أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

الضمير ، وعن ابن كثير بالياء أي : (كَذَّبُوكُمْ) بقولهم (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا). فما يستطيعون أي المعبودون وقرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين. (صَرْفاً) دفعا للعذاب عنكم ، وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. (وَلا نَصْراً) يعينكم عليه. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أيها المكلفون. (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) هي النار والشرط وإن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا ، وهو التوبة والإحباط بالطاعة إجماعا وبالعفو عندنا.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إلا رسلا إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ، ويجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ). وقرئ «يمشون» أي تمشيهم حوائجهم أو الناس. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ) أيها الناس. (لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم ، وهو تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قالوه بعد نقضه ، وفيه دليل على القضاء والقدر. (أَتَصْبِرُونَ) علة للجعل والمعنى (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أو حث على الصبر على ما افتتنوا به. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلي به وغيره.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)(٢١)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ) لا يأملون. (لِقاءَنا) بالخير لكفرهم بالبعث ، أولا يخافون (لِقاءَنا) بالشر على لغة تهامة ، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي ، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول. (لَوْ لا) هلا. (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فتخبرنا بصدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل فيكونوا رسلا إلينا. (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيأمرنا بتصديقه واتباعه. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك. (وَعَتَوْا) وتجاوزوا الحد في الظلم. (عُتُوًّا كَبِيراً) بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها ، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية ، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله :

وجارة جسّاس أبأنا بنابها

كليبا علت ناب كليب بواؤها

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٢٣)

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) ملائكة الموت أو العذاب ، و (يَوْمَ) نصب باذكر أو بما دل عليه. (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها ، و (يَوْمَئِذٍ) تكرير أو خبر و (لِلْمُجْرِمِينَ) تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام ، أو ل (بُشْرى) إن قدرت منونة غير مبنية مع (لا) فإنها لا تعمل ، و (لِلْمُجْرِمِينَ) إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان ولا يلزم من نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر ، وإما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلا على جرمهم

١٢١

وإشعارا بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابلها. (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) عطف على المدلول أي ويقول الكفرة حينئذ ، هذه الكلمة استعاذة وطلبا من الله تعالى أن يمنع لقاءهم وهي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه ، أو تقولها الملائكة بمعنى حراما محرما عليكم الجنة أو البشرى. وقرئ «حجرا» بالضم وأصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك وعمرك ولذلك لا يتصرف فيه ولا يظهر ناصبه ، ووصفه ب (مَحْجُوراً) للتأكيد كقولهم : موت مائت.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره ، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثرا ، وال (هَباءً) غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ، و (مَنْثُوراً) صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتثاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم الّتي كانوا يتوجهون به نحوها ، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(٢٤)

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) مكانا يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس والتحادث. (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) مكانا يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزا له من مكان القيلولة على التشبيه ، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبا إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حسن الصور وغيره من التحاسين ، ويحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة ، والتفضيل إما لإرادة الزيادة مطلقا أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا. روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً)(٢٦)

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) أصله تتشقق فحذفت التاء ، وأدغمها ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب.

(بِالْغَمامِ) بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام المذكور في قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ). (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد ، وقرأ ابن كثير «وننزل» وقرئ «ونزلت» «وأنزل» «ونزل الملائكة» بحذف نون الكلمة.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه فهو الخبر و (لِلرَّحْمنِ) صلته ، أو تبيين و (يَوْمَئِذٍ) مفعول (الْمُلْكُ) لا (الْحَقُ) لأنه متأخر أو صفته والخبر (يَوْمَئِذٍ) أو (لِلرَّحْمنِ). (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) شديدا.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) من فرط الحسرة ، وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما ، والمراد ب (الظَّالِمُ) الجنس. وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل ، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال : لا ، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه

١٢٢

فشهدت له ، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله وطعن أبيا بأحد في المبارزة فرجع إلى مكة ومات. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) طريقا إلى النجاة أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.

