أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

النهار. (وَإِنِّي عَلَيْهِ) على حمله. (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) لا أختزل منه شيئا ولا أبدله.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٤٠)

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) آصف بن برخيا وزيره ، أو الخضر أو جبريل عليهما‌السلام أو ملك أيده الله به ، أو سليمان عليه‌السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك ، أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولا ثم أراهم أنه يتأتى له مالا يتأتى لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم ، والمراد ب (الْكِتابِ) جنس الكتب المنزلة أو اللوح ، و (آتِيكَ) في الموضعين صالح للفعلية والاسمية ، «والطرف» تحريك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله :

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتعبتك المناظر

وصف برد الطرف والطرف بالارتداد ، والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك ، وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه. (فَلَمَّا رَآهُ) أي العرش (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) حاصلا بين يديه. (قالَ) تلقيا للنعمة بالشكر على شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) تفضل به عليّ من غير استحقاق ، والإشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره ، والكلام في إمكان مثله قد مر في آية «الإسراء». (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) بأن أراه فضلا من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه. (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أجد نفسي في البين ، أو أقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره. (كَرِيمٌ) بالإنعام عليه ثانيا.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)(٤٢)

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) بتغيير هيئته وشكله. (نَنْظُرْ) جواب الأمر ، وقرئ بالرفع على الاستئناف. (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إلى معرفته أو الجواب الصواب ، وقيل إلى الإيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس.

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) تشبيها عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل. (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) ولم تقل هو هو الاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت : وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحة نبوتك قبل هذه الحالة ، أو المعجزة مما تقدم من الآيات. وقيل إنه من كلام سليمان عليه‌السلام وقومه وعطفوه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا ، وإحضاره ثمة من المعجزات الّتي لا يقدر عليها غير الله تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أي وأوتينا العلم بالله وقدرته وصحة ما جاء به من عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه ، ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكرا الله تعالى.

١٦١

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام ، أو وصدها الله عن عبادتها بالتوفيق للإيمان. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) وقرئ بالفتح على الإبدال من فاعل صدها على الأول ، أي صدها نشؤها بين أظهر الكفار أو التعليل له.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) القصر وقيل عرصة الدار. (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها. وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بالهمز حملا على جمعه سئوق وأسؤق. (قالَ إِنَّهُ) إن ما تظنينه ماء. (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) مملس. (مِنْ قَوارِيرَ) من الزجاج.

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادتي الشمس ، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة.

(وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيما أمر به عباده وقد ، اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)(٤٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بأن اعبدوا الله ، وقرئ بضم النون على اتباعها الباء. (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) ففاجؤوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق ، والواو لمجموع الفريقين.

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا. (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق إيعاده تبنا حينئذ. (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) قبل نزوله. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ.

(قالُوا اطَّيَّرْنا) تشاءمنا. (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) إذ تتابعت علينا الشدائد ، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم. (قالَ طائِرُكُمْ) سببكم الّذي جاء منه شركم. (عِنْدَ اللهِ) وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، والإضراب من بيان طائرهم الّذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٤٩)

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) تسعة أنفس ، وإنما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى ، والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة ، والنفر من الثلاثة إلى التسعة. (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح.

١٦٢

(قالُوا) أي قال بعضهم لبعض. (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أمر مقول أو خبر وقع بدلا أو حالا بإضمار قد. (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) لنباغتن صالحا وأهله ليلا. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض ، وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر. (ثُمَّ لَنَقُولَنَ) فيه القراءات الثلاث. (لِوَلِيِّهِ) لولي دمه. (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) فضلا أن تولينا إهلاكهم ، وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا (مَهْلِكَ) في قراءة حفص فإن مفعلا قد جاء مصدرا كمرجع. وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدرا. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ونحلف إنا لصادقون ، أو والحال (إِنَّا لَصادِقُونَ) فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا ، أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلا بل رجلين.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١)

(وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذه المواضعة. (وَمَكَرْنا مَكْراً) بأن جعلناها سببا لإهلاكهم. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بذلك ، روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه ، فوقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة كما أشار إليه قوله :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) و (كانَ) إن جعلت ناقصة فخبرها (كَيْفَ) و (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) استئناف أو خبر محذوف لا خبر (كانَ) لعدم العائد ، وإن جعلتها تامة ف ـ (كَيْفَ) حال. وقرأ الكوفيون ويعقوب (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم (كانَ) أو خبر له و (كَيْفَ) حال.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٣)

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) خالية من خوى البطن إذا خلا ، أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط ، وهي حال عمل فيها معنى الإشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيتعظون.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) صالحا ومن معه. (وَكانُوا يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(٥٥)

(وَلُوطاً) واذكر لوطا ، أو وأرسلنا لوطا لدلالة ولقد أرسلنا عليه. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) بدل على الأول وظرف على الثاني. (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح ، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون أفحش.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه ، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر. (مِنْ دُونِ النِّساءِ) اللاتي خلقن لذلك. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تفعلون فعل من يجهل قبحها ، أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح ، أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.

١٦٣

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٥٨)

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتنزهون عن أفعالنا ، أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) قدرنا كونها من الباقين في العذاب.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) مر مثله.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)(٥٩)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بعد ما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا ـ بتحميده والسلام على المصطفين من عباده شكرا على ما أنعم عليهم ، أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفانا لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين ، أو لوطا بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك. (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم ، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسا حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء.

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)(٦٠)

(أَمَّنْ) بل أمن (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الّتي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وقرأ «أمن» بالتخفيف على أنه بدل من الله. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) لأجلكم. (مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته ، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار إليه بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإحاطة. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أغيره يقرن به ويجعل له شريكا ، وهو المنفرد بالخلق والتكوين. وقرئ «أإلها» بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق الّذي هو التوحيد.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٦١)

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) وجعلها قرارا بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها. (وَجَعَلَ خِلالَها) وسطها. (أَنْهاراً) جارية. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جبالا تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والمالح ، أو خليجي فارس والروم. (حاجِزاً) برزخا وقد مر بيانه في سورة «الفرقان». (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحق فيشركون به.

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما

١٦٤

تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٣)

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) المضطر الّذي أحوجه شدة ما به إلى اللجإ إلى الله تعالى من الاضطرار ، وهو افتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) ويدفع عن الإنسان ما يسوءه. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الّذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون آلاءه تذكرا قليلا ، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة. وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بالنجوم وعلامات الأرض ، وال (ظُلُماتِ) ظلمات الليالي وإضافتها إلى (الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) للملابسة ، أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني المطر ، ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لانكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى ، والفاعل للسبب فعل للمسبب. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على مثل ذلك. (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٦٤)

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها. (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بأسباب سماوية وأرضية. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٦٥)

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة أتبعه ما هو كاللازم له ، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع ، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم ، أو متصل على أن المراد ممن في السموات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها ، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف. (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) متى ينشرون مركبة من «أي» «وآن» ، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة.

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(٦٦)

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغ فيه ، بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلا. (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم ، وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات

١٦٥

والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل ، والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم ، وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكما بهم ، وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها الّتي عندها تعدم. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص (بَلِ ادَّارَكَ) بمعنى تتابع حتى استحكم ، أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، وأبو بكر «ادّرك» وأصلهما تفاعل وافتعل. وقرئ «أأدرك» و «أم أدرك» بهمزتين «وءاأدرك» بألف بينهما و «بل أدرك» و «بل تدارك» و «بلى أأدرك» و «بلى أأدرك» و «أم أدرك» و «أم تدارك» ، وما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على التهكم ، وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها (بَلِ) إنهم (مِنْها عَمُونَ) أو رد وإنكار لشعورهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٦٨)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) ، وهو نخرج لا مخرجون لأن كلا من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها ، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار ، والمراد بالإخراج الإخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى الحياة ، وقرأ نافع «إذا كنا» بهمزة واحدة مكسورة ، وقرأ ابن عامر والكسائي «إننا لمخرجون» بنونين على الخبر.

