الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

القرآن لم يبعد كثيرا عن فصيح الكلام المختار من كلام العرب ، وأن العرب عند ما عجزوا عن الإتيان بمثله ، كان ذلك راجعا إلى أنهم سلبوا العلوم التي كانوا يتمكنون بها من معارضته ...

يقول الخفاجي وهو يردّ على أبي الحسن الرماني الذي يرى أن إعجاز القرآن راجع إلى بلاغته وفصاحته وتلاؤم نظمه ... يقول : (ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام في هذه القضية ، ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه ، ولعل أبا الحسن الرماني يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة ... ثم يعلن القول بالصرفة فيقول : وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته ، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك) (١).

وقد زعم السفاريني أن القاضي عياض له ميل إلى القول بالصرفة فقال : (قلت : وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة ، فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ، ولا يكون فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه) (٢).

والحق أن القاضي عياض لم يمل إلى الصرفة ، لا من قريب ولا من بعيد ، وإنما استعرض أقوال العلماء في وجوه الإعجاز ، سواء من أثبت الصرفة أو من نفاها ، ثم إننا نجده قد بسط الحديث في إعجاز القرآن ، وتحديه للعرب وللناس جميعا ، وذكر آيات التحدي تباعا وأوضح بإسهاب خصائص اللغة العربية ، وما كان عليه العرب من فصاحة وبلاغة وبيان ومع كل هذا ، والقرآن يتحداهم ، نجدهم عاجزين ناكصين ... وهذا ما قاله القاضي عياض وهو يعرض أقوال العلماء في وجوه الإعجاز يقول : (وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه ، وحسن نظمه ، وإيجازه ، وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ،

__________________

(١) سر الفصاحة ، عبد الله بن سنان الخفاجي الحلبي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٤٠ ه‍ / ١٩٨٢ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) لوامع الأنوار البهية ، للسفاريني ، ١ / ١٧٥.

٨١

وقلب العصا ، وتسبيح الحصى وذهب الشيخ أبو الحسن إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ولا يكون ، فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه) (١) ، فنحن نميل إلى الاعتقاد بأنه قد عرض القولين مجرد عرض ، بل إنه قد جزم بإعجاز القرآن بالتحدي لا بالصرفة (٢).

هؤلاء هم أبرز من قال بالصرفة ، بل هم الذين وضعوا التصور الواضح لمفهوم الصرفة ، ويتضح لنا بعد أن تعرفنا على ما ذهبوا إليه أن آرائهم تتلخص بمذهبين :

أولا : النظّام ومن سار على نهجه ، وهؤلاء يرون أن العرب صرفوا عن معارضة القرآن ولم يحاولوا معارضته ، ولو حاولوا لاستطاعوا أن يأتوا بمثله.

ثانيا : الشريف المرتضى والخفاجي ومن سار على نهجهما ، وهؤلاء يرون أن الله سلب من العرب العلوم التي يحتاجون إليها لمعارضة القرآن الكريم ، ولو حاولوا معارضته لفشلوا بسبب سلب العلوم التي تمكنهم من معارضته والإتيان بمثله.

وكلا المذهبين مردود بأدلة قاطعة وواضحة ، وهذا ما سيتناول في المبحث القادم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، تحقيق مصطفى عطى ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٠ ، ١ / ٣٧٣.

(٢) والذي يراجع ما كتبه القاضي عياض في هذا الصدد في كتابه الشفا ، ص : ٣٧٠ وما بعدها يجد مصداق ما قلناه.

٨٢

المبحث الثاني

نقد مذهب الصرفة

يتسنّى لنا من خلال ما بسطناه من الحديث عن الصرفة وقائليها ، وما تلخص لنا من مجموع ما ذهبوا إليه أن نركز النقد على هذا القول الشاذ بما يلي :

أولا : الرد على النظام ومن حذى حذوه :

والذين قالوا : إن الله صرف العرب عن المعارضة ، ولو فكروا وحاولوا لاستطاعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

١ ـ بداية نقول : يلزم من القول بالصرفة أن الإعجاز ليس ذاتيا في القرآن ، وإنما الإعجاز في المنع أي في غيره ، وهذا القول باطل لأن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن بأوصاف تدل على أنه معجز بذاته وأول وأهم هذه الأوصاف أنه قد تحداهم أن يأتوا بمثله ، كما قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) وأيضا قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) وقوله جلّ ثناؤه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣) ، فقد قرر سبحانه وتعالى في الآية الأولى أن الإنس والجن مهما تضافرت قواهم ، وتآزرت جهودهم ليعارضوه لم ولن يستطيعوا أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، فلو كان الإعجاز بالصرفة كما يقولون لاقتضى سياق الخطاب أن يأتي هكذا «لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لصرفهم الله عن ذلك» ولكن لم يرد مثل هذا أبدا ، بل إن الحق جعل التحدي في الإعجاز بالقرآن ذاته لا بالمنع والصرف ...

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة هود ، الآية : ١٣.

