

٢٧

من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) وابتليناك ابتلاء ، أو أنواعا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة ، فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألّاف ، والمشي راجلا على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين ، ومدين على ثمان مراحل من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر ، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء. (يا مُوسى) كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي)(٤٢)

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) واصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك واستخلصه لنفسه.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) بمعجزاتي. (وَلا تَنِيا) ولا تفترا ولا تقصرا ، وقرئ (تَنِيا) بكسر التاء. (فِي ذِكْرِي) لا تنسياني حيثما تقلبتما. وقيل في تبليغ ذكري والدعاء إليّ.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٤٤)

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أمر به أولا موسى عليه الصلاة والسلام وحده وهاهنا إياه وأخاه فلا تكرير. قيل أوحى إلى هارون أن يتلقى موسى ، وقيل سمع بمقبله فاستقبله.

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) مثل (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما ، أو احتراما لما له من حق التربية عليك. وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. وقيل عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا يزول إلا بالموت. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) متعلق ب (اذْهَبا) أو «قولا» أي : باشرا الأمر على رجائكما. وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما ، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف ، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ، ولذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى)(٤٦)

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة ، من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فرط يسبق الخيل. وقرئ «يفرط» من أفرطته إذا حملته على العجلة ، أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعاجلة بالعقاب ، و «يفرط» من الإفراط في الأذية. (أَوْ أَنْ يَطْغى) أو أن يزداد طغيانا فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب.

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) بالحفظ والنصر. (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما ويوجب نصرتي لكما ، ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعا ومبصرا ، والحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تم الحفظ.

٢٨

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(٤٨)

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أطلقهم. (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان ، فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام ، وتعقيب الإتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان ، ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة ، وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها ، وكذلك قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) ، (فَأْتِ بِآيَةٍ) ، (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ). (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) وسلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين ، أو السلامة في الدارين لهم.

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أن عذاب المنزلين على المكذبين للرسل ، ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن التهديد في أول الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(٥٠)

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أن بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به ، ولعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة ، وإنما خاطب الاثنين وخص موسى عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه الأصل وهارون وزيره وتابعه ، أو لأنه عرف أن له رتة ولأخيه فصاحة فأراد أن يفحمه ويدل عليه قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ).

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) من الأنواع (خَلْقَهُ) صورته وشكله الّذي يطابق كماله الممكن له ، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه. وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا. وقرئ خلقه صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفا أي : أعطى كل مخلوق ما يصلحه. (ثُمَّ هَدى) ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا ، وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله ، ولذلك بهت الّذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إلّا صرف الكلام عنه.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى)(٥٢)

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة.

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي هو غيب لا يعلمه إلا هو وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به. (فِي كِتابٍ) مثبت في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون تمثيلا لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة ويؤيده. (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) والضلال أن تخطئ الشيء في مكانه فلم تهتد إليه ، والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك ، وهما محالان على العالم بالذات ، ويجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة الله تعالى بالأشياء كلها وتخصيصه أبعاضها بالصور والخواص المختلفة ، بأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئياتها ، والقرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط علمه بهم

٢٩

وبأجزائهم وأحوالهم فيكون معنى الجواب : أن علمه تعالى محيط بذلك كله وأنه مثبت عنده لا يضل ولا ينسى.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى)(٥٣)

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) مرفوع صفة ل (رَبِّي) أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح. وقرأ الكوفيون هنا وفي «الزخرف» (مَهْداً) أي كالمهد تتمدونها ، وهو مصدر سمي به ، والباقون مهادا وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ولم يختلفوا في الّذي في «النبأ». (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) وجعل لكم فيها سبلا بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا. (فَأَخْرَجْنا بِهِ) عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى ، تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته ، وعلى هذا نظائره كقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) الآية. (أَزْواجاً) أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض. (مِنْ نَباتٍ) بيان أو صفة لأزواجا وكذلك : (شَتَّى) ويحتمل أن يكون صفة لـ

(نَباتٍ) فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع ، وهو جمع شتيت كمريض ومرضى أي متفرقات في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال:

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)(٥٥)

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) وهو حال من ضمير (فَأَخْرَجْنا) على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين (كُلُوا وَارْعَوْا) ، والمعنى معديها لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالموت وتفكيك الأجزاء. (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصور السابقة ورد الأرواح إليها.

