أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

شك بما شاهدنا ، وجواب (لَوْ) محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا ، ويجوز أن تكون للتمني والمضي فيها وفي (إِذِ) لأن الثابت في علم الله بمنزلة الواقع ، ولا يقدر ل (تَرى) مفعول لأن المعنى لو يكون منك رؤية في هذا الوقت ، أو يقدر ما دل عليه صلة إذ والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار ، ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله :

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) تركناكم من الرحمة ، أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم. (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما علله بتركهم تدبر أمر العاقبة والتفكر فيها دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١٦)

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) وعظوا بها. (خَرُّوا سُجَّداً) خوفا من عذاب الله. (وَسَبَّحُوا) نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث. (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حامدين له شكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الإيمان والطاعة كم يفعل من يصر مستكبرا.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) ترتفع وتتنحى. (عَنِ الْمَضاجِعِ) الفرش ومواضع النوم. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) داعين إياه. (خَوْفاً) من سخطه (وَطَمَعاً) في رحمته. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيرها «قيام العبد من الليل». وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس» وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في وجوه الخير.

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٧)

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) مما تقر به عيونهم. وعنه عليه الصلاة والسلام «يقول الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بلّه ما أطلعتهم عليه ، اقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ)». وقرأ حمزة ويعقوب (أُخْفِيَ لَهُمْ) على أنه مضارع أخفيت ، وقرئ «نخفي» و «أخفي» والفاعل للكل هو الله ، «وقرأت أعين»

٢٢١

لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة و (ما) موصولة أو استفهامية معلق عنها الفعل. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه. وقيل هذا لقوم أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٩)

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) خارجا عن الإيمان (لا يَسْتَوُونَ) في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى.

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة ، وقيل المأوى جنة من الجنان. (نُزُلاً) سبق في سورة «آل عمران». (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بسبب أعمالهم أو على أعمالهم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٢١)

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) مكان جنة المأوى للمؤمنين. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) عبارة عن خلودهم فيها. (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) إهانة لهم وزيادة في غيظهم.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) عذاب الدنيا يريد ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر. (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الآخرة. (لَعَلَّهُمْ) لعل من بقي منهم. (يَرْجِعُونَ) يتوبون عن الكفر. روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضي الله عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(٢٤)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) فلم يتفكر فيها ، و (ثُمَ) لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلا كما في بيت الحماسة.

ولا يكشف الغماء إلّا ابن حرّة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كما آتيناك. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) في شك. (مِنْ لِقائِهِ) من لقائك الكتاب كقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه ، أو من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى. وعنه عليه الصلاة والسلام «رأيت ليلة أسري بي موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة». (وَجَعَلْناهُ) أي المنزل على موسى. (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ).

٢٢٢

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام. (بِأَمْرِنا) إياهم به أو بتوفيقنا له. (لَمَّا صَبَرُوا) وقرأ حمزة والكسائي ورويس (لَمَّا صَبَرُوا) أي لصبرهم على الطاعة أو عن الدنيا. (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لإمعانهم فيها النظر.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ)(٢٦)

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقضي فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل. (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية ، أو ضمير الله بدليل القراءة بالنون. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم ، وقرئ «يمشون» بالتشديد. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واتعاظ.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)(٢٧)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) الّتي جرز نباتها أي قطع وأزيل لا الّتي لا تنبت لقوله: (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) وقيل اسم موضع باليمن. (تَأْكُلُ مِنْهُ) من الزرع. (أَنْعامُهُمْ) كالتين والورق. (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحب والثمر. (أَفَلا يُبْصِرُونَ) فيستدلون به على كمال قدرته وفضله.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(٢٩)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) النصر أو الفصل بالحكومة من قوله (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا)(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في الوعد به.

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) وهو يوم القيامة فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم. وقيل يوم بدر أو يوم فتح مكة ، والمراد بالذين كفروا المقتولون منهم فيه فإنهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون وانطباقه جوابا على سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم ، فإنهم لما أرادوا به الاستعجال تكذيبا واستهزاء أجيبوا بما يمنع الاستعجال.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبال بتكذيبهم ، وقيل هو منسوخ بآية السيف. (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم. (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليك ، وقرئ بالفتح على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة ينتظرونه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ «الم تنزيل ، وتبارك الّذي بيده الملك أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر». وعنه «من قرأ «الم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام».