٨٣

كذلك فإن الآية الثانية والثالثة ، تدلان على أن القرآن معجز بذاته لا بغيره ، وذلك لأن الله جل جلاله أودع فيه من المزايا والصفات السامية ، التي لا يمكن أن يصل إلى مستواها طوق أحد من الخلق ليعارضها وليجاريها ، ومن هنا كان التحدي بالقرآن نفسه ونستبين ذلك من أن القرآن سلسل آيات التحدي لهم ، وسفّه عقولهم وأثار حميتهم ، فلو كان الإعجاز بالصرفة ، لما عرض آيات التحدي ، إنما كان يكفيه أن يقول لهم : إن دليل صدقي هو منعكم عن المعارضة ، فالمعجزة تكون نفس المنع عن المعارضة وليس القرآن ولكننا نجد أن الحق عرض آيات التحدي تباعا بصورة جازمة على أن المتحدى به هو القرآن ذاته ، وأنه المعجز لمزايا أودعها في ذاته ، وليست هذه الصفات خاصة عنه.

٢ ـ وردت آيات كثيرة تدل على أن القرآن معجز بذاته ، وذلك بسبب قوة تأثيره في النفوس وهيمنته على الأفئدة ، ومن أجل هذا كان الكفرة يهمس بعضهم في البعض لئلا يصغوا إلى القرآن حتى لا يسحرهم جماله وبيانه ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (١) كما أن القرآن كان له تأثير عجيب في نفوس المسلمين الخاشعين وإلى هذا يشير مولانا تبارك وتعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢). يقول الشيخ محمد أبو زهرة : (إن العرب عند ما تلقوا القرآن راعهم بيانه ، وأثار إعجابهم أسلوبه وعباراته ، وقالوا : ما رأينا مثله شعرا ولا نثرا ، فكان العجز لذاته ، لا لشيء خارج عنه ، وما لنا نفترض ما لم يقولوا ، وما لم يفعلوا ، وما لم يقدروا ، إلا أن يكون ذلك تمويها وإنكارا للواقع المستقر بفرض وهميّ ... وأيضا فإنه لو كان العجز لأمر خارجي لا لأمر ذاتي فيه ، بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا ، فإن ذلك يقتضي أن يثبت أولا أنهم قادرون على مثله ، وهم أولا قد نفوا ذلك عن قدرهم ، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم ، ولو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم وما يكون متماثلا في نسقه ونسجه ، ولهم مثل رنينه وصوره البيانية في شعر

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٢٣.

٨٤

أو نثر ، ولكن المتتبع للمأثورات العربية في الجاهلية والإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن في ألفاظه أو معانيه أو صوره البيانية) (١).

٣ ـ وأما الرد على النظّام ومن معه فإنا نقول : (كيف يصح القول أن همتهم لم تتجه للإتيان بمثل القرآن ، وهم الذين لم يتركوا سبيلا للقضاء على دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلكوا كل طريق شاق ، وحاربوه وناوءوه وقاطعوه ، وآذوه مع إبطاله لمعتقداتهم ، وإثارته لحفيظتهم ، واستفزازه لمشاعرهم ، وإلهابه لغيرتهم وأصاب موضع عزتهم وفخارهم ، وقد مكّنهم من نفسه لو استطاعوا فدعاهم وتحداهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن ولو كان فيهم أدنى قدرة ، أو عرفوا أحدا يملكها في أقصى الأرض لبعثوا إليه كما بعثوا لليهود يسألونهم عمّا يسألون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ليحرجوه ، فلا يصح بعد هذا أن يقال : إن همتهم لم تتجه للإتيان بمثله) (٢).

ثم إن أول من رد على النظّام تلميذه الجاحظ ، والجاحظ كما نعلم معتزلي ، ولكنه كان حافلا بالصياغة اللغوية ، وممن يجعلون لصفاء العبارة ورونقها شأنا في البلاغة ، كذلك هو كما وصفه ابن النديم في الفهرست : (بأنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويثبت فيها للنظر) (٣).

وها هو ذا الجاحظ يتحدّث عن إعجاز القرآن ونظمه وأسلوبه البياني ، رادّا في ذلك على أستاذه النظّام يقول : (بعث الله محمدا أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدّة ، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحميّة دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظّهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم ، وهو في ذلك

__________________

(١) المعجزة الكبرى ، لمحمد أبو زهرة ، ص : ٨٣.

(٢) دراسات في علوم القرآن الكريم ، د. فهد الرومي ، الرياض ، مكتبة التوبة ، الطبعة السابعة ، ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٨ ، ص ٢٧٤ ، وانظر روح المعاني والسبع المثاني ، محمد الألوسي أبو الفضل بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، د. ت ، ١ / ٢٩.

(٣) الفهرست ، محمد بن إسحاق أبو الفرج النديم ، بيروت ، دار المعرفة ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ ، ١ / ١٦٩ ، وانظر : أبجد العلوم في بيان أحوال العلوم ، صديق بن حسن القنوجي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، تحقيق ، عبد الجبار زكار ، ١٩٧٨ ، ٢ / ٢٦٠.

