أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٤

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) يوم القيامة متعلق بسماكم. (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته ، أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى. (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ الرسل إليهم. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف. (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه. (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولي أموركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو إذ لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة. عن النبي عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي».

٨١

(٢٣) سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة عند الكوفيين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ)(٢)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد فازوا بأمانيهم وقد تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي ، ولذلك تقربه من الحال ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك من فضل الله صدرت بها بشارتهم ، وقرأ ورش عن نافع قد أفلح بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها ، وقرئ «أفلحوا» على لغة : أكلوني البراغيث ، أو على الإبهام والتفسير ، و «أفلح» بالضم اجتزاء بالضمة عن الواو و «أفلح» على البناء للمفعول.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) خائفون من الله سبحانه وتعالى متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته فقال : «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه».

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)(٥)

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) عما لا يعنيهم من قول أو فعل. (مُعْرِضُونَ) لما بهم من الجد ما شغلهم عنه ، وهو أبلغ من الذين لا يلهون من وجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير ، والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا ، فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه وكذلك قوله :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنية والمالية والتجنب عن المحرمات وسائر ما توجب المروءة اجتنابه ، والزكاة تقع على المعنى والعين والمواد الأول لأن الفاعل فاعل الحدث لا المحل الّذي هو موقعه أو الثاني على تقدير مضاف.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) لا يبذلونها.

(إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٧)

(إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) زوجاتهم أو سرياتهم ، و (عَلى) صلة ل (حافِظُونَ) من قولك احفظ على عنان فرسي ، أو حال أي حافظوها في كافة الأحوال إلا في حال التزوج أو التسري ، أو بفعل دل عليه غير ملومين وإنما قال : ما إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء إذ الملك أصل شائع فيه وإفراد

٨٢

ذلك بعد تعميم قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطرا. (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الضمير لحافظون ، أو لمن دل عليه الاستثناء أي فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) المستثنى. (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الكاملون في العدوان.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٩)

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق. (راعُونَ) قائمون بحفظها وإصلاحها ، وقرأ ابن كثير هنا وفي «المعارج» لأمانتهم على الإفراد ولأمن الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ، ولفظ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعه غير حمزة والكسائي ، وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا فإن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها ، وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها.

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١)

(أُولئِكَ) الجامعون لهذه الصفات. (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم.

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا ، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم ، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه. وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار. (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أنث الضمير لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ)(١٣)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ) من خلاصة سلت من بين الكدر. (مِنْ طِينٍ) متعلق بمحذوف لأنه صفة ل (سُلالَةٍ) أو من بيانية أو بمعنى (سُلالَةٍ) لأنها في معنى مسلولة فتكون ابتدائية كالأولى ، والإنسان آدم عليه‌السلام خلق من صفوة سلت من الطين ، أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار. وقيل المراد بالطين آدم لأنه خلق منه والسلالة نطفته.

(ثُمَّ جَعَلْناهُ) ثم جعلنا نسله فحذف المضاف. (نُطْفَةً) بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة ، وتذكير الضمير على تأويل الجوهر أو المسلول أو الماء. (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) مستقر حصين يعني الرحم ، وهو في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل للمبالغة كما عبر عنه بالقرار.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) فصيرناها قطعة لحم. (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) بأن صلبناها. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها ، واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة ، وقرأ ابن

٨٣

عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، وقرئ بإفراد أحدهما وجمع الآخر. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخة فيه أو المجموع ، و (ثُمَ) لما بين الخلقين من التفاوت ، واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر. (فَتَبارَكَ اللهُ) فتعالى شأنه في قدرته وحكمته. (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المقدرين تقديرا فحذف المميز لدلالة (الْخالِقِينَ) عليه.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) لصائرون إلى الموت لا محالة ، ولذلك ذكر النعت الّذي للثبوت دون اسم الفاعل وقد قرئ به.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) للمحاسبة والمجازاة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ)(١٧)

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) سموات لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل وكل ما فوقه مثله فهو طريقه ، أو لأنها طرق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) عن ذلك المخلوق الّذي هو السموات أو عن جميع المخلوقات. (غافِلِينَ) مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وتدبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ)(١٩)

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره ، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم.