٢٢٣

(٣٣) سورة الأحزاب

مدينة وآيها ثلاث وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ناداه بالنبي وأمره بالتقوى تعظيما له وتفخيما لشأن التقوى ، والمراد به الأمر بالثبات عليه ليكون مانعا له عما نهي عنه بقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يعود بوهن في الدين. روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة الّتي كانت بينه وبينهم وقام معهم بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فنزلت. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح والمفاسد. (حَكِيماً) لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٣)

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) كالنهي عن طاعتهم. (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فموح إليك ما تصلح به أعمالك ويغني عن الاستماع إلى الكفرة ، وقرأ أبو عمرو بالياء على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين أي أن الله خبير بمكايدهم فيدفعها عنك.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وكل أمرك إلى تدبيره. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) موكولا إليه الأمور كلها.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(٤)

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل ، والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل بن أسد الفهري ذو القلبين ، والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن محمّد ، أو المراد نفي الأمومة والبنوة عن المظاهر عنها والمتبنى ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه. والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة ، وقرأ أبو عمرو «اللاي» بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله ، وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده ، وأصل تظهرون تتظهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء. وقرأ ابن عامر تظاهرون بالإدغام وحمزة والكسائي بالحذف وعاصم (تَظاهَرُونَ) من ظاهر ، وقرئ «تظهرون» من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد و «تظهرون» من الظهور. ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة : أنت عليّ

٢٢٤

كظهر أمي ، مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية وهو في الإسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها ، وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الّذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج ، أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء ، وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه. (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير. (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) لا حقيقة له في الأعيان كقول الهاذي. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) ما له حقيقة عينية مطابقة له. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) سبيل الحق.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥)

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أنسبوهم إليهم ، وهو إفراد للمقصود من أقواله الحقة وقوله : (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) تعليل له ، والضمير لمصدر (ادْعُوهُمْ) و (أَقْسَطُ) أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) فتنسبوهم إليهم. (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم في الدين. (وَمَوالِيكُمْ) وأولياؤكم فيه فقولوا هذا أخي ومولاي بهذا التأويل. (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لعفوه عن المخطئ. واعلم أن التبني لا عبرة به عندنا وعند أبي حنيفة يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الّذي يمكن إلحاقه به.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٦)

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في الأمور كلها فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فلذلك أطلق فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأمره أنفذ عليهم من أمرها وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها. روي : أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال ناس : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت. وقرئ «وهو أب لهم» أي في الدين فإن كل نبي أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوة. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) وذوو القرابات. (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في التوارث وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. (فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح أو فيما أنزل ، وهو هذه الآية أو آية المواريث أو فيم فرض الله. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بيان لأولي الأرحام ، أو صلة لأولي أي أولوا الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) استثناء من أعم ما يقدر الأولوية فيه من النفع والمراد بفعل المعروف التوصية أو منقطع (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) كان ما ذكر في الآيتين ثابتا في اللوح أو القرآن. وقيل في التوراة.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٨)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم. (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا

٢٢٥

عليه الصلاة والسلام تعظيما له وتكريما لشأنه. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عظيم الشأن أو مؤكدا باليمين ، والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيما له.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم ، أو تصديقهم إياهم تبكيتا لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق ، أو المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم. (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) عطف على (أَخَذْنا) من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين ، أو على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) ريح الصبا. (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) الملائكة. روي أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحا باردة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر ، فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمّد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من حفر الخندق ، وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة. (بَصِيراً) رائيا.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(١٠)

(إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من إذ جاءتكم. (مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان. (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش. (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا. (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) رعبا فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب. (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه ، أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم ، والألف مزيدة في أمثاله تشبيها للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف ، ولم يزدها أبو عمرو وحمزة ويعقوب مطلقا وهو القياس.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)(١٢)

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل. (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) من شدة الفزع وقرئ «زلزالا» بالفتح.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد. (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدين. (إِلَّا غُرُوراً) وعدا باطلا. قيل قائله معتب بن قشير قال يعدنا محمّد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ما هذا إلا وعد غرور.