٨٥

يحتجّ عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة. واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحديا لهم بها وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشّف من نقصهم ما كان مستورا وظهر منه ما كان خفيا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا ، قال فهاتوها مفتريات ، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكايد فيه ، يزعم أنه قد عارض وقابل وناقض ، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم ، واستحالة لغتهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال ، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج ، واللفظ المنثور ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال ـ أكرمك الله ـ أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين ، مع التقريع بالنقص والتوقيف على العجز ، وهم أشد الخلق أنفة ، وأكثرهم مفاخرة ، والكلام سيد عملهم ، وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة ، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة ، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه) (١).

(ذلك هو رأي الجاحظ في إقامة الحجّة على وقوع الإعجاز بالقرآن ، وهو رأي كما ترى تقوم بين يديه حجج مشرقة ، وأدلة قاطعة وإن أكثر الذين أقاموا الحجة على إعجاز القرآن من هذا الوجه إنما نظروا إلى رأي الجاحظ هذا ، واعتمدوا عليه ، وداروا حوله) (٢).

٤ ـ ويرد الزرقاني ردا دقيقا على من قال بالصرفة ، وذلك بعد ما عرض شبهة القائلين بها وبدأ بتفنيدها فقال : (... فينقضه الواقع التاريخي أيضا ، ودليلنا على هذا ما

__________________

(١) انظر : الإتقان ، للسيوطي ، ٤ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) الإعجاز في دراسات السابقين ، عبد الكريم الخطيب ، ص : ١٦٤.

٨٦

تواترت به الأنباء من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ، ونالت منالها من عزائمهم ، فهبوا هبّة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ، ولم يدعوا بابا إلا دخلوه ، لقد آذوه وآذوا أصحابه فسبوا من سبوا ، وعذّبوا من عذبوا ، وقتلوا من قتلوا ، ولقد طلبوا إلى عمه أبي طالب أن يكفه وإلا نازلوه وإياه ، ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة ، لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ، ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون ، واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة ، وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية ، منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا ، وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه ، وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا ، وأن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن ، كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به ، ولما أبى عليهم ذلك ، عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة ، فأبى أيضا ، ونزل قول الله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (١) ونزلت كذلك سورة الكافرون ، ولقد اتهموه مرة بالسحر وأخرى بالشعر وثالثه بالجنون ورابعة بالكهانة ، وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم ، فيبهتونه ويكذّبونه أمام من لا يعرفونه ، ولقد شدّوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم ، ولقد تآمروا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه لو لا أن حفظه الله وحماه من مكرهم ، وأمره بالهجرة من بينهم ، ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره ، فنشبت الحرب بينه وبينهم في خمس وسبعين موقعة ، منها سبع وعشرون غزوة ، وثمان وأربعون سرية ، فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ونبي القرآن ، وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل زاهدين في النزول إلى هذا الميدان ، وهل يصح مع هذا كله أن يقال : إنهم كانوا في تشاغل عن القرآن غير معنيين به ولا آبهين له ، وإذا كان أمر القرآن لم يحركهم ولم يسترع انتباههم فلما ذا كانت جميع هذه المهاترات والمصاولات مع أن خصمهم الذي يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة ، ودلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به ، أليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٦١.

٨٧

معارضة القرآن ليست إلا بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة واقتناعهم بإعجاز القرآن ، وإلا فلما ذا آثروا الملاكمة على المكالمة ، والمقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف) (١).

٥ ـ كما أن الزركشي يورد ردا هاما في هذا الصدد ، لأنه يعتبر القول بالصرفة قولا فاسدا لأن القول بالصرفة هو (زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي ، وخلوّ القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة ، فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم العظمى ، ولا معجزة له باقية سوى القرآن ، وخلّوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة) (٢).

هذه مجموعة من الردود الموجزة على النظّام ومن تبعه ، وقد تبين من خلال استعراضها بطلان القول بالصرفة التي زعمها هذا الفريق ، وأما بالنسبة للرد على الفريق الثاني الذي يتمثل بالمرتضى ومن تبعه ، فهاك هو :

ثانيا : الرد على المرتضى ومن شايعه :

فهؤلاء زعموا أن الله سلب من العرب العلوم التي يحتاجونها في معارضة القرآن ويتلخّص الرد عليهم بما يلي :

١ ـ نقول : (وهل انحطت علومهم وعقولهم بعد التحدي كما كانت عليه قبل التحدي؟! إننا إذا قارنا بين أساليبهم في الكلام قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد البعثة ، لم نجد تفاوتا بين أساليبهم ، وعلى هذا الزعم كان ينبغي أن تسفّه أساليبهم بعد التحدي ، ولو أن العلوم سلبت منهم فلما ذا لم يلجئوا إلى كلام فصحائهم من القدماء الذين لم يحضروا عصر التنزيل ، ولم تسلب منهم العلوم ، فيأتوا بقطعة شعرية أو خطبة محفلية فيعارضوا بها القرآن؟ ولما ذا لم ينطقوا بهذا السلب ويشيعوا بأنهم سلبوا علومهم فلا يقدرون على معارضة القرآن؟ ولا يقال : إن ذلك سيكون حجّة عليهم ملزمة لهم لتصديقه ، لأن باب الافتراء كان مفتوحا عندهم ، فكانوا يستطيعون أن يدّعوا أن علومهم

__________________

(١) انظر : مناهل العرفان ، للزرقاني ، ٢ / ٣٠٢ وانظر : الإتقان ، للسيوطي ، ٢ / ٣١٤ ـ ٣١٥ ، وانظر : تفسير القرآن العظيم ، للإمام ابن كثير ، ١ / ٦٣.