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى)(٥٧)

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا) بصرناه إياها أو عرفناه صحتها. (كُلَّها) تأكيد لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد ، على أن المراد بآياتنا آيات معهودة وهي الآيات التسع المختصة بموسى ، أو أنه عليه‌السلام أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات (فَكَذَّبَ) موسى من فرط عناده. (وَأَبى) الإيمان والطاعة لعتوه ..

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) أرض مصر. (بِسِحْرِكَ يا مُوسى) هذا تعلل وتحير ودليل على أنه علم كونه محقا حتى خاف منه على ملكه ، فإن الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً)(٥٨)

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) مثل سحرك. (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) وعدا لقوله : (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا

٣٠

أَنْتَ) فإن الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان وانتصاب. (مَكاناً سُوىً) بفعل دل عليه المصدر لا به لأنه موصوف ، أو بأنه بدل من (مَوْعِداً) على تقدير مكان مضاف إليه وعلى هذا يكون طباق الجواب في قوله.

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(٥٩)

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم ، أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول ، أو وعدكم وعد يوم الزينة ، وقرئ «يوم» بالنصب وهو ظاهر في أن المراد بهما المصدر ، ومعنى (سُوىً) منتصفا يستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم : قوم عدي في الشذوذ ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بالضم ، وقيل في (يَوْمُ الزِّينَةِ) يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم عيد كان لهم في كل عام ، وإنما عينه ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) عطف على ال (يَوْمُ) أو (الزِّينَةِ) ، وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون والياء على أن فيه ضمير ال (يَوْمُ) أو ضمير (فِرْعَوْنُ) على أن الخطاب لقومه.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى)(٦١)

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ما يكاد به يعني السحرة وآلاتهم. (ثُمَّ أَتى) الموعد.

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تدعوا آياته سحرا. (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) فيهلككم ويستأصلكم ، وبه قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب بالضم من الاسحات وهو لغة نجد وتميم ، والسحت لغة الحجاز. (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) كما خاب فرعون ، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)(٦٣)

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه فقال بعضهم : ليس هذا من كلام السحرة. (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) بأن موسى إن غلبنا اتبعنا أو تنازعوا واختلفوا فيما يعارضون به موسى وتشاوروا في السر. وقيل الضمير لفرعون وقومه وقوله :

(قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) تفسير ل (أَسَرُّوا النَّجْوى) كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرا أن يغلبا فيتبعهما الناس ، و (هذانِ) اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية وأعربوا المثنى تقديرا. وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و (هذانِ لَساحِرانِ) خبرها. وقيل (إِنْ) بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر وفيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ. وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف ، وقرأ أبو عمرو «إن هذين» وهو ظاهر ، وابن كثير وحفص (إِنْ هذانِ) على أنها هي المخففة واللام هي الفارقة أو النافية واللام بمعنى إلا. (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) بالاستيلاء عليها. (بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) بمذهبكم الّذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما لقوله (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ). وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ). وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.

٣١

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٦٥)

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) فأزمعوه واجعلوه مجمعا عليه لا يتخلف عنه واحد منكم. وقرأ أبو عمرو (فَأَجْمِعُوا) ويعضده قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) والضمير في (قالُوا) إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. قيل كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل عصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و (أَنْ) بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف ، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)(٦٦)

(قالَ بَلْ أَلْقُوا) مقابلة أدب بأدب وعدم مبالاة بسحرهم ، وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ ، ولأن يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أي فألقوا فإذا حبالهم وعصيهم ، وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا ينصبها وجملة تضاف إليها ، لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى : فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح «تخيل» بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي ، وإبدال أنها (تَسْعى) منه بدل الاشتمال ، وقرئ «يخيل» بالياء على إسناده إلى الله تعالى ، و «تخيل» بمعنى تتخيل.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩)

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية ، أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه.

