أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)(٥٣)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، وقيل في أربعين من أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام ، والضمير في (مِنْ قَبْلِهِ) للقرآن كالمستكن في :

(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ) أي بأنه كلام الله تعالى. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٥٥)

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم وثباتهم على الإيمانين ، أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده ، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتبع السيئة الحسنة تمحها». (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الخير.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) تكرما. (وَقالُوا) للاغين. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) متاركة لهم وتوديعا ، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نطلب صحبتهم ولا نريدها.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧)

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لا تقدر على أن تدخلهم في الإسلام. (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فيدخله في الإسلام. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بالمستعدين لذلك. والجمهور على أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ، قال : يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) نخرج منها. نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه. (يُجْبى إِلَيْهِ) يحمل إليه ويجمع فيه ، وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء. (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من كل أوب. (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموه ، وقيل إنه متعلق بقوله (مِنْ لَدُنَّا) أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره ، وانتصاب (رِزْقاً) على المصدر من معنى (يُجْبى) ، أو حال من ال (ثَمَراتُ) لتخصصها بالإضافة ، ثم بين أن الأمر

١٨١

بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه بقوله :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ)(٥٩)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) خاوية. (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم ، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم ، وانتصاب (مَعِيشَتَها) بنزع الخافض أو بجعلها ظرفا بنفسها كقولك : زيد ظني مقيم ، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولا على تضمين بطرت معنى كفرت.

(وَما كانَ رَبُّكَ) وما كانت عادته. (مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) في أصلها الّتي هي أعمالها ، لأن أهلها تكون أفطن وأنبل. (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) لإلزام الحجة وقطع المعذرة. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بتكذيب الرسل والعتو في الكفر.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من أسباب الدنيا. (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) تمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية. (وَما عِنْدَ اللهِ) وهو ثوابه. (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة. (وَأَبْقى) لأنه أبدي. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتستبدلون الّذي هو أدنى بالذي هو خير ، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) وعدا بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود. (فَهُوَ لاقِيهِ) مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده ، ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية. (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الّذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع. (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب أو العذاب ، و (ثُمَ) للتراخي في الزمان أو الرتبة ، وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي (ثُمَّ هُوَ) بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل ، وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ)(٦٣)

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر. (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي ، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما.

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بثبوت مقتضاه وحصول مؤداه وهو قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وغيره من آيات الوعيد. (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أي (هؤُلاءِ الَّذِينَ) أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول. (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي (أَغْوَيْناهُمْ) فغووا غيا مثل ما غوينا ، وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلا ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) صفة

١٨٢

و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة وهو وإن كان فضلة لكنه صار من اللوازم. (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر هوى منهم ، وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا. (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل (ما) مصدرية متصلة ب (تَبَرَّأْنا) أي تبرأنا من عبادتهم إيانا.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ)(٦٤)

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ) من فرط الحيرة. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم عن الإجابة والنصرة. (وَرَأَوُا الْعَذابَ) لازما بهم. (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجه من الحيل يدفعون به العذاب ، أو إلى الحق لما رأوا العذاب وقيل (لَوْ) للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ)(٦٦)

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولا عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء.

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم ، وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره ، والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها ، فإذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم ، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء. (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٨)

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك. (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً). وجمع بين الإيمان والعمل الصالح. (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام ، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) لا موجب عليه ولا مانع له. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا والأمر كذلك عند التحقيق ، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). وقيل (ما) موصولة مفعول ل (يَخْتارُ) والراجع إليه محذوف والمعنى : ويختار الّذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح. (سُبْحانَ اللهِ) تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار. (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه به.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٧٠)

١٨٣

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) كعداوة الرسول وحقده. (وَما يُعْلِنُونَ) كالطعن فيه.