(٢) البرهان في علوم القرآن ، للزركشي ، ٢ / ٩٥ ، و ٢ / ١٢٣ ، وانظر : البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ، كمال الدين عبد الواحد الزملكاني ، بغداد ، مطبعة العاني ، تحقيق ، أحمد مطلوب وخديجة الحديثي ، الطبعة الأولى ، ١٣٩٤ ه‍ / ١٩٧٤ ، ص : ٥٣ وما بعدها.

٨٨

سلبت بطريق السحر كما افتروا : إن تأثير القرآن على الأنفس إنما هو من قبيل السحر) (١).

٢ ـ ثم إن قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) ففي الآية دليل على أن عجزهم كان مع وجود قدرتهم ، وإلا فهل يمكن أن يستقيم التحدي ويتمّ مع المنع والعجز ، وكذلك فإن إشارة الآية إلى المظاهرة والمعاونة دليل آخر على تكاتف القوى ، وتآزر الجموع ، وهل يكون هذا إلا مع بقاء القدرة ، وفي نفس الوقت دليل على العجز مع القدرة ، فلو سلبت منهم العلوم كما يزعم المرتضى لما صحّ البتة التحدي لا عقلا ولا شرعا.

٣ ـ ثم إن (استعظام العرب لفصاحة القرآن وبلاغته ، وتعجبهم من ذلك لهو دليل على بطلان الصرفة ، فلو كانوا مصروفين عن المعارضة بنوع من الصرف لكان تعجّبهم للصرف لا للبيان المعجز وكلامهم قبله ، كالفرق بين كلامهم بعد التحدي وبين القرآن ، ولمّا لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة) (٣) ، والتاريخ يثبت أن العرب أبدا لم تفقد عقولهم بعد التحدي ، لأن سلب العلوم وقت التحدي يؤدي إلى زوال العقول وإلى الجنون ، ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث أبدا ، بل بقيت العقول بعد التحدي كما كانت قبله ، وكذلك العلوم.

٤ ـ ونجد أن للآلوسي في «روح المعاني» ردا على المرتضى مختصرا ومعبرا يقول : (وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ، ولو تناطقوا لشاع إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن ، دلّ على فساد الصرفة بهذا الاعتبار واستدل بعضهم على فساد القول بها بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٤) فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لأنه بمنزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره) (٥).

__________________

(١) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ٦٠.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٣) الفوائد المشوق إلى علوم القرآن ، محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ابن القيم ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤ ، ص : ٣٨٦.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٥) روح المعاني ، للآلوسي ، ١ / ٣٠.

٨٩

٥ ـ وبالنسبة لزعم هذا الفريق بأن علوم العرب سلبت ، يشير الدكتور مصطفى مسلم إلى لفتة هامة هاهنا فيقول : (وإن كان القرآن غير معجز بشيء ذاتي فيه ، وإنما لم يعارضه العرب بصرف دواعيهم عن المعارضة ، أو بسلب العلوم منهم ، فهل أحسّ النظّام والمرتضى بما وصفوا العرب به من صرف وسلب؟ فلما ذا لم يأتيا بمعارضة للقرآن ، وكان النظّام من الأذكياء والماهرين كما يشهد له تلميذه الجاحظ ، والمرتضى مشهود له أنه كان من فرسان البلاغة والبيان) (١). ويذيّل هذا المبحث باستدراكين هامين حول نقد مذهب الصرفة ، الأول للباقلاني والثاني للجرجاني ، يقول الباقلاني : (ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة ، أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة ، لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون المنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه) (٢).

ويقول الجرجاني : (... ثم إن هذه الشناعات التي تقدّم ذكرها ، تلزم أصحاب الصرفة أيضا وذلك أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن ، وعن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه ، لكان لأن أدخل عليهم العجز عنه ، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله ، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه ، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له ، لكان ينبغي ألا يتعاظمهم ، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمره وتعجبهم منه ، وعلى أنه قد بهرهم ، وعظم كل العظم عندهم ، ولكان التعجب للذي دخل من العجز عليهم ، ولما رأوه من تغير حالهم ، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلا ، وأن سد دونه باب كان لهم مفتوحا ، أرأيت لو أن نبيا قال لقومه : إن آيتي أن أضع يدي على رأسي ، وكان الأمر كما قال ، ممّ يكون تعجب القوم؟ أمن وضعه يده على رأسه ، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم) (٣).