(فَأَسْكَنَّاهُ) فجعلناه ثابتا مستقرا. (فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه. (لَقادِرُونَ) كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير (ذَهابٍ) إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ).

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) بالماء. (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها) في الجنات. (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها. (وَمِنْها) ومن الجنات ثمارها وزروعها. (تَأْكُلُونَ) تغذيا أو ترتزقون وتحصلون معايشكم من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، ويجوز أن يكون الضميران لل (نَخِيلٍ) وال (أَعْنابٍ) أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام تأكلونه.

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)(٢٠)

(وَشَجَرَةً) عطف على (جَنَّاتٍ) وقرئت بالرفع على الابتداء أي : ومما أنشأنا لكم به شجرة. (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) جبل موسى عليه‌السلام بين مصر وأيلة ، وقيل بفلسطين وقد يقال له طور سينين ولا يخلو من أن يكون الطور للجبل وسيناء اسم بقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما علم له كإمرئ القيس ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السيناء بالمد وهو الرفعة ، أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلال كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف (سَيْناءَ) على قراءة الكوفيين والشامي ويعقوب فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء لا فعلال إذ ليس في كلامهم ، وقرئ بالكسر والقصر. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت ملتبسا بالدهن ومستصحبا له ، ويجوز أن تكون الباء صلة معدية ل (تَنْبُتُ) كما في قولك : ذهبت بزيد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في رواية تنبت وهو إما من أنبت بمعنى

٨٤

نبت كقول زهير :

رأيت ذوي الحاجات عند بيوتهم

قطينا لهم حتّى أنبت البقل

أو على تقدير (تَنْبُتُ) زيتونها ملتبسا بالدهن ، وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتخرج الدهن وتنبت بالدهان. (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي : تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي : يغمس فيه للائتدام ، وقرئ «وصباغ» كدباغ في دبغ.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(٢٢)

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) تعتبرون بحالها وتستدلون بها. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان أو من العلف ، فإن اللبن يتكون منه فمن للتبعيض أو للابتداء ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) في ظهورها وأصوافها وشعورها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فتنتفعون بأعيانها.

(وَعَلَيْها) وعلى الأنعام فإن منها ما يحمل عليه كالإبل والبقر ، وقيل المراد الإبل لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة :

سفينة بر تحت خدّي زمامها فيكون الضمير فيه كالضمير في (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ). (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) في البر والبحر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)(٢٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) إلى آخر القصص مسوق لبيان كفران الناس ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة وما حاق بهم من زوالها. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استئناف لتعليل الأمر بالعبادة ، وقرأ الكسائي (غَيْرُهُ) بالجر على اللفظ. (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه فيهلككم ويعذبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره وكفرانكم نعمه الّتي لا تحصونها.

(فَقالَ الْمَلَأُ) الأشراف. (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) لعوامهم. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا. (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) رسلا. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) يعنون نوحا عليه‌السلام أي ما سمعنا به أنه نبي ، أو ما كلمهم به من الحث على عبادة الله سبحانه وتعالى ونفي إله غيره ، أو من دعوى النبوة وذلك إما لفرط عنادهم أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة.

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون ولأجله يقول ذلك (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) فاحتملوه وانتظروا. (حَتَّى حِينٍ) لعله يفيق من جنونه.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٢٧).

٨٥

(قالَ) بعد ما أيس من إيمانهم. (رَبِّ انْصُرْنِي) بإهلاكهم أو بإنجاز ما وعدتهم من العذاب. (بِما كَذَّبُونِ) بدل تكذيبهم إياي أو بسببه.

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) بحفظنا نحفظه أن تخطئ فيه أو يفسده عليك مفسد. (وَوَحْيِنا) وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بالركوب أو نزول العذاب. (وَفارَ التَّنُّورُ).

روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك ، فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة. وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في «هود». (فَاسْلُكْ فِيها) فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين ، وقرأ حفص (مِنْ كُلٍ) بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد. (وَأَهْلَكَ) وأهل بيتك أو من آمن معك. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره ، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى). (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالدعاء لهم بالإنجاء. (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا محالة لظلمهم بالإشراك والمعاصي ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله :

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كقوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) في السفينة أو في الأرض. (مُنْزَلاً مُبارَكاً) يتسبب لمزيد الخير في الدارين على قراءة أبي بكر ، وقرئ «منزلا» بمعنى إنزالا أو موضع إنزال. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ثناء مطابق لدعائه أمره بأن يشفعه به مبالغة فيه وتوسلا به إلى الإجابة ، وإنما أفرده بالأمر والمعلق به أن يستوي هو ومن معه إظهارا لفضله وإشعارا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم فإنه يحيط بهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما فعل بنوح وقومه. (لَآياتٍ) يستدل بها ويعتبر أولو الاستبصار والاعتبار. (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم ، أو ممتحنين عبادنا بهذه الآيات (وَإِنْ) هي المخففة واللام هي الفارقة.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)(٣٢)

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد أو ثمود.

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود أو صالح ، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تفسير لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله. (أَفَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ

٨٦

مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)(٣٤)

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) لعله ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف قول قوم نوح حيث استؤنف به ، فعلى تقدير سؤال. (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث (وَأَتْرَفْناهُمْ) ونعمناهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بكثرة الأموال والأولاد. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصفة والحالة. (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) تقرير للمماثلة و «ما» خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه.

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يأمركم به. (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) حيث أذللتم أنفسكم ، و (إِذاً) جزاء للشرط وجواب للذين قاولوهم من قومه.

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ)(٣٦)

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) مجردة عن اللحوم والأعصاب. (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود ، و (أَنَّكُمْ) تكرير للأول أكد به لما طال الفصل بينه وبين خبره ، أو أنكم لمخرجون مبتدأ خبره الظرف المقدم ، أو فاعل للفعل المقدر جوابا للشرط والجملة خبر الأول أي : أنكم إخراجكم إذا متم ، أو أنكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز أن يكون خبر الأول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه لا أن يكون الظرف لأن اسمه جثة. (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) بعد التصديق أو الصحة. (لِما تُوعَدُونَ) أو بعد ما توعدون ، واللام للبيان كما في (هَيْتَ لَكَ) كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل : فما له هذا الاستبعاد؟ قالوا (لِما تُوعَدُونَ). وقيل (هَيْهاتَ) بمعنى البعد ، وهو مبتدأ خبره (لِما تُوعَدُونَ) ، وقرئ بالفتح منونا للتنكير ، وبالضم منونا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبالكسر على الوجهين ، وبالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء.

(إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)(٣٨)

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أصله إن الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وإشعارا بأن تعينها مغن عن التصريح بها كقوله :

هي النّفس ما حمّلتها تتحمّل

ومعناه لا حياة إلا هذه الحياة لأن (إِنْ) نافية دخلت على (هِيَ) الّتي في معنى الحياة الدالة على الجنس فكانت مثل لا الّتي تنفي ما بعدها نفي الجنس. (نَمُوتُ وَنَحْيا) يموت بعضنا ويولد بعض. (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت.

(إِنْ هُوَ) ما هو. (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما يدعيه من إرساله له وفيما يعدنا من البعث. (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤١)

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم وانتقم لي منهم. (بِما كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم إياي.

٨٧

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) عن زمان قليل و «ما» صلة لتوكيد معنى القلة ، أو نكرة موصوفة. (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) على التكذيب إذا عاينوا العذاب.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا ، واستدل به على أن القرن قوم صالح. (بِالْحَقِ) بالوجه الثابت الّذي لا دافع له ، أو بالعدل من الله كقولك فلان يقضي بالحق. أو بالوعد الصدق. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) شبههم في دمارهم بغثاء السيل وهو حميله كقول العرب : سال به الوادي ، لمن هلك. (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يحتمل الإخبار والدعاء ، وبعدا مصدر بعد إذا هلك ، وهو من المصادر الّتي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها ، واللام لبيان من دعي عليه بالبعد ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(٤٤)

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) هي قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) الوقت الّذي حد لهلاكها و (مِنْ) مزيدة للاستغراق. (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) الأجل.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد ، والياء بدل من الواو كتولج وتيقور والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتنوين على أنه مصدر بمعنى المواترة وقع حالا ، وأماله حمزة وابن عامر والكسائي. (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الّذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الّذي هو منتهاه إليهم. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لم نبق منهم إلا حكايات يسمر بها ، وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا. (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ)(٤٦)

