أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

(لَوْ لا) هلا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعارا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم. وإنما جاز الفصل بين (لَوْ لا) وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره ، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كما يقول المستيقن المطلع على الحال.

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) من جملة المقول تقريرا لكونه كذبا فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حكمه ، ولذلك رتب الحد عليه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)(١٥)

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لولا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره ، والمعنى لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم الّتي من جملتها الإمهال للتوبة (وَرَحْمَتُهُ) في الآخرة بالعفو والمغفرة المقدران لكم. (لَمَسَّكُمْ) عاجلا. (فِيما أَفَضْتُمْ) خضتم. (فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه اللوم والجلد.

(إِذْ) ظرف (لَمَسَّكُمْ) أو (أَفَضْتُمْ). (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى القول كتلقفه وتلقنه ، قرئ «تتلقونه» على الأصل و (تَلَقَّوْنَهُ) من لقيه إذا لقفه و (تَلَقَّوْنَهُ) بكسر حرف المضارعة و (تَلَقَّوْنَهُ) من إلقائه بعضهم على بعض ، و (تَلَقَّوْنَهُ) و «تألقونه» من الألق والألق وهو الكذب ، و «تثقفونه» من ثقفته إذا طلبته فوجدته و «تقفونه» أي تتبعونه. (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) أي وتقولون كلاما مختصا بالأفواه بلا مساعدة من القلوب. (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) سهلا لا تبعة له. (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الوزر واستجرار العذاب ، فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم ، تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٨)

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا) ما ينبغي وما يصح لنا. (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) يجوز أن تكون الإشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه ، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعا فضلا عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (سُبْحانَكَ) تعجب من ذلك الإفك أو ممن يقول ذلك ، وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لكل متعجب ، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله : (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا. (أَبَداً) ما دمتم أحياء مكلفين. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يمنع عنه وفيه تهييج وتقريع.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأحوال كلها. (حَكِيمٌ) في تدابيره ولا يجوز الكشخنة على نبيه ولا يقرره عليها.

١٠١

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) يريدون (أَنْ تَشِيعَ) أن تنشر (الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بالحد والسعير إلى غير ذلك. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في الضمائر. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فعاقبوا في الدنيا على ما دل عليه الظاهر والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإشاعة.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة ولذا عطف قوله : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) على حصول فضله ورحمته عليهم وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بإشاعة الفاحشة ، وقرئ بفتح الطاء وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة بسكونها. (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) بيان لعلة النهي عن اتباعه ، و «الفحشاء» ما أفرط قبحه ، و «المنكر» ما أنكره الشرع. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها (ما زَكى) ما طهر من دنسها. (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) آخر الدهر. (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) بحمله على التوبة وقبولها. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهم. (عَلِيمٌ) بنياتهم.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٢)

(وَلا يَأْتَلِ) ولا يحلف افتعال من الألية ، أو ولا يقصر من الألو ، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا «يتأل». وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين. (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) في الدين. (وَالسَّعَةِ) في المال. وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه. (أَنْ يُؤْتُوا) على أن لا (يُؤْتُوا) ، أو في (أَنْ يُؤْتُوا). وقرئ بالتاء على الالتفات. (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفات لموصوف واحد ، أي ناسا جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك ، أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود. (وَلْيَعْفُوا) عما فرط منهم. (وَلْيَصْفَحُوا) بالإغماض عنه. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه. روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ(٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥).

١٠٢

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفائف. (الْغافِلاتِ) عما قذفن به. (الْمُؤْمِناتِ) بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعنا في الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين كابن أبي. (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لما طعنوا فيهن. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم ، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب ، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا توبة له ، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها.

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء للتقدم والفصل. (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها بغير اختيارهم ، أو بظهور آثاره عليها وفي ذلك مزيد تهويل للعذاب.