وفي خاتمة المبحث يتضح أن الذي ذهب إلى القول بالصرفة ، إنما هو إنسان ماكر مخادع ، جاف في تذوقه لمعاني القرآن العذبة ، ذلك لأن من قرأ القرآن بحسه وروحه ، وعقله وفكره وجد نفسه يعيش في روضة من رياض الجنة ، ويشعر أن كلام الحق يثير في

__________________

(١) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ٦٠ ، وانظر : مباحث في علوم القرآن ، منّاع القطان ، الرياض ، مكتبة المعارف الطبعة الأولى ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ ، ص : ٢٦٩.

(٢) إعجاز القرآن ، للباقلاني ، ص : ٥٨.

(٣) دلائل الإعجاز ، للجرجاني ، ص : ٣٧٣.

٩٠

أقاصي نفسه مشاعر الحب والولاء لله تبارك وتعالى ، فضلا عما يساور نفسه من نشوة يجد متعتها وهو يتلو القرآن الكريم ...

زيادة على ذلك فقد صدق من قال : رب ضارّة نافعة ، نعم فلقد كان للقول بالصرفة أثر واضح في دفع العلماء للرد عليه ، وذلك من خلال الاتجاه إلى البحث والكتابة والتأليف في ميادين البلاغة القرآنية ، والكمّ الكبير من كتب البلاغة الذي نراه اليوم ، إنما كان انعكاسا واضحا للمجهود الذي قدمه السلف الصالح ، وهم يردون على القول بالصرفة ، وذلك من خلال دراسة أسرار الإعجاز في كتاب الله تعالى ، والتأمل في أسلوبه البياني ، وإيقاعه النفسي ... فكانت هذه الكتب ثروة ذخرت بها المكتبة العربية والإسلامية ، ويعتقد أن أحدا من الناس اليوم لا يمكن أن يجرؤ على القول بالصرفة أو ينادي به ، لأن من نادى به قديما إنما تذرع بفكرة عدم معارضته من الناحية البيانية ، أما اليوم ، وبعد انكشاف أسرار الكون ، والكشف عن غوامضه وخفاياه ، ووقوف العلماء على الإعجاز العلمي الذي يبرهن على أن ما توصل إليه علماء اليوم من كثير من الحقائق الكونية ، كان القرآن الكريم قد سبقهم لتسطير أسسها وتسجيل قواعدها قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن والدارس لهذا الجانب العلمي من القرآن الكريم بدقة وأناة لا بد إلا وأن يطأطأ الرأس إجلالا وإخباتا لعظمة هذا الكتاب ، على أننا نؤكد أن الجانب البياني إنما هو معجز أبد الدهر وأنه الرباط العام لكل مناحي وأوجه الإعجاز في كتاب الله ...

فالقول بالصرفة وهم لا يستند إلى دليل أو برهان ، بل هو مردود بأدلة نقلية وأخرى عقلية كما ورد ذلك في ثنايا البحث ، كما أنه مردود بتكذيب الواقع التاريخي له ، والذي أوضح سفور الصرفة وبطلانها .... وبإمكاننا الآن وقد طوينا ملف الصرفة ونقدها ، أن ننتقل لموضوع أشمل من هذا ، ألا وهو : أوجه إعجاز القرآن ، والذي سيدرس في المبحث القادم إن شاء الله تعالى.

٩١

المبحث الثالث

أوجه إعجاز القرآن

اتضح من خلال المباحث السابقة ، أن القرآن الكريم معجزة الدهر ، وأن العرب قد خضعوا لسلطانه ، وأقروا بإعجازه ، واعترفوا أنهم قاصرون عن مطاولته ، وأنهم عاجزون عن الإتيان بأقصر سورة من مثله ، ثم إن هذا الإعجاز نابع من ذاته ، وليس بسبب خارجي عنه ... وإذا كان شأن إعجاز القرآن هذا ، فلما ذا نجد أن العلماء اختلفوا قديما وحديثا في تحديد وجوه إعجاز القرآن والجهات التي منها كان الإعجاز؟.

القرآن معجز ، نعم ، ولا خلاف في ذلك أبدا ، لما دلت عليه البراهين الواضحة ، والدلائل الساطعة ، التي سيقت لإشباع الحديث عن إعجاز القرآن ، ولكن لسائل أن يتساءل فيقول : من أيّ جهة يمكن لنا أن نقف على إعجاز القرآن؟.

هل من جهة أسلوبه ودقة عبارته وكلامه؟

ولما ذا؟ وكتاب الله لم يندّ على قواعد اللغة العربية ، ولا على تركيب عبارات وجمل وأساليب الكلام العربي الذي استخدموه فيما بينهم ، وأقروه على أنه لغة الخطاب المستعملة فيما بينهم؟.

أم أن الإعجاز جاء من جهة ألفاظه؟

ولما ذا؟ والقرآن كانت صياغته من نفس الألفاظ التي يستخدمها العرب في صياغة خطبهم وأشعارهم ومدائحهم وقصائدهم ، وأفانين الكلام الجذّاب لديهم؟.

