أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

(٣٠) سورة الروم

مكية إلا قوله (فسبحان الله) الآية وآيها ستون أو تسع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٥)

(الم).

(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم ، أو في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإضافة. (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول ، وقرئ «غلبهم» وهو لغة كالجلب والجلب. (سَيَغْلِبُونَ).

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى ، وقيل بالجزيرة وهي أدنى أرض الروم من الفرس فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت ، فقال لهم أبو بكر : لا يقرن الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبي بن خلف : كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه ، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادة في الأجل ، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي من جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قفوله من أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تصدق به. واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب ، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار ، والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب. وقرئ «غلبت» بالفتح و «سيغلبون» بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام والمسلمون سيغلبونهم ، وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل. (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي له الأمر حين غلبوا وحين يغلبون ليس شيء منهما إلا بقضائه ، وقرئ «من قبل ومن بعد» من غير تقدير مضاف إليه كأنه قيل قبلا وبعدا أي أولا وآخرا. (وَيَوْمَئِذٍ) ويوم تغلب الروم. (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

(بِنَصْرِ اللهِ) من له كتاب على من لا كتاب له لما فيه من انقلاب التفاؤل وظهور صدقهم فيما أخبرا به المشركين وغلبتهم في رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم ، وقيل بنصر الله المؤمنين بإظهار صدقهم أو بأن ولي بعض أعدائهم بعضا حتى تفانوا. (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة ويتفضل عليهم بنصرهم أخرى.

٢٠١

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)(٧)

(وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله في معنى الوعد. (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لامتناع الكذب عليه تعالى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ما يشاهدونه منها والتمتع بزخارفها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) الّتي هي غايتها والمقصود منها. (هُمْ غافِلُونَ) لا تخطر ببالهم ، و (هُمْ) الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ و (غافِلُونَ) خبره والجملة خبر الأولى ، وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة المبدلة من قوله : (لا يَعْلَمُونَ) تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها ، فإن من العلم بظاهرها معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهرا ، وأما باطنها فإنها مجاز إلى الآخرة ووصلة إلى نيلها وأنموذج لأحوالها وإشعارا بأنه لا فرق بين عدم العلم والعلم الّذي يختص بظاهر الدنيا.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ)(٨)

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أو لم يحدثوا التفكر فيها ، أو أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم فإنها أقرب إليهم من غيرها ومرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها ليتحقق لهم قدرة مبدعها على إعادتها مثل قدرته على إبدائها. (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق بقول أو علم محذوف يدل عليه الكلام. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تنتهي عنده ولا تبقى بعده. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمى أو قيام الساعة. (لَكافِرُونَ) جاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية وأن الآخرة لا تكون.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٩)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تقرير لسيرهم في أقطار الأرض ونظرهم في آثار المدمرين قبلهم. (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) كعاد وثمود. (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) وقلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وزرع البذور وغيرها. (وَعَمَرُوها) وعمروا الأرض. (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) من عمارة أهل مكة إياها فإنهم أهل واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيرها ، وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا مفتخرون بها وهم أضعف حالا فيها ، إذ مدار أمرها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ملجؤون إلى دار لا نفع لها. (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ليفعل بهم ما تفعل الظلمة فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما أدى إلى تدميرهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) أي ثم كان عاقبتهم العاقبة (السُّواى) أو الخصلة (السُّواى) ،

٢٠٢

فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم وأنهم جاءوا بمثل أفعالهم ، و (السُّواى) تأنيث الأسوأ كالحسنى أو مصدر كالبشرى نعت به. (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) علة أو بدل أو عطف بيان ل (السُّواى) ، أو خبر كان و (السُّواى) مصدر أساؤوا أو مفعوله بمعنى ، (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) الذين اقترفوا الخطيئة أن طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها ، ويجوز أن تكون (السُّواى) صلة الفعل و (أَنْ كَذَّبُوا) تابعها والخبر محذوف للإبهام والتهويل ، وأن تكون (أَنْ) مفسرة لأن الإساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة معنى القول ، وقرأ ابن عامر والكوفيون (عاقِبَةَ) بالنصب على أن الاسم (السُّواى) و (أَنْ كَذَّبُوا) على الوجوه المذكورة.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)(١٢)

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئهم. (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يبعثهم. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء والعدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود ، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وروح بالياء على الأصل.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) يسكتون متحرين آيسين يقال ناظرته فأبلس إذا سكت وأيس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس الّتي لا ترغو ، وقرئ بفتح اللام من أبلسه إذا أسكته.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)(١٤)