(قُلْنا لا تَخَفْ) ما توهمت. (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) تعليل للنهي وتقرير لغلبته مؤكدا بالاستئناف ، وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أبهمه ولم يقل عصاك تحقيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدة الّتي في يدك ، أو تعظيما لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه. (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) تبتلعه بقدرة الله تعالى ، وأصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين ، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب. وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستئناف وحفص بالجزم والتخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته. (إِنَّما صَنَعُوا) أن الّذي زوروا وافتعلوا. (كَيْدُ ساحِرٍ) وقرئ بالنصب على أن ما كافة وهو مفعول صنعوا. وقرأ حمزة والكسائي «سحر» بمعنى ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة ، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه ، وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق ولذلك قال : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس وتنكير الأول

٣٢

لتنكير المضاف كقول العجاج :

يوم ترى النّفوس ما أعدّت

في سعي دنيا طالما قد مدّت

كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري. (حَيْثُ أَتى) حيث كان وأين أقبل.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠)

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر وإنما هو آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته ، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله توبة عما صنعوا وإعتابا وتعظيما لما رأوا. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية ، أو لأن فرعون ربي موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع. روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١)

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى واللام لتضمن الفعل معنى الاتباع. وقرأ قنبل وحفص (آمَنْتُمْ لَهُ) على الخبر والباقون على الاستفهام. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) في الإيمان له. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به أو لأستاذكم. (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد اليمنى والرجل اليسرى ، ومن ابتدائية كأن القطع ابتدأ من مخالفة العضو العضو وهي مع المجرور بها في حيز النصب على الحال ، أي لأقطعنها مختلفات وقرئ «لأقطعن» «ولأصلبن» بالتخفيف. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف وهو أول من صلب. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) يريد نفسه وموسى لقوله (آمَنْتُمْ لَهُ) واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله أراد به توضيع موسى والهزء به ، فإنه لم يكن من التعذيب في شيء. وقيل رب موسى الّذي آمنوا به. (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) وأدوم عقابا.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(٧٣)

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ) لن نختارك. (عَلى ما جاءَنا) موسى به ، ويجوز أن يكون الضمير فيه لما. (مِنَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات. (وَالَّذِي فَطَرَنا) عطف على ما جاءنا أو قسم. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده. وقرئ «تقضي هذه الحياة الدنيا» كقولك : صيم يوم الجمعة.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) من الكفر والمعاصي. (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) من معارضة المعجزة. روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما فوجدوه تحرسه العصا فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه. (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) جزاء أو خير ثوابا وأبقى عقابا.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) (٧٦)

٣٣

(إِنَّهُ) إن الأمر. (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) بأن يموت على كفره وعصيانه. (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح. (وَلا يَحْيى) حياة مهنأة.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) في الدنيا. (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) المنازل الرفيعة.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من الدرجات. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار. (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) تطهر من أدناس الكفر والمعاصي ، والآيات الثلاث يحتمل أن تكون من كلام السحرة وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٧٧)

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أي من مصر. (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) فاجعل لهم ، من قولهم ضرب له في ماله سهما أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله. (فِي الْبَحْرِ يَبَساً) يابسا مصدر وصف به يقال يبس يبسا ويبسا كسقم سقما وسقما ، ولذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها ، وقرئ «يبسا» وهو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله :

كأنّ قتود رحلي حين ضمّت

حوالب غرزا ومعي جياعا

أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقا. (لا تَخافُ دَرَكاً) حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو ، أو صفة ثانية والعائد محذوف ، وقرأ حمزة «لا تخف» على أنه جواب الأمر. (وَلا تَخْشى) استئناف أي وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه والألف فيه للإطلاق كقوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أو حال بالواو والمعنى ولا تخشى الغرق.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(٧٩)