(وَهُوَ اللهُ) المستحق للعبادة. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا أحد يستحقها إلا هو. (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لأنه المولي للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده. (وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ في كل شيء. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالنشور.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ)(٧١)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة كميم دلامص. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) كان حقه هل إله فذكر ب (مَنْ) على زعمهم أن غيره آلهة. وعن ابن كثير «بضئاء» بهمزتين. (أَفَلا تَسْمَعُونَ) سماع تدبر واستبصار.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٧٣)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) استراحة عن متاعب الأشغال ، ولعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل ، ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله ولذلك قرن به (أَفَلا تَسْمَعُونَ) وبالليل. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار بأنواع المكاسب. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، أو الأول لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى.

(وَنَزَعْنا) وأخرجنا. (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. (فَقُلْنا) للأمم. (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدينون به. (فَعَلِمُوا) حينئذ. (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في الألوهية لا يشاركه فيها أحد. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الضائع. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ

١٨٤

وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)(٧٨)

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوى وكان ممن آمن به. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره ، أو تكبر عليهم أو ظلمهم. قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل ، أو حسدهم لما روي أنه قال لموسى عليه‌السلام : لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله. (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) من الأموال المدخرة. (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به ، وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح. (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) خبر إن والجملة صلة ما وهو ثاني مفعولي آتى ، وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا. وقرئ «لينوء» بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) منصوب ب «تنوء». (لا تَفْرَحْ) لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها ، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل :

أشد الغمّ عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا

ولذلك قال تعالى : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ، وعلل النهي ها هنا بكونه مانعا من محبة الله تعالى فقال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي بزخارف الدنيا.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) من الغنى. (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها. (وَلا تَنْسَ) ولا تترك ترك المنسي. (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك. (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله. (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) فيما أنعم الله عليك. وقيل (أَحْسِنْ) بالشكر والطاعة (كَما أَحْسَنَ) إليك بالإنعام. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بأمر يكون علة للظلم والبغي ، نهي له عما كان عليه من الظلم والبغي. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) لسوء أفعالهم.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال ، و (عَلى عِلْمٍ) في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها ، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب ، وقيل العلم بكنوز يوسف ، و (عِنْدِي) صفة له أو متعلق ب (أُوتِيتُهُ) كقولك : جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الّذي ادعى ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين. (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة ، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعا على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ) (٨٠)

١٨٥

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على ما هو عادة الناس من الرغبة. (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنوا مثله لا عينه حذرا عن الحسد. (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الدنيا.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الآخرة للمتمنين. (وَيْلَكُمْ) دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى. (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة. (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها. (وَلا يُلَقَّاها) الضمير فيه للكلمة الّتي تكلم بها العلماء أو لل (ثَوابُ) ، فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو للإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة. (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعن المعاصي.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)(٨١)

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روي أنه كان يؤذي موسى عليه‌السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره ، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه ، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال : من سرق قطعناه ، ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه ، فقال قارون ولو كنت قال : ولو كنت ، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت ، فناشدها موسى عليه‌السلام بالله أن تصدق فقالت : جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي ، فخر موسى شاكيا منه إلى ربه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فقال : يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه ، ثم قال خذيه فأخذته إلى وسطه ، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه ، ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه ، فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مرارا فلم ترحمه ، وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته ، ثم قال بنو إسرائيل : إنما فعله ليرثه ، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته. (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) فيدفعون عنه عذابه. (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٨٣)

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) منزلته. (بِالْأَمْسِ) منذ زمان قريب. (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ) بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض ، و (وَيْكَأَنَ) عند البصريين مركب من «وي» للتعجب «وكأن» للتشبيه والمعنى : ما أشبه الأمر أن الله يبسط الرزق. وقيل من «ويك» بمعنى ويلك و «أن» تقديره ويك اعلم أن الله. (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) فلم يعطنا ما تمنينا. (لَخَسَفَ بِنا) لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله. وقرأ حفص بفتح الخاء والسين. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إشارة تعظيم كأنه قال : تلك الّتي سمعت خبرها وبلغك وصفها ، و (الدَّارُ) صفة والخبر : (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) غلبة وقهرا. (وَلا فَساداً) ظلما على الناس كما أراد فرعون وقارون. (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة. (لِلْمُتَّقِينَ) ما لا يرضاه الله.

