الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

بيت عند الصفا ، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه حمزة ابن عبد المطلب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ممن كان أقام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له : أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمدا هذا الصابئ والذي فرق أمر قريش ، وسفّه أحلامها ، وعاب دينها ، وسب آلهتها ، فأقتله ، فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ، قال : وأي أهل بيتي؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه ، فعليك بهما ، قال : فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها : (طه) يقرئهما إياها ، فلما سمعوا حسّ عمر ، تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له : ما سمعت شيئا قال : بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد ، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك ، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ، وكان عمر كاتبا ، فلما قال ذلك ، قالت له أخته : إنا نخشاك عليها ، قال : لا تخافي ، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها ، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له : يا أخي إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر ، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها : (طه) فقرأها ، فلما قرأ منها صدرا قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ، فلما سمع ذلك خباب خرج عليه فقال له : يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول : «اللهم أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر ابن الخطاب» ، فالله الله يا عمر ، فقال له عند ذلك عمر : فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم ، فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه ، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف

٦١

فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فزع فقال : يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف ، فقال حمزة بن عبد المطلب : فأذن له فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائذن له» ، فأذن له الرجل ، ونهض إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لقيه في الحجرة ، فأخذ حجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه به جبذة شديدة وقال : «ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة» ، فقال عمر : يا رسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله ، قال فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عمر قد أسلم ، فتفرق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكانهم ، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينتصفون بهما من عدوهم) (١).

ثانيا ـ الطفيل بن عمرو الدوسي :

وما حدث لعمر بن الخطاب حدث للطفيل بن عمرو الدوسي ، وشعره لا يخفى على العرب وقصائده التي كان يتجمهر الناس في المحافل العامة والأسواق لسماعها ليست بخافية ، ومع ذلك عند ما قرع القرآن مغاليق قلبه ، خفت شعره والتهبت مشاعره بالإيمان فكان في زمرة الموحدين ، وها هو ذا يحدثنا عن تأثير القرآن ووقعه في قلبه يوم سمعه غضا طريا نديا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(... أن الطفيل بن عمرو قال : كنت رجلا شاعرا سيدا في قومي ، فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات قريش فقالوا : إنك امرؤ شاعر سيد وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه ، فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا ، فإنه فرق بين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وابنه ، فو الله ما زالوا يحدثوني شأنه وينهوني أن أسمع منه حتى قلت : والله لا أدخل المسجد إلا وأنا ساد أذني ، قال : فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفا ، ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما في المسجد ، فقمت قريبا منه وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، فقلت في نفسي : والله إن هذا للعجز وإني امرؤ ثبت ما تخفى عليّ الأمور حسنها وقبيحها ، والله لأتسمعن منه فإن كان أمره رشدا أخذت منه وإلا اجتنبته ، فنزعت الكرسفة ، فلم أسمع قط كلاما أحسن من كلام يتكلم به فقلت : يا سبحان الله ما

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

٦٢

سمعت كاليوم لفظا أحسن ولا أجمل منه ، فلما انصرف تبعته فدخلت معه بيته ، فقلت : يا محمد إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأخبرته بما قالوا وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول ، وقد وقع في نفسي أنه حق فاعرض عليّ دينك فعرض عليّ الإسلام فأسلمت ...) (١).

ثالثا ـ لبيد بن ربيعة :

(يعتبر لبيد أحد أصحاب المعلقات السبعة ، الذين سارت بشعرهم الركبان ، ومن أشراف الشعراء المجيدين الفرسان ، يفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمع كلامه ، ويسلم ، ولكن ما ذا فعل بالشعر الذي جرى في كيانه مجرى الدم من عروقه ، وجبلت به نفسه ، وعرفت به حياته ، وتناقله الناس عنه يتفاخرون به ويتمايلون طربا لسماعه ، بل يصل بهم الأمر لدرجة الجنون لأجله ... لقد ذهل هذا الرجل الفصيح البليغ ، الذي فتن الناس بشعره ، لقد ذهل عن نفسه وشعره ، فلم يعد يتمكن من قول الشعر ، إذ أفحمته عظمة القرآن وبلاغته فلم يقل بعد إسلامه إلا بيتا واحدا ، وهو قوله :