(يا وَيْلَتى) وقرئ بالياء على الأصل. (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني من أضله وفلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول ، أو كلمة الشهادة. (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وتمكنت منه. (وَكانَ الشَّيْطانُ) يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول ، أو كل من تشيطن من جن وإنس. (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه ، فعول من الخذلان.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)(٣١)

(وَقالَ الرَّسُولُ) محمّد يومئذ أو في الدنيا بثا إلى الله تعالى. (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) قريشا. (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) بأن تركوه وصدوا عنه ، وعنه عليه الصلاة والسلام «من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين ، فيكون أصله (مَهْجُوراً) فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول ، وفيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا ، وفيه دليل على أنه خالق الشر ، والعدو يحتمل الواحد والجمع. (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) إلى طريق قهرهم. (وَنَصِيراً) لك عليهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً)(٣٢)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله : (جُمْلَةً واحِدَةً) دفعة واحدة كالكتب الثلاثة ، وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي كذلك أنزلناه مفرقا لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه ، لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة والسلام أميا وكانوا يكتبون ، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه ، ولعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئا فشيئا ، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى ، ولأنه إذا نزل منجما وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه ، ولأنه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤاده ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية ، فإنه يعين على البلاغة ، وكذلك صفة مصدر محذوف والإشارة إلى إنزاله مفرقا فإنه مدلول عليه بقوله (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالا والإشارة إلى الكتب السابقة ، واللام على الوجهين متعلق بمحذوف. (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) وقرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها.

١٢٣

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الدامغ له في جوابه. (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وبما هو أحسن بيانا أو معنى من سؤالهم ، أو (لا يَأْتُونَكَ) بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفا لما بعثت له.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي مقلوبين أو مسحوبين عليها ، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها. وعنه عليه الصلاة والسلام «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف ، صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه» وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبدأ خبره. (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) والمفضل عليه هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا وأضل سبيلا ، وقيل إنه متصل بقوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٣٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) يوازره في الدعوة وإعلاء الكلمة ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة ، لأن المتشاركين في الأمر متوازرون عليه.

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) يعني فرعون وقومه. (بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم ، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم والتعقيب باعتبار الحكم لا الوقوع ، وقرئ «فدمرتهم» «فدمراهم» «فدمرانهم» على التأكيد بالنون الثقيلة.

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) كذبوا نوحا ومن قبله ، أو نوحا وحده ولكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو بعثة الرسل مطلقا كالبراهمة. (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان. (وَجَعَلْناهُمْ) وجعلنا إغراقهم أو قصتهم. (لِلنَّاسِ آيَةً) عبرة. (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) يحتمل التعميم والتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر تظليما لهم.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً)(٣٩)

(وَعاداً وَثَمُودَ) عطف على هم في (جَعَلْناهُمْ) أو على «الظالمين» لأن المعنى ووعدنا الظالمين ، وقرأ حمزة وحفص «وثمود» على تأويل القبيلة. (وَأَصْحابَ الرَّسِ) قوم كان يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه ، فبينما هم حول الرس وهي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم. وقيل (الرَّسِ) قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا. وقيل الأخدود وقيل بئر بأنطاكية قتلوا

١٢٤

فيها حبيبا النجار ، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون ، وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الّذي يقال له فتخ أو دمخ وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد ، ولذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا. وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر. (وَقُرُوناً) وأهل أعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون. (بَيْنَ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر. (كَثِيراً) لا يعلمها إلا الله.

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين إنذارا وإعذارا فلما أصروا أهلكوا كما قال : (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) فتتناه تفتيتا ومنه التبر لفتات الذهب والفضة ، (وَكُلًّا) الأول منصوب بما دل عليه (ضَرَبْنا) كأنذرنا والثاني ب (تَبَّرْنا) لأنه فارغ.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠)

(وَلَقَدْ أَتَوْا) يعني قريشا مروا مرارا في متاجرهم إلى الشام. (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني سدوم عظمى قرى قوم لوط أمطرت عليها الحجارة. (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في مرار مرورهم فيتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله. (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورا ولا عاقبة فلذلك لم ينظروا ولم يتعظوا فمروا بها كما مرت ركابهم ، أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب ، أو لا يخافونه على اللغة التهامية.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٢)

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) محكي بعد قول مضمر والإشارة للاستحقار ، وإخراج بعث الله رسولا في معرض التسليم يجعله صلة وهم على غاية الإنكار تهكم واستهزاء ولولاه لقالوا أهذا الّذي زعم أنه بعثه الله رسولا.