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) من قبل وعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر فالمقصود به المبعوث. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الّتي هي كالأسمار.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(٧٠)

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم ، والتعبير عنهم ب (الْمُجْرِمِينَ) ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) على تكذبيهم وإعراضهم. (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) في حرج صدر ، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان ، وقرئ ضيق أي أمر ضيق. (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من مكرهم فإن الله يعصمك من الناس.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)(٧٢)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) العذاب الموعود. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) تبعكم ولحقكم ، واللام مزيدة للتأكيد أو الفعل مضمن معنى فعل يتعدى باللام مثل دنا. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) حلوله وهو عذاب يوم بدر ، وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونها إظهارا لوقارهم وإشعارا بأن الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله تعالى ووعيده.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ

١٦٦

وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧٥)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لتأخير عقوبتهم على المعاصي ، والفضل والفاضلة الأفضال وجمعها فضول وفواضل. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كننت أي سترت. (وَما يُعْلِنُونَ) من عداوتك فيجازيهم عليه.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) خافية فيهما ، وهما من الصفات الغالبة والتاء فيهما للمبالغة كما في الراوية ، أو اسمان لما يغيب ويخفى كالتاء في عافية وعاقبة. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بين أو (مُبِينٍ) ما فيه لما يطالعه ، والمراد اللوح أو القضاء على الاستعارة.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(٧٨)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح.

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم المنتفعون به.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) بين بني إسرائيل. (بِحُكْمِهِ) بما يحكم به وهو الحق ، بحكمته ويدل عليه أنه قرئ بحكمه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يرد قضاؤه. (الْعَلِيمُ) بحقيقة ما يقضي فيه ، وحكمه.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٨١)

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تبال بمعاداتهم. (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طعمه عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا ، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد. وقرأ ابن كثير (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُ).

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر. وقرأ حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي». (إِنْ تُسْمِعُ) أي ما يجدي إسماعك. (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) من هو في علم الله كذلك. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون من أسلم وجهة لله.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)(٨٢)

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) إذا دنا وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب. (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) وهي الجساسة روي أن طولها ستون ذراعا ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان ، لا يفوتها

١٦٧

هارب ولا يدركها طالب. وروي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من أين مخرجها فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله ، يعني المسجد الحرام. (تُكَلِّمُهُمْ) من الكلام ، وقيل من الكلم إذ قرئ «تكلمهم». وروي أنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام ، فتنكت بالعصا في مسجد المؤمن نكتة بيضاء فيبيض وجهه ، وبالخاتم في أنف الكافر نكتة سوداء فيسود وجهه. (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا) خروجها وسائر أحوالها فإنها من آيات الله تعالى ، وقيل القرآن ، وقرأ الكوفيون أن الناس بالفتح. (لا يُوقِنُونَ) لا يتيقنون ، وهو حكاية معنى قولها أو حكايتها لقول الله عزوجل أو علة خروجها ، أو تكلمها على حذف الجار.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)(٨٥)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) يعني يوم القيامة. (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) بيان للفوج أي فوجا مكذبين ، و (مِنْ) الأولى للتبعيض لأن أمة كل نبي وأهل كل قرن شامل للمصدقين والمكذبين. (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم.

(حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى المحشر. (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) الواو للحال أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب ، أو للعطف أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها. (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ، وهو للتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بعد ذلك. (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله. (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) باعتذار لشغلهم بالعذاب.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦)

(أَلَمْ يَرَوْا) ليتحقق لهم التوحيد ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل ، لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهر ، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان ، وأن من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم. (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) بالنوم والقرار. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) فإن أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليها بحيث لا ينفك عنها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لدلالتها على الأمور الثلاثة.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٨٧)

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في الصور أو القرن ، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق. (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الهول وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع بأن يثبت قلبه. قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وقيل الحور والخزنة وحملة العرش ، وقيل الشهداء ، وقيل موسى عليه الصلاة والسلام لأنه صعق مرة ولعل المراد ما يعم ذلك. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية ، أو راجعون إلى أمره وقرأ حمزة وحفص (أَتَوْهُ) على

١٦٨

الفعل ، وقرئ «أتاه» على التوحيد للفظ الكل. (داخِرِينَ) صاغرين وقرئ «دخرين».

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)(٨٨)

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) ثابتة في مكانها. (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) في السرعة ، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها. (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله (وَعَدَ اللهُ). (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي. (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) إذ ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وسبعمائة بواحدة ، وقيل (خَيْرٌ مِنْها) أي خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمر وهشام خبير بما يفعلون بالياء والباقون بالتاء. (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) يعني به خوف عذاب يوم القيامة ، وبالأول ما يلحق الإنسان من التهيب لما يرى من الأهوال والعظائم ولذلك يعم الكافر والمؤمن ، وقرأ الكوفيون بالتنوين لأن المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم ، وآمن يتعدى بالجار وبنفسه كقوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ). وقرأ الكوفيون ونافع (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم والباقون بكسرها.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) قيل بالشرك. (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) فكبوا فيها على وجوههم ، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على الالتفات أو بإضمار القول أي قيل لهم ذلك.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(٩٢)

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ذلك بعد ما بين المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة ، إشعارا بأنه قد أتم الدعوة وقد كملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه ، وتخصيص مكة بهذه الإضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها وقرئ «الّتي حرمها». (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين أو الثابتين على ملة الإسلام.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا ، أو اتباعه وقرئ «واتل عليهم» «وأن اتل». (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياي في ذلك ، (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فإن منافعه عائدة إليه. (وَمَنْ ضَلَ) بمخالفتي. (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) فلا علي من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) القاهرة في

١٦٩

الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض ، أو في الآخرة. (فَتَعْرِفُونَها) أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة طس كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهودا وصالحا وإبراهيم وشعيبا ، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله».

١٧٠

(٢٨) سورة القصص

مكية وقيل إلا قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)

وهي ثمان وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٤)

(طسم).

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).

(نَتْلُوا عَلَيْكَ) نقرؤه بقراءة جبريل ، ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازا. (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) بعض نبئهما مفعول (نَتْلُوا). (بِالْحَقِ) محقين. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون به.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) استئناف «مبين» لذلك البعض ، والأرض أرض مصر. (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا يشيعونه فيما يريد ، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل ، أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل ، والجملة حال من فاعل (جَعَلَ) أو صفة ل (شِيَعاً) أو استئناف ، وقوله : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) بدل منها ، كان ذلك لأن كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده ، وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(٦)

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أن نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه ، (وَنُرِيدُ) حكاية حال ماضية معطوفة على (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) من حيث إنهما واقعان تفسيرا لل (نَبَإِ) ، أو حال من (يَسْتَضْعِفُ) ولا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له ، لجواز أن يكون تعلق الإرادة به حينئذ تعلقا استقباليا مع أن منة الله بخلاصهم لما كانت قريبة الوقوع منه جاز أن تجري مجرى المقارن. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقدمين في أمر الدين. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لما كان في ملك فرعون وقومه.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر والشام ، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر. (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) من بني إسرائيل. (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. وقرأ حمزة والكسائي ويرى بالياء و (فِرْعَوْنَ وَهامانَ

١٧١

وَجُنُودَهُما) بالرفع.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ)(٨)

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) بإلهام أو رؤيا. (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما أمكنك إخفاؤه. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) بأن يحس به. (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) في البحر يريد النيل. (وَلا تَخافِي) عليه ضيعة ولا شدة. (وَلا تَحْزَنِي) لفراقه. (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) عن قريب بحيث تأمنين عليه. (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها ، فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منعها من السعاية ، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتا فقذفته في النيل.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) تعليل لالتقاطهم إياه بما هو عاقبته ومؤداه تشبيها له بالغرض الحامل عليه. وقرأ حمزة والكسائي (وَحَزَناً). (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) في كل شيء فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون ، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم ، فالجملة اعتراض لتأكيد خطئهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به ، وقرئ «خاطين» تخفيف (خاطِئِينَ) أو «خاطين» الصواب إلى الخطأ.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩)