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) بالآيات التسع. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة واضحة ملزمة للخصم ، ويجوز أن يراد به العصا وإفرادها لأنها أول المعجزات وأمها ، تعلقت بها معجزات شتى : كانقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها ، وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة خضراء مثمرة ورشاء ودلوا ، وأن يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وأن يراد بهما المعجزات فإنها آيات للنبوة وحجة بينة على ما يدعيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) على الإيمان والمتابعة. (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) متكبرين.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)(٤٩)

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله (بَشَراً سَوِيًّا) كما يطلق للجمع كقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) ولم يثن المثل لأنه في حكم المصدر ، وهذه القصص كما نرى تشهد بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في الحقيقة وفساده يظهر للمستبصر

٨٨

بأدنى تأمل ، فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما ، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادة ، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال ، فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم ، وإليه أشار بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). (وَقَوْمُهُما) يعني بني إسرائيل. (لَنا عابِدُونَ) خادمون منقادون كالعباد.

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في بحر قلزم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة. (لَعَلَّهُمْ) لعل بني إسرائيل ، ولا يجوز عود الضمير إلى (فِرْعَوْنَ) وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم. (يَهْتَدُونَ) إلى المعارف والأحكام.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٥٠)

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما ، أو (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) آية بأن تكلم في المهد وظهرت منه معجزات أخر (وَأُمَّهُ) آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وقرئ «رباوة» بالضم والكسر. (ذاتِ قَرارٍ) مستقر من الأرض منبسطة. وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها. (وَمَعِينٍ) وماء معين ظاهر جار ، فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في الشيء ، أو من الماعون وهو المنفعة لأنه نفاع ، أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره مدرك بالعيون وصف ماءها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٥١)

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات ، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا الرسل في تناول ما رزقا. وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات. وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل. (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم عليه.

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(٥٢)

(وَإِنَّ هذِهِ) أي ولأن (هذِهِ) والمعلل به (فَاتَّقُونِ) ، أو واعلموا أن هذه ، وقيل إنه معطوف على (بِما تَعْمَلُونَ) وقرأ ابن عامر بالتخفيف والكوفيون بالكسر على الاستئناف. (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع ، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة ونصب (أُمَّةً) على الحال. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) في شق العصا ومخالفة الكلمة.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٥٤).

٨٩

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) فتقطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة ، أو فتفرقوا وتحزبوا وأمرهم منصوب بنزع الخافض أو التمييز ، والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها. (زُبُراً) قطعا جمع زبور الّذي بمعنى الفرقة ويؤيده القراءة بفتح الباء فإنه جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من الواو ، أو مفعول ثان لتقطعوا فإنه متضمن معنى جعل. وقيل كتبا من زبرت الكتاب فيكون مفعولا ثانيا ، أو حالا من أمرهم على تقدير مثل كتب ، وقرئ بتخفيف الباء كرسل في «رسل». (كُلُّ حِزْبٍ) من المتحزبين. (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين. (فَرِحُونَ) معجبون معتقدون أنهم على الحق.

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) في جهالتهم شبهها بالماء الّذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها أو لاعبون بها ، وقرئ في «غمراتهم». (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يقتلوا أو يموتوا.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٦)

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) أن ما نعطيهم ونجعله لهم مددا ، (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان لما وليس خبرا له ، فإنه غير معاتب عليه وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم خبره.

(نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) والراجع محذوف والمعنى : أيحسبون أن الّذي نمدهم به نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا فيه فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير ، وقرئ «يمدهم» على الغيبة وكذلك «يسارع» و «يسرع» ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به و «يسارع» مبنيا للمفعول.

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)(٦١)

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) من خوف عذابه. (مُشْفِقُونَ) حذرون.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنصوبة والمنزلة. (يُؤْمِنُونَ) بتصديق مدلولها.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) شركا جليا ولا خفيا.

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوه من الصدقات ، وقرئ «يأتون ما أتوا» أي يفعلون ما فعلوا من الطاعات. (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذ به. (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) لأن مرجعهم إليه ، أو من أن مرجعهم إليه وهو يعلم ما يخفى عليهم.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم. (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) لأجلها فاعلون السبق أو سابقون الناس إلى الطاعة أو الثواب أو الجنة ، أو سابقونها أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا كقوله تعالى : (هُمْ لَها عامِلُونَ).