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) ممن أشركوهم بالله. (شُفَعاءُ) يجيرونهم من عذاب الله ، ومجيئه بلفظ الماضي لتحققه. (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم ، وقيل كانوا في الدنيا كافرين بسببهم ، وكتب في المصحف شفعواء وعلمواء بني إسرائيل بالواو وكذا (السُّواى) بالألف إثباتا للهمزة على صورة الحرف الّذي منه حركتها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي المؤمنون والكافرون لقوله تعالى :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)(١٦)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) أرض ذات أزهار وأنهار. (يُحْبَرُونَ) يسرون سرورا تهللت له وجوههم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) مدخلون لا يغيبون عنه.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)(١٨)

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات الّتي تظهر فيها قدرته وتتجدد فيها نعمته ، أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزهه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السموات والأرض ، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر ، وتخصيص الحمد بالعشي الّذي هو آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها والظهيرة الّتي هي وسطه لأن تجدد النعم فيهما أكثر ،

٢٠٣

ويجوز أن يكون (عَشِيًّا) معطوفا على (حِينَ تُمْسُونَ) وقوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراضا. وعن ابن عباس أن الآية جامعة للصلوات الخمس (تُمْسُونَ) صلاتا المغرب والعشاء ، و (تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر ، و (عَشِيًّا) صلاة العصر ، و (تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مدنية لأنه كان يقول كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا وإنما فرضه الخمس بالمدينة ، والأكثر على أنها فرضت بمكة. وعنه عليه الصلاة والسلام «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون الآية». وعنه عليه الصلاة والسلام «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته ، ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه». وقرئ «حينا تمسون» و «حينا تصبحون» أي تمسون فيه وتصبحون فيه.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)(١٩)

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة. (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالنطفة والبيضة ، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات. (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإخراج. (تُخْرَجُونَ) من قبوركم فإنه أيضا تعقيب للحياة الموت ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢١)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي في أصل الإنشاء لأنه خلق أصلهم منه. (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) لأن حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء خلقن من نطف الرجال ، أو لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر. (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) لتميلوا إليها وتألفوا بها فإن الجنسية علة للضم والاختلاف سبب للتنافر. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي بين الرجال والنساء ، أو بين أفراد الجنس. (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لأمر المعاش ، أو بأن تعيش الإنسان متوقف على التعارف والتعاون المحوج إلى التواد والتراحم ، وقيل المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كقوله تعالى : (وَرَحْمَةً مِنَّا). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ)(٢٢)

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها ، أو أجناس نطقكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية. (وَأَلْوانِكُمْ) بياض الجلد وسواده ، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها ، وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن ، وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

٢٠٤

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٢٣)

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وتقوى القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما ، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعارا بأن كلا من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ، ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ(٢٤) خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) مقدر بأن المصدرية كقوله :

ألا أيهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي

أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله :

فما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

(خَوْفاً) من الصاعقة للمسافر. (وَطَمَعاً) في الغيث للمقيم ، ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أوله على تقدير مضاف نحو إرادة خوف وطمع ، أو تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع كقولك فعلته رغما للشيطان ، أو على الحال مثل كلّمته شفاها. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) وقرئ بالتشديد. (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات. (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)(٢٦)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) قيامهما بإقامته لهما وإرادته لقيامهما في حيزيهما المعينين من غير مقيم محسوس ، والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة والغنى عن الآلة. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) عطف على (أَنْ تَقُومَ) على تأويل مفرد كأنه قيل : ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثم خروجكم من القبور (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً) واحدة فيقول أيها الموتى اخرجوا ، والمراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه ، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه ومن الأرض متعلق بدعا كقولك : دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ، و (إِذا) الثانية للمفاجأة ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عليه.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)

٢٠٥

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد هلاكهم. (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) والإعادة أسهل عليه من الأصل بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء ل (الْخَلْقَ) ، وقيل (أَهْوَنُ) بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإعادة بمعنى أن يعيد. (وَلَهُ الْمَثَلُ) الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية. (الْأَعْلى) الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يصفه به ما فيها دلالة ونطقا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر الّذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. (الْحَكِيمُ) الّذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٩)

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) منتزعا من أحوالها الّتي هي أقرب الأمور إليكم. (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من مماليككم. (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها. (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) فتكونون أنتم وهم فيه شرعا يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم ، و (مِنْ) الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. (تَخافُونَهُمْ) أن يستبدوا بتصرف فيه. (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. (كَذلِكَ) مثل ذلك التفصيل. (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالإشراك. (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) فمن يقدر على هدايته. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣١)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه ، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. (فِطْرَتَ اللهِ) خلقته نصب على الإغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه ، أو ملة الإسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها ، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير. (ذلِكَ) إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الّذي لا عوج فيه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استقامته لعدم تدبرهم.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى ، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة لقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له.