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى لبست من الإسلام سربالا)

(٢) لقد تذوق لبيد حلاوة البيان ، وتشربت عروقه منه ، وفاض الشعر والأدب في كيانه منذ نعومة أظافره ، ولكنه يوم سمع القرآن تقوضت أركان البيان لديه ، وامتدت أروقة البلاغة القرآنية في داخله حتى ملئت أقطار نفسه ، وعرف الحق فوقف عنده ، وانصاع لمستلزماته وأوامره ، وأصبح يستحي أن ينبث ببنت شفة في حضرة كلام رب الأرباب ... ويكفي أن نعلم ما للبيد من ثقل عظيم في دنيا الشعر ، وساحات الأدب والبيان ، من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيه مدحا وثناء وهو على المنبر : «أشعر كلمة قالتها العرب قول لبيد بن ربيعة ألا كل شيء ما خلا الله باطل» (٣) ، وليس بعد شهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادة ، ولا يعرف الفضل إلا ذووه ومع تألق لبيد في بلاغته ، وتفرده في شعره ، أيقن أن كلامه يتساقط ، ويتناثر أوزاعا ، بل ولا يذكر أمام سلطان القرآن وهيمنته على النفوس والأرواح.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، تحقيق ، شعيب الأرناءوط ومحمد نعيم العرقسوسي ، الطبعة التاسعة ، ١٤١٣ ه‍ ، ١ / ٣٤٥.

(٢) المعجزة القرآنية ، محمد حسن هيتو ، ص : ٤٣.

(٣) أخرجه أحمد في مسنده ، ٢ / ٤٤٤ ، رقم : (٩٧٣٥).

٦٣

رابعا ـ أنيس أخو أبي ذر الغفاري :

كذلك الأمر بالنسبة لأنيس ولغيره ممن سمع القرآن ، فقد مزق القرآن أستار الغفلة في كيانه وقشع سحب الظلام التي تلبّدت في سماء عقله ، ورأى نور الحق ، وضياء الهدى ببضع آيات طرقت مسمعه من فم الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علما أن أنيسا كان من أبرز شعراء العرب وخطبائها ، وممن كان لهم صولة وجولة في ساحات الهجاء والثناء إذا ما تبارى المتبارون ، وها هو ذا يصف القرآن وما شعر عند سماع آياته ، والحديث طويل في صحيح مسلم ونأخذ موطن الشاهد فيه : (... فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء ، فقلت : ما صنعت ، قال : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ، قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر ، كاهن ، ساحر ، وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي إنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون) (١).

(أرأيت كيف اعترف المخالفون من المشركين بسموّ مكانة القرآن ، وكيف أثنى عليه أناس تحولوا بسببه من الشرك إلى الإسلام بيقين فإنه لم يصدر ثناء هؤلاء واعتراف أولئك المشركين حين صدر إلا تنويها بأمر يعرفه ذوو الخبرة ، فهو إخبار عن شيء باد للعيون لا يرسل أحدهم بصره إلا رآه ، فقد أطلق كل من القائلين قوله وهو واثق أنه معلوم للجميع فليس من منصف بصير بمراتب الفضل في اللغة مؤمنا كان أم جاحدا إلا وجد نفسه مسوقا للاعتراف بإعجازه ، شاء أم أبى ، لظهوره عند نظرائه لشدة وضوحه ، لذا فإن أقوالهم دليل بالغ على إعجاز القرآن) (٢).