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) وذلك أن موسى عليه‌السلام خرج بهم أول الليل فأخبر فرعون بذلك فقص أثرهم ، والمعنى فاتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده فحذف المفعول الثاني. وقيل (فَأَتْبَعَهُمْ) بمعنى فاتبعهم ويؤيده القراءة به والباء للتعدية وقيل الباء مزيدة والمعنى : فاتبعهم جنوده وذادهم خلفهم. (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الضمير لجنوده أوله ولهم ، وفيه مبالغة ووجازة أي : غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله. وقرئ «فغشاهم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو الله تعالى أو ما غشاهم أو فرعون لأنه الّذي ورطهم للهلاك.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي أضلهم في الدين وما هداهم وهو تهكم به في قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أو أضلهم في البحر وما نجا.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى)(٨٠)

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون على إضمار قلنا ، أو للذين منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل بآبائهم. (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه. (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه ، وإنما عد المواعدة إليهم وهي لموسى أوله وللسبعين المختارين للملابسة. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) يعني في التيه.

٣٤

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى(٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٨٢)

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) لذائذه أو حلالاته ، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيتكم» «وواعدتكم» و «ما رزقتكم» على التاء. وقرئ «ووعدتكم» «ووعدناكم» ، والأيمن بالجر على الجوار مثل : جحر ضب خرب. (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما حد الله لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق. (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) فيلزمكم عذابي ويجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) فقد تردى وهلك ، وقيل وقع في الهاوية ، وقرأ الكسائي «يحل» و (يَحْلِلْ) بالضم من حل يحل إذا نزل.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) عن الشرك. (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به. (وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ثم استقام على الهدى المذكور.

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)(٨٤)

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها من حيث إنها نقيصة في نفسها انضم إليها إغفال القوم وإيهام التعظم عليهم فلذلك أجاب موسى عن الأمرين وقدم جواب الإنكار لأنه أهم.

(قالَ) موسى. (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي ما تقدمتهم إلا بخطا يسيرة لا يعتد بها عادة وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضا. (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك توجب مرضاتك.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي)(٨٦)

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته ، وقرئ «وأضلّهم» أي أشدهم ضلالا لأنه كان ضالا مضلا ، وإن صح أنهم أقاموا على الدين بعد ذهابه عشرين ليلة وحسبوها بأيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل ، وإن هذا الخطاب كان له عند مقدمه إذ ليس في الآية ما يدل عليه كان ذلك إخبارا من الله له عن المترقب بلفظ الواقع على عادته ، فإن أصل وقوع الشيء أن يكون في علمه ومقتضى مشيئته ، و (السَّامِرِيُ) منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل كان علجا من كرمان. وقيل من أهل باجرما واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة (غَضْبانَ) عليهم. (أَسِفاً) حزينا بما فعلوا. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) وبأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي الزمان يعني زمان مفارقته لهم. (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ) يجب عليكم. (غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ)

٣٥

بعبادة ما هو مثل في الغباوة. (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله والقيام على ما أمرتكم به ، وقيل هو من أخلفت وعده إذا وجدت الخلف فيه ، أي فوجدتم الخلف في وعدي لكم بالعود بعد الأربعين ، وهو لا يناسب الترتيب على الترديد ولا على الشق الّذي يليه ولا جوابهم له.

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)(٨٩)

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول لنا السامري لما أخلفناه ، وقرأ نافع وعاصم (بِمَلْكِنا) بالفتح وحمزة والكسائي بالضم وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) حملنا أحمالا من حلي القبط الّتي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل استعاروا لعيد كان لهم ، ثم لم يردوا عند الخروج مخافة أن يعلموا به ، وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه ولعلهم سموها أوزارا لأنها آثام ، فإن الغنائم لم تكن تحل بعد أو لأنهم كانوا مستأمنين وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي. (فَقَذَفْناها) أي في النار. (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي ما كان معه منها. روي أنهم لما حسبوا أن العدة قد كملت قال لهم السامري: إنما أخلف موسى ميعادكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم ، فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف كل ما معنا فيها ففعلوا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وروح (حُمِّلْنا) بالفتح والتخفيف.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) من تلك الحلي المذابة. (لَهُ خُوارٌ) صوت العجل. (فَقالُوا) يعني السامري ومن افتتن به أول ما رآه. (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي فنسيه موسى وذهب يطلبه عند الطور ، أو فنسي السامري أي ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان.