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣٢)

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم ،

٢٠٦

وقرأ حمزة والكسائي فارقوا بمعنى تركوا دينهم الّذي أمروا به. (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا تشايع كل إمامها الّذي أضل دينها. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) مسرورون ظنا بأنه الحق ، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا).

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ)(٣٥)

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) شدة. (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه من دعاء غيره. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) خلاصا من تلك الشدة. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فاجأ فريق منهم بالإشراك بربهم الّذي عافاهم.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله : (فَتَمَتَّعُوا) غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و «ليتمتعوا». (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتعكم ، وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجة وقيل ذا سلطان أي ملكا معه برهان. (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) تكلم دلالة كقوله (كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أو نطق. (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) بإشراكهم وصحته ، أو بالأمر الّذي بسببه يشركون به في ألوهيته.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٣٧)

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) نعمة من صحة وسعة. (فَرِحُوا بِها) بطروا بسببها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بشؤم معاصيهم. (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣٨)

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) كصلة الرحم ، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به. (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ما وظف لهما من الزكاة ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصا ، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(٣٩)

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة ، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ليزيد ويزكو في أموالهم. (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) فلا

٢٠٧

يزكو عنده ولا يبارك فيه ، وقرأ نافع ويعقوب لتربو أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) تبتغون به وجهه خالصا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار ، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة ، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة ، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفا لحالهم ، أو للتعميم كأنه قال : فمن فعل ذلك (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به ، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٠)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) والرابط (مِنْ ذلِكُمْ) لأنه بمعنى من أفعاله ، و (مِنْ) الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)(٤٢)

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار ، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و «البحور». (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه ، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو للعاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب (لِنُذِيقَهُمْ) بالنون. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) لتشاهدوا مصداق ذلك وتتحققوا صدقه. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم ، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (٤٣)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) البليغ الاستقامة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) لا يقدر أن يرده أحد ، وقوله : (مِنَ اللهِ) متعلق ب (يَأْتِيَ) ، ويجوز أن يتعلق ب (مَرَدَّ) لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتصدعون أي يتفرقون (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) كما قال

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥)

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وباله وهو النار المؤبدة. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يسوون منزلا في الجنة ، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.

٢٠٨

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) علة ل (يَمْهَدُونَ) أو ل (يَصَّدَّعُونَ) ، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين ، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض ، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٤٦)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على إرادة الجنس. (مُبَشِّراتٍ) بالمطر. (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يعني المنافع التابعة لها ، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الّذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها (مُبَشِّراتٍ) أو عليها باعتبار المعنى ، أو على (يُرْسِلَ) بإضمار فعل معلل دل عليه. (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني تجارة البحر. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(٤٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالتدمير. (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، وعنه عليه الصلاة والسلام «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك». وقد يوقف على (حَقًّا) على أنه متعلق بالانتقام.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)(٤٩)

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) متصلا تارة. (فِي السَّماءِ) في سمتها. (كَيْفَ يَشاءُ) سائرا أو واقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قطعا تارة أخرى ، وقرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به. (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر. (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في التارتين. (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني بلادهم وأراضيهم. (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لمجيء الخصب.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر. (مِنْ قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم ، وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإرسال. (لَمُبْلِسِينَ) لآيسين.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٥٠)

٢٠٩

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة. (إِنَّ ذلِكَ) يعني إن الّذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها. (لَمُحْيِ الْمَوْتى) لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية ، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية ، هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ)(٥١)

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم ، وقيل السحاب لأنه إذا كان (مُصْفَرًّا) لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته ، وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٥٣)

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم. (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) قيد الحكم به ليكون أشد استحالة ، فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا ، وقرأ ابن كثير بالياء مفتوحة ورفع (الصُّمَ).