١٨٦

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨٥)

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ذاتا وقدرا ووصفا. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم. (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مقامة مبالغة في المماثلة.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه. (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي معاد وهو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه ، أو مكة الّتي اعتدت بها على أنه من العادة رده إليها يوم الفتح ، كأنه لما حكم بأن (الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين. روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولد آبائه فنزلت. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم. (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين ، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله :

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٨٧)

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي سيردك إلى معادك كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ولكن ألقاه رحمة منه ، ويجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قال : وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) بمداراتهم والتحمل عنهم والإجابة إلى طلبتهم.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) عن قراءتها والعمل بها. (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) وقرئ (يَصُدُّنَّكَ) من أصد. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى عبادته وتوحيده. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلا ذاته فإن ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم. (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ في الخلق. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء بالحق. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه صادقا».

١٨٧

(٢٩) سورة العنكبوت

مكية وآيها تسع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(٢)

(الم) سبق القول فيه ، ووقوع الاستفهام بعده دليل استقلاله بنفسه أو بما يضمر معه.

(أَحَسِبَ النَّاسُ) الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم (آمَنَّا) ، فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم (آمَنَّا) هو الثاني كقولك : حسبت ضربه للتأديب ، أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم (آمَنَّا) بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف ، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب. روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين ، وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى ، وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٤)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متصل ب (أَحَسِبَ) أو ب (لا يُفْتَنُونَ) ، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقا حاليا يتميز به الذين صدقوا في الإيمان والذين كذبوا فيه ، وينوط به ثوابهم وعقابهم لذلك وقيل المعنى وليميزن أو ليجازين ، وقرئ «وليعلمن» من الإعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو ليسمنّهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح. (أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم وهو ساد مسد مفعولي (حَسِبَ) لاشتماله على مسند ومسند إليه ويجوز أن يضمن (حَسِبَ) معنى قدر أو أم منقطعة والإضراب فيها لأن هذا الحسبان أبطل من الأول ولهذا عقبه بقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الّذي يحكمونه ، أو حكما يحكمونه حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٥)

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) في الجنة ، وقيل المراد بلقاء الله الوصول إلى ثوابه ، أو إلى العاقبة من الموت

١٨٨

والبعث والحساب والجزاء على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد وقد اطلع السيد على أحواله ، فإما أن يلقاه ببشر لما رضي من أفعاله أو بسخط لما سخط منها. (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) فإن الوقت المضروب للقائه. (لَآتٍ) لجاء وإذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء كائنا لا محالة ، فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو ما يستوجب به القربة والرضا. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد. (الْعَلِيمُ) بعقائدهم وأفعالهم.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٧)

(وَمَنْ جاهَدَ) نفسه بالصبر على مضض الطاعة والكف عن الشهوات. (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأن منفعته لها. (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا حاجة به إلى طاعتهم ، وإنما كلف عباده رحمة عليهم ومراعاة لصلاحهم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الكفر بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أحسن جزاء أعمالهم.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) بإيتائهما فعلا ذا حسن ، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفا ، وقيل هو بمعنى قال ، أي وقلنا له أحسن بوالديك (حُسْناً) ، وقيل (حُسْناً) منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما (حُسْناً) وهو أوفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على (بِوالِدَيْهِ) ، وقرئ (حُسْناً) و «إحسانا». (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بطلانه. (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة ، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا الّتي في «لقمان» و «الأحقاف».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) في جملتهم والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين ، أو في مدخلهم وهو الجنة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)(١١)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) ما يصيبه من أذيتهم في الصرف عن الإيمان. (كَعَذابِ اللهِ) في الصرف عن الكفر. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) فتح وغنيمة. (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الدين فأشركونا فيه ، والمراد المنافقون أو قوم ضعف إيمانهم

١٨٩

فارتدوا من أذى المشركين ويؤيد الأول. (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإخلاص والنفاق.