ويذيّل هذا المبحث بذكر تصريحات أبرز أساطين العلم والمعرفة ، ورائدي النهضة الحضارية الغربية المعاصرة الذين قرءوا القرآن بتدبر ورويّ ، فأفرزت دراساتهم هذه مجموعة طيبة وكبيرة من شهادتهم بإعجاز القرآن ، وبغض النظر عمّن آمن منهم ، أو من قال ذلك على سبيل الإنصاف والحق.

__________________

(١) رواه مسلم ، فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أبي ذر رضى الله عنه ، ٤ / ١٩٢٠ رقم : (٢٤٧٣) ، والذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ٢ / ٥١.

(٢) الرسالة الشافية ، للجرجاني ، ثلاث رسائل في الإعجاز ، ص : ١١٤ ـ ١١٥.

٦٤

ذيل كتاب «إشارات الإعجاز» بطائفة من الأقوال والآراء لكبار مفكري الغرب ، يتحدثون ويقرّون بعظمة القرآن وإعجازاته ولنثبت بعضها هنا.

يقول : «واشنجون إيرفنج (١) w.lrving» : (كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان وأساس سلوكه ، حتى إذا ظهر المسيح عليه‌السلام اتبع المسيحيون تعاليم الإنجيل ، ثم حلّ القرآن مكانهما فقد كان القرآن أكثر شمولا وتفصيلا من الكتابين السابقين ، كما صحّح القرآن ما قد أدخل على هذين الكتابين من تغيير وتبديل ، وحوى القرآن كل شىء ، وحوى جميع القوانين ، إذ أنه خاتم الكتب السماوية ...) (٢).

ويقول «بلاشير» (٣) : (لا جرم في أنه إذا كان ثمة شيء تعجز الترجمة عن أدائه فإنما هو الإعجاز البياني واللفظي والجرس الإيقاعي في الآيات المنزلة في ذلك العهد .. إن خصوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخطئوا عند ما لم يشاءوا أن يروا في هذا إلّا أغاني سحرية وتعويذية ، وبالرغم من أننا على علم استقرائيا فقط بتنبؤات الكهان ، فمن الجائز لنا الاعتقاد مع ذلك بخطإ هذا الحكم وتهافته ، فإن للآيات التي أعاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرها في هذه السور اندفاعا وألقا وجلالة ، تخلّف وراءها بعيدا أقوال فصحاء البشر كما يمكن استحضارها من خلال النصوص الموضوعة التي وصلتنا) (٤).

__________________

(١) ١٧٨٣ ـ ١٨٥٩ ، واشنجون إيرفنج ، قصصي وكاتب سير أمريكي ، اعتبره بعضهم أبا الأدب الأمريكي ، واعتبره آخرون مخترع الأقصوصة ، من آثاره القصصية : حكايات رحالة ، ومن كتبه : محمد وخلفاؤه. انظر : معجم أعلام المورد ، منير بعلبكي ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٢ ، ص : ٧٩ ، بتصرف.

(٢) إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ، سعيد النورسي ، بيروت ، دار المحراب للطباعة ، تحقيق ، إحسان قاسم الصالحي د. ت ، ص : ٢٥٠.

(٣) ١٣١٨ ـ ١٣٩٣ ه‍ ، ١٩٠٠ ـ ١٩٧٣ ، بلاشير ريجيس ، من علماء المستشرقين ومن أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق ، ومجمع الفرنسي الأعلى الأنستيتو بباريس ، فرنسي ، ضليع في العربية ، ولد في مونروج ، من ضواحي باريس ، تلقى دروسه الثانوية في الدار البيضاء بالمغرب وتخرج بكلية الآداب في الجزائر ، ، ألف بالفرنسية كتبا كثيرة وترجم بعضها إلى العربية ، من كتبه : ترجمة القرآن الكريم ، وتاريخ الأدب العربي ، وقواعد العربية الفصحى. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٢ / ٧٢ ، بتصرف.

(٤) إشارات الإعجاز ، سعيد النورسي ، ص : ٢٥٠.