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمي قلوبهم ، وقرأ حمزة وحده «تهدي العمي». (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى ، ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) لما تأمرهم به.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(٥٤)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) إذا أخذ منكم السن ، وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما : قرأتها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ضعف فأقرأني من ضعف». وهما لغتان كالفقر والفقر والتنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة وشبية وشيبة. (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ)(٥٥)

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة

٢١٠

وصارت علما لها بالغلبة كالكوكب للزهرة. (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم ، وفي الحديث «ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون» وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام. (غَيْرَ ساعَةٍ) استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا. (كَذلِكَ) مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق. (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون في الدنيا.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٥٧)

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) من الملائكة والإنس. (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) في علمه أو قضائه ، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن وهو قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ). (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الّذي أنكرتموه. (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنه حق لتفريطكم في النظر ، والفاء لجواب شرط محذوف تقديره : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه ، أي فقد تبين بطلان إنكاركم. فيومئذ لا تنفع الّذين ظلموا معذرتهم وقرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر ، أو لأن تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٥٩)

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ولقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في الغرابة كالأمثال ، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب ، أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول. (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) من آيات القرآن. (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم. (إِنْ أَنْتُمْ) يعنون الرسول والمؤمنين. (إِلَّا مُبْطِلُونَ) مزورون.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الطبع. (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

(فَاصْبِرْ) على أذاهم. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله. (حَقٌ) لا بد من إنجازه. (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) ولا يحملنك على الخفة والقلق. (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بتكذيبهم وإيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وعن يعقوب بتخفيف النون ، وقرئ «ولا يستحقنك» أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته».

٢١١

(٣١) سورة لقمان

مكية إلا آية وهي (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) فإن وجوبهما

بالمدينة وهو ضعيف لأنه لا ينافي شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثا من قوله

ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام)

وهي أربع وثلاثون آية ، وقيل ثلاث وثلاثون.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ)(٣)

(الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) سبق بيانه في «يونس».

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) حالان من الآيات والعامل فيهما معنى الإشارة ، ورفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر أو الخبر لمحذوف.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بيان لإحسانهم أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتوكيد ولما حيل بينه وبين خبره.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٦)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ما يلهي عما يعني كالأحاديث الّتي لا أصل لها والأساطير الّتي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام ، والإضافة بمعنى من وهي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه. وقيل نزلت في النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول : إن كان محمّد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار والأكاسرة. وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه عنه. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه أو قراءة كتابه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله ويزيد فيه. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن. (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) ويتخذ السبيل سخرية ، وقد نصبه حمزة والكسائي ويعقوب وحفص عطفا على (لِيُضِلَ). (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.

٢١٢

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٧)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) متكبرا لا يعبأ بها. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) مشابها حاله حال من لم يسمعها. (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) مشابها من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع ، والأولى حال من المستكن في (وَلَّى) أو في (مُسْتَكْبِراً) ، والثانية بدل منها أو حال من المستكن في (لَمْ يَسْمَعْها) ويجوز أن يكونا استئنافين ، وقرأ نافع (فِي أُذُنَيْهِ). (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة وذكر البشارة على التهكم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٩)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أي لهم نعيم الجنات فعكس للمبالغة.

(خالِدِينَ فِيها) حال من الضمير في (لَهُمْ) أو من (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) والعامل ما تعلق به اللام. (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان الأول لنفسه والثاني لغيره لأن قوله (لَهُمْ جَنَّاتُ) وعد وليس كل وعد حقا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ). الّذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده ووعيده. (الْحَكِيمُ) الّذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قد سبق في «الرعد». (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا شوامخ. (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميد بكم ، فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها وأوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز ووضع معينين. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) من كل صنف كثير المنفعة وكأنه استدل بذلك على عزته الّتي هي كمال القدرة ، وحكمته الّتي هي كمال العلم ، ومهد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله :

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) هذا الّذي ذكر مخلوقه فماذا خلق آلهتكم حتى استحقوا مشاركته ، و (ما ذا) نصب ب (خَلْقُ) أو ما مرتفع بالابتداء وخبره ذا بصلته (فَأَرُونِي) معلق عنه. (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الّذي لا يخفى على ناظر ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(١٢)

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) يعني لقمان بن باعوراء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته ، وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة والسلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه ، والجمهور على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا. والحكمة في عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية ، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت فقال : الصمت حكم وقليل فاعله ، وأن داود عليه‌السلام قال له يوما كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري ، فتفكر داود فيه فصعق صعقة. وأنه أمره بأن يذبح شاة ويأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ، ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب شيء

٢١٣

إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا. (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) لأن أشكر أو أي أشكر فإن إيتاء الحكمة في معنى القول. (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن نفعه عائد إليها وهو دوام النعمة واستحقاق مزيدها. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) لا يحتاج إلى الشكر. (حَمِيدٌ) حقيق بالحمد وإن لم يحمد ، أو محمود ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(١٣)