٢٢٦

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً)(١٣)

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعني أوس بن قيظي وأتباعه. (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أهل المدينة ، وقيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. (لا مُقامَ) لا موضع قيام. (لَكُمْ) ها هنا ، وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام. (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم هاربين ، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمّد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا ، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارا ليمكنكم المقام بها. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) للرجوع. (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) غير حصينة وأصلها الخلل ، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها. (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة. (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً)(١٤)

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) دخلت المدينة أو بيوتهم. (مِنْ أَقْطارِها) من جوانبها وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليهم ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه. (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) الردة ومقاتلة المسلمين. (لَآتَوْها) لأعطوها ، وقرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها وفعلوها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها) بالفتنة أو بإعطائها. (إِلَّا يَسِيراً) ريثما يكون السؤال والجواب ، وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيرا.

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٦)

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) يعني بني حارثة عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله. (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به مجازى عليه.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف ، أو قتل في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم. (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإن نفعكم الفرار مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا ، أو زمانا قليلا.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٨)

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله :

متقلدا سيفا ورمحا

أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) ينفعهم. (وَلا نَصِيراً) يدفع الضر عنهم.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبطين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم المنافقون. (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) من

٢٢٧

ساكني المدينة. (هَلُمَّ إِلَيْنا) قربوا أنفسكم إلينا وقد ذكر أصله في «الإنعام». (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) إلا إتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا ، فإنهم يعتذرون ويتثبطون ما أمكن لهم ، أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلا قليلا كقوله (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) وقيل إنه من تتمة كلامهم ومعناه لا يأتي أصحاب محمّد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلا قليلا.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١٩)

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة ، جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل (يَأْتُونَ) أو (الْمُعَوِّقِينَ) أو على الذم. (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في أحداقهم. (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) كنظر المغشي عليه أو كدوران عينية ، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه. (مِنَ الْمَوْتِ) من معالجة سكرات الموت خوفا ولواذا بك. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وحيزت الغنائم. (سَلَقُوكُمْ) ضربوكم. (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) ذربة يطلبون الغنيمة ، والسلق البسط بقهر باليد أو باللسان. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) نصب على الحال أو الذم ، ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلّا منهما مقيد من وجه. (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) إخلاصا. (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم. (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط. (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هينا لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)(٢٠)

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية. (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب. (يَسْئَلُونَ) كل قادم من جانب المدينة. (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عما جرى عليكم. (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال. (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) رياء وخوفا من التعيير.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١)

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ، أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد ، وقرأ عاصم بضم الهمزة وهو لغة فيه. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي ثواب الله أو لقاءه ونعيم الآخرة ، أو أيام الله واليوم الآخر خصوصا. وقيل هو كقولك أرجو زيدا وفضله ، فإن (الْيَوْمَ الْآخِرَ) داخل فيها بحسب الحكم والرجاء يحتمل الأمل والخوف و (لِمَنْ كانَ) صلة لحسنة أو صفة لها. وقيل بدل من (لَكُمْ) والأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه. (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) وقرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة ، فإن المؤتسي بالرسول من كان كذلك.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً

٢٢٨

وَتَسْلِيماً)(٢٢)

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) بقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، وقوله عليه الصلاة والسلام «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم». وقوله عليه الصلاة والسلام : إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر» وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الراء وفتح الهمزة. (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ظهر صدق خبر الله ورسوله أو صدقا في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء ، وإظهار الاسم للتعظيم. (وَما زادَهُمْ) فيه ضمير (لَمَّا) رأوا ، أو الخطب أو البلاء. (إِلَّا إِيماناً) بالله ومواعيده. (وَتَسْلِيماً) لأوامره ومقاديره.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢٤)