(إِنْ) إنه (كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج ومعجزات. (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها و (لَوْ لا) في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) كالجواب لقولهم (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) فإنه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له ، وفيه وعيد ودلالة على أنه لا يهملهم وإن أمهلهم.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة ولا يبصر دليلا ، وإنما قدم المفعول الثاني للعناية به. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) حفيظا تمنعه عن الشرك والمعاصي وحاله هذا فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب والثاني للإنكار.

(أَمْ تَحْسَبُ) بل أتحسب. (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) فتجدي لهم الآيات أو الحجج فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم ، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه ، وتخصيص الأكثر لأنه كان

١٢٥

منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استكبارا وخوفا على الرئاسة. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات. (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من الأنعام لأنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الّذي هو أشد المضار ، ولأنها إن لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا لم تعتقد باطلا ولم تكتسب شرا ، بخلاف هؤلاء ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن وصد الناس عن الحق ، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً)(٤٦)

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ألم تنظر إلى صنعه. (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) كيف بسطه أو ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك ، فغير النظم إشعارا بأنه المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه ، أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل وهو فيما بين طلوع الفجر والشمس وهو أطيب الأحوال ، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر وشعاع الشمس : يسخن الجو ويبهر البصر ، ولذلك وصف به الجنة فقال (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ). (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) ثابتا من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع فيقع ضوؤها على بعض الأجرام ، أو لا يوجد ولا يتفاوت إلا بسبب حركتها.

(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن إحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي هو في معنى الكف. (قَبْضاً يَسِيراً) قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق ، و (ثُمَ) في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها ، وقيل (مَدَّ الظِّلَ) لما بنى السماء بلا نير ، ودحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس عليه دليلا ، أي مسلطا عليه مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول ، أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها ويتحول بتحولها ، (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) شيئا فشيئا إلى أن تنتهي غاية نقصانه ، أو (قَبْضاً) سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه من الأجرام المظلة والمظل عليها.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً)(٤٧)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) شبه ظلامه باللباس في ستره. (وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة للأبدان بقطع المشاغل ، وأصل السبت القطع أو موتا كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) لأنه قطع الحياة ومنه المسبوت للميت. (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش ، أو بعث من النوم بعث الأموات فيكون إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان عليه‌السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر.

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ

١٢٦

بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩)

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وقرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس. (نَشْراً) ناشرات للحساب جمع نشور ، وقرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف وحمزة والكسائي به وبفتح النون على أنه مصدر وصف به وعاصم (بُشْراً) تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني قدام المطر. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) مطهرا لقوله (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ). وهو اسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به. قال عليه الصلاة والسلام «التراب طهور المؤمن» ، «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب». وقيل بليغا في الطهارة وفعول وإن غلب في المعنيين لكنه قد جاء للمفعول كالضبوث وللمصدر كالقبول وللاسم كالذنوب ، وتوصيف الماء به إشعارا بالنعمة فيه وتتميم للمنة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته ، وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها فبواطنهم بذلك أولى.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) بالنبات وتذكير (مَيْتاً) لأن البلدة في معنى البلد ، ولأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجري مجرى الجامد. (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) يعني أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا ولذلك نكر الأنعام والأناسي ، وتخصيصهم لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار ، والمنافع فيهم وبما حولهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا مع أن مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة ، فهو لتعداد أنواع النعمة والأنعام قنية الإنسان وعامة منافعهم وعلية معايشهم منوطة بها ، ولذلك قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها ، وقرئ «نسفيه» بالفتح وسقى وأسقى لغتان ، وقيل أسقاه جعل له سقيا «وأناسي» بحذف ياء وهو جمع انسي أو إنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)(٥٠)

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب ، أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «ما عام أمطر من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء وتلا هذه الآية» أو في الأنهار والمنافع. (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره ، أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها ، أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ، ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا بخلاف من يرى أنها من خلق الله ، والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢)