٦٥

ويقول «بكثول» (١) : (القرآن هو الذي دفع العرب إلى فتح العالم ، ومكنهم من إنشاء إمبراطورية فاقت إمبراطوريات إسكندر الكبير ، والإمبراطورية الرومانية ، سعة وقوة وعمرانا وحضارة ودواما ...).

ويقول «غوته» (٢) : إذا اتجهنا إلى القرآن نفرنا منه في البداية ، ولكن سرعان ما يذهلنا ثم يجبرنا على تقديره في النهاية ، أما أسلوبه وهدفه فعظيم ورهيب وسام ، ولذا سيظل هذا الكتاب ذا تأثير فعّال على مدى الأجيال ، والقرآن سيحافظ على تأثيره إلى الأبد ، لأن تعاليمه عملية ... والإنسان منا إذا قرأ القرآن يرى فيه ولأول مرة شيئا جديدا لم يألفه ولكنه كلما ازداد في قراءته ازداد حبا له واجتذابا إليه ، حتى أخيرا يقول إلى إكباره وإجلاله) (٣).

هؤلاء المفكرون العالميون درسوا الإسلام دراسة عميقة وشاملة ، فأحبه بعضهم وآزره وآمن به آخرون وأعلنوا إسلامهم ، وإذا رجعنا إلى الوراء قليلا فلسوف نجد أن الحروب الصليبية كانت من أبرز الدعائم التي نهضت عليها هذه الدراسات والتصورات حول القرآن الكريم ، وهي سبب من أهم الأسباب الأولى التي جعلت الكثير من الغربيين يغيرون وجهة نظرهم فيما يخص الشرق بشكل عام وشامل والإسلام بشكل خاص ، ذلك لأن الغربيين يوم التحموا بالمسلمين رأوا منهم صفات النبل والشهامة والأخلاق والسلوك المستقيم وأيقنوا أن دين الشرق ليس كما يصوره الاستعمار من الانحطاط والتخلف ، حينها انكب الأوربيون يدرسون وبشكل متسلسل الشرق ، الذي كان

__________________

(١) ١٨٧٥ ـ ١٩٣٦ ، بكثول مارمادوك وليم ، ولد في لندن وحال ضعف صحته دون إتمام دراسته ، فأرسلته أمه إلى سوريا فتعلم العربية ودرس عادات أهلها وأخلاقهم ، ثم استدعاه اللورد كرومر إلى مصر حيث أقام مدة ، وصنف فيها كتابيه «أبناء النيل ، والنساء المحجبات» ونشر المقالات في الدفاع عن الإسلام ، ثم سافر إلى تركيا وعند عودته منها أشهر إسلامه ، ثم تولى منصب إمام المسلمين في لندن ، وقضى ثلاث سنوات في ترجمة معاني القرآن الكريم. انظر : المستشرقون ، نجيب العقيقي ، القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الرابعة د. ت ، ٢ / ١٠٢ ، بتصرف.

(٢) ١٧٤٩ ـ ١٨٣٢ ، غوته جوهان ، كبير شعراء الألمان ، وأحد عمالقة الأدب العربي ، تميز بتعدد المواهب ، فكان شاعرا وناقدا وروائيا وكاتبا ومسرحيا وعالما ، له روايات شهرية هي أحزان فرتر الشاب. انظر : معجم أعلام المورد ، منير البعلبكي ، ص : ٣٠٣ ، بتصرف.

(٣) قالوا في الإسلام والقرآن والرسول ، حسين سليم ، ص : ٨٩.

٦٦

لا يحرك في عقولهم ونفوسهم إلا ما قد تأصّل فيها من عداوة واشمئزاز ، نتيجة ما قد رسمه لهم أشخاص حاقدون.

ولا أدل على هذا الذي نقول من أن الرحلات المتعددة ، والصلة المباشرة المستمرة مع الشرق كانت وثيقة متينة ، وكان من نتائجها أنها قشعت الأوهام المظلمة التي تلبّدت في سماء عقول الغرب تجاه المسلمين وقرآنهم ونبيهم ، فمن من كتّاب الغرب الذين يحترمون أقلامهم وأفكارهم ، يجرؤ أن يكتب أو يقول بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو إله المسلمين كما كان يسوغ هذا لكتّاب غربيين مضوا؟.