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الثبات مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقاتلة لإعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق ، فإن المعاهد إذا وفي بعهده فقد صدق فيه. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر ، والنحب النذر واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة كعثمان وطلحة رضي الله عنهما. (وَما بَدَّلُوا) العهد ولا غيروه. (تَبْدِيلاً) شيئا من التبديل. روي أن طلحة ثبت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه الصلاة والسلام : «أوجب طلحة» وفيه تعريض لأهل النفاق ومرض القلب بالتبديل ، وقوله :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) تعليل للمنطوق والمعرض به ، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى ، والتوبة عليهم مشروطة بتوبتهم أو المراد بها التوفيق للتوبة. (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)(٢٥)

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني الأحزاب. (بِغَيْظِهِمْ) متغيظين. (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) غير ظافرين وهما حالان بتداخل أو تعاقب. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة. (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على إحداث ما يريده. (عَزِيزاً) غالبا على كل شيء.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً)(٢٦)

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) ظاهروا الأحزاب. (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني قريظة. (مِنْ صَياصِيهِمْ) من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف وقرئ بالضم. (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وقرئ بضم السين روي : أن جبريل أتى رسول الله صلّى الله عليهما وسلّم صبيحة الليلة الّتي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لأمتك والملائكة لم يضعوا السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمسا وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم: تنزلون على

٢٢٩

حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧)

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) مزارعهم. (وَدِيارَهُمْ) حصونهم. (وَأَمْوالَهُمْ) نقودهم ومواشيهم وأثاثهم. روي أنه عليه الصلاة والسلام جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال : إنكم في منازلكم وقال عمر رضي الله عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال : لا إنما جعلت هذه لي طعمة. (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) كفارس والروم ، وقيل خيبر وقيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) فيقدر على ذلك.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) السعة والتنعم فيها. (وَزِينَتَها) زخارفها. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أعطكن المتعة. (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) طلاقا من غير ضرار وبدعة. روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت. فبدأ بعائشة رضي الله عنها فخيرها فاختارت الله ورسوله ، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر الله لهن ذلك فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا وجعلها قسيما لإرادتهن الرسول يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم تطلق خلافا لزيد والحسن ومالك وإحدى الروايتين عن علي ، ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها «خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخترناه». ولم يعده طلاقا وتقديم التمتع على التسريح المسبب عنه من الكرم وحسن الخلق. قيل لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها فإنه طلقة رجعية عندنا وبائنة عند الحنفية ، واختلف في وجوبه للمدخول بها وليس فيه ما يدل عليه ، وقرئ «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف.

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) يستحقر دونه الدنيا وزينتها ومن للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)(٣١)

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) بكبيرة. (مُبَيِّنَةٍ) ظاهر قبحها على قراءة ابن كثير وأبي بكر والباقون بكسر الياء. (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه ، لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد ، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وقرأ البصريان «يضعف» على البناء للمفعول ، ورفع (الْعَذابُ) وابن كثير وابن عامر «نضعف» بالنون وبناء الفاعل ونصب (الْعَذابُ). (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي وكيف وهو سببه.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) ومن يدم على الطاعة. (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) ولعل ذكر الله للتعظيم أو لقوله : (وَتَعْمَلْ

٢٣٠

صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضا النبي عليه الصلاة والسلام بالقناعة وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي «ويعمل» بالياء حملا على لفظ «من ويؤتها» على أن فيه ضمير اسم الله ، (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) في الجنة زيادة على أجرها.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٣٢)

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أصل أحد وحد بمعنى الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير ، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل. (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) مخالفة حكم الله ورضا رسوله. (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) فلا تجئن بقولكن خاضعا لينا مثل قول المريبات. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) فجور ، وقرئ بالجزم عطفا على محل فعل النهي على أنه نهي مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول. (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا بعيدا عن الريبة.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٣٣)