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) نبيا ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك وتعظيما لشأنك وتفضيلا لك على سائر الرسل ، فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يريدونك عليه ، وهو تهييج له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) بالقرآن أو بترك طاعتهم الّذي يدل عليه فلا تطع ، والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك فقابلهم

١٢٧

بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. (جِهاداً كَبِيراً) لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف ، أو لأن مخالفتهم ومعاداتهم فيما بين أظهرهم مع عتوهم وظهورهم ، أو لأنه جهاد مع كل الكفرة لأنه مبعوث إلى كافة القرى.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً)(٥٣)

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها. (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) قامع للعطش من فرط عذوبته. (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بليغ الملوحة ، وقرئ «ملح» على فعل ولعل أصله مالح فخفف كبرد في بارد. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا من قدرته. (وَحِجْراً مَحْجُوراً) وتنافرا بليغا كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه ، وقيل حدا محدودا وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها ، وقيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل وبالبحر الملح البحر الكبير وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصفة مع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت وتلاصقت وتشابهت في الكيفية.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً)(٥٥)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) يعني الّذي خمر به طينة آدم ، أو جعله جزءا من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة ، أو النطفة. (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم ، وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين ، وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) يعني الأصنام أو كل ما عبد من دون الله إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك والمراد ب (الْكافِرُ) الجنس أو أبو جهل. وقيل هينا مهينا لا وقع له عنده من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك فيكون كقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ).

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) للمؤمنين والكافرين.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ الرسالة الّذي يدل عليه (إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً). (مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ) إلا فعل من شاء. (أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أن يتقرب إليه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة ، فصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود فعله واستثناه منه قلعا لشبهة الطمع وإظهارا لغاية الشفقة ، حيث اعتد بإنفاعك نفسك بالتعرض للثواب والتخلص عن العقاب أجرا وافيا مرضيا به مقصورا عليه ، وإشعارا بأن طاعتهم تعود عليه بالثواب من حيث إنها بدلالته. وقيل الاستثناء منقطع معناه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل.

١٢٨

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٥٩)

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) في استكفاء شرورهم والإغناء عن أجورهم ، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بأوصاف الكمال طالبا لمزيد الأنعام بالشكر على سوابغه. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ) ما ظهر منها وما بطن. (خَبِيراً) مطلعا فلا عليك أن آمنوا أو كفروا.

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) قد سبق الكلام فيه ، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه ، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج ، و (الرَّحْمنُ) خبر للذي إن جعلته مبتدأ ولمحذوف إن جعلته صفة للحي ، أو بدل من المستكن في (اسْتَوى) وقرئ بالجر صفة للحي. (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته وهو الله تعالى ، أو جبريل أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه ، وقيل الضمير للرحمن والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون (الرَّحْمنُ) مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء. وقيل إنه صلة (خَبِيراً).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(٦١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله ، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره ولذلك قالوا : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي للذي تأمرناه يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرفان. وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه. وقرأ حمزة والكسائي «يأمرنا» بالياء على أنه قول بعضهم لبعض. (وَزادَهُمْ) أي الأمر بالسجود (لِلرَّحْمنِ). (نُفُوراً) عن الإيمان.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) يعني البروج الاثني عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها واشتقاقه من التبرج لظهوره. (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) يعني الشمس لقوله (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً). وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» وهي الشمس والكواكب الكبار. (وَقَمَراً مُنِيراً) مضيئا بالليل ، وقرئ «وقمرا» أي ذا قمر وهو جمع قمراء ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه ، أو بأن يعتقبا لقوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). وهي للحالة من خلف كالركبة والجلسة. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) بأن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد. (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم ، أو ليكونا وقتين للمتذكرين الشاكرين من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخرة ، وقرأ حمزة (أَنْ يَذَّكَّرَ) من ذكر بمعنى تذكر وكذلك ليذكروا ووافقه الكسائي فيه.