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ)(٦٣)

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قدر طاقتها يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على

٩٠

النفوس. (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يريد به اللوح أو صحيفة الأعمال. (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بزيادة عقاب أو نقصان ثواب.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ) قلوب الكفرة. (فِي غَمْرَةٍ) في غفلة غامرة لها. (مِنْ هذا) من الّذي وصف به هؤلاء أو من كتاب الحفظة. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) خبيثة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) متجاوزة لما وصفوا به أو متخطية عما هم عليه من الشرك. (هُمْ لَها عامِلُونَ) معتادون فعلها.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ)(٦٥)

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) متنعميهم. (بِالْعَذابِ) يعني القتل يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف». فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة. (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة ، وهو جواب الشرط والجملة مبتدأ بعد حتى ويجوز أن يكون الجواب.

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) فإنه مقدر بالقول أي قيل لهم لا (تَجْأَرُوا الْيَوْمَ). (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم إذ لا تمنعون منا ، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا.

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ)(٦٧)

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن. (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها ، والنكوص الرجوع قهقرى.

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) الضمير للبيت وشهرة استكبارهم وافتخارهم بأنهم قوامه أغنت عن سبق ذكره ، أو لآياتي فإنها بمعنى كتابي والباء متعلقة ب (مُسْتَكْبِرِينَ) لأنه بمعنى مكذبين ، أو لأن استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استماعه أو بقوله : (سامِراً) أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وهو في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة ، وقرئ «سمرا» جمع سامر (تَهْجُرُونَ) من الهجر بالفتح إما بمعنى القطيعة أو الهذيان ، أي تعرضون عن القرآن أو تهذون في شأنه أو الهجر بالضم أي الفحش ، ويؤيد الثاني قراءة نافع (تَهْجُرُونَ) من أهجر وقرئ «تهجرون» على المبالغة.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)(٧٠)

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي القرآن ليعلموا أنه الحق من ربهم بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله. (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من الرسول والكتاب ، أو من الأمن من عذاب الله تعالى فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل وأعقابه فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه.

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بالأمانة والصدق وحسن الخلق وكمال العلم مع عدم التعلم إلى غير ذلك مما هو صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) دعواه لأحد هذه الوجوه إذ لا وجه له غيرها ، فإن إنكار الشيء قطعا أو ظنا إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص أو بحث عما يدل عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد.

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) فلا يبالون بقوله وكانوا يعلمون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجحهم عقلا وأدقهم نظرا. (بَلْ جاءَهُمْ

٩١

بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم فلذلك أنكروه ، وإنما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم فكرته لا كراهة للحق.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)(٧١)

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) بأن كان في الواقع آلهة شتى. (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) كما سبق تقريره في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). وقيل لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلم يبق ، أو لو اتبع الحق الّذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة وأهلك العالم من فرط غضبه ، أو لو اتبع الله أهواءهم بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك والمعاصي لخرج عن الألوهية ولم يقدر أن يمسك السموات والأرض وهو على أصل المعتزلة. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بالكتاب الّذي هو ذكرهم أي وعظهم أو صيتهم ، أو الذكر الّذي تمنوه بقولهم (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) وقرئ «بذكراهم». (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يلتفتون إليه.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٧٣)

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ) قيل إنه قسيم قوله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ). (خَرْجاً) أجرا على أداء الرسالة. (فَخَراجُ رَبِّكَ) رزقه في الدنيا أو ثوابه في العقبى. (خَيْرٌ) لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه ، وقرأ ابن عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمزاوجة. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تقرير لخيرية خراجه تعالى.

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد العقول السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له ، واعلم أنه سبحانه ألزمهم الحجة وأزاح العلة في هذه الآيات بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام وبين انتفاءها ما عدا كراهة الحق وقلة الفطنة.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٥)

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ) عن الصراط السوي. (لَناكِبُونَ) لعادلون عنه فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) يعني القحط. (لَلَجُّوا) لثبتوا واللجاج التمادي في الشيء. (فِي طُغْيانِهِمْ) إفراطهم في الكفر والاستكبار عن الحق وعداوة الرسول والمؤمنين. (يَعْمَهُونَ) عن الهدى ، روي أنهم قحطوا حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال : بلى فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(٧٧)

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعني القتل يوم بدر. (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) بل أقاموا على عتوهم

٩٢

واستكبارهم ، واستكان استفعل من الكون لأن المفتقر انتقل من كون إلى كون أو افتعل من السكون أشبعت فتحته. (وَما يَتَضَرَّعُونَ) وليس من عادتهم التضرع وهو استشهاد على ما قبله.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) يعني الجوع فإنه أشد من القتل والأسر. (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٨٠)

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) لتحسوا بها ما نصب من الآيات. (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا فيها وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرونها شكرا قليلا لأن العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله ، والإذعان لمانحها من غير إشراك و (ما) صلة للتأكيد.