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) جزاءهم المستحق. (وَيَعْلَمُونَ) لمعاينتهم الأمر. (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) الثابت بذاته الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه ، أو ذو الحق البين أي العادل الظاهر عدله ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦)

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله : (أُولئِكَ) يعني أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم. (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه‌السلام ولم يقرر عليها ، وقيل (الْخَبِيثاتُ وَالطَّيِّباتُ) من الأقوال والإشارة إلى «الطيبين» والضمير في (يَقُولُونَ) للآفكين ، أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو (لِلْخَبِيثِينَ) و (الْخَبِيثاتُ) أي مبرؤون من أن يقولوا مثل قولهم. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يعني الجنة ، ولقد برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه‌السلام بشاهد من أهلها ، وموسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الّذي ذهب بثوبه ، ومريم بإنطاق ولدها ، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة ، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء منزلته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٢٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الّتي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضا لا يدخلان إلا بإذن. (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له ، أو من الاستئناس الّذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا له استأنس ، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الآنس. (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل. وعنه عليه الصلاة والسلام «التسليم أن يقول السلام عليكم ، أأدخل؟ ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل وإلا رجع». (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال : حييتم صباحا أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وروي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أأستأذن على أمي ، قال : نعم ، قال : إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ، قال : أتحب أن تراها عريانة ، قالا : لا ، قال : فاستأذن». (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم ، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا

١٠٣

وتعملوا بما هو أصلح لكم.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩)

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) يأذن لكم. (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور ، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ولا تلحوا. (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة ، أو أنفع لدينكم ودنياكم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) كالربط والحوانيت والخانات والخانقات. (فِيها مَتاعٌ) استمتاع. (لَكُمْ) كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة ، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٣٠)

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي ما يكون نحو محرم. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض ، وقيل حفظ الفروج ها هنا خاصة سترها. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها ، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون.

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١)

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له. (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجا ، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة

١٠٤

وتحمّل الشهادة. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) سترا لأعناقهن. وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كرره لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له. (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره. (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أو لأن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن ، وللعلماء في ذلك خلاف. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) يعم الإماء والعبيد ، لما روي «أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب ، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك». وقيل المراد بها. الإماء وعبد المرأة كالأجنبي منها. (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون ، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال. (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الإطلاع ، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلا في الرجال ، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) إذ لا يكاد يخلوا أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه ، في الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر ، وقرأ ابن عامر «أيه المؤمنون» وفي «الزخرف» يا أيه الساحر وفي «الرحمن» أيه الثقلان بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها ، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف ، ووقف الباقون بغير الألف. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بسعادة الدارين.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣٢)

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) لما نهى عما عسى أن يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة ، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما ، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى ، و «أيامى» مقلوب أيايم كيتامى ، جمع أيم وهو العزب ذكرا كان أو أنثى بكرا كان أو ثيبا قال :

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي

وإن كنت أفتى منكم أتأيّم

وتخصيص (الصَّالِحِينَ) لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم ، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه ، (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) رد لما عسى أن يمنع من النكاح ، والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح ، أو وعد من الله بالإغناء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اطلبوا الغنى في هذه الآية». لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ). (وَاللهُ واسِعٌ) ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته. (عَلِيمٌ) يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته.

١٠٥

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٣)

(وَلْيَسْتَعْفِفِ) وليجتهد في العفة وقمع الشهوة. (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أسبابه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه. (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فيجدوا ما يتزوجون به. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال ، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجما بنجوم بضم بعضها إلى بعض. (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عبدا كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره (فَكاتِبُوهُمْ) أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط ، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف ، وقد روي مثله مرفوعا. وقيل صلاحا في الدين. وقيل مالا وضعفه ظاهر لفظ ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز. (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئا من أموالهم ، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول. وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث ، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا ، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنيا ، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري ، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية». (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) إماءكم. (عَلَى الْبِغاءِ) على الزنا ، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعففا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه ، وإن جعل شرطا للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه ، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر. (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لهن أوله إن تاب ، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) يعني الآيات الّتي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود ، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر في هذا وفي «الطلاق» لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين ، أو لأنها بينت الأحكام والحدود. (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أو ومثلا من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم ، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) يعني ما وعظ به في تلك الآيات ، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها ؛ وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها

١٠٦

كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٣٥)

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما ، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك : زيد كرم بمعنى ذو كرم ، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء. أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم ، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه. أو الّذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكا فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات ، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل ، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون ، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما. (مَثَلُ نُورِهِ) صفة نوره العجيبة الشأن ، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره. (كَمِشْكاةٍ) كصفة مشكاة ، وهي الكوة الغير النافذة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة. (فِيها مِصْباحٌ) سراج ضخم ثاقب ، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل من الزجاج. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدرء وفعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه ، أو بعض ضوئه بعضا من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل ، وقراءة أبي عمرو والكسائي «دريء» كشريب وقد قرئ به مقلوبا. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها ، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى (الزُّجاجَةُ) بحذف المضاف ، وقرئ «توقد» من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) تقع الشمس عليها حينا بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة ، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى ، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون ، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها أو في مقيأة تغيب عنها دائما فتتركها نيئا وفي الحديث «لا خير في شجرة ولا نبات في مقيأة ولا خير فيهما في مضحى». (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه. (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته ، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه ، الأول : أنه تمثيل للهدى الّذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة ، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح ، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه ، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس ، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ، ويؤيده قراءة أبي : «مثل نور المؤمن» ، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة الّتي منوط بها المعاش والمعاد وهي : الحساسة الّتي تدرك بها المحسوسات

١٠٧

بالحواس الخمس ، والخيالية الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت ، والعاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلية ، والمفكرة وهي الّتي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم ، والقوة القدسية الّتي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي : «المشكاة» ، و «الزجاجة» ، و «المصباح» ، و «الشجرة» ، و «الزيت» ، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات ، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشمل عليه من المعقولات ، والعاقلة كالمصباح لإضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية ، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الّذي هو مادة المصابيح الّتي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية ، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين ، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم ، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة ، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار ، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت ، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإلهام الّذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه ، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح ، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور. (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) لهذا النور الثاقب. (مَنْ يَشاءُ) فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) إدناء للمعقول من المحسوس توضيحا وبيانا. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا ، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ(٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٨)

(فِي بُيُوتٍ) متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت ، أو توقد في بعض بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيرا ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم ، أو تمثيلا لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد ، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح ، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن لا فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت ، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) بالبناء أو التعظيم. (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات ، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل ، وقرئ «والابصال» وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه ، وقرئ تسبح بالتاء مكسورا لتأنيث الجمع ومفتوحا على إسناده إلى أوقات الغدو.

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) لا تشغلهم معاملة رابحة. (وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة ، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء ، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها ، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال

١٠٨

تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار. (وَإِقامِ الصَّلاةِ) عوّض فيه الإضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال كقوله :

وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا

(وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. (يَخافُونَ يَوْماً) مع ما هم عليه من الذكر والطاعة. (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) تضطرب وتتغير من الهول ، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر ، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتابهم.

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون. (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٣٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم الّتي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب ، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري ، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية ، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ «بقيعات» كديمات في ديمة. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة. (حَتَّى إِذا جاءَهُ) جاء ما توهمه ماء أو موضعه. (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مما ظنه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) عقابه أو زبانيته أو وجده محاسبا إياه. (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) استعراضا أو مجازاة. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عن حساب. روي أنها نزلت في عتبة ابن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)

(أَوْ كَظُلُماتٍ) عطف على (كَسَرابٍ) و (أَوْ) للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب ، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات ، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء. (يَغْشاهُ) يغشى البحر. (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي أمواج مترادفة متراكمة. (مِنْ فَوْقِهِ) من فوق الموج الثاني. (سَحابٌ) غطى النجوم وحجب أنوارها ، والجملة صفة أخرى لل (بَحْرٍ). (ظُلُماتٌ) أي هذه ظلمات. (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) وقرأ ابن كثير (ظُلُماتٌ) بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال (سَحابٌ) إليها في رواية البزي. (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) وهي أقرب ما يرى إليه. (لَمْ يَكَدْ يَراها) لم يقرب أن يراها فضلا أن يراها كقول ذي الرمة :

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) ومن لم

١٠٩

يقدر له الهداية ولم يوفقه لأسبابها. (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) بخلاف الموفق الّذي له نور على نور.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢)

(أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال. (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض ، و (مَنْ) لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال. (وَالطَّيْرُ) على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله : (صَافَّاتٍ) فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره. (كُلٌ) كل واحد مما ذكر أو من الطير. (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا لقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحا كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) مرجع الجميع.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ)(٤٣)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد. (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بأن يكون قزعا فيضم بعضه إلى بعض ، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه ، وقرأ نافع برواية ورش (يُؤَلِّفُ) غير مهموز. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما بعضه فوق بعض. (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل ، وقرئ من «خلله». (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) من الغمام وكل ما علاك فهو سماء. (مِنْ جِبالٍ فِيها) من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها. (مِنْ بَرَدٍ) بيان للجبال والمفعول محذوف أي (يُنَزِّلُ) مبتدأ (مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) بردا ، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول ، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر ، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحابا ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا ، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا وإلا نزل بردا ، وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا. ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) والضمير لل (بَرَدٍ). (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) ضوء برقه ، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين «وبرقه» بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع. (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد ، وقرئ «يذهب» على زيادة الباء.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ

١١٠

يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٥)

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك. (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما تقدم ذكره. (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) حيوان يدب على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي «خالق كل دابة» بالإضافة. (مِنْ ماءٍ) هو جزء مادته ، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة ، وقيل (مِنْ ماءٍ) متعلق ب (دَابَّةٍ) وليس بصلة ل (خَلَقَ). (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية وإنما سمي الزحف مشيا على الاستعارة أو المشاكلة. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنس والطير. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع ، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)(٤٨)

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) للحقائق بأنواع الدلائل. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) نزلت في بشر المنافق خاصم يهوديا فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّا رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَأَطَعْنا) أي وأطعناهما. (ثُمَّ يَتَوَلَّى) بالامتناع عن قبول حكمه. (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد قولهم هذا. (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاما من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم ، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم ، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإيمان والثابتون عليه.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه الحاكم ظاهرا والمدعو إليه ، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحقيقة حكم الله تعالى (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) فاجأ فريق منهم الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم ، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٥٠)

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي الحكم لا عليهم. (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و

١١١

(إِلَيْهِ) صلة ل (يَأْتُوا) أو ل (مُذْعِنِينَ) وتقديمه للاختصاص.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر أو ميل إلى الظلم. (أَمِ ارْتابُوا) بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكومة. (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول ، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم ، والثاني إما أن يكون محققا عندهم أو متوقعا وكلاهما باطل ، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه.

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ)(٥٢)

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي ، وقرئ (قَوْلَ) بالرفع و (لِيَحْكُمَ) على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن. (وَيَخْشَ اللهَ) على ما صدر عنه من الذنوب. (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره ، وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء وأبو بكر وأبو عمرو بسكون الهاء ، وحفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق. (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) إنكار للامتناع عن حكمه. (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج عن ديارهم وأموالهم. (لَيَخْرُجُنَ) جواب ل (أَقْسَمُوا) على الحكاية. (قُلْ لا تُقْسِمُوا) على الكذب. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة. أو (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أمثل منها أو لتكن طاعة ، وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه سرائركم.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (ما حُمِّلَ) من التبليغ. (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الامتثال. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) في حكمه. (تَهْتَدُوا) إلى الحق. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ الموضح لما كلفتم به ، وقد أدى وإنما بقي (ما حُمِّلْتُمْ) فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٥٥)

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم ، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم. (كَمَا اسْتَخْلَفَ

١١٢

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة ، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدءوا كسروا الألف. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف. (أَمْناً) منهم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب ، وفيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإجماع. وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة. (يَعْبُدُونَنِي) حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن. (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين. (وَمَنْ كَفَرَ) ومن ارتد أو كفر هذه النعمة. (بَعْدَ ذلِكَ) كبعد الوعد أو حصول الخلافة. (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة العظيمة.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٥٧)

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به ، فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كما علق به الهدى.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) لا تحسبن يا محمّد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم ، و (فِي الْأَرْضِ) صلة (مُعْجِزِينَ). وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحدا معجزا لله ، فيكون (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) مفعوليه أو لا يحسبونهم (مُعْجِزِينَ) فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث. (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل : الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار ، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز. (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المأوى الّذي يصيرون إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٥٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها ، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت. وقيل أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاما وقت الظهيرة ليدعو عمر ، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله عزوجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن ، ثم انطلق معه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في اليوم والليلة مرة. (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من