وعند ما كتب الشيخ رشيد رضا مقدمة لكتاب «إعجاز القرآن» كان من جملة ما قال : (فإن من أوتي حظّا من بيان هذه اللغة ، وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ، ببلاغته وفصاحته وبأسلوبه في نظم عبارته وقد صرّح بهذا من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرّس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتابه الخواطر الحسان) (١).

والذي يستقصي هذه الأقوال المنصفة من علماء الغرب المنصفين يجدها كثيرة جدا ، وتدل بمجملها على أن هؤلاء حين قرءوا القرآن جذبهم إليه ، وشغل قلوبهم وعقولهم ، وقذف في أعماق فكرهم وضميرهم يقينا جازما بأن هذا الكتاب إنما هو كلام الله تعالى ، وأنه فوق كل المعجزات ، وأنه معجزة خالدة تبرهن بنفسها على نفسها ، ولا يمكن أن يصل طوق أحد من البشر مهما أوتي من بلغة وفصل خطاب ، إلى شيء يسير من بيان القرآن وإعجازه.

ولكن وبعد هذا العرض الذي عشنا أجواءه وتضاعيفه ، لنا أن نتساءل ، متى نشأ مصطلح إعجاز القرآن؟ وكيف كانت بدايته؟ وما هي الدوافع الأساسية الأولى التي حفّزت علماء المسلمين لئن يكتبوا مدونات في هذا المجال؟ هذا ما سيبحث في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) مقدمة كتاب ، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، لمصطفى صادق الرافعي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، د. ت ، ص : ٧.

٦٧
٦٨

الفصل الثاني

نشأة مصطلح إعجاز القرآن

تمهيد.

المبحث الأول : الصّرفة والقائلون بها.

المبحث الثاني : نقد مذهب الصّرفة.

المبحث الثالث : أوجه إعجاز القرآن.

٦٩
٧٠

تمهيد

مما لا شك فيه أن للقرآن الكريم جاذبية وهيمنة على النفوس والعقول ، كما أن

لأسلوبه ونظمه وبيانه سحرا يستولي على الأفكار والألباب ، وقد أدرك ذلك العرب إبان نزوله ، فالمؤمن منهم كانت النشوة القرآنية تنسكب في فؤاده ، فيشعر بسعادة لا تفوقها سعادة ، حتى الكافر والجاحد منهم ، كان يدرك ويستيقن أن هناك فرقا كبيرا بين كلام الخالق وكلام المخلوق ، وأن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو كلام الله تعالى ... ولا غرو ولا عجب من ذلك ، فالعرب قد بلغوا من الفصاحة والبيان درجة سامقة باسقة ، اتزنت فيها أساليبهم الكلامية إفرادا وتركيبا ، وزودهم الله بأدوات لغوية تمكنهم من قول الشعر البليغ ورصف الخطب الرنانة ، والحذق في البلاغة والبيان.

فسلامة الذوق العربي ، وجودة القريحة ، وبراعة الاستهلال والأداء ، وإدراك كنه الألفاظ وأبعادها دفعت العرب بشعور وإدراك عميقين ، أو بلا شعور أحيانا إلى تقديس القرآن والخضوع لحسن بيانه وعذب كلامه ... وظلت هذه المعاني ماثلة في الأذهان ، قائمة في الكيان ، في عصر النبوة والخلفاء الراشدين وفسحة من عصر الدولة الأموية ، غير أن اتساع رقعة الإسلام ودخول الأعاجم في هذا الدين وامتزاجهم بالمجتمع العربي ، أثّر في لغة العرب ، وبدأت السليقة العربية تفقد رونقها وجمالها ، لأن المسلمين من غير العرب قد وفدوا ومعهم أفكار وتيارات وتصورات مختلفة حول الإله والدين فراحوا يفكّرون بطريقة منطقية عقلية مجردة عن التذوق المتألق لمعاني اللغة الصافية.