١٢٩

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤)

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ خبره (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أو : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ) وإضافتهم إلى (الرَّحْمنِ) للتخصيص والتفضيل ، أو لأنهم الراسخون في عبادته على أن عباد جمع عابد كتاجر وتجار. (هَوْناً) هينين أو مشيا هينا مصدر وصف به والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) تسلما منكم ومتاركة لكم لا خير بيننا ولا شر ، أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم ، ولا ينافيه آية القتال لتنسخه فإن المراد به الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) في الصلاة ، وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأبعد عن الرياء وتأخير القيام للروي وهو جمع قائم أو مصدر أجري مجراه.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٦٦)

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) لازما ومنه الغريم لملازمته ، وهو إيذان بأنهم مع حسن مخالطتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق وجلون من العذاب مبتهلون إلى الله تعالى في صرفه عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم.

(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي بئست مستقرا ، وفيها ضمير مبهم يفسره المميز والمخصوص بالذم ضمير محذوف به ترتبط الجملة باسم إن ، أو أحزنت وفيها ضمير اسم إن ومستقرا حال أو تمييز والجملة تعليل للعلة الأولى أو تعليل ثان وكلاهما يحتملان الحكاية والابتداء من الله.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٦٧)

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) لم يجاوزوا حد الكرم. (وَلَمْ يَقْتُرُوا) ولم يضيقوا تضييق الشحيح.

وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر ، وقرئ بالتشديد والكل واحد. (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وسطا عدلا سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما ، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة ، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغوا ، وقيل إنه اسم (كانَ) لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً)(٦٩)

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي حرمها بمعنى حرم قتلها. (إِلَّا بِالْحَقِ) متعلق القتل المحذوف ، أو بلا يقتلون (وَلا يَزْنُونَ) نفى عنهم أمهات المعاصي بعد ما أثبت لهم أصول الطاعات إظهارا لكمال إيمانهم وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك ، وتعريضا للكفرة بأضداده ولذلك عقبه بالوعيد تهديدا لهم فقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) جزاء إثم أو إثما بإضمار الجزاء ، وقرئ «أياما» أي شدائد يقال يوم ذو أيام أي صعب.

١٣٠

(يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بدل من (يَلْقَ) لأنه في معناه كقوله :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا

وقرأ أبو بكر بالرفع على الاستئناف أو الحال وكذلك : (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) وابن كثير ويعقوب يضعف بالجزم وابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد وحذف الألف في «يضعف» ، وقرئ «ويخلد» على بناء المفعول مخففا ، وقرئ مثقلا وتضعيف العذاب مضاعفته لانضمام المعصية إلى الكفر ويدل عليه قوله :

(إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً(٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً)(٧١)

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة. وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فلذلك يعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات.

(وَمَنْ تابَ) عن المعاصي بتركها والندم عليها. (وَعَمِلَ صالِحاً) يتلافى به ما فرط ، أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعة. (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ) يرجع إلى الله بذلك. (مَتاباً) مرضيا عند الله ماحيا للعقاب محصلا للثواب ، أو يتوب متابا إلى الله الّذي يحب التائبين ويصطنع بهم ؛ أو فإنه يرجع إلى الله وإلى ثوابه مرجعا حسنا وهو تعميم بعد تخصيص.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً)(٧٣)

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) لا يقيمون الشهادة الباطلة ، أو لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل شركة فيه. (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) ما يجب أن يلقى ويطرح. (مَرُّوا كِراماً) معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية فيما يستهجن التصريح به.

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بالوعظ أو القراءة. (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية ، فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل كقولك : لا يلقاني زيد مسلما. وقيل الهاء للمعاصي المدلول عليها (بِاللَّغْوِ).

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤)

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل ، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سر بهم قلبه وقرت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة ، و (مِنْ) ابتدائية أو بيانية كقولك : رأيت منك أسدا ، وقرأ حمزة وأبو عمرو والكسائي وأبو بكر «وذريتنا» وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص ويعقوب (وَذُرِّيَّاتِنا) بالألف ، وتنكير ال (أَعْيُنٍ) لإرادة تنكير ال (قُرَّةَ) تعظيما وتقليلها لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. (وَاجْعَلْنا

١٣١

لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل ، وتوحيده إما للدلالة على الجنس وعدم اللبس كقوله (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أو لأنه مصدر في أصله ، أو لأن المراد واجعل كل واحد منا ، أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم. وقيل جمع آم كصائم وصيام ومعناه قاصدين لهم مقتدين بهم.