(أَفَلا يَرَوْنَ) أفلا يعلمون. (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا. وقرئ (يَرْجِعُ) بالنصب وفيه ضعف لأن أن الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين. (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم.

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٩١)

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) من قبل رجوع موسى عليه الصلاة والسلام ، أو قول السامري كأنه أول ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهم ذلك وبادر تحذيرهم. (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) بالعجل. (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) لا غيره. (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في الثبات على الدين.

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) على العجل وعبادته. (عاكِفِينَ) مقيمين. (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) وهذا الجواب يؤيد الوجه الأول.

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٩٤)

(قالَ يا هارُونُ) أي قال له موسى حين رجع. (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل.

٣٦

(أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أن تتبعني في الغضب لله والمقاتلة مع من كفر به ، أو أن تأتي عقبي وتلحقني و «لا» مزيدة كما في قوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ). (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) بالصلابة في الدين والمحاماة عليه.

(قالَ يَا بْنَ أُمَ) خص الأم استعطافا وترقيقا ، وقيل لأنه كان أخاه من الأم والجمهور على أنهما كانا من أب وأم. (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي بشعر رأسي قبض عليهما يجره إليه من شدة غيظه وفرط غضبه لله ، وكان عليه الصلاة والسلام حديدا خشنا متصلبا في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض. (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) حين قلت (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) فإن الإصلاح كان في حفظ الدهماء والمداراة لهم إلى أن ترجع إليهم فتتدارك الأمر برأيك.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(٩٦)

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ثم أقبل عليه وقال له منكرا ما خطبك أي ما طلبك له وما الّذي حملك عليه ، وهو مصدر خطب الشيء إذا طلبه.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب أي علمت بما لم تعلموه وفطنت لما لم تفطنوا له ، وهو أن الرسول الّذي جاءك روحاني لا يمس أثره شيئا إلا أحياه ، أو رأيت ما لم تروه وهو أن جبريل عليه الصلاة والسلام جاءك على فرس الحياة. وقيل إنما عرفه لأن أمه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون وكان جبريل يغذوه حتى استقل. (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) من تربة موطئه والقبضة المرة من القبض فأطلق على المقبوض كضرب الأمير ، وقرئ بالصاد والأول للأخذ بجميع الكف والثاني للأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم ، والرسول جبريل عليه الصلاة والسلام ولعله لم يسمه لأنه لم يعرف أنه جبريل أو أراد أن ينبه على الوقت وهو حين أرسل إليه ليذهب به إلى الطور. (فَنَبَذْتُها) في الحلي المذاب أو في جوف العجل حتى حيي. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) زينته وحسنته لي.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(٩٧)

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) عقوبة على ما فعلت. (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) خوفا من أن يمسك أحد فتأخذك الحمى ومن مسك فتتحامى الناس ويتحاموك وتكون طريدا وحيدا كالوحش النافر ، وقرئ «لا مساس» كفجار وهو علم للمسة. (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) في الآخرة. (لَنْ تُخْلَفَهُ) لن يخلفكه الله وينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك في الدنيا ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر اللام أي لن تخلف الواعد إياه وسيأتيك لا محالة ، فحذف المفعول الأول لأن المقصود هو الموعد ويجوز أن يكون من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا ، وقرئ بالنون على حكاية قول الله. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ظللت على عبادته مقيما فحذف اللام الأولى تخفيفا ، وقرئ بكسر الظاء على نقل حركة اللام إليها. (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أي بالنار ويؤيده قراءة (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ، أو بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذ برد بالمبرد ويعضده قراءة (لَنُحَرِّقَنَّهُ). (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) ثم لنذرينه رمادا أو مبرودا وقرئ بضم السين. (فِي الْيَمِّ نَسْفاً) فلا يصادف منه شيء والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨).