في هذه الأثناء وتلكم الأجواء ، ظهر الحديث عن وجه إعجاز القرآن ، ولما ذا عجز العرب عن الإتيان ولو بسورة من مثله ، وما هو سرّ قصورهم عن ذلك ، وكان أول ما بدأ ذلك في البصرة ، التي كانت تحتضن مجموعة من المذاهب الكلامية والفكرية المتعددة عندها برز مصطلح إعجاز القرآن بين الناس وتداولته الألسنة ، وكان أول من قال به

٧١

النّظام وهو من كبار شيوخ المعتزلة عند ما قال : إن إعجاز القرآن ليس بشيء ذاتي فيه وإنما هو بصرف الله تفكير الناس عن معارضته ، وهذا القول الغريب نجد أنه قد ذاع في البصرة ، وعرف هذا القول «بالصّرفة».

عندها انبرى العلماء للرد على هذا القول المتهافت ، وبدءوا يفنّدونه ويبينون خطأه وخطره وأوضحوا أن إعجاز القرآن شيء قائم بذاته ، وأن الله تحدى به العرب فعجزوا عن الإتيان ولو بسورة من مثله ، ولم يصرف عقولهم عن التفكير في معارضته ... فكتبوا كتبا كثيرة في ذلك ، ونقدوا مذهب الصرفة ، وتحدّثوا عن أوجه إعجاز القرآن ، إلا أنهم اختلفوا في تحديد أوجه إعجاز القرآن ، كما أنهم اختلفوا في ثبات الإعجاز العلمي على التحديد إلى مؤيدين ومعارضين ، غير أنهم اتفقوا جميعا على بطلان القول بالصرفة ، وهذا مجمل ما سنجده في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

٧٢

المبحث الأول

الصّرفة والقائلون بها

سبقت الإشارة إلى أن نشأة مصطلح «إعجاز القرآن» تساورت مع القول بالصرفة ، بل إن القول بالصرفة كان هو الباعث الأول للحديث عن وجوه إعجاز القرآن الكريم ، وقبل أن نتحدث عمّن صدر هذا القول ، ومن الذي تبناه ودعا إليه ، أود أن أبدأ بتعريف كلمة «الصرفة» في اللغة والاصطلاح ، خلافا لمعظم الباحثين الذين يخوضون في الحديث عن الصرفة ومصدرها ، دون الاستهلال بتعريفها.

الصّرفة لغة :

بفتح الصاد وتسكين الراء ، يقول ابن منظور : (الصرف : رد الشيء عن وجهه صرفه يصرفه صرفا فانصرف ، وصارف نفسه عن الشيء ، صرفها عنه ، وقوله تعالى :

(ثُمَّ انْصَرَفُوا) رجعوا عن المكان الذي استمعوا فيه ، وقيل : انصرفوا عن العمل بشيء مما سمعوا.

(صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي أضلهم الله مجازاة على فعلهم ، وصرفت الرجل عني فانصرف ، والمنصرف قد يكون مكانا ، وقد يكون مصدرا ، وقوله عزوجل :

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي ، وصرف الله عنك الأذى واستصرفت الله المكاره ، وصرف الشيء ، أعمله في غير وجهه كأنه يصرفه عن وجه إلى وجه ، وتصرف هو ، وتصاريف الأمور : تخاليفها ، ومنه تصاريف الرياح والسحاب) (١).

__________________

(١) لسان العرب ، لابن منظور ، ٩ / ١٨٩ ، وانظر : مختار الصحاح ، محمد بن أبي بكر الرازي ، بيروت ، مكتبة لبنان ناشرون ، تحقيق محمود خاطر ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٥ ، ١ / ١٥٢ ، والفائق في غريب الحديث ، محمود بن عمر الزمخشري ، بيروت ، دار المعرفة ، تحقيق : علي البجاوي ، ومحمد إبراهيم ، الطبعة الثانية ، د. ت ، ٢ / ٢٩٤.