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٧٦)

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أعلى مواضع الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) وللقراءة بها ، وقيل هي من أسماء الجنة. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات. (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) دعاء بالتعمير والسلامة أي يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه ، أو تبقية دائمة وسلامة من كل آفة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (يُلَقَّوْنَ) من لقي.

(خالِدِينَ فِيها) لا يموتون فيها ولا يخرجون. (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) مقابل (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) معنى ومثله إعرابا.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) ما يصنع بكم من عبأت الجيش إذا هيأته أو لا يعتد بكم. (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) لو لا عبادتكم فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء. وقيل معناه ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة وما إن جعلت استفهامية فمحلها النصب على المصدر كأنه قيل : أي عبء يعبأ بكم. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما أخبرتكم به حيث خالفتموه. وقيل فقد قصرتم في العبادة من قولهم : كذب القتال إذا لم يبالغ فيه. وقرئ «فقد كذب الكافرون» أي الكافرون منكم لأن توجه الخطاب إلى الناس عامة بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب. (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) يكون جزاء التكذيب لازما يحيق بكم لا محالة ، أو أثره لازما بكم حتى يكبكم في النار ، وإنما أضمر من غير ذكر للتهويل والتنبيه على أنه لا يكتنهه الوصف ، وقيل المراد قتل يوم بدر وأنه لوزم بين القتلى لزاما ، وقرئ «لزاما» بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفرقان لقي الله وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير نصب».

١٣٢

(٢٦) سورة الشعراء

مكية إلا قوله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى آخرها وهي مائتان وست أو

سبع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٣)

(طسم) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة ، ونافع بين بين كراهة للعود إلى الياء المهروب منها ، وأظهر نونه حمزة لأنه في الأصل منفصل عما بعده.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الظاهر إعجازه وصحته ، والإشارة إلى السورة أو القرآن على ما قرر في أول «البقرة».

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتل نفسك ، وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح ، وقرئ «باخع نفسك» بالإضافة ، ولعل للإشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة. (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٦)

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) دلالة ملجئة إلى الإيمان أو بلية قاسرة عليه. (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله. وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم. وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم ، وقرئ «خاضعة» وظلت عطف على (نُنَزِّلْ) عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) موعظة أو طائفة من القرآن. (مِنَ الرَّحْمنِ) يوحيه إلى نبيه. (مُحْدَثٍ) مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير. (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه.

(فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمنا في قوله : (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة. (أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من أنه كان حقا أم باطلا ، وكان حقيقا بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) أو لم ينظروا إلى عجائبها. (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (كَرِيمٍ)

١٣٣

محمود كثير المنفعة ، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى ، وهاهنا يحتمل أن تكون مقيدة لما يتضمن الدلالة على القدرة ، وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة إما وحده أو مع غيره ، و (كُلِ) لإحاطة الأزواج و (كَمْ) لكثرتها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) إن في إنبات تلك الأصناف أو في كل واحد. (لَآيَةً) على أن منبتها تام القدرة والحكمة ، سابغ النعمة والرحمة. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في علم الله وقضائه فلذلك لا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. (الرَّحِيمُ) حيث أمهلهم أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ)(١١)

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) مقدر باذكر أو ظرف لما بعده. (أَنِ ائْتِ) أي (ائْتِ) أو بأن (ائْتِ). (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم.

(قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل من الأول أو عطف بيان له ، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك. (أَلا يَتَّقُونَ) استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ، وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجرا لهم وغضبا عليهم ، وهم وإن كان غيبا حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم ، مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده ، وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإضافة ، ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله : ألا يا اسجدوا.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(١٤)

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة : خوف التكذيب ، وضيق القلب انفعالا عنه ، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق ، لأنها إذا اجتمعت مسة الحاجة إلى معين يقوى قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته ، وليس ذلك تعللا منه وتوقفا في تلقي الأمر ، بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه ، وقرأ يعقوب (وَيَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ) بالنصب عطفا على (يُكَذِّبُونِ) فيكونان من جملة ما خاف منه.