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم. (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) فيجازي الفريقين.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٣)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) الّذي نسلكه في ديننا. (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة ، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم إن كانت تشجيعا لهم عليه ، وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) من الأولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير : وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أثقال ما اقترفته أنفسهم. (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) وأثقالا أخر معها لما تسببوا له بالإضلال والحمل على المعاصي من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال تقريع وتبكيت. (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الأباطيل الّتي أضلوا بها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ(١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)(١٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) بعد المبعث ، إذ روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوما تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين ، ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع ، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة. (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما. (وَهُمْ ظالِمُونَ) بالكفر.

(فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا عليه‌السلام. (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) ومن أركب معه من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين. وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث. (وَجَعَلْناها) أي السفينة أو الحادثة.

(آيَةً لِلْعالَمِينَ) يتعظون ويستدلون بها.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١٧)

(وَإِبْراهِيمَ) عطف على (نُوحاً) أو نصب بإضمار اذكر ، وقرئ بالرفع على تقدير ومن المرسلين إبراهيم. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) ظرف لأرسلنا أي أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وأمر الناس به ، أو بدل منه بدل اشتمال إن قدر باذكر. (وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشر وتميزون ما هو خير مما هو شر ، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل.

١٩٠

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) وتكذبون كذبا في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله تعالى ، أو تعملونها وتنحتونها للإفك وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث إنه زور وباطل ، وقرئ «تخلقون» من خلق للتكثير و «تخلقون» من تخلق للتكلف ، و «أفكا» على أنه مصدر كالكذب أو نعت بمعنى خلقا ذا إفك. (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) دليل ثان على شرارة ذلك من حيث إنه لا يجدي بطائل ، و (رِزْقاً) يحتمل المصدر بمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم وأن يراد المرزوق وتنكيره للتعميم. (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كله فإنه المالك له. (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره ، أو مستعدين للقائه بهما ، فإنه : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقرئ بفتح التاء.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(١٩)

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا) وإن تكذبوني. (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) من قبلي من الرسل فلم يضرهم تكذيبهم وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الّذي يزال معه الشك وما عليه أن يصدق ولا يكذب ، فالآية وما بعدها من جملة قصة (إِبْراهِيمَ) إلى قوله (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) ويحتمل أن تكون اعتراضا بذكر شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم ، توسط بين طرفي قصته من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنفيس عنه ، بأن أباه خليل الله صلوات الله عليهما كان ممنوا بنحو ما مني به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) من مادة ومن غيرها ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء على تقدير القول وقرئ «يبدأ». (ثُمَّ يُعِيدُهُ) إخبار بالإعادة بعد الموت معطوف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) لا على (يُبْدِئُ) ، فإن الرؤية غير واقعة عليه ويجوز أن تؤول الإعادة بأن ينشئ في كل سنة مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما وتعطف على (يُبْدِئُ). (إِنَّ ذلِكَ) الإشارة إلى الإعادة أو إلى ما ذكر من الأمرين. (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)(٢١)

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حكاية كلام الله لإبراهيم أو محمّد عليهما الصلاة والسلام. (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) على اختلاف الأجناس والأحوال. (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد النشأة الأولى الّتي هي الإبداء ، فإنه والإعادة نشأتان من حيث إن كلا اختراع وإخراج من العدم ، والإفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في بدأ والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة ، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة لأنها أهون والكلام في العطف ما مر ، وقرئ «النشاءة» كالرآفة. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه. (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) تردون.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٣)

١٩١

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم عن إدراككم. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) إن فررتم من قضائه بالتواري في الأرض أو الهبوط في مهاويها ، والتحصن (فِي السَّماءِ) أو القلاع الذاهبة فيها وقيل ولا من في السماء كقول حسان :

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بدلائل وحدانيته أو بكتبه. (وَلِقائِهِ) بالبعث. (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي ييأسون منها يوم القيامة ، فعبر عنه بالماضي للتحقق والمبالغة ، أو أيسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢٤)

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) قوم إبراهيم له. وقرئ بالرفع على أنه الاسم والخبر. (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) وكان ذلك قول بعضهم لكن لما قيل فيهم ورضي به الباقون أسند إلى كلهم. (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي فقذفوه في النار فأنجاه الله منها بأن جعلها عليه بردا وسلاما. (إِنَّ فِي ذلِكَ) في إنجائه منها. (لَآياتٍ) هي حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها في زمان يسر وإنشاء روض مكانها. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها.