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) خلقكم وبثكم فيها بالتناسل. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم.

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ويختص به تعاقبهما لا يقدر عليه غيره فيكون ردا لنسبته إلى الشمس حقيقة أو لأمره وقضائه تعاقبهما ، أو انتقاص أحدهما وازدياد الآخر. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها وأن البعث من جملتها ، وقرئ بالياء على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين.

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٨٣)

(بَلْ قالُوا) أي كفار مكة. (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) آباؤهم ومن دان بدينهم.

(قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا.

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إلا أكاذيبهم الّتي كتبوها ، جمع أسطورة لأنه يستعمل فيما يتلهى به كالأعاجيب والأضاحيك. وقيل جمع أسطار جمع سطر.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٨٥)

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك ، فيكون استهانة بهم وتقريرا لفرط جهالتهم حتى جهلوا مثل هذا الجلي الواضح إلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنكاره ، ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا فقال.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) لأن العقل الصريح قد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها. (قُلْ) أي بعد ما قالوه. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته. وقرئ «تتذكرون» على الأصل.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى

٩٣

تُسْحَرُونَ)(٨٩)

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فإنها أعظم من ذلك. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده على ما يقتضيه لفظ السؤال. (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) عقابه فلا تشركوا به بعض مخلوقاته ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته.

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) ملكه غاية ما يمكن وقيل خزائنه. (وَهُوَ يُجِيرُ) يغيث من يشاء ويحرسه. (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ولا يغاث أحد ولا يمنع منه ، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فمن أين تخدعون فتصرفون عن الرشد مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٩٢)

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) من التوحيد والوعد بالنشور. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حيث أنكروا ذلك.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) لتقدسه عن مماثلة أحد. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يساهمه في الألوهية. (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) جواب محاجتهم وجزاء شرط حذف لدلالة ما قبله عليه ، أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين وظهر بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا ، فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإجماع والاستقراء وقيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) خبر مبتدأ محذوف وقد جره ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص على الصفة ، وهو دليل آخر على نفي الشريك بناء على توافقهم في أنه المنفرد بذلك ولهذا رتب عليه. (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بالفاء.

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ)(٩٥)

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي) إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد. (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الدنيا والآخرة.

(رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قرينا لهم في العذاب ، وهو إما لهضم النفس أو لأن شؤم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) عن الحسن أنه تعالى أخبر نبيه عليه‌السلام أنه له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها فأمره بهذا الدعاء وتكرير النداء ، وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به فضل تضرع وجؤار.

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) لكنا نؤخره علمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون ، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، ولعله رد لإنكارهم الموعود واستعجالهم له استهزاء به. وقيل قد أراه : وهو قتل بدر أو فتح مكة.

٩٤

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨)

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها لكن بحيث لم يؤد إلى وهن في الدين. وقيل هي كلمة التوحيد والسيئة الشرك. وقيل هو الأمر بالمعروف والسيئة المنكر وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف حالك وأقدر على جزائهم فكل إلينا أمرهم.

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) وساوسهم ، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض ، شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدواب على المشي والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد المضاف إليه.

(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) يحوموا حولي في شيء من الأحوال ، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل لأنها أحرى الأحوال بأن يخاف عليه.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(١٠٠)

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) متعلق ب (يَصِفُونَ) ، وما بينهما اعتراض لتأكيد الإغضاء بالاستعاذة بالله من الشيطان أن يزله عن الحلم ويغريه على الانتقام أو بقوله (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (قالَ) تحسرا على ما فرط فيه من الإيمان والطاعة لما اطلع على الأمر. (رَبِّ ارْجِعُونِ) ردوني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب. وقيل لتكرير قوله ارجعني كما قيل في قفا وأطرقا.