٣٧

(إِنَّما إِلهُكُمُ) المستحق لعبادتكم. (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة. (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) وسع علمه كل ما يصح أن يعلم لا العجل الّذي يصاغ ويحرق وإن كان حيا في نفسه كان مثلا في الغباوة ، وقرئ (وَسِعَ) فيكون انتصاب (عِلْماً) على المفعولية لأنه وإن انتصب على التمييز في المشهورة لكنه فاعل في المعنى فلما عدي الفعل بالتضعيف إلى المفعولين صار مفعولا.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً)(٩٩)

(كَذلِكَ) مثل ذلك الاقتصاص يعني اقتصاص قصة موسى عليه الصلاة والسلام. (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من أخبار الأمور الماضية والأمم الدارجة تبصرة لك وزيادة في علمك وتكثيرا لمعجزاتك وتنبيها وتذكيرا للمستبصرين من أمتك. (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كتابا مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار ، والتنكير فيه للتعظيم. وقيل ذكرا جميلا وصيتا عظيما بين الناس.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً)(١٠١)

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) عن الذكر الّذي هو القرآن الجامع لوجوه السعادة والنجاة وقيل عن الله. (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) عقوبة ثقيلة فادحة على كفره ، وذنوبه سماها (وِزْراً) تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الّذي يفدح الحامل وينقض ظهره ، أو إثما عظيما.

(خالِدِينَ فِيهِ) في الوزر أو في حمله ، والجمع فيه والتوحيد في أعرض للحمل على المعنى واللفظ. (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي بئس لهم ففيه ضمير مبهم يفسره (حِمْلاً) ، والمخصوص بالذم محذوف أي ساء حملا وزرهم ، واللام في (لَهُمْ) للبيان كما في (هَيْتَ لَكَ) ولو جعلت (ساءَ) بمعنى أحزن والضمير الّذي فيه للوزر أشكل أمر اللام ونصب (حِمْلاً) ولم يفد مزيد معنى.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)(١٠٢)

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وقرأ أبو عمرو بالنون على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له أو للنافخ. وقرئ بالياء المفتوحة على أن فيه ضمير الله أو ضمير إسرافيل وإن لم يجر ذكره لأنه المشهور بذلك ، وقرئ «في الصور» وهو جمع صورة وقد سبق بيان ذلك (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ) وقرئ «ويحشر المجرمون» (زُرْقاً) زرق العيون وصفوا بذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العين ولذلك قالوا في صفة العدو : أسود الكيد ، أصهب السبال ، أزرق العين أو عميا ، فإن حدقة الأعمى تزراق.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)(١٠٤)

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) يخفضون أصواتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول والخفت خفض الصوت وإخفاؤه. (إِنْ) ما (لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي في الدنيا يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها ، أو لاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وعلموا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات ، أو في القبر لقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) إلى آخر الآيات.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) وهو مدة لبثهم. (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أعدلهم رأيا أو عملا. (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) استرجاح لقول من يكون أشد ثقالا منهم.

٣٨

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)(١٠٧)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) عن مآل أمرها وقد سأل عنها رجل من ثقيف. (فَقُلْ) لهم. (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها.

(فَيَذَرُها) فيذر مقارها ، أو الأرض وإضمارها من غير ذكر لدلالة (الْجِبالِ) عليها كقوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). (قاعاً) خاليا (صَفْصَفاً) مستويا كأن أجزاءها على صف واحد.

(لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) اعوجاجا ولا نتوا إن تأملت فيها بالقياس الهندسي ، وثلاثتها أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس ولذلك ذكر العوج بالكسر وهو يخص بالمعاني ، والأمت وهو النتوء اليسير وقيل لا ترى استئناف مبين للحالين.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(١٠٩)

(يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ نسفت على إضافة اليوم إلى وقت النسف ، ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة. (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) داعي الله إلى المحشر ، قيل هو إسرافيل يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس فيقبلون من كل أوب إلى صوبه (لا عِوَجَ لَهُ) لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) خفضت لمهابته. (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) صوتا خفيا ومنه الهميس لصوت أخفاف الإبل ، وقد فسر الهمس بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) الاستثناء من الشفاعة أي إلا شفاعة من أذن له أو من أعم المفاعيل ، أي إلا من أذن في أن يشفع له فإن الشفاعة تنفعه ، ف (مَنْ) على الأول مرفوع على البدلية وعلى الثاني منصوب على المفعولية و (أَذِنَ) يحتمل أن يكون من الاذن ومن الأذن. (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه ، أو قوله لأجله وفي شأنه.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)(١١١)

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما تقدمهم من الأحوال. (وَما خَلْفَهُمْ) وما بعدهم مما يستقبلونه. (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ولا يحيط علمهم بمعلوماته ، وقيل بذاته وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما ، فإنهم لم يعلموا جميع ذلك ولا تفصيل ما علموا منه.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ذلت وخضعت له خضوع العناة وهم الأسارى في يد الملك القهار ، وظاهرها يقتضي العموم ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين فتكون اللام بدل الإضافة ويؤيده. (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) وهو يحتمل الحال والاستئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)(١١٣)

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بعض الطاعات. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إذ الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول

٣٩

الخيرات. (فَلا يَخافُ ظُلْماً) منع ثواب مستحق بالوعد (وَلا هَضْماً) ولا كسرا منه بنقصان أو جزاء ظلم وهضم لأنه لم يظلم غيره ولم يهضم حقه ، وقرئ «فلا يخف» على النهي.

(وَكَذلِكَ) عطف على كذلك نقص أي مثل ذلك الإنزال أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد. (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) كله على هذه الوتيرة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) مكررين فيه آيات الوعيد. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي فتصير التقوى لهم ملكة. (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) عظة واعتبارا حين يسمعونها فتثبطهم عنها ، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم والإحداث إلى القرآن.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(١١٤)

(فَتَعالَى اللهُ) في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته ذاتهم.

(الْمَلِكُ) النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده. (الْحَقُ) في ملكوته يستحقه لذاته ، أو الثابت في ذاته وصفاته (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل عليه‌السلام ومساوقته في القراءة حتى يتم وحيه بعد ذكر الإنزال على سبيل الاستطراد. وقيل نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه. (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحى إليك تناله لا محالة.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١١٥)

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) ولقد أمرناه يقال تقدم الملك إليه وأوعز إليه وعزم عليه وعهد إليه إذا أمره ، واللام جواب قسم محذوف وإنما عطف قصة آدم على قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان وعرقهم راسخ في النسيان. (مِنْ قَبْلُ) من قبل هذا الزمان. (فَنَسِيَ) العهد ولم يعن به حتى غفل عنه ، أو ترك ما وصي به من الاحتراز عن الشجرة. (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) تصميم رأي وثباتا على الأمر إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان ولم يستطع تغريره ، ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق شريها وأريها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه وقد قال الله تعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)». وقيل عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده و (نَجِدْ) وإن كان من الوجود الّذي بمعنى العلم ف (لَهُ عَزْماً) مفعولاه ، وإن كان من الوجود المناقض للعدم فله حال من عزما أو متعلق بنجد.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧)

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) مقدر باذكر أي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قد سبق القول فيه. (أَبى) جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود وهو الاستكبار وعلى هذا لا يقدر له مفعول مثل السجود المدلول عليه بقوله (فَسَجَدُوا) لأن المعنى أظهر الإباءة عن المطاوعة.

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما) فلا يكونن سببا لإخراجكما ، والمراد نهيهما عن أن يكون بحيث يتسبب الشيطان إلى إخراجهما. (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم عليها ومحافظة على الفواصل ، أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال ويؤيده قوله.

٤٠