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٥)

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها ، وثاني مفعولي (اتَّخَذْتُمْ) محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة ، وقرأها نافع وابن عامر وأبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم ، والجملة صفة (أَوْثاناً) أو خبر إن على أن ما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح (بَيْنِكُمْ) كما قرئ (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وقرئ «إنما مودة بينكم». (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم ، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا). (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم منها.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢٧)

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) هو ابن أخيه وأول من آمن به ، وقيل إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه. (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من قومي. (إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الّذي يمنعني من أعدائي. (الْحَكِيمُ)

١٩٢

الّذي لا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. روي أنه هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوط وامرأته سارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشأم فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ولدا ونافلة حين أيس من الولادة من عجوز عاقر ولذلك لم يذكر إسماعيل. (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) فكثر منهم الأنبياء. (وَالْكِتابَ) يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على هجرته إلينا. (فِي الدُّنْيا) بإعطاء الولد في غير أوانه ، والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لفي عداد الكاملين في الصلاح.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)(٢٨)

(وَلُوطاً) عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليها لخبث طينتهم.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ)(٣٠)

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وتتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال أو بالفاحشة حتى انقطعت الطرق ، أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث. (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) في مجالسكم الغاصة بأهلها ولا يقال للنادي إلا لما فيه أهله. (الْمُنْكَرَ) كالجماع والضراط وحل الإزار وغيرها من القبائح عدم مبالاة بها. وقيل الخذف ورمي البنادق. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في استقباح ذلك أو في دعوى النبوة المفهومة من التوبيخ.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) بإنزال العذاب. (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم ، وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعارا بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢)

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بالبشارة بالولد والنافلة. (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية سدوم والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال. (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل لإهلاكهم لهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الّذي هو الكفر وأنواع المعاصي.

(قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) اعتراض عليهم بأن فيها من لم يظلم ، أو معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم. (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم به وأنهم ما كانوا غافلين عنه ، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله أو تأقيت الإهلاك بإخراجهم منها ، وفيه تأخير

١٩٣

للبيان عن الخطاب. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب أو القرية.

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٣٣)

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، و (أَنْ) صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له ، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. (وَقالُوا) لما رأوا فيه أثر الضجرة. (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) على تمكنهم منا. (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (لَنُنَجِّيَنَّهُ) و (مُنَجُّوكَ) بالتخفيف ووافقهم أبو بكر وابن كثير في الثاني ، وموضع الكاف الجر على المختار ونصب (أَهْلَكَ) بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل.

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٣٥)

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا منها سمي بذلك لأنه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس أي اضطرب ، وقرأ ابن عامر (مُنْزِلُونَ) بالتشديد. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) هي حكايتها الشائعة أو آثار الديار الخربة ، وقيل الحجارة الممطرة فإنها كانت باقية بعد وقيل بقية أنهارها المسودة. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار ، وهو متعلق ب (تَرَكْنا) أو (آيَةً).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٣٧)

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) وافعلوا ما ترجون به ثوابه فأقيم المسبب مقام السبب ، وقيل إنه من الرجاء بمعنى الخوف. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة وقيلة صيحة جبريل لأن القلوب ترجف لها. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) في بلدهم أو دورهم ولم يجمع لأمن اللبس. (جاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨)

(وَعاداً وَثَمُودَ) منصوبان بإضمار اذكر أو فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا ، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب (وَثَمُودَ) غير منصرف على تأويل القبيلة. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي تبين لكم بعض مساكنهم ، أو إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من الكفر والمعاصي. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) السوي الّذي بينه الرسل لهم. (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم لم يفعلوا ، أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم ولكنهم لجوا حتى هلكوا.

١٩٤

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ(٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٤٠)

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) معطوف على عادا وتقديم (قارُونَ) لشرف نسبه. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) فائتين بل أدركهم أمر الله من سبق طالبه إذا فاته.

(فَكُلًّا) من المذكورين. (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) عاقبناه بذنبه. (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) ريحا عاصفا فيها حصباء ، أو ملكا رماهم بها كقوم لوط. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كمدين وثمود. (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته عزوجل. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالتعريض للعذاب.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٤١)

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا. (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) فيما نسجته في الوهن والخور بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعا ما ، أو مثلهم بالإضافة إلى الموحد كمثلها بالإضافة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجص ، والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، والتاء فيه كتاء طاغوت ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب. (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهن من ذلك ، ويجوز أن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم سماه به تحقيقا للتمثيل فيكون المعنى : وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٤٢)

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله يعلم ، وقرأ البصريان بالياء حملا على ما قبله و (ما) استفهامية منصوبة ب تدعون و (يَعْلَمُ) معلقة عنها و (مِنْ) للتبيين أو نافية و (مِنْ) مزيدة و (شَيْءٍ) مفعول (يَدْعُونَ) أو مصدرية و (شَيْءٍ) مصدر أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول (يَدْعُونَ) عائدها المحذوف ، والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل وعلى الأخيرين وعيد لهم. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تعليل على المعنيين فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه ، وأن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية كالمعدوم ، وأن من هذا وصفه قادر على مجازاتهم.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٤٤)

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) يعني هذا المثل ونظائره. (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) تقريبا لما بعد من أفهامهم. (وَما يَعْقِلُها) ولا يعقل حسنها وفائدتها. (إِلَّا الْعالِمُونَ) الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي. وعنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تلا هذه الآية

١٩٥

فقال : «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه».

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) محقا غير قاصد به باطلا ، فإن المقصود بالذات من خلقها إفادة الخير والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون به.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)(٤٥)

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه. روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف له عليه‌السلام فقال : «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، أو ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ)(٤٧)

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا بالخصلة الّتي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح ، وقيل هو منسوخ بآية السيف إذ لا مجادلة أشد منه وجوابه أنه آخر الدواء ، وقيل المراد به ذو العهد منهم. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم (يَدُ اللهِ) (مَغْلُولَةٌ) أو بنبذ العهد ومنع الجزية. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) هو من المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم». (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال. (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) وحيا مصدقا لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هم عبد الله بن سلام وأضرابه ، أو من تقدم عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب. (وَمِنْ هؤُلاءِ) ومن العرب أو أهل مكة أو ممن في عهد الرسول من أهل الكتابين. (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالقرآن. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجة عليها. (إِلَّا الْكافِرُونَ) إلا المتوغلون في الكفر فإن جزمهم به يمنعهم عن التأمل فيما يفيد لهم صدقها لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أشار إليه بقوله :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)(٤٩)

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم

١٩٦

الشريفة على أمّيّ لم يعرف بالقراءة والتعلم خارق للعادة ، وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإسناد. (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين الأقدمين ، وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المتكاثرة ، وقيل لارتاب أهل الكتاب لوجدانهم نعتك على خلاف ما في كتبهم فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.