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) في الإيمان الّذي تركته أي لعلي آتي الإيمان وأعمل فيه ، وقيل في المال أو في الدنيا. وعنه عليه الصلاة والسلام «قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا ، فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى ، وأما الكافر فيقول رب ارجعون». (كَلَّا) ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها. (إِنَّها كَلِمَةٌ) معنى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ) إلخ ، والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض. (هُوَ قائِلُها) لا محالة لتسلط الحسرة عليه. (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أمامهم والضمير للجماعة. (بَرْزَخٌ) حائل بينهم وبين الرجعة. (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ)(١٠٣)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) لقيام الساعة والقراءة بفتح الواو وبه وبكسر الصاد يؤيد أن (الصُّورِ) أيضا جمع الصورة. (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو يفتخرون بها. (يَوْمَئِذٍ) كما يفعلون اليوم. (وَلا يَتَساءَلُونَ) ولا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه ، وهو لا يناقض قوله (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) لأنه عند النفخة وذلك يعد المحاسبة ، أو دخول أهل الجنة الجنة والنار النار.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) موزونات عقائده وأعماله ، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله تعالى وقدر. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والدرجات.

٩٥

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) ومن لم يكن له ما يكون له وزن ، وهم الكفار لقوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها. (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من الصلة أو خبر ثان «لأولئك».

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ)(١٠٦)

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تحرقها واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا. (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان ، وقرئ «كلحون».

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) على إضمار القول أي يقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ). (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله.

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) ملكتنا بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة ، وقرأ حمزة والكسائي «شقاوتنا» بالفتح كالسعادة وقرئ بالكسر كالكتابة. (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن الحق.

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(١٠٨)

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النار. (فَإِنْ عُدْنا) إلى التكذيب. (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا.

(قالَ اخْسَؤُا فِيها) اسكتوا سكوت هوان في النار فإنها ليست مقام سؤال من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ. (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب أو لا تكلمون رأسا. قيل إن أهل النار يقولون ألف سنة : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) ، فيجابون (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) فيقولون ألفا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) ، فيجابون (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) فيقولون ألفا (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، فيجابون (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ، فيقولون ألفا (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ، فيجابون (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ، فيقولون ألفا (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً) ، فيجابون (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) فيقولون ألفا (رَبِّ ارْجِعُونِ) ، فيجابون (اخْسَؤُا فِيها) ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء.

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)(١١١)

(إِنَّهُ) إن الشأن وقرئ بالفتح أي لأنه. (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) يعني المؤمنين ، وقيل الصحابة وقيل أهل الصفة. (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) هزؤا وقرأ نافع وحمزة والكسائي هنا وفي «ص» بالضم ، وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة ، وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية. (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم فلم تخافوني في أوليائي. (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم.

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على أذاكم. (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به ، وهو ثاني مفعولي (جَزَيْتُهُمُ). وقرأ حمزة والكسائي بالكسر استئنافا.

٩٦

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١١٤)

(قالَ) أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أحياء أو أمواتا في القبور. (عَدَدَ سِنِينَ) تمييز لكم.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصارا لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار ، أو لأنها كانت أيام سرورهم وأيام السرور قصار ، أو لأنها منقضية والمنقضي في حكم المعدوم. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها ، أو الملائكة الذين يعدون أعمار الناس ويحصون أعمالهم. وقرئ «العادين» بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون ما نقول ، و «العاديين» أي القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون.

(قالَ) وفي قراءة حمزة والكسائي «قل». (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تصديق لهم في مقالهم.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)(١١٥)

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) توبيخ على تغافلهم ، و (عَبَثاً) حال بمعنى عابثين أو مفعول له أي : لم نخلقكم تلهيا بكم وإنما خلقناكم لنتعبدكم ونجازيكم على أعمالكم وهو كالدليل على البعث. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) أو (عَبَثاً) ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)(١١٧)

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) الّذي يحق له الملك مطلقا فإن من عداه مملوك بالذات مالك بالعرض من وجه دون وجه وفي حال دون حال. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإن ما عداه عبيد له. (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) الّذي يحيط بالأجرام وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام ، ولذلك وصفه بالكرم أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين. وقرئ بالرفع على أنه صفة الرب.