٧٣

وفي «التوقيف على مهمات التعريف» : (الصرف : بالفتح رد الشيء من حالة إلى أخرى ، أو إبداله بغيره وتصريف الرياح : صرفها من حال إلى حال ، ومنه تصريف الكلام والدراهم ، والصريف اللبن إذا سكنت رغوته كأنه صرفت الرغوة عنه ، والصرف بالكسر : صبغ أحمر خالص ، ثم قيل لكل خالص من غيره صرف كأنه صرف عنه ما يشوبه) (١).

الصرفة اصطلاحا :

معناها (أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن ، وسلب علومهم ، وكان مقدورا لهم ، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات) (٢).

هذا معنى الصرفة ، ولكن منشأ القول بالصرفة ، وما هي ملامح الجوّ الذي صدر عنه هذا الفكر والعوامل التي كوّنت هذا التصور في أدمغة أصحابها؟ هذا ما أوضحه الإمام محمد أبو زهرة رحمه‌الله إذ يقول : (إن بعض المتفلسفين من علماء المسلمين اطلعوا على أقوال البراهمة في كتابهم «الفيدا» وهو الذي يشتمل على مجموعة من الأشعار ، ليس في كلام الناس ما يماثلها في زعمهم ويقول جمهور علمائهم : إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها ، لأن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها ... وعند ما دخلت الأفكار الهندية في عهد أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس ومن والاه من حكام بني العباس تلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار ، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول «الصرفة» ويطبقوه على القرآن وإن كان لا ينطبق ، فقال قائلهم : إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه ، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله ، وإن رواج تلك الفكرة يؤدّي إلى أمرين أولهما : أن القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله ، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية ، وثانيهما : الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته أو في معانيه) (٣).

__________________

(١) التوقيف على مهمات التعاريف ، محمد عبد الرءوف المناوي ، دمشق ـ بيروت ، دار الفكر المعاصر ، تحقيق ، محمد رضوان الداية ، الطبعة الأولى ، ١٤١٠ ه‍ ، ١ / ٤٥٤.

(٢) الإتقان ، للسيوطي ، ٢ / ٣١٤ ، والبرهان ، للزركشي ، ٢ / ٩٥.

(٣) المعجزة الكبرى ، محمد أبو زهرة ، ص : ٧٩ ، وانظر : البيان في علوم القرآن ، محمد علي الحسن ، بيروت ، دار الفكر العربي ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٨ ، ص : ٣٩.

٧٤

وقد ذهب إلى هذا القول النّظّام من المعتزلة ، ونسب إلى ابن المرتضى من الشيعة ، وابن سنان الخفاجي ، وابن حزم الظاهري الأندلسي ، وهؤلاء هم أبرز من قال بالصرفة ، وسوف نقتصر الحديث عليهم ، وعمّا قالوه في هذا المجال تباعا.

القائلون بالصرفة :

١ ـ النّظّام (١) :

وهو أول من جهر بالقول بالصرفة ، وهو من رءوس المعتزلة ، ولقد أشار الإمام أبو الحسن الأشعري إلى مقولة النظّام في الصرفة في كتابه «مقالات الإسلاميين» فقال : (وقال النظام : فأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد ، لو لا أن الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم) (٢).

ويحدثنا الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» عن النظام ، وعن الظروف والعوامل التي كانت سببا في تكوين هذا الفكر لديه ، وعن طرف من معتقداته البالية ، وخاصة في الصرفة ، فيقول : (إنما كان ينظم الخرز في سوق البصرة ، ولأجل ذلك قيل له «النّظام» وكان في زمان شبابه قد عاشر قوما من الثنوية ، وقوما من السمنية القائلين بتكافؤ الأدلة ، وخالط بعد كبره قوما من ملحدة الفلاسفة ، ثم خالط هاشم بن الحكم الرافضي ، فأخذ عن هاشم وعن ملحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجزأ ثم بنى عليه قوله بالطفرة التي لم يسبق إليها وهم أحد قبله ، وأخذ من الثنوية قوله بأن فاعل العدل لا يقدر على فعل الجور والكذب ، وأخذ عن هاشم ابن الحكم أيضا قوله بأن الألوان والطعوم والروائح والأصوات أجسام ، وبنى على هذه البدعة قوله