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أي لفرعون حين أخرجته من التابوت. (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه ، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت ، وفي الحديث أنه قال : لك لا لي. ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. (لا تَقْتُلُوهُ) خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع ، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أو نتبناه فإنه أهل له. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له ، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنه لغيرنا وقد تبنيناه.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١١)

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) صفرا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي خلاء لا عقول فيها ، ويؤيده أنه قرئ «فرغا» من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر ، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه. (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بالصبر والثبات. (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المصدقين بوعد الله ، أو من الواثقين

١٧٢

بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه. وقرئ «مؤسى» إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط ، وجواب (لَوْ لا) محذوف دل عليه ما قبله.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) مريم. (قُصِّيهِ) اتبعي أثره وتتبعي خبره. (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) عن بعد وقرئ «عن جانب» «وعن جنب» وهو بمعناه. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها تقص أو أنها أخته.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ(١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) ومنعناه أن يرتضع من المرضعات ، جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع ، أو موضعه يعني الثدي. (مِنْ قَبْلُ) من قبل قصها أثره. (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) لأجلكم. (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لا يقصرون في إرضاعه وتربيته ، روي أن هامان لما سمعه قال : إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون ، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله ، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها : من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها ، فرجعت به إلى بيتها من يومها ، وهو قوله تعالى :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بولدها. (وَلا تَحْزَنَ) بفراقه. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) علم مشاهدة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن وعده حق فيرتابون فيه ، أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع ، وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)(١٥)

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) مبلغه الّذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ. وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة. (وَاسْتَوى) قده أو عقله. (آتَيْناهُ حُكْماً) أي نبوة. (وَعِلْماً) بالدين ، أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه ، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه ، وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة. (وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الّذي فعلنا بموسى وأمه. (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) ودخل مصر آتيا من قصر فرعون وقيل منف أو حائين ، أو عين شمس من نواحيها. (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه ، قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط ، والإشارة على الحكاية. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي) هو (مِنْ عَدُوِّهِ) فسأله أن يغيثه بالإعانة ولذلك عدي ب (عَلى) وقرئ «استعانه». (فَوَكَزَهُ مُوسى) فضرب القبطي بجمع كفه ، وقرئ فلكزه أي فضرب به صدره. (فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ). (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأمونا فيهم فلم يكن له اغتيالهم ، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ ، وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلما

١٧٣

واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم. (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(١٧)

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتله. (فَاغْفِرْ لِي) ذنبي. (فَغَفَرَ لَهُ) لاستغفاره. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لذنوب عباده. (الرَّحِيمُ) بهم.

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أو استعطاف أي بحق إنعامك عليّ اعصمني فلن أكون معينا لمن أدت معاونته إلى جرم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى ، وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)(١٩)

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) يترصد الاستقادة. (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيثه مشتق من الصراخ. (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قاله الإسرائيلي لأنه لما سماه غويا ظن أنه يبطش عليه ، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الّذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي. (إِنْ تُرِيدُ) ما تريد. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب. (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن ، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ)(٢٢)

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) يسرع صفة رجل ، أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) يتشاورون بسببك ، وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) اللام للبيان وليس صلة ل (النَّاصِحِينَ) لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول.

(فَخَرَجَ مِنْها) من المدينة. (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لحوق طالب. (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) خلصني منهم واحفظني من لحوقهم.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) قبالة مدين قرية شعيب ، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان. (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) توكلا على الله وحسن ظن به ، وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب

١٧٤

عقيبه فأخذوا في الآخرين.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(٢٤)

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها. (وَجَدَ عَلَيْهِ) وجد فوق شفيرها. (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة كثيرة مختلفين. (يَسْقُونَ) مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم. (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم. (قالَ ما خَطْبُكُما) ما شأنكما تذودان. (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذرا عن مزاحمة الرجال ، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه. وقرأ أبو عمرو وابن عامر (يُصْدِرَ) أي ينصرف. وقرئ «الرعاء» بالضم وهو اسم جمع كالرخال. (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطرارا.

(فَسَقى لَهُما) مواشيهما رحمة عليهما. قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم ، وقيل كانت بئرا أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ) لأي شيء أنزلت إلي.

(مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام. (فَقِيرٌ) محتاج سائل ولذلك عدي باللام ، وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا ، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦)

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مستحيية متخفرة. قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي الّتي تزوجها موسى عليه‌السلام. (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ) ليكافئك. (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) جزاء سقيك لنا ، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابها ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعا في الأجر ، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاما فامتنع عنه وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. هذا وأن كل من فعل معروفا فأهدي بشيء لم يحرم أخذه. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يريد فرعون وقومه.

(قالَتْ إِحْداهُما) يعني الّتي استدعته. (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) لرعي الغنم. (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) تعيل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه ، جعل (خَيْرَ) اسما وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف. روي أن شعيبا قال لها وما أعلمك بقوته وأمانته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه.

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ

١٧٥

عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٢٨)

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أي تأجر نفسك مني أو تكون لي أجيرا ، أو تثيبني من أجرك الله. (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرف على الأولين ومفعول به على الثالث بإضمار مضاف أي رعية ثماني حجج. (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) عملت عشر حجج. (فَمِنْ عِنْدِكَ) فإتمامه من عندك تفضلا لا من عندي إلزاما عليك. وهذا استدعاء العقد لا نفسه ، فلعله جرى على أجرة معينة وبمهر آخر أو برعية الأجل الأول ووعد له أن يوفي الأخير إن تيسر له قبل العقد ، وكانت الأغنام للمزوجة مع أنه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال ، واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ورأيك في مزاولته. (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة.

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذلك الّذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه. (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أطولهما أو أقصرهما. (قَضَيْتُ) وفيتك إياه. (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان ، أو فلا أكون متعديا بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي ، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي. وقرئ «أيما» كقوله :

تنظّرت نصرا والسماكين أيّما

عليّ من الغيث استهلّت مواطره

وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي : أي الأجلين جردت عزمي لقضائه ، وعدوان بالكسر. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) من المشارطة. (وَكِيلٌ) شاهد حفيظ.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(٢٩)

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) بامرأته. روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشرا أخرى ثم عزم على الرجوع. (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أبصر من الجهة الّتي تلي الطور. (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) بخبر الطريق. (أَوْ جَذْوَةٍ) عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن.

قال :

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها

جزل الجذى غير خوار ولا دعر

وقال آخر :

وألقى على قبس من النّار جذوة

شديدا عليه حرّها والتهابها

ولذلك بينه بقوله : (مِنَ النَّارِ) وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون بها.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ

١٧٦

وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)(٣١)

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أتاه النداء من الشاطئ الأيمن لموسى. (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متصل بالشاطئ أو صلة ل (نُودِيَ). (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت ثابتة على الشاطئ. (أَنْ يا مُوسى) أي يا موسى. (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) هذا وإن خالف ما في «طه» «والنمل» لفظا فهو طبقه في المقصود.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي فألقاها فصارت ثعبانا واهتزت (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ). (كَأَنَّها جَانٌ) في الهيئة والجثة أو في السرعة. (وَلَّى مُدْبِراً) منهزما من الخوف. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع. (يا مُوسى) نودي يا موسى. (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من المخاوف ، فإنه لا (يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(٣٢)

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أدخلها. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) عيب. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس ، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريرا لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة ، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه. (مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضم الراء وسكون الهاء ، وقرئ بضمهما ، وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات. (فَذانِكَ) إشارة إلى العصا واليد ، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ورويس. (بُرْهانانِ) حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض ، ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن. (مِنْ رَبِّكَ) مرسلا بهما. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ)(٣٥)

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بها.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) معينا وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء ، وقرأ نافع «ردا» بالتخفيف. (يُصَدِّقُنِي) بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة. (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) ولساني لا يطاوعني عند المحاجة ، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب ، وقرأ عاصم وحمزة (يُصَدِّقُنِي) بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف.

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد. (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) غلبة أو حجة. (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) باستيلاء أو حجاج. (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا ، أو ب (نَجْعَلُ) أي نسلطكما بها ، أو بمعنى «لا يصلون» أي تمتنعون منهم ، أو قسم جوابه «لا يصلون» ، أو بيان ل (الْغالِبُونَ) في قوله : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الّذي.

١٧٧

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ(٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٣٧)

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله ، أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله ؛ أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر. (وَما سَمِعْنا بِهذا) يعنون السحر أو ادعاء النبوة. (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) كائنا في أيامهم.

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) فيعلم أني محق وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير «قال» بغير واو لأنه قال ما قاله جوابا لمقالهم ، ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد. (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازا إلى الآخرة ، والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض. وقرأ حمزة والكسائي يكون بالياء. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(٤٠)

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه ، ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) كأنه توهم أنه لو كان لكان جسما في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أو أراد أن يبني له رصدا يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول وتبدل دولة ، وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى: (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فإن معناه بما ليس فيهن ، وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ، ولا كذلك العلوم الانفعالية ، قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم ؛ ولذلك نادى هامان باسمه بيا في وسط الكلام.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بغير استحقاق. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) بالنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) كما مر بيانه ، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم ، ونظيره : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). (فَانْظُرْ) يا محمّد. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وحذر قومك عن مثلها.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا

١٧٨

لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)(٤٢)

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) قدوة للضلال بالحمل على الإضلال ، وقيل بالتسمية كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) ، أو بمنع الألطاف الصارفة عنه. (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم.

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) طردا عن الرحمة ، أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) من المطرودين ، أو ممن قبح وجوههم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤٣)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة. (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أقوام نوح وهود وصالح ولوط.

(بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أنوارا لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل. (وَهُدىً) إلى الشرائع الّتي هي سبل الله تعالى. (وَرَحْمَةً) لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر ، وقد فسر بالإرادة وفيه ما عرفت.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)(٤٥)

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) يريد الوادي ، أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى ، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ما كنت حاضرا. (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) إذ أوحينا إليه الأمر الّذي أردنا تعريفه. (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) للوحي إليه أو على الوحي إليه ، وهم السبعون المختارون الميقات ، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيبات الّتي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله :

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد ، فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم ، فحذف المستدرك وأقام سببه مقامه. (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما. (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) شعيب والمؤمنين به. (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) تقرأ عليهم تعلما منهم. (آياتِنا) الّتي فيها قصتهم. (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إياك ومخبرين لك بها.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤٦)

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) لعل المراد به وقت ما أعطاه التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد. (وَلكِنْ) علمناك. (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقرئت بالرفع على هذه (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). (لِتُنْذِرَ قَوْماً) متعلق بالفعل المحذوف. (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى ، وهي خمسمائة وخمسون سنة ، أو بينك وبين إسماعيل ، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون.

١٧٩

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٤٧)

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً لَوْ لا) الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها ، لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيها لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببية المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سببا لانتفاء ما يجاب به ، وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى : لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين ، ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعا لعذرهم وإلزاما للحجة عليهم. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات. (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤٩)

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحا وتعنتا. (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى ، أو كان فرعون عربيا من أولاد عاد. (قالُوا سِحْرانِ) يعني موسى وهارون ، أو موسى ومحمّدا عليهما‌السلام. (تَظاهَرا) تعاونا بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون «سحران» بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة ، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإعجاز. وقرئ ظاهرا على الإدغام. (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي بكل منهما أو بكل الأنبياء.

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) مما أنزل على موسى وعلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإضمارهما لدلالة المعنى ، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين موسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام. (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنا ساحران مختلقان ، وهذا من الشروط الّتي يراد بها الإلزام والتبكيت ، ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١)

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به ، ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي ، فإذا عدي إليه حذف الدعا غالبا كقوله :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

(فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) استفهام بمعنى النفي. (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) في موضع الحال للتأكيد أو التقييد ، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير ، أو في النظم لتتقر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيؤمنون ويطيعون.

١٨٠