(بَلْ هُوَ) بل القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) المتوغلون في الظلم بالمكابرة بعد وضوح دلائل إعجازها حتى لم يعتدوا بها.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥١)

وقالوا لو لا أنزل عليه آية من ربّه مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ، وقرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص (آياتٌ). (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها كما يشاء لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه. (إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) آية مغنية عما اقترحوه. (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل بخلاف سائر الآيات ، أو يتلى عليهم يعني اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الكتاب الّذي هو آية مستمرة وحجة مبينة. (لَرَحْمَةً) لنعمة عظيمة. (وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وتذكرة لمن همه الإيمان دون التعنت. وقيل إن أناسا من المسلمين أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتف كتب فيها بعض ما يقول اليهود ، «فقال كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم» فنزلت.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٣)

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بصدقي وقد صدقني بالمعجزات ، أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم ونصحي ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفي عليه حالي وحالكم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وهو ما يعبد من دون الله. (وَكَفَرُوا بِاللهِ) منكم. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) بقولهم : أمطر (عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ). (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) لكل عذاب أو قوم. (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥)

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب ، أو هي كالمحيطة

١٩٧

بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الّتي توجبها بهم ، واللام للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على موجب الإحاطة ، أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ظرف (لَمُحِيطَةٌ) أو مقدر مثل كان كيت وكيت. (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) من جميع جوانبهم. (وَيَقُولُ) الله أو بعض ملائكته بأمره لقراءة ابن كثير وابن عامر والبصريين بالنون. (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاءه.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ)(٥٧)

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي إذا لم يتسهل لكم العبادة في بلدة ولم يتيسر لكم إظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك ، وعنه عليه الصلاة والسلام : «من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمّد عليهما‌السلام». والفاء جواب شرط محذوف إذ المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تناله لا محالة. (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) للجزاء ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له وقرأ أبو بكر بالياء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(٥٩)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم. (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) علالي ، وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» أي لنقيمنهم من الثواء فيكون انتصاب غرفا لإجرائه مجرى لننزلنهم ، أو بنزع الخافض أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) وقرئ «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) على أذية المشركين والهجرة للدين إلى غير ذلك من المحن والمشاق. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ولا يتوكلون إلا على الله.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٦١)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تطيق حمله لضعفها أو لا تدخره ، وإنما تصبح ولا معيشة عندها. (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله ، لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة ، فإنهم لما أمروا بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم هذا. (الْعَلِيمُ) بضميركم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) المسؤول عنهم أهل مكة. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك.

١٩٨

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٦٣)

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) يحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على أن البسط والقبض على التعاقب وألا يكون على وضع الضمير موضع من يشاء وإبهامه لأن من يشاء مبهم. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مصالحهم ومفاسدهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الّذي لا يقدر على شيء من ذلك. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما عصمك من مثل هذه الضلالة ، أو على تصديقك وإظهار حجتك. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فيتناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به الصنم ، وقيل لا يعقلون ما تريد بتحميدك عند مقالهم.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٦٤)

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) إشارة تحقير وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة. (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) إلا كما يلهى ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون متعبين. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) لهي دار الحياة الحقيقية لامتناع طريان الموت عليها ، أو هي في ذاتها حياة للمبالغة ، و (الْحَيَوانُ) مصدر حين سمي به ذو الحياة وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ها هنا. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لم يؤثروا عليها الدنيا الّتي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٦٦)

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) متصل بما دل عليه شرح حالهم أي هم على ما وصفوا به من الشرك فإذا ركبوا البحر. (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) اللام فيه لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة. (وَلِيَتَمَتَّعُوا) باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها ، أو لام الأمر على التهديد ويؤيده قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون عن نافع (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بالسكون. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٦٨)

(أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني أهل مكة. (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) أي جعلنا بلدهم مصونا عن النهب والتعدي آمنا

١٩٩

أهله عن القتل والسبي. (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختلسون قتلا وسبيا إذ كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) حيث أشركوا به غيره وتقديم الصلتين للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن زعم أن له شريكا. (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) يعني الرسول أو الكتاب ، وفي (لَمَّا) تسفيه لهم بأن لم يتوافقوا ولم يتأملوا قط حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) تقرير لثوائهم كقوله :

ألستم خير من ركب المطايا

أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب ، أو لاجترائهم أي ألم يعلموا أن (فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) حتى اجترءوا مثل هذه الجراءة.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٦٩)

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) في حقنا وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه. (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وفي الحديث «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والإعانة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

٢٠٠