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) أنعم أو أشكم أو ماثان. (وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَ) تصغير إشفاق ، وقرأ ابن كثير هنا وفي (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) بإسكان الياء ، وحفص فيهما وفي (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ) بفتح الياء ومثله البزي في الأخير وقرأ الباقون في الثلاثة بكسر الياء. (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل كان كافرا فلم يزل به حتى أسلم ، ومن وقف على (لا تُشْرِكْ) جعل بالله قسما. (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة منه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(١٤)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً) ذات وهن أو تهن وهنا (عَلى وَهْنٍ) أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال ، وقرئ بالتحريك يقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا. (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة ، وقرئ «وفصله في عامين» وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) تفسير ل (وَصَّيْنَا) أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال ، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام لمن قال من أبرّ «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك». (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأحاسبك على شكرك وكفرك.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٥)

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما ، وقيل أراد بنفي العلم به نفيه. (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك. (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم. (وَاتَّبِعْ) في الدين (سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) بالتوحيد والإخلاص في الطاعة. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مرجعك ومرجعهما. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإشراك فما ظنك بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا ، ولذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي الله عنه فإنه أسلم بدعوته.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)(١٦)

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي أن الخصلة من الإحسان أو الإساءة إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل. ورفع نافع (مِثْقالَ) على أن الهاء ضمير القصة وكان تامة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة كقول الشاعر :

كما شرقت صدر القناة من الدم

٢١٤

أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) في أخفى مكان وأحرزه كجوف صخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض. وقرئ بكسر الكاف من وكن الطائر إذا استقر في وكنته. (يَأْتِ بِهَا اللهُ) يحضرها فيحاسب عليها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه إلى كل خفي. (خَبِيرٌ) عالم بكنهه.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٧)

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) تكميلا لنفسك. (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تكميلا لغيرك. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد سيما في ذلك. (إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى الصبر أو إلى كل ما أمر به. (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب مصدر أطلق للمفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جد.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(١٩)

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر وهو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ولا تصاعر ، وقرئ «ولا تصعر» والكل واحد مثل علاه وأعلاه وعالاه. (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي فرحا مصدر وقع موقع الحال أي تمرح مرحا أو لأجل المرح وهو البطر. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) علة للنهي وتأخير ال (فَخُورٍ) وهو مقابل للمصعر خده والمختال للماشي مرحا لتوافق رؤوس الآي.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) توسط فيه بين الدبيب والإسراع. وعنه عليه الصلاة والسلام : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» ، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت ، وقرئ بقطع الهمزة من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية. (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) وانقص منه واقصر. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أوحشها. (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) والحمار مثل في الذم سيما نهاقه ولذلك يكنى عنه فيقال طويل الأذنين ، وفي تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة وتوحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكير دون الآحاد أو لأنه مصدر في الأصل.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ)(٢٠)

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم. (وَما فِي الْأَرْضِ) بأن مكنكم من الانتفاع به بوسط أو غير وسط (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) محسوسة ومعقولة ما تعرفونه وما لا تعرفونه وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة ، وقرئ «وأصبغ» بالإبدال وهو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ وصقر ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص نعمه بالجمع والإضافة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) في توحيده وصفاته. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل. (وَلا هُدىً) راجع إلى رسول. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أنزله الله بل بالتقليد كما قال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ

٢١٥

عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٢٢)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وهو منع صريح من التقليد في الأصول. (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) يحتمل أن يكون الضمير لهم ولآبائهم. (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإشراك وجواب لو محذوف مثل لاتبعوه ، والاستفهام للإنكار والتعجب.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون ، ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدي باللام فلتضمن معنى الإخلاص. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) تعلق بأوثق ما يتعلق به ، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه. (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) إذ الكل صائر إليه.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ)(٢٤)

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة ، وقرئ «فلا يحزنك» من أحزن وليس بمستفيض. (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) في الدارين. (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) بالإهلاك والتعذيب. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فمجاز عليه فضلا عما في الظاهر.

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) تمتيعا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٦)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك يلزمهم.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يستحق العبادة فيهما غيره (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن حمد الحامدين. (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد وإن لم يحمد.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢٧)

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) ولو ثبت كون الأشجار أقلاما ، وتوحيد (شَجَرَةٍ) لأن المراد تفصيل الآحاد. (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) والبحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر ، فأغنى عن ذكر المداد يمده لأنه من مد الدواة وأمدها ، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها ويمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال ، ونصبه البصريان بالعطف على اسم (أَنَ) أو إضمار فعل يفسره (يَمُدُّهُ) ، وقرئ «تمده» «ويمده» بالياء والتاء. (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء. (حَكِيمٌ) لا يخرج عن علمه وحكمته أمر ، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء.