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبده إفرادا أو إشراكا. (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) صفة أخرى ل (إِلهاً) لازمة له فإن الباطل لا برهان به ، جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على خلافه ، أو اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فهو مجاز له مقدار ما يستحقه. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) إن الشأن وقرئ بالفتح على التعليل أو الخبر أي حسابه عدم الفلاح. بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين ، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه فقال :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ). عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت». وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر». وروي «أن أولها وآخرها من كنوز الجنة ، من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح».

٩٧

(٢٤) سورة النور

مدينة وهي أربع وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١)

(سُورَةٌ) أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة. (أَنْزَلْناها) صفتها ومن نصبها جعله مفسرا لناصبها فلا يكون له محل إلا إذا قدر اتل أو دونك نحوه (وَفَرَضْناها) وفرضنا ما فيها من الأحكام ، وشدده ابن كثير وأبو عمرو لكثرة فرائضها أو المفروض عليهم ، أو للمبالغة في إيجابها. (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتتقون المحارم وقرئ بتخفيف الذال.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢)

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمهما وهو الجلد ، ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الّذي ، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء ، وإنما قدم (الزَّانِيَةُ) لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها ، والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم ، وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة لقوله عليه الصلاة والسلام «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ، وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخا مقبولا أو مردودا ، وله في العبد ثلاثة أقوال. والإحصان : بالحرية والبلوغ والعقل والإصابة في نكاح صحيح ، واعتبرت الحنفية الإسلام أيضا وهو مردود برجمه عليه الصلاة والسلام يهوديين ، ولا يعارضه «من أشرك بالله فليس بمحصن» إذ المراد بالمحصن الّذي يقتص له من المسلم. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) رحمة. (فِي دِينِ اللهِ) في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لو سرقت فاطمة بنت محمّد لقطعت يدها». وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه ، وهو من باب التهييج. (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب ، وال (طائِفَةٌ) فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واحدا واثنان ، والمراد جمع يحصل به التشهير.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) إذ الغالب أن المائل إلى الزنا

٩٨

لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء ، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق. وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك. لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن ، لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد ، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة. وقيل النفي بمعنى النهي ، وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الّذي ورد فيه ، أو منسوخ بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) فإنه يتناول المسافحات ، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال : «أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» ، وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية ، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) يقذفونهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإحصان ، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) والقذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن ، والإحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى ، وتخصيص (الْمُحْصَناتِ) لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع ، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الأداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافا لأبي حنيفة ، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) أي شهادة كانت لأنه مفتر ، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافا لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جوابا للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة ، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده. (أَبَداً) ما لم يتب ، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المحكوم بفسقهم.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن القذف. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بالتدارك ، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف ، والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل ، لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء ، وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم ، وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) علة للاستثناء.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(٧)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) نزلت في هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه ، وأنفسهم بدل من شهداء أو صفة لهم على أن إلا بمعنى غير. (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم ، و (أَرْبَعُ) نصب على المصدر وقد رفعه حمزة والكسائي وحفص على أنه خبر «شهادة». (بِاللهِ) متعلق بشهادات لأنها أقرب وقيل بشهادة لتقدمها. (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما رماها به من الزنا ، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنه باللام تأكيدا.

٩٩

(وَالْخامِسَةُ) والشهادة الخامسة. (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في الرمي هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه ، وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا». وتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد أن تعرض له فيه وثبوت حد الزنا على المرأة لقوله.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي الحد. (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماني به.

(وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في ذلك ورفع الخامسة بالابتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد ، ونصبها حفص عطفا على (أَرْبَعَ). وقرأ نافع ويعقوب (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من (غَضَبَ) ورفع الهاء من اسم (اللهِ) ، والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) متروك الجواب للتعظيم أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) بأبلغ ما يكون من الكذب ، من الأفك ، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جرع ظفار قد انقطع ، فرجعت لتلتمسه فظن الّذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار ، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد ، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به. (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة ، يريد عبد الله بن أبي ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ، وهي خبر إن وقوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) مستأنف والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والهاء للإفك. (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا. (لِكُل ِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه. (مِنْهُمْ) من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به (وَالَّذِي) بمعنى الذين. (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى أشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٣)

١٠٠