١١٣

المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ، ومحله النصب بدلا من ثلاث مرات أو الرفع خبرا لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي ثيابكم لليقظة للقيلولة. (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان للحين. (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي (ثَلاثَ) بالنصب بدلا من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان ، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين. (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة ، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض. (كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الأحكام. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم. (حَكِيمٌ) فيما شرع لكم.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٦٠)

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها ، واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته ، وجوابه أن المراد بهم المعهودون الذين جعلوا قسيما للمماليك فلا يندرجون فيهم. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل. (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن فيه لكبرهن. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي الثياب الظاهرة كالجلباب ، والفاء فيه لأن اللام في (الْقَواعِدُ) بمعنى اللاتي أو لوصفها بها. (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم : سفينة بارجة لا غطاء عليها ، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) من الوضع لأنه أبعد من التهمة. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالتهن للرجال. (عَلِيمٌ) بمقصودهن.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦١)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم ، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب ، أو من إجابة من دعوهم إلى

١١٤

بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلا عليهم ، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإسلام ثم نسخ بنحو قوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ). وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) من البيوت الّتي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه‌السلام «أنت ومالك لأبيك» ، وقوله عليه‌السلام «إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه». (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظا. وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ «مفتاحه». (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به ، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط ، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم ، أو كان ذلك في أول الإسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث ابن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه. أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من هذه البيوت (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، ويجوز أن تكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم. (مُبارَكَةً) لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب. (طَيِّبَةً) تطيب بها نفس المستمع. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين». (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) كرره ثلاثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي الحق والخير في الأمور.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في الإيمان. (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) من صميم قلوبهم. (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور ، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ «أمر جميع». (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأذن لهم ، واعتباره في كمال الإيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل والفرار ، ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكدا على أسلوب أبلغ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذهاب بغير إذن ليس كذلك. (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ما يعرض لهم من المهام ، وفيه أيضا مبالغة وتضييق الأمر. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) تفويض للأمر إلى رأي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه فكأن المعنى : فائذن لمن علمت أن له عذرا. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الإذن فإن الاستئذان ولو لعذر قصور لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لفرطات العباد.

١١٥

(رَحِيمٌ) بالتيسير عليهم.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦٣)

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته عليه‌السلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة. وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات ، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت ، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب ، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ) ينسلون قليلا قليلا من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل. (لِواذاً) ملاوذة بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته ، و (عَنْ) لتضمنه معنى الإعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه ، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى ، فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر. (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) محنة في الدنيا. (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة واستدل به على أن الأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين ، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها المكلفون من المخالفة والموافقة والنفاق والإخلاص ، وإنما أكد علمه ب (قَدْ) لتأكيد الوعيد. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء ، ويجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات ، وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من سوء الأعمال بالتوبيخ والمجازاة عليه. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه خافية.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي».

١١٦

(٢٥) سورة الفرقان

مكية وآيها سبع وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٢)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير ، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة ، وترتيبه عن إنزاله (الْفُرْقانَ) لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه. وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها ، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و (الْفُرْقانَ) مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال ، وقرئ «على عباده» وهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ) أو الأنبياء على أن (الْفُرْقانَ) اسم جنس للكتب السماوية. (لِيَكُونَ) العبد أو الفرقان. (لِلْعالَمِينَ) للجن والإنس. (نَذِيراً) منذرا أو إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار ، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب. (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كزعم النصارى. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقا ونفي ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة. (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال ، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك ، أو (فَقَدَّرَهُ) للبقاء إلى أجل مسمى. وقد يطلق الخلق لمجرد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتا.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً)(٤)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما. (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم. (وَلا يَمْلِكُونَ) ولا يستطيعون. (لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا) دفع ضر. (وَلا نَفْعاً) ولا جلب نفع. (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولا وبعثه ثانيا ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها ، وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء.

١١٧

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) كذب مصروف عن وجهه. (افْتَراهُ) اختلقه. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته ، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً) بجعل الكلام المعجز (إِفْكٌ) مختلقا متلقفا من اليهود. (وَزُوراً) بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٦)

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ما سطره المتقدمون. (اكْتَتَبَها) كتبها لنفسه أو استكتبها ، وقرئ على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله : اكتتبها كاتب له ، فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه. (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب.

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه أعجزكم عن اخركم بفصاحته وتضمنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبا.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً)(٨)

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) ما لهذا الّذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم. (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل. (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لطلب المعاش كما نمشي ، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا ، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) لنعلم صدقه بتصديق الملك.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش. (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه ، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار. (وَقالَ الظَّالِمُونَ) وضع (الظَّالِمُونَ) موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه. (إِنْ تَتَّبِعُونَ) ما تتبعون. (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) سحر فغلب على عقله ، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشرا لا ملكا.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)(١٠)

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة. (فَضَلُّوا) عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبط عشواء. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى.

١١٨

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ) في الدنيا. (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بدل من (خَيْراً). (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) عطف على محل الجزاء ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله :

وإنّ أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة ، وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)(١٢)

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فطعنوا فيك لفقرك ، أو فلذلك كذبوك لا لما تمحلوا من المطاعن الفاسدة ، أو فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد الله لك في الآخرة ، أو فلا تعجب من تكذيبهم إياك فإنه أعجب منه. (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) نارا شديدة الاستعار ، وقيل هو اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان.

(إِذا رَأَتْهُمْ) إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه‌السلام «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) صوت تغيظ ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه ، هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر. وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً) في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالا. (ضَيِّقاً) لزيادة العذاب فإن الكرب مع الضيق والروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها كعرض السموات والأرض. (مُقَرَّنِينَ) قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. (دَعَوْا هُنالِكَ) في ذلك المكان. (ثُبُوراً) هلاكا أي يتمنون الهلاك وينادونه فيقولون تعال يا ثبوراه فهذا حينك.

(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) أي يقال لهم ذلك. (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته ، أو لأنه يتجدد لقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الإشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى ال (كَنْزٌ) وال (جَنَّةٌ) ، والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة ال (جَنَّةُ) إلى (الْخُلْدِ) للمدح أو للدلالة على خلودها ، أو التمييز عن جنات الدنيا. (كانَتْ لَهُمْ) في علم الله أو اللوح ، أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع. (جَزاءً) على أعمالهم بالوعد. (وَمَصِيراً) ينقلبون إليه ، ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب

١١٩

لأنهم في مقابلتهم.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ما يشاءونه من النعيم ، ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي ، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة. (خالِدِينَ) حال من أحد ضمائرهم. (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) الضمير في (كانَ) ل (ما يَشاؤُنَ) والوعد الموعود أي : كان ذلك موعودا حقيقا بأن يسأل ويطلب ، أو مسؤولا سأله الناس في دعائهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ). أو الملائكة بقولهم (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) ، وما في (عَلى) من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز ، فإن تعلق الإرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإنجاز.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)(١٧)

ويوم نحشرهم للجزاء ، وقرئ بكسر الشين وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء. (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعم كل معبود سواه تعالى ، واستعمال (ما) إما لأن وضعه أعم ولذلك يطلق لكل شبح يرى ولا يعرف ، أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيرا أو اعتبار الغلبة عبادها ، أو يخص الملائكة وعزيرا والمسيح بقرينة السؤال والجواب ، أو الأصنام ينطقها الله أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. (فَيَقُولُ) أي للمعبودين وهو على تلوين الخطاب ، وقرأ ابن عامر بالنون. (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح ، وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة ، وأصله أأضللتم أم (ضَلُّوا) فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهة فيه وإلا لما توجه العتاب ، وحذف صلة الضل مبالغة.

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)(١٩)

(قالُوا سُبْحانَكَ) تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون ، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده ، أو تنزيها لله تعالى عن الأنداد. (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) ما يصح لنا. (أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك ، وقرئ (نَتَّخِذَ) على البناء للمفعول من اتخذ الّذي له مفعولان كقوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ومفعوله الثاني (مِنْ أَوْلِياءَ) و (مِنْ) للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات. (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك ، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه ، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة. (وَكانُوا) في قضائك. (قَوْماً بُوراً) هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع ، أو جمع بائر كعائذ وعوذ.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام على حذف القول والمعنى فقد كذبكم المعبودون. (بِما تَقُولُونَ) في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا والباء بمعنى في ، أو مع المجرور بدل من

١٢٠