أم أن الإعجاز جاء من جهة المعاني التي تضمنها القرآن الكريم؟

ولما ذا؟ وهل كانت المعاني التي ارتكزت عليها آيات القرآن غريبة على العرب ...؟ عند ما يتحدث القرآن عمّا سلف من قصص الأمم الغابرة ، وما جرى لتلك الشعوب البائدة ، فهل يصعب على العربي فهم القصة ومغزاها ومحتواها؟ وعند ما

٩٢

يتحدث عن التربية والتهذيب في الأخلاق والسلوك والمعاملات ، فهل يتعسّر على العربي فهم هذه الأخلاقيات المطروحة والمعروفة؟.

وهكذا عند ما يتحدث عن باقي الجوانب الحياتية والتشريعية وغيرهما ، فإن العرب كانوا بسليقتهم الصافية يدركون وبسهولة كل هذه المعاني القرآنية ...

من أين جاء الإعجاز إذن؟ إن القرآن لم يبعد عن كلام العرب ولغتهم ، والمادة التي يتألف منها كلامهم؟

هذا ما يطوف في أذهان كثير من الناس ، ولكن يقرر أن القرآن معجز ... إنّه معجزة خالدة ، مع كل ما ذكر ، فإن العرب قد عجزوا عن الإتيان ولو بأقصر سورة من مثله.

ولهذا الذي ذكر ، فإن العلماء قديما وحديثا انكبّوا على دراسة القرآن ، والكشف عن أسراره ووجوه الإعجاز فيه ، فاتجهت أبحاثهم ودراساتهم الغزيرة لكي يقفوا على السر الذي به كان القرآن معجزة كبرى ، وتبوّأ مكانة سامية وعظيمة تنزوي لديه الرقاب ، وتقصر عن مطاولته النفوس والطمع للوصول إلى عشر معشاره همم جهابذة الناس ، مع أنه كلام من جنس كلامهم ...

وراح العلماء يكتبون في وجوه إعجاز القرآن ، فمن الذين أفاضوا الحديث عن إعجاز القرآن الإمام «الباقلاني» في كتابه «إعجاز القرآن» (١) ، والإمام البلاغيّ الكبير «عبد القاهر الجرجاني» في كتابه «دلائل الإعجاز» (٢) ، وكذلك القاضي «عياض» في كتابه القيّم «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (٣) فقد تحدث عن وجوه إعجاز القرآن ، والإمام «القرطبي» وغيرهم ... ومن المعاصرين الذين تحدثوا عن وجوه إعجاز القرآن ، حجة الأدب في العصر الحديث «مصطفى صادق الرافعي» ، في كتابه «إعجاز القرآن» (٤) ، وقد أفرد الشهيد «سيد قطب» كتابا كاملا تحدث فيه عن وجه واحد من وجوه إعجاز القرآن هو «التصوير الفني في القرآن الكريم» (٥) ، وغير هؤلاء كثير ممن جنّدوا أقلامهم ، وأسهروا ليلهم ليقعوا على أسرار وجوه الإعجاز في كتاب الله تعالى.

__________________

(١) إعجاز القرآن ، محمد بن الطيب الباقلاني.

(٢) دلائل الإعجاز في علم المعاني ، للإمام البلاغي عبد القاهر الجرجاني.

(٣) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي.

(٤) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، لمصطفى صادق الرافعي.

(٥) التصوير الفني في القرآن الكريم ، لسيد قطب ، القاهرة ، دار الشروق ، ١٩٩٧.

٩٣

وسيقتصر الحديث على رأي اثنين من العلماء في وجوه الإعجاز ، ثم يبين الراجح من مذاهبهم مع تعقيب ونقد ومناقشة لكل مذهب على حدة ، ثم أقرر وأعدد تعدادا ما قد ألهمني الله إياه في تحديد أوجه إعجاز القرآن الكريم.

أولا ـ وجوه إعجاز القرآن كما حددها الإمام الباقلاني (١) :

ذهب الإمام الباقلاني في تحديده لأوجه إعجاز القرآن إلى ثلاثة أوجه وهي :

(أ ـ يتضمن الإخبار عن الغيوب ، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ، ولا سبيل إليه ، ثم أنه قد أدرج تحت هذا البند نوعين من إعجاز القرآن وهما : غيب المستقبل ، والوفاء بالوعد ، وساق طائفة من الأمثلة التي تدل على ما ذهب إليه.

ب ـ ذكر في هذا الوجه الثاني ، ما يدل على أن القرآن أخبر عن غيوب ماضية ، علما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.

ج ـ في الوجه الثالث تحدث عن القرآن من حيث أنه بديع النظم ، عجيب التأليف ، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه ، ثم إنه قد فصّل الوجه الثالث في عشرة نقاط نذكرها هنا كما أوردها هو رحمه‌الله تعالى.