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي تبعة ذنب فحذف المضاف أو سمي باسمه ، والمراد قتل القبطي وإنما سماه ذنبا على زعمهم ، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به قبل أداء الرسالة ، وهو أيضا ليس تعللا وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة ، كما أن ذاك استمداد واستظهار في أمر الدعوة وقوله :

(قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٧)

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا) إجابة له إلى الطلبتين بوعده لدفع بلائهم اللازم ردعه عن الخوف ، وضم أخيه إليه في الإرسال ، والخطاب في (فَاذْهَبا) على تغليب الحاضر لأنه معطوف على الفعل الّذي يدل عليه

١٣٤

(كَلَّا) كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت والّذي طلبته. (إِنَّا مَعَكُمْ) يعني موسى وهارون وفرعون. (مُسْتَمِعُونَ) سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهر كما عليه ، مثل نفسه تعالى بمن حضر مجادلة قوم استماعا لما يجري بينهم وترقبا لإمداد أوليائه منهم ، مبالغة في الوعد بالإعانة ، ولذلك تجوز بالاستماع الّذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الّذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات ، وهو خبر ثان أو الخبر وحده (مَعَكُمْ) لغو.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به فإنه مشترك بين المرسل والرسالة ، قال الشاعر :

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول

ولذلك ثنى تارة وأفرد أخرى ، أو لاتحادهما للأخوة أو لوحدة المرسل والمرسل به ، أو لأنه أراد أن كل واحد منا.

(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإرسال المتضمن معنى القول ، والمراد خلهم ليذهبوا معنا إلى الشام.

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)(١٩)

(قالَ) أي فرعون لموسى بعد ما أتياه فقالا له ذلك. (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) في منازلنا. (وَلِيداً) طفلا سمي به لقربه من الولادة. (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين ، ثم بقي بعد الغرق خمسين.

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني قتل القبطي ، وبخه به معظما إياه بعد ما عدد عليه نعمته ، وقرئ فعلتك بالكسر لأنها كانت قتلة بالوكز. (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي حتى عمدت إلى قتل خواصي ، أو ممن تكفرهم الآن فإنه عليه‌السلام كان يعايشهم بالتقية فهو حال من إحدى التاءين ، ويجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه بأنه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة ، أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢٢)

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) من الجاهلين وقد قرئ به ، والمعنى من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه ، أو من الخاطئين لأنه لم يتعمد قتله ، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز لأنه أراد به التأديب ، أو الناسين من قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما).

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) حكمة. (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) رد أولا بذلك ما وبخه به قدحا في نبوته ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقا غير قادح في دعواه ، بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببا عنها فقال.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهرا ، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم ، فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك. وقيل إنه مقدر بهمزة الإنكار أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي (أَنْ عَبَّدْتَ) ، ومحل (أَنْ عَبَّدْتَ) الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل (نِعْمَةٌ) أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها. وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء

١٣٥

مبهمة و (أَنْ عَبَّدْتَ) عطف بيانها والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة (تَمُنُّها) علي ، وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده ، والخوف والفرار منه ومن ملئه.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)(٢٥)

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل.

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله :

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها ، فلها مبدئ واجب لذاته وذلك المبدئ لا بد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب ، أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله ، أو يزعم أنه (رَبُّ السَّماواتِ) وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية ، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(٢٨)

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل.

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر ، وسماه رسولا على السخرية.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) تشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الّذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لا ينهم أولا ، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)(٣٠)

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) عدولا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج ، واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله (أَلا تَسْتَمِعُونَ) من نسبة الربوبية إلى غيره ، ولعله كان دهريا اعتقد أن من ملك قطرا أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله ، واللام في (الْمَسْجُونِينَ) للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي ، يعني المعجزة فإنها

١٣٦

الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته ، فالواو للحال وليها الهمزة بعد حذف الفعل.

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(٣٣)

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أن لك بينة أو في دعواك ، فإن مدعي النبوة لا بدّ له من حجة.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر.

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها ، فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ)(٣٥)

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) مستقرين حوله فهو ظرف وقع موقع الحال. (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) فائق في علم السحر.