٢١٦

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٣٠)

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كل مسموع (بَصِيرٌ) يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الخلق.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي) كل من النيرين يجري في فلكه. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر. وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أن ال (أَجَلٍ) ها هنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازا وكلا المعنيين حاصل في الغايات. (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بكنهه.

(ذلِكَ) إشارة إلى الّذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها.

(بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته ، أو الثابت إلهيته. وأنّ ما تدعون من دونه الباطل المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته ، وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) مترفع على كل شيء ومتسلط عليه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(٣٢)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمته وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال ، وقرئ «الفلك» بالتثقيل و «بنعمات الله» بسكون العين ، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون. (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) دلائله. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس. (شَكُورٍ) يعرف النعم ويتعرف مانحها ، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ) علاهم وغطاهم. (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما ، وقرئ كالظلال جمع ظله كقلة وقلال. (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) مقيم على الطريق القصد الّذي هو التوحيد ، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدار فإنه نقض للعهد الفطري ، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر. (كَفُورٍ) للنعم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٣٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) لا يقضي عنه ، وقرئ «لا يجزئ» من

٢١٧

أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه. (وَلا مَوْلُودٌ) عطف على (والِدٌ) أو مبتدأ خبره. (هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي ، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب. (حَقٌ) لا يمكن خلفه. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) علم وقت قيامها. لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : متى قيام الساعة؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى؟ وما أعمل غدا وأين أموت؟ فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى أتام أم ناقص. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما لا تدري في أي وقت تموت. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه ، فقال الرجل من هذا؟ قال : ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك» ، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين ، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه ، وقرئ «بأية أرض» وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في كلهن. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) يعلم الأشياء كلها. (خَبِيرٌ) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة ، وأعطي من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر».

٢١٨

(٣٢) سورة السجدة

مكية وآيها ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٣)

(الم) إن جعل اسما للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) على أن التنزيل بمعنى المنزل ، وإن جعل تعديدا للحروف كان (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره : (لا رَيْبَ فِيهِ) فيكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) حالا من الضمير في (فِيهِ) لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ولا (رَيْبَ فِيهِ) حال من (الْكِتابِ) ، أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فإنه تقرير له ، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولا إلى إعجازه ، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين ، وقرر ذلك بنفي الريب عنه ، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجيبا منه ، فإن (أَمْ) منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) إذ كانوا أهل الفترة. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بإنذارك إياهم.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(٤)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) مر بيانه في «الأعراف». (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ما لَكُمْ) إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم ، أو (ما لَكُمْ) سواه ولي ولا شفيع بل هو الّذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر ، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله تعالى.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦)

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض. (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ثم يصعد إليه ويثبت في علمه موجودا. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع ، وقيل يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة ، لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين

٢١٩

السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة. وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة. وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي ، ثم لا يعرج إليه خالصا كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص ، وقرئ «يعرج» و «يعدون».

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فيدبر أمرهما على وفق الحكمة. (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره. (الرَّحِيمُ) على العباد في تدبيره ، وفيه إيماء بأنه يراعي المصالح تفضلا وإحسانا.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(٩)

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) خلقة موفرا عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة ، وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته ، و (خَلَقَهُ) مفعول ثان. وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) يعني آدم. (مِنْ طِينٍ).

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل. (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ممتهن.

(ثُمَّ سَوَّاهُ) قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إلى نفسه تشريفا له وإشعارا بأنه خلق عجيب ، وأن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) خصوصا لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرون شكرا قليلا.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١١)

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه ، أو غبنا فيها. وقرئ «ضللنا» بالكسر من ضل يضل «وصللنا» من صل اللحم إذا أنتن ، وقرأ ابن عامر «إذا» على الخبر والعامل فيه ما دل عليه. (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو : نبعث أو يجدد خلقنا. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب «إنا» على الخبر ، والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده. (كافِرُونَ) جاحدون.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا ولا يبقى منكم أحدا ، والتفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقصيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته. (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)(١٢)

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الحياء والخزي. (رَبَّنا) قائلين ربنا. (أَبْصَرْنا) ما وعدتنا. (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك. (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا. (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) إذ لم يبق لنا

٢٢٠