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) من وقر يقر وقارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي اقررن ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغني عن همزة الوصل ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح من قررت أقر وهو لغة فيه ، ويحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع. (وَلا تَبَرَّجْنَ) ولا تتبخترن في مشيكن. (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة ، وقيل هي ما بين آدم ونوح ، وقيل الزمان الّذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام ، وقيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء رضي الله عنه «إن فيك جاهلية ، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر». (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما أمركن به ونهاكن عنه. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) الذنب المدنس لعرضكم وهو تعليل لأمرهن ونهيهن على الاستئناف ولذلك عمم الحكم. (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على النداء أو المدح. (وَيُطَهِّرَكُمْ) عن المعاصي. (تَطْهِيراً) واستعارة الرجس للمعصية والترشيح بالتطهير للتنفير عنها ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله عنهم لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما فيه ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)» ، والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)(٣٤)

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) من الكتاب الجامع بين الأمرين وهو تذكير بما أنعم الله عليهن من حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفن به. (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك خيركن ووعظكن ، أو يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح أن يكون أهل بيته.

٢٣١

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٣٥)

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله. (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المصدقين بما يجب أن يصدق به. (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) المداومين على الطاعة. (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في القول والعمل (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على الطاعات وعن المعاصي. (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما وجب في مالهم. (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) الصوم المفروض. (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) عن الحرام. (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) بقلوبهم وألسنتهم. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات. (وَأَجْراً عَظِيماً) على طاعتهم ، والآية وعد لهن ولأمثالهم على الطاعة والتدرع بهذه الخصال. روي : أن أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به فنزلت. وقيل : لما نزل فيهن ما نزل قال نساء المسلمين فما نزل فينا شيء فنزلت. وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين وهو ضروري ، وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين فليس بضروري ولذلك ترك في قوله (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) وفائدته الدلالة على أن إعداد المعد لهم للجمع بين هذه الصفات.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(٣٦)

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) ما صح له. (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) أي قضى رسول الله ، وذكر الله لتعظيم أمره والإشعار بأن قضاءه قضاء الله ، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله. وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها من زيد. أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أن يختاروا من أمرهم شيئا بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله ، والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي ، وجمع الثاني للتعظيم. وقرأ الكوفيون وهشام (يَكُونَ) بالياء. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) بين الانحراف عن الصواب.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٣٧)

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لعتقه واختصاصه. (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة. (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) زينب. وذلك : أنه عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : ما لك أرابك منها شيء ، فقال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم علي ، فقال له : أمسك عليك زوجك. (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها فلا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها. (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها. (وَتَخْشَى النَّاسَ) تعييرهم إياك به. (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) إن

٢٣٢

كان فيه ما يخشى ، والواو للحال ، وليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره ، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها. (زَوَّجْناكَها) وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك. وقرئ «زوجتكها» ، والمعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد. ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن. وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) علة للتزويج ، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أمره الّذي يريده (مَفْعُولاً) مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٣٩)

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) قسم له وقدر من قولهم فرض له في الديوان ، ومنه فروض العسكر لأرزاقهم. (سُنَّةَ اللهِ) سن ذلك سنة. (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء ، وهو نفي الحرج عنهم فيما أباح لهم. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) قضاء مقضيا وحكما مبتوتا.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع ، وقرئ «رسالة الله». (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) تعريض بعد تصريح. (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) كافيا للمخاوف أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلا منه.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ، ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم. (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) وكل رسول أبو أمته لا مطلقا بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم ، واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة. وقرئ «رسول الله» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن بالتشديد على حذف الخبر أي (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر. (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وآخرهم الّذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح ، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيا كما قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفي : لو عاش لكان نبيا ، ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه ، مع أن المراد منه أنه آخر من نبىء. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٤٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) يغلب الأوقات ويعم الأنواع بما هو أهله من التقديس والتحميد والتهليل والتمجيد.

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أول النهار وآخره خصوصا ، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات لكونهما مشهودين كإفراد التسبيح من جملة الأذكار لأنه العمدة فيها. وقيل الفعلان موجهان

٢٣٣

إليهما. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)(٤٤)

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) بالرحمة. (وَمَلائِكَتُهُ) بالاستغفار لكم والاهتمام بما يصلحكم ، والمراد بالصلاة المشترك وهو العناية بصلاح أمركم وظهور شرفكم مستعار من الصلو. وقيل الترحم والانعطاف المعنوي مأخوذ من الصلاة المشتملة على الانعطاف الصوري الّذي هو الركوع والسجود ، واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليهم سيما وهو السبب للرحمة من حيث إنهم مجابو الدعوة. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر والمعصية إلى نوري الإيمان والطاعة. (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإنافة قدرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين.

(تَحِيَّتُهُمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول أي يحيون. (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبور ، أو دخول الجنة. (سَلامٌ) إخبار بالسلامة عن كل مكروه وآفة. (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) هي الجنة ، ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)(٤٦)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم وهو حال مقدرة. (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

(وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته. (بِإِذْنِهِ) بتيسيره وأطلق له من حيث إنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذانا بأنه أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه. (وَسِراجاً مُنِيراً) يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٤٨)

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) على سائر الأمم أو على جزاء أعمالهم ، ولعله معطوف على محذوف مثل فراقب أحوال أمتك.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) تهييج له على ما هو عليه من مخالفتهم. (وَدَعْ أَذاهُمْ) إيذاءهم إياك ولا تحتفل به ، أو إيذاءك إياهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم ، ولذلك قيل إنه منسوخ. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه يكفيكهم. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) موكولا إليه الأمر في الأحوال كلها ، ولعله تعالى لما وصفه بخمس صفات قابل كلا منها بخطاب يناسبه ، فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لأن ما بعده كالتفصيل له ، وقابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين والنذير بالنهي عن مراقبة الكفار والمبالاة بأذاهم والداعي إلى الله بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه والسراج المنير بالاكتفاء به فإن من أناره الله برهانا على جميع خلقه كان حقيقا بأن يكتفي به عن غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ

٢٣٤

عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)(٤٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) تجامعوهن ، وقرأ حمزة والكسائي بألف وضم التاء. (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) أيام يتربصن فيها بأنفسهن. (تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها من عددت الدراهم فاعتدها كقولك : كلته فاكتاله ، أو تعدونها. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج كما أشعر به فما لكم ، وعن ابن كثير (تَعْتَدُّونَها) مخففا على إبدال إحدى الدالين بالياء أو على أنه من الاعتداء بمعنى تعتدون فيها ، وظاهره يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا لنطفته ، وفائدة ثم إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب يؤثر في العدة. (فَمَتِّعُوهُنَ) أي إن لم يكن مفروضا لها فإن الواجب للمفروض لها نصف المفروض دون المتعة ويجوز أن يؤول التمتيع بما يعمهما ، أو الأمر بالمشترك بين الوجوب والندب فإن المتعة سنة للمفروض لها. (وَسَرِّحُوهُنَ) أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة. (سَراحاً جَمِيلاً) من غير ضرار ولا منع حق ، ولا يجوز تفسيره بالطلاق السني لأنه مرتب على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥٠)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) مهورهن لأن المهر أجر على البضع ، وتقييد الإحلال له بإعطائها معجلة لا لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية بقوله : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها ، وتقييد القرائب بكونها مهاجرات معه في قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ويحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة ويعضده قول أم هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء. (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) نصب بفعل يفسره ما قبله أو عطف على ما سبق ، ولا يدفعه التقييد بأن الّتي للاستقبال فإن المعنى بالإحلال الإعلام بالحل أي : أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا إن اتفق ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك والقائل به ذكر أربعا : ميمونة بنت الحرث ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم. وقرئ «أن» بالفتح أي لأن وهبت أو مدة أن وهبت كقولك : اجلس ما دام زيد جالسا. (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها ، فإنها جارية مجرى القبول والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا ، ثم الرجوع إليه في قوله: (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لأجله. واحتج به أصحابنا على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ ، والاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه ، و (خالِصَةً) مصدر مؤكد أي خلص إحلالها أو إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك ، أو حال من الضمير في (وَهَبَتْ) أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) من شرائط العقد ووجوب القسم والمهر بالوطء حيث لم يسم. (وَما مَلَكَتْ

٢٣٥

أَيْمانُهُمْ) من توسيع الأمر فيها أنه كيف ينبغي أن يفرض عليهم ، والجملة اعتراض بين قوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) ومتعلقه وهو (خالِصَةً) للدلالة على أن الفرق بينه وبين (الْمُؤْمِنِينَ) في نحو ذلك لا لمجرد قصد التوسيع عليه ، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة وبالعكس أخرى. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما يعسر التحرز عنه. (رَحِيماً) بالتوسعة في مظان الحرج.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً)(٥١)

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) تؤخرها وتترك مضاجعتها. (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وتضم إليك من تشاء وتضاجعها ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص (تُرْجِي) بالياء والمعنى واحد. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) طلبت. (مِمَّنْ عَزَلْتَ) طلقت بالرجعة. (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في شيء من ذلك. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعا ، لأن حكم كلهن فيه سواء ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن ، وقرئ «تقر» بضم التاء و «أعينهن» بالنصب و «تقر» بالبناء للمفعول و «كلهن» تأكيد نون (يَرْضَيْنَ) ، وقرئ بالنصب تأكيدا لهن. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فاجتهدوا في إحسانه. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بذات الصدور. (حَلِيماً) لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقى.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(٥٢)

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي ، وقرأ البصريان بالتاء. (مِنْ بَعْدُ) من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا ، أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى. (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى و (مِنْ) مزيدة لتأكيد الاستغراق. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) حسن الأزواج المستبدلة ، وهو حال من فاعل (تَبَدَّلَ) دون مفعوله وهو (مِنْ أَزْواجٍ) لتوغله في التنكير ، وتقديره مفروضا إعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولا. وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجا من أجناس أخر. (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء ، وقيل منقطع. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً)(٥٣).

٢٣٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم. (إِلى طَعامٍ) متعلق ب (يُؤْذَنَ) لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل (لا تَدْخُلُوا) أو المجرور في (لَكُمْ). وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هوله بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك. (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لمهم. (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على (ناظِرِينَ) أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين. (إِنَّ ذلِكُمْ) اللبث (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه. (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) من إخراجكم بقوله : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ «لا يستحي» بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) شيئا ينتفع به. (فَسْئَلُوهُنَ) المتاع. (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ستر. روي «أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت». وقيل إنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل يد عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فنزلت. (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الخواطر النفسانية الشيطانية. (وَما كانَ لَكُمْ) وما صح لكم. (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أن تفعلوا ما يكرهه. (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) من بعد وفاته أو فراقه ، وخص الّتي لم يدخل بها ، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير. (إِنَّ ذلِكُمْ) يعني إيذاءه ونكاح نسائه. (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ذنبا عظيما ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال:

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٥٥)

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) كنكاحهن على ألسنتكم. (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم ذلك فيجازيكم به ، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) استثناء لمن لا يجب الاحتجاب عنهم. روي : أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت. وإنما لم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين ولذلك سمى العم أبا في قوله (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أو لأنه كره ترك الاحتجاب عنهما مخافة أن يصفا لأبنائهما. (وَلا نِسائِهِنَ) يعني نساء المؤمنات. (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من العبيد والإماء ، وقيل من الإماء خاصة وقد مر في سورة «النور». (وَاتَّقِينَ اللهَ) فيما أمرتن به. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لا يخفى عليه خافية.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٥٦).

٢٣٧

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) اعتنوا أنتم أيضا فإنكم أولى بذلك وقولوا اللهم صلي على محمّد. (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقولوا السلام عليك أيها النبي وقيل وانقادوا لأوامره ، والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة ، وقيل تجب الصلاة كلما جرى ذكره لقوله عليه الصلاة والسلام «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي» وقوله «من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله» ، وتجوز الصلاة على غيره تبعا. وتكره استقلالا لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك كره أن يقال محمّد عزوجل وإن كان عزيزا وجليلا.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(٥٨)

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي ، أو يؤذون رسول الله بكسر رباعيته وقولهم شاعر مجنون ونحو ذلك وذكر الله للتعظيم له. ومن جوز إطلاق اللفظ على معنيين فسره بالمعنيين باعتبار المعمولين. (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته. (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) يهينهم مع الإيلام.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) بغير جناية استحقوا بها الإيذاء. (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ظاهرا. قيل إنها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه ، وقيل في أهل الإفك ، وقيل في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥٩)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة ، و (مِنْ) للتبعيض فإن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) يميزن من الإماء والقينات. (فَلا يُؤْذَيْنَ) فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف. (رَحِيماً) بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً)(٦٠)

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن نفاقهم. (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف إيمان وقلة ثبات عليه ، أو فجور عن تزلزلهم في الدين أو فجورهم. (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يرجفون أخبار السوء عن سرايا المسلمين ونحوها من إرجافهم ، وأصله التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمي به الإخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت. (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء. (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) عطف على (لَنُغْرِيَنَّكَ) ، و (ثُمَ) للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم. (فِيها) في المدينة. (إِلَّا قَلِيلاً) زمانا أو جوارا قليلا.

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٦٢)

(مَلْعُونِينَ) نصب على الشتم أو الحال والاستثناء شامل له أيضا أي : (لا يُجاوِرُونَكَ) إلا ملعونين ، ولا

٢٣٨

يجوز أن ينتصب عن قوله : (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) مصدر مؤكد أي سن الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه (أَيْنَما ثُقِفُوا). (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لأنه لا يبدلها ولا يقدر أحد أن يبدلها.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً)(٦٣)

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) عن وقت قيامها استهزاء وتعنتا او امتحانا. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) شيئا قريبا أو تكون الساعة عن قريب وانتصابه على الظرف ، ويجوز أن يكون التذكير لأن (السَّاعَةِ) في معنى اليوم ، وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا)(٦٦)

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) نارا شديدة الاتقاد.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحفظهم. (وَلا نَصِيراً) يدفع العذاب عنهم.

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) تصرف من جهة إلى جهة كاللحم يشوى بالنار ، أو من حال إلى حال ، وقرئ «تقلب» بمعنى تتقلب و «تقلب» ومتعلق الظرف. (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فلن نبتلى بهذا العذاب.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(٦٨)

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر ، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» على جمع الجمع للدلالة على الكثرة. (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) بما زينوا لنا.

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) مثلي ما آتيتنا منه لأنهم ضلوا وأضلوا. والعنهم لعنا كثيرا كثير العدد ، وقرأ عاصم بالباء أي لعنا هو أشد اللعن وأعظمه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) فأظهر براءته من مقولهم يعني مؤداه ومضمونه ، وذلك أن قارون حرض امرأة على قذفه بنفسها فعصمه الله كما مر في «القصص» ، أو اتهمه ناس بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور فمات هناك ، فحملته الملائكة ومروا به حتى رأوه غير مقتول. وقيل أحياه الله فأخبرهم ببراءته ، أو قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله على أنه بريء منه. (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ذا قربة ووجاهة ، وقرئ «وكان عبد الله وجيها».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذي رسوله. (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)

٢٣٩

قاصدا إلى الحق من سد يسد سدادا ، والمراد النهي عن ضده كحديث زينب من غير قصد.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) يوفقكم للأعمال الصالحة ، أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي. (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) يعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(٧٢)

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء ، والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين. (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) حيث لم يف بها ولم يراع حقها. (جَهُولاً) بكنه عاقبتها ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب. وقيل المراد ب (الْأَمانَةَ) الطاعة الّتي تعم الطبيعية والاختيارية ، وبعرضها استدعاؤها الّذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره ، وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته ، فيكون الإباء عنه اتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة الخيانة والتقصير. وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها : إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ، ونارا لمن عصاني ، فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبتغي ثوابا ولا عقابا ، ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله ، وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته ، ولعل المراد ب (الْأَمانَةَ) العقل أو التكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن ، وبإبائهن الإباء الطبيعي الّذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) تعليل للحمل من حيث إنه نتيجته كالتأديب للضرب في ضربته تأديبا ، وذكر التوبة في الوعد إشعار بأنه كونهم ظلوما جهولا في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) حيث تاب عن فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله أو ما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر».

٢٤٠