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(٣٨)

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي أخر أمرهما ، وقيل احبسهما. (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) شرطا يحشرون السحرة.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر وأبو عمرو والكسائي ، وقرئ «بكل ساحر».

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة.

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤٢)

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثا على مبادرتهم إليه كقول تأبط شرا :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق

أي ابعث أحدهما إلينا سريعا.

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة

١٣٧

المقتضية للاتباع ، ومقصودهم الأصلي أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء ، وقرئ «نعم» بالكسر وهما لغتان.

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)(٤٥)

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي بعد ما قالوا له (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) ، ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلا به إلى إظهار الحق.

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم ، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع ، وقرأ حفص تلقف بالتخفيف. (ما يَأْفِكُونَ) ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى ، أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)(٤٨)

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر ، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له ، وأن التبحر في كل فن نافع. وإنما بدل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم ، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل من «ألقي» بدل الاشتمال أو حال بإضمار قد.

(رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإشعار على أن الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(٤٩)

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فعلمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم ، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه ، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم أمنوا عن بصيرة وظهور حق ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح «أآمنتم» بهمزتين. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم وقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) بيان له.

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٥١)

(قالُوا لا ضَيْرَ) لا ضرر علينا في ذلك. (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء

١٣٨

للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى ، أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها.

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا) لأن كنا. (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) من أتباع فرعون ، أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير ، أو تعليل للعلة المتقدمة. وقرئ «إن كنا» على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة ، أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)(٥٢)

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) وذلك بعد سنين أقامها بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وفسادا ، وقرأ ابن كثير ونافع (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ «أن سر» من السير. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده وهو علة الأمر بالإسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)(٥٦)

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين أخبر بسراهم. (فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) العساكر ليتبعوهم.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) على إرادة القول وإنما استقلهم وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا بالإضافة إلى جنوده ، إذ روي أنه خرج وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة ، ومنها ثوب شراذم لما بلي وتقطع ، و (قَلِيلُونَ) باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم قليل.

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) لفاعلون ما يغيظنا.

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) وإنا لجمع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور ، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه ، أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كي لا يظن به ما يكسر سلطانه ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيون (حاذِرُونَ) والأول للثبات والثاني للتجدد ، وقيل الحاذر المؤدي في السلاح وهو أيضا من الحذر لأن ذلك إنما يفعل حذرا ، وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء قال :

أحبّ الصّبي السّوء من أجل أمّه

وأبغضه من بغضها وهو حادر

أو تامو السلاح فإن ذلك يوجب حدارة في أجسامهم.

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)(٦٠)

(فَأَخْرَجْناهُمْ) بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه. (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج أخرجنا فهو مصدر ، أو مثل ذلك المقام الّذي كان لهم على أنه صفة مقام ، أو الأمر كذلك فيكون خبر المحذوف. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

(فَأَتْبَعُوهُمْ) وقرئ «فاتبعوهم». (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشمس.

١٣٩

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ)(٦٤)

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر ، وقرئ «تراءت الفئتان» (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) لملحقون ، وقرئ «لمدركون» من أدرك الشيء إذا تتابع ففني ، أي : لمتتابعون في الهلاك على أيديهم.

(قالَ كَلَّا) لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم. (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بالحفظ والنصرة. (سَيَهْدِينِ) طريق النجاة منهم ، روي أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال : أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون ، فقال : أمرت بالبحر ولعلي أومر بما أصنع.

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) بحر القلزم أو النيل. (فَانْفَلَقَ) أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقا بينها مسالك. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب.

(وَأَزْلَفْنا) وقربنا. (ثَمَّ الْآخَرِينَ) فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم.

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦٨)

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) بإطباقه عليهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) وأية آية. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) وما تنبه عليها أكثرهم إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي في مصر من القبط ، وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) المنتقم من أعدائه. (الرَّحِيمُ) بأوليائه.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (٧١)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) على مشركي العرب. (نَبَأَ إِبْراهِيمَ).

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) فأطالوا جوابهم بشرح حالهم معه تبجحا به وافتخارا ، و «نظل» ها هنا بمعنى ندوم. وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(٧٤)

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) يسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة. (إِذْ تَدْعُونَ) عليه

١٤٠