يقول : منها ما يرجع إلى الجملة وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد ، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفّى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا في وزنه وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل فيه ، ولا يتصنع له ، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من

__________________

(١) ت ٤٠٣ ه‍ ، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ، ولد في البصرة ، وتوفي في بغداد ، من كبار العلماء في علوم القرآن وصاحب كتاب «إعجاز القرآن» الذي يعتبر من أبرز وأهم المراجع في الإعجاز. طبقات المفسرين ، للأدنةوي ، ١ / ٤٣٩ ، وانظر مقدمة الشيخ محمد سكر لكتاب : إعجاز القرآن ، للباقلاني ، ص : ٧ ، بتصرف.

٩٤

باب مسجع ، ولا فيه شيء منه وكذلك ليس من قبيل الشعر ، لأن من الناس من زعم أنه كلام السجع ، ومنهم من يدعى فيه شعرا كثيرا والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع ، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم ، أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن ، وتميز حاصل في جميعه.

ومنها : أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع ، والمعاني اللطيفة والفوائد الغزيرة ، والحكم الكثير ، والتناسب في البلاغة ، والتشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر ، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف ، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (١) وقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال ، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره فتأمله تعرف الفصل.

وفي ذلك معنى ثالث وهو : أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج ، وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد وتبشير وتخويف ، وأوصاف وتعليم أخلاق كريمة ، وشيم رفيعة ، وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها ، ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور ، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو ، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح ، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين ، ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ ... ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ ، رأيت التفاوت في شعره على حسب

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

٩٥

الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ، ووقف دونه ، وبان الاختلاف على شعره وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم ، وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا ، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.

ومعنى رابع وهو : أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بيّنا في الفصل والوصل ، والعلو والنزول والتقريب والتبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع ، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره ، والخروج من باب إلى سواه ، حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح ، وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء ، وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضي وتنقل يستحسن ، وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء والتحول من باب إلى باب ، ونحن نفصل بعد هذا ، ونفسر هذه الجملة ، ونبين أن القرآن على اختلاف فنونه ، وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة ، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف ، والمتباين كالمتناسب ، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد ، وهذا أمر عجيب تبين به الفصاحة ، وتظهر به البلاغة ويخرج معه الكلام عن حد العادة ، ويتجاوز العرف.

ومعنى خامس وهو : أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن ، كما يخرج عن عادة كلام الإنس ، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ، ويقصرون دونه كقصورنا ، وقد قال الله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) فإن قيل هذه دعوى منكم وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن الإتيان بمثله وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ، وإن كنا عاجزين كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة وأسباب غامضة دقيقة لا نقدر نحن عليها ، ولا سبيل لنا للطفها إليها ، وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل؟ قيل : قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عزوجل ، وقد

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

٩٦

يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن ، وما يروون لهم من الشعر ، ويحكون عنهم من الكلام ، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم ، منقول عنهم ، والقدر الذي نقلوه من ذلك قد تأملناه ، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس ، ولعله يقصر عنها ، ولا يمتنع أن يسمع كلامهم ، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم ، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات ، على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان ، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم.

ومعنى سادس وهو : أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البسط والاقتصاد ، والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح ، والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم موجودة في القرآن ، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة وقد ضمنا بيان ذلك من بعد لأن الوجه هاهنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل.

ومعنى سابع وهو : أن المعاني التي تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ويمتنع وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة ، والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة ، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر والأمر المتقرر المتصور ، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ويراد تحقيقه بأن التفاضل في البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى والمعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر فالبراعة أظهر والفصاحة أتم.

ومعنى ثامن وهو : أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام أو تقذف ما بين شعر فتأخذها الأسماع ، وتتشوف إليها النفوس ، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به ، كالدرة التي ترى في سلك من خرز ، وكالياقوتة في واسطة العقد ، وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير ، وهي غرة جميعه ، وواسطة عقده ، والمنادي على نفسه بتميزه ، وتخصصه برونقه وجماله ...

٩٧

ومعنى تاسع وهو : أن الحروف التي بنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا ، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة ، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة وهو أربعة عشر حرفا ، ليدل بالمذكور على غيره ، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم ، والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمة أهل العربية ، وبنوا عليها وجوهها.

ومعنى عاشر وهو : أنه سهل سبيله ، فهو خارج عن الوحشي المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصنعة المتكلفة ، وجعله قريبا إلى الإفهام ، يبادر معناه لفظه إلى القلب ، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس ، وهو مع ذلك ممتنع المطلب ، عسير المتناول ، غير مطمع مع قربه في نفسه ، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به ، فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل والقول المسفسف ، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة ، فيطلب فيه الممتنع ، أو يوضع فيه الإعجاز ولكن لو وضع في وحشي مستكره ، أو غمر بوجوه الصنعة ، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف لكان لقائل أن يقول فيه ، ويعتذر أو يعيب ويقرع ولكنه أوضح مناره ، وقرب منهاجه ، وسهل سبيله وجعله في ذلك متشابها متماثلا ...) (١).

نلحظ في تقسيم الإمام الباقلاني أنه جمع وألمّ بما قيل في وجوه الإعجاز حتى زمانه ، وتناول أفكارا ذكرت قبله بالنقد والرد ، ولعلّ الجديد الذي جاء به الباقلاني هو التفريع والتفصيل الذي ذكره هنا ، كذلك المناقشة الموضوعية الدقيقة لآراء عرضها ثم بيّن بطلانها ، ويتضح هذا لو تأمّلنا في الموازنة التي أقامها بين الشعر والسجع والقرآن ، ثم نفى الشعر والسجع عن القرآن ، وكذلك المقارنة بين ما ينسبه العرب إلى الجن من أقوال وبين القرآن ...

ثم إننا نأخذ عليه أنه أسهب وبكثرة في الحديث عن الجانب البياني وفروعه وشعبه ، في حين أنه أغفل عددا من وجوه القرآن لم يذكر منها إلا الغيبي ، والحق أن كتابه «إعجاز القرآن» يعتبر أول كتاب مستقلّ تحدث عن إعجاز القرآن ، وهو من خيرة الكتب ، بل من أهم الكتب التي يرجع إليها الدارسون لقضية الإعجاز حتى عصرنا هذا.

__________________

(١) انظر : إعجاز القرآن ، للباقلاني ، ص : ٦٢.

٩٨

ثانيا ـ القاضي عياض ووجوه إعجاز القرآن (١) :

أورد القاضي عياض رحمه‌الله في كتابه «الشفا في التعريف بحقوق المصطفى» أوجه الإعجاز في أربعة ثم أتبع بها وجهين حكم عليهما بالضعف ، ثم ساق عدة أوجه ولم يعتد بها.

الوجه الأول : (حسن تأليفه ، والتئام كلمه ، وفصاحته ، ووجوه إيجازه ، وبلاغته الخارقة لعادة العرب وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن ، وفرسان الكلام ، فقد خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص غيرهم من الأمم ، وأوتوا من دراية اللسان ما لم يؤت إنسان ، ومن فصل الخطاب ، ما يقيد الألباب ، جعل الله ذلك لهم طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة ... فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز ، أحكمت آياته وفصلت كلماته ، وبهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول وتظافر إيجازه وإعجازه ...) (٢).

الوجه الثاني : (صورة نظمه العجيب ، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ، ووقفت مقاطع آية ، وانتهت فواصل كلماته إليه ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له ، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، وتدلهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم ، أو سجع أو رجز أو شعر) (٣).

الوجه الثالث : (ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات ، وما لم يكن ولم يقع ، فوجد كما ورد ، وعلى الوجه الذي أخبر به) (٤).

الوجه الرابع : (ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم البائدة ، والشرائع الدائرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع

__________________

(١) ت ٥٤٤ ه‍ ، عياض بن موسى السبتي ، أحد مشايخ العلماء المالكية وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة ، منها الشفا ، وشرح مسلم ومشارق الأنوار ، وله شعر حسن ، وكان إماما في علوم كثيرة كالفقه واللغة ، انظر : سير أعلام النبلاء ، للذهبي ١٢ / ٢٢٥ بتصرف.

(٢) الشفا ، للقاضي عياض ، ١ / ٣٥٨.

(٣) المصدر نفسه ، ١ / ٣٦٩.

(٤) المصدر نفسه ، ١ / ٣٧٥.

٩٩

عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه ويأتي به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه ، وأن مثله لم ينله بتعليم) (١).

أما الوجهان اللذان ألحقهما بالأوجه الأربعة فهما :

(١ ـ الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وأناقة خطره ، وهي على المكذبين به أعظم ، حتى كانوا يستثقلون سماعه وتزيدهم نفورا) (٢).

(٢ ـ كونه آية باقية ، لا تعدم ما بقيت الدنيا ، مع تكفل الله بحفظه) (٣).

أما الأوجه التي ساقها رحمه‌الله ولم يعتد بها ، فهي كما يذكرها هو :

(أن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة لا يزال غضا طريا ...

وجمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ، ولا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نبوته خاصة ، لمعرفتها ، ولا القيام بها ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقليات ، والرد على فرق الأمم ، ببراهين قوية ، وأدلة بينة سهلة الألفاظ موجزة المقاصد ...

وجمعه فيه بين الدليل ومدلوله ، وذلك أنه احتج بنظم القرآن وحسن رصفه ، وإيجازه وبلاغته وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، فالتالي له يفهم موضوع الحجة والتكليف معا من كلام واحد ، وسورة منفردة.

وجعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ، ولم يكن في حيز المنثور ، لأن المنظوم أسهل على النفوس وأوعى للقلوب ، وأسمع في الآذان ، وأحلى على الأفهام ، فالناس إليه أميل ، والأهواء إليه أسرع.

ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه ، وتقريبه على متحفظيه ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤) وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم ، فكيف الجمّاء على مرور السنين عليهم.

__________________

(١) المصدر نفسه ، ١ / ٣٧٩.

(٢) الشفا ، للقاضي عياض ، ١ / ٣٨٤.

(٣) المصدر نفسه ، ١ / ٣٨٨.

(٤) سورة القمر ، الآية : ١٧.

١٠٠