__________________

(١) ت ٢٣١ ه‍ ، إبراهيم بن سيار النظّام ، إليه تنسب فرقة النظامية ، الذين قالوا : إن الله لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه ولا أن يزيد وينقص من عقاب وثواب ، وكونه مريدا لفعله خالقه ولفعل العبد كونه أمر به ، والإنسان هو الروح والبدن والأعراض والأجسام لا تبقى ، والجسم مؤلف من الأعراض ، والعلم والجهل المركب مثلان ، والإيمان والكفر كذلك ، وأن الله خلق الخلق دفعة والتقدم والتأخر في الكون والظهور ، ونظم القرآن ليس بمعجز ، والتواتر يحتمل الكذب ، والإجماع والقياس ليس بحجة وأوجبوا النص على الإمام ، وثبوته لعلي ، لكن كتمه عمر. انظر : لوامع الأنوار البهية ، للسفاريني ، ١ / ٧٨ ، بتصرف.

(٢) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، صيدا ـ بيروت ، المكتبة العصرية ، تحقيق ، محي الدين عبد الحميد ، د. ت ، ١ / ٢٩٦.

٧٥

بتداخل الأجسام في حيّز واحد ، ودوّن مذاهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملحدة في دين الإسلام وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات ، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف ، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه ، وأنكر ما روي من معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من انشقاق القمر ، وتسبيح الحصى في يده ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إنكار نبوته ، ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها ولم يجسر على إظهار دفعها ، فأبطل الطرق الدالة عليها ، فأنكر لأجل ذلك حجة الإجماع ، وحجية القياس في الفروع الشرعية ...) (١).

ثم عرض بعد هذا البغدادي سلسلة طويلة من انحرافاته وضلالاته ، وأسماها «بالفضائح» بسط الكلام فيما أوجزناه وأثبتناه هاهنا ، وغير البغدادي كثير من علماء الإسلام الذين أماطوا اللثام عن زيف ووهم ما ذهب إليه النظام ، وركّزوا على الصرفة التي جاهر بها ، من ذلك ما أورده الإمام الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» إذ يقول : (إبراهيم بن سيّار النظّام قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة ، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة ، وانفرد عن أصحابه بمسائل ... وذكر ثلاثة عشر مسألة أوضح فيها ضلاله وزيفه ، منها قضية الصرفة) (٢).

ومن خلال استقراء حياة النظام يتبين لنا أنه كان شعلة من الذكاء والنباهة ، حتى قال فيه الجاحظ : (قد أنهج ـ أي للمتكلمين ـ لهم سبلا ، وفتق لهم أمورا ، واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها النعمة وشملتهم بها المنفعة) (٣).

__________________

(١) الفرق بين الفرق ، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي ، بيروت ، دار المعرفة ، تحقيق ، محمد محي الدين عبد الحميد ، د. ت ، ص ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) الملل والنحل ، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، بيروت ، دار المعرفة ، تحقيق ، محمد كيلاني ، ١٤٠٤ ه‍ ، ١ / ٥٣ ، وانظر الفصل في الملل والأهواء والنحل ، علي بن أحمد بن حزم الظاهري ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥ ، ١ / ٦٧ ، وانظر : عقائد الثلاث والسبعين فرقة ، لأبي محمد اليمني ، المدينة المنورة ، مكتبة العلوم والحكم ، تحقيق ، محمد الغامدي ، الطبعة الثانية ١٤٢٢ ه‍ / ٢٠٠١ ١ / ٣٣٣ وانظر : معجم الفