أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

وقرئ «يسمعونكم» أي يسمعونكم الجواب عن دعائكم ومجيئه مضارعا مع (إِذْ) على حكاية الحال الماضية استحضارا لها.

(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) على عبادتكم لها. (أَوْ يَضُرُّونَ) من أعرض عنها.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو يتوقع منهم ضر أو نفع ، والتجؤوا إلى التقليد.

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ)(٧٧)

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) فإن التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقا.

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه ، أو إن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان ، لكنه صور الأمر في نفسه تعريضا لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح ، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول ، وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩)

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد كما قال (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) هداية مدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار ، مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم ، ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها ، والفاء للسببية إن جعل الموصول مبتدأ وللعطف إن جعل صفة رب العالمين فيكون اختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وقوله :

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) على الأول مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده ، وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ)(٨١)

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) عطف على (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) لأنه من روادفهما من حيث إن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب ، وإنما لم ينسب المرض إليه تعالى لأن المقصود تعديد النعم ، ولا ينتقض بإسناد الإماتة إليه فإن الموت من حيث إنه لا يحس به لا ضرر فيه وإنما لضرر في مقدماته وهي المرض ، ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب الّتي تستحقر دونها الحياة الدنيوية وخلاص من أنواع المحن والبليات ، ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وبما بين الأخلاط والأركان من التنافي والتنافر ، والصحة إنما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهرا وذلك بقدرة الله العزيز العليم.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) في الآخرة.

١٤١

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(٨٣)

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) ذكر ذلك هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر ، وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفارا لما عسى يندر منه من الصغائر ، وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقوله «هي أختي» ، ضعيف لأنها معاريض وليست خطايا.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) كمالا في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورئاسة الخلق. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)(٨٦)

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) جاها وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين ، ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه ، أو صادقا من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) في الآخرة وقد مر معنى الوراثة فيها.

(وَاغْفِرْ لِأَبِي) بالهداية والتوفيق للإيمان. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) طريق الحق وإن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإيمان تقية من نمرود ولذلك وعده به ، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار.

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٨٩)

(وَلا تُخْزِنِي) بمعاتبتي على ما فرطت ، أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوارث ، أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلا ، أو بتعذيب والدي ، أو ببعثه في عداد الضالين وهو من الخزي بمعنى الهوان ، أو من الخزاية بمعنى الحياء. (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) الضمير للعباد لأنهم معلومون أو ل (الضَّالِّينَ).

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي لا ينفعان أحدا إلا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته ، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر ، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة. وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلّا غناه. وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) تنفعه.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (٩٣)

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) فيرونها مكشوفة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها ، وفي اختلاف الفعلين

١٤٢

ترجيح لجانب الوعد.

(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أين ألهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم. (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم. (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار كما قال :

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ)(٩٥)

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) أي الآلهة وعبدتهم ، والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها.

(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) متبعوه من عصاة الثقلين ، أو شياطينه. (أَجْمَعُونَ) تأكيد لل (جُنُودُ) إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير وما عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله :

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٩٨)

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله :

(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي في استحقاق العبادة ، ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة كما في (قالُوا) والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة ، والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها.

(وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٢)

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.

(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) إذ الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلّا المتقين ، أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء ، أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق ، وجمع الشافع ووحد ال (صَدِيقٍ) لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ، أو لأن ال (صَدِيقٍ) الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء ، أو لإطلاق ال (صَدِيقٍ) على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل.

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) تمن للرجعة أقيم فيه «لو» مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير ، أو شرط حذف جوابه. (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) جواب التمني أو عطف على (كَرَّةً) أي : لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من قصة إبراهيم. (لَآيَةً) لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر ، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير ، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالقته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه ، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وإيقاظا لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أكثر قومه. (مُؤْمِنِينَ) به.

١٤٣

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر على تعجيل الانتقام. (الرَّحِيمُ) بالإمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٠٨)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ال (قَوْمُ) مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) لأنه كان منهم. (أَلا تَتَّقُونَ) الله فتتركوا عبادة غيره.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) مشهور بالأمانة فيكم.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه.

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(١١١)

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أنا عليه من الدعاء والنصح. (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء في (أَجْرِيَ) في الكلمات الخمس.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الأقلون جاها ومالا جمع الأرذل على الصحة ، وقرأ يعقوب «وأتباعك» وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال ، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية ، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعا عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلا على بطلانه ، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك :

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١١٥)

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إنهم عملوه إخلاصا أو طمعا في طعمة وما عليّ إلا اعتبار الظاهر.

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها. (لَوْ تَشْعُرُونَ) لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه وقوله :

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي في طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء ، أو ما عليّ إلا إنذاركم إنذارا بينا بالبرهان الواضح فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٨)

١٤٤

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عما تقول. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) من المشتومين أو المضروبين بالحجارة.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) إظهارا لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.

(فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة. (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من قصدهم أو شؤم عملهم.

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٢٢)

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء.

(ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) بعد إنجائه. (الْباقِينَ) من قومه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) شاعت وتواترت. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٢٦)

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٢٧)

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه ، وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية.

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٣١)

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) بكل مكان مرتفع ، ومنه ريع الأرض لارتفاعها. (آيَةً) علما للمارة. (تَعْبَثُونَ) ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام ، أو بنيانا يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم ، أو قصورا يفتخرون بها.

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) مآخذ الماء وقيل قصورا مشيدة وحصونا. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) فتحكمون بنيانها.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) بسيف أو سوط. (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة.

(فَاتَّقُوا اللهَ) بترك هذه الأشياء. (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ

١٤٥

عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥)

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) كرره مرتبا على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلا وتنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد والوعيد على تركه بالانقطاع ، ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالا بالإنكار في (أَلا تَتَّقُونَ) مبالغة في الإيقاظ والحث على التقوى فقال.

(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ثم أوعدهم فقال.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الدنيا والآخرة ، فإنه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣٩)

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فإنا لا نرعوي عما نحن عليه ، وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه.

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ما هذا الّذي جئتنا به إلا كذب الأوليين ، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بضمتين أي ما هذا الّذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ، أو ما هذا الّذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون ، أو ما هذا الّذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على ما نحن عليه.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) بسبب التكذيب بريح صرصر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ)(١٤٨)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله :

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) لطيف لين للطف التمر ، أو لأن النخل أنثى وطلع إناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو ، أو متدل منكسر من كثرة الحمل ، وإفراد ال (نَخْلٍ) لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)(١٥٢)

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) بطرين أو حاذقين من الفراهة وهي النشاط ، فإن الحاذق يعمل

١٤٦

بنشاط وطيب قلب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين» وهو أبلغ من «فارهين».

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) استعير الطاعة الّتي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر ، أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازا.

(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وصف موضح لإسرافهم ولذلك عطف : (وَلا يُصْلِحُونَ) على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٥٤)

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقلهم ، أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تأكيدا له. (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٥٨)

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ) أي بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها. (لَها شِرْبٌ) نصيب من الماء كالسقي وألقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم. (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) كضرب وعقر. (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عظم اليوم لعظم ما يحل فيه ، وهو أبلغ من تعظيم العذاب.

(فَعَقَرُوها) أسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ولذلك أخذوا جميعا. (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) على عقرها خوفا من حلول العذاب لا توبة ، أو عند معاينة العذاب ولذلك لم ينفعهم.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي العذاب الموعود. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب ، وأن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(١٦٣)

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ(١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) (١٦٦)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم ، أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة الإناث فيهم كأنهن قد أعوزنكم ، فالمراد ب (الْعالَمِينَ) على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس.

١٤٧

(وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ) لأجل استمتاعكم. (رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) للبيان إن أريد به جنس الإناث ، أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن فيكون تعريضا بأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضا. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات ، أو مفرطون في المعاصي وهذا من جملة ذاك ، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان لارتكابكم هذه الجريمة.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)(١٦٨)

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عما تدعيه أو عن نهينا وتقبيح أمرنا. (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من المنفيين من بين أظهرنا ، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وسوء حال.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) من المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد ، وهو أبلغ من أن يقول (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ) قال لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه من جملتهم.

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ)(١٧١)

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي من شؤمه وعذابه.

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) أهل بيته والمتبعين له على دينه بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.

(إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط. (فِي الْغابِرِينَ) مقدرة في الباقين في العذاب إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم. وقيل كائنة فيمن بقي في القرية فإنها لم تخرج مع لوط.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٧٥)

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) وقيل أمطر الله على شذاذ القوم حجارة فأهلكهم. (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٠)

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ)(١٨١)

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة فبعث الله إليهم شعيبا كما بعثه إلى مدين وكان أجنبيا منهم فلذلك قال :

(إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) ولم يقل أخوهم شعيب. وقيل الأيكة شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «ليكة» بحذف الهمزة وإبقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدتهم ، وإنما كتبت ها هنا وفي ص بغير ألف اتباعا للفظ.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).

١٤٨

(أَوْفُوا الْكَيْلَ) أتموه. (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)(١٨٤)

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان السوي ، وهو وإن كان عربيا فإن كان من القسط ففعلاس بتكرير العين وإلا ففعلال. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ولا تنقصوا شيئا من حقوقهم. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) بالقتل والغارة وقطع الطريق.

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٨٧)

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه. (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) في دعواك.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) قطعة منها ، ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد. وقرأ حفص بفتح السين. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك.

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٩٠)

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) وبعذابه منزل عليكم ما أوجبه لكم عليه في وقته المقدر له لا محالة.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) على نحو ما اقترحوا بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم وأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(١٩٦)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدا للمكذبين به ، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به ، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان إبتلاء لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).

(عَلى قَلْبِكَ) تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله عزوجل ، والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد به العضو فتخصيصه ، لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق ، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة ، و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) جبريل عليه‌السلام فإنه أمين الله على وحيه. وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ونصب (الرُّوحُ الْأَمِينُ). (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك.

١٤٩

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق ب (نَزَلَ) ، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمّد عليهم الصلاة والسلام.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة.

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩)

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) على صحة القرآن أو نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم وهو تقرير لكونه دليلا. وقرأ ابن عامر تكن بالتاء و (آيَةً) بالرفع على أنها الاسم والخبر (لَهُمْ) و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل أو الفاعل و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل (لَهُمْ) حال ، أو أن الاسم ضمير القصة و (آيَةً) خبر (أَنْ يَعْلَمَهُ) والجملة خبر تكن.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) كما هو زيادة في إعجازه أو بلغة العجم.

(فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) لفرط عنادهم واستكبارهم ، أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم ، و (الْأَعْجَمِينَ) جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ)(٢٠٣)

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أدخلناه. (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) والضمير للكفر المدلول عليه بقوله (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) فتدل الآية على أنه بخلق الله ، وقيل للقرآن أي أدخلناه فيها فعرفوا معانيه وإعجازه ثم لم يؤمنوا به عنادا.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الملجئ إلى الإيمان.

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) في الدنيا والآخرة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) تحسرا وتأسفا.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ)(٢٠٧)

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) فيقولون أمطر علينا حجارة من السماء ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) ، وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة.

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)(٢٠٩)

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) أنذروا أهلها إلزاما للحجة.

(ذِكْرى) تذكرة ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإنذار ، أو الرفع على أنها صفة

١٥٠

(مُنْذِرُونَ) بإضمار ذوو ، أو بجعلهم ذكرى لإمعانهم في التذكرة ، أو خبر محذوف والجملة اعتراضية. (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك غير الظالمين ، أو قبل الإنذار.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)(٢١٣)

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة.

(وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) وما يصح لهم أن يتنزلوا به. (وَما يَسْتَطِيعُونَ) وما يقدرون.

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) لكلام الملائكة. (لَمَعْزُولُونَ) لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) تهييج لازدياد الإخلاص ولطف لسائر المكلفين.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٢١٦)

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم. روي أنه لما نزلت صعد الصفا وناداهم فخذا فخذا حتى اجتمعوا إليه فقال : «لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقيّ» قالوا نعم قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لين جانبك لهم مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط ، و (مِنَ) للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره ، أو للتبعيض على أن المراد (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المشارفون للإيمان أو المصدقون باللسان.

(فَإِنْ عَصَوْكَ) ولم يتبعوك. (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) مما تعملونه أو من أعمالكم.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢٢٠)

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) الّذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم. وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» على الإبدال من جواب الشرط.

(الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) إلى التهجد.

(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وترددك في تصفح أحوال المجتهدينكما روي أنه عليه‌السلام لما نسخ قيام فرض الليل طاف عليه‌السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم ، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن. أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم ، وإنما وصفه الله تعالى بعلمه بحاله الّتي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه تحقيقا للتوكل وتطمينا لقلبه عليه.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله. (الْعَلِيمُ) بما تنويه.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ

١٥١

كاذِبُونَ)(٢٢٣)

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين : أحدهما أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإثم ، فإن اتصال الإنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف ذلك. وثانيهما قوله :

(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونا وأمارات لنقصان علمهم ، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» ولا كذلك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها ، وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى : (كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ). والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم ، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم.

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)(٢٢٦)

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وأتباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا كذلك ، وهو استئناف أبطل كونه عليه الصلاة والسلام شاعرا وقرره بقوله :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها ، وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه ، وإليه أشار بقوله :

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى ، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين ، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحال أربابهما. وقرأ نافع (يَتَّبِعُهُمُ) على التخفيف ، وقرئ بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته ، ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان «قل وروح القدس معك». وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام قال له «اهجهم فو الّذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل» (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ وفي الذين ظلموا من الإطلاق والتعميم ، وفي أي منقلب ينقلبون أي بعد الموت من الإيهام والتهويل ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما حين عهد

١٥٢

إليه ، وقرئ «أي منفلت ينفلتون» من الانفلات وهو النجاة والمعنى : أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمّد عليهم الصلاة والسلام».

١٥٣

(٢٧) سورة النمل

مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٣)

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى آي السورة ، والكتاب المبين إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه ، وتأخيره باعتباره تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود ، أو القرآن وإبانته لما أودع فيه من الحكم والأحكام ، أو لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى وتنكيره للتعظيم. وقرئ وكتاب بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) حالان من ال (آياتُ) والعامل فيهما معنى الإشارة ، أو بدلان منها أو خبران آخران أو خبران لمحذوف.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف ، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم الأوحدون فيه ، أو جملة اعتراضية كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة ، فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق على المحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(٦)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس ، أو الأعمال الحسنة الّتي وجب عليهم أن يعملوها بترتيب المثوبات عليها. (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) عنها لا يدركون ما يتبعها من ضر أو نفع.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) كالقتل والأسر يوم بدر. (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لتؤتاه. (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي حكيم وأي عليم ، والجمع بينهما مع أن العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والإشعار بأن علوم القرآن منها ما هي حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات ، ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله :

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)(٧)

١٥٤

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي اذكر قصته (إِذْ قالَ) ويجوز أن يتعلق ب (عَلِيمٍ). (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي عن حال الطريق لأنه قد ضله ، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل ، والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ. (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) شعلة نار مقبوسة ، وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبسا وغير قبس ، ونونه الكوفيون ويعقوب على أن ال (قَبَسٍ) بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس ، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في «طه» ، والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم ، أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعادة الله تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩)

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي (بُورِكَ) فإن النداء فيه معنى القول ، أو ب (أَنْ بُورِكَ) على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة. (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها مَنْ) في مكان (النَّارِ) وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من في تلك الأرض ، وفي ذلك الوادي وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا وخصوصا تلك البقعة الّتي كلم الله فيها موسى. وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون ، وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم.

(وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر ، أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ) الهاء للشأن و (أَنَا اللهُ) جملة مفسرة له ، أو للمتكلم و (أَنَا) خبره و (اللهُ) بيان له. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره ، يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١)

(وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على (بُورِكَ) أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك ، ويدل عليه قوله (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) بعد قوله (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) بتكرير أن. (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرك باضطراب. (كَأَنَّها جَانٌ) حية خفيفة سريعة ، وقرئ «جأن» على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار ، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى ، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه.

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم ، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضا ، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي. وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي من ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة.

١٥٥

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(١٢)

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها. وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) آفة كبرص. (فِي تِسْعِ آياتٍ) في جملتها أو معها على أن التسع هي ، الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحدا ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون. أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإرسال فيتعلق به. (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثا أو مرسلا. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل للإرسال.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١٤)

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) بأن جاءهم موسى بها. (مُبْصِرَةً) بينة اسم فاعل أطلق للمفعول ، إشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر ، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلا عن أن تهدي ، أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها. وقرئ «مبصرة» أي مكانا يكثركم فيه التبصر. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح سحريته.

(وَجَحَدُوا بِها) وكذبوا بها. (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) وقد استيقنتها لأن الواو للحال. (ظُلْماً) لأنفسهم. (وَعُلُوًّا) ترفعا عن الإيمان وانتصابهما على العلة من (جَحَدُوا). (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٥)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) طائفة من العلم وهو علم الحكم والشرائع ، أو علما أي علم. (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) عطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال : ففعلا شكرا له ما فعلا (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ). (الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني من لم يؤت علما أو مثل علمهما ، وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الّذي لم يؤت غيرهما ، وتحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)(١٧)

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر. (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تشهيرا لنعمة الله وتنويها بها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة الّتي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه ، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه ، أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد ، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ،

١٥٦

ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الّذي صوته والغرض الّذي توخاه به. ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال : يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، وصاحت فاختة فقال : إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا ، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب ، والضمير في (عُلِّمْنا وَأُوتِينا) له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة ، والمراد (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كثرة ما أوتي كقولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) الّذي لا يخفى على أحد.

(وَحُشِرَ) وجمع (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا.

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) واد بالشأم كثير النمل ، وتعدية الفعل إليه ب (عَلى) إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعه من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي. (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها ، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) نهي لهم عن الحطم ، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء. وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها ، وسرورا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره. (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه ، وقرأ البزي وورش بفتح ياء (أَوْزِعْنِي). (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أدرج فيه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها ، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) إتماما للشكر واستدامة للنعمة. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) في عدادهم الجنة.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٢١)

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد. (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال : ما لي لا أراه ، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له.

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) كنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص. (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ليعتبر به أبناء جنسه. (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة تبين عذره ، والحلف في الحقيقة

١٥٧

على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما ، وقرأ ابن كثير أو «ليأتينني» بنونين الأولى مفتوحة مشددة.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٢٢)

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه ، وقرأ عاصم بفتح الكاف. (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعني حال سبأ ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه ، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق. (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو وغير مصروف على تأويل القبيلة أو البلدة والقواس بهمزة ساكنة. (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء. وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء. فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها.

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)(٢٤)

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان ، والضمير لسبأ أو لأهلها. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها. وقيل كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين عرضا وسمكا ، أو ثمانين في ثمانين من ذهب وفضة مكللا بالجواهر.

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) كأنهم كانوا يعبدونها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن سبيل الحق والصواب. (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إليه.

(أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٢٦)

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من (أَعْمالَهُمْ) ، أو (لا يَهْتَدُونَ) إلى أن يسجدوا بزيادة لا. وقرأ الكسائي ويعقوب ألا بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :

وقالت ألا يا اسمع أعظك بخطّة

فقلت سميعا فانطقي وأصيبي

وعلى هذا صح أن يكون استئنافا من الله أو من سليمان والوقف على (لا يَهْتَدُونَ) ، فيكون أمرا بالسجود وعلى الأول ذما على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها ، وقرئ «هلا» و «هلا» بقلب الهمزة هاء و «ألا تسجدون» و «هلا تسجدون» على الخطاب. (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثا على سجوده وردا على من يسجد لغيره ، و (الْخَبْءَ) ما خفي في غيره

١٥٨

وإخراجه إظهاره ، وهو يعم إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الإنشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإبداع ، فإنه إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته. وقرأ حفص والكسائي (ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) بالتاء.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الّذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٢٨)

(قالَ سَنَنْظُرُ) سنعرف من النظر بمعنى التأمل. (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أم كذبت والتغيير للمبالغة ومحافظة الفواصل.

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه. (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(٣١)

(قالَتْ) أي بعد ما ألقى إليها. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لكرم مضمونه أو مرسله ، أو لأنه كان مختوما أو لغرابة شأنه إذ كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به.

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) استئناف كأنه قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه ، أي إن الكتاب أو العنوان من سليمان (وَإِنَّهُ) أي وإن المكتوب أو المضمون. وقرئ بالفتح على الإبدال من (كِتابٌ) أو التعليل لكرمه. (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) أن مفسرة أو مصدرية فتكون بصلتها خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلوا أو بدل من (كِتابٌ). (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) مؤمنين أو منقادين ، وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود ، لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع تعالى وصفاته صريحا أو التزاما ، والنهي عن الترفع الّذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل ، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ)(٣٣)

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أجيبوني في أمري الفتي واذكروا ما تستصوبون فيه. (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) ما أبت أمرا. (حَتَّى تَشْهَدُونِ) إلا بمحضركم استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإجابة.

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) بالأجساد والعدد. (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) نجدة وشجاعة. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) موكول. (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) من المقاتلة أو الصلح نطعك ونتبع رأيك.

(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي

١٥٩

مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٣٥)

(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وغلبة. (أَفْسَدُوها) تزييف لما أحست منهم من الميل إلى المقاتلة بادعائهم القوى الذاتية والعرضية ، وإشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم ، ثم أن الحرب سجال لا تدرى عاقبتها. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الإهانة والأسر. (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة ، أو تصديق لها من الله عزوجل.

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) بيان لما ترى تقديمه في المصالحة ، والمعنى إني مرسلة رسلا بهدية أدفعه بها عن ملكي. (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) من حاله حتى أعمل بحسب ذلك. روي أنها بعثت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معهم غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان ، وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وقالت : إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا ، فلما وصلوا إلى معسكره ورأوا عظمة شأنه تقاصرت إليهم نفوسهم ، فلما وقفوا بين يديه وقد سبقهم جبريل بالحال فطلب الحق وأخبر عما فيه ، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء فأخذت الخيط ونفذت في الجزعة ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ(٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧)

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي الرسول أو ما أهدت إليه وقرئ «فلما جاءوا». (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) خطاب للرسول ومن معه ، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب. وقرأ حمزة ويعقوب بالإدغام وقرئ بنون واحدة وبنونين وحذف الياء. (فَما آتانِيَ اللهُ) من النبوة والملك الّذي لا مزيد عليه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها وبإمالتها الكسائي وحده. (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي. (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) لأنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فتفرحون بما يهدى إليكم حبا لزيادة أموالكم ، أو بما تهدونه افتخارا على أمثالكم ، والإضراب عن إنكار الإمداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان السبب الّذي حملهم عليه ، وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها. (ارْجِعْ) أيها الرسول. (إِلَيْهِمْ) إلى بلقيس وقومها. (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ «بهم». (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) من سبأ. (أَذِلَّةً) بذهاب ما كانوا فيه من العز. (وَهُمْ صاغِرُونَ) أسراء مهانون.

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)(٣٩)

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة ، ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟. (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها.

(قالَ عِفْرِيتٌ) خبيث مارد. (مِنَ الْجِنِ) بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه ، وكان اسمه ذكوان أو صخرا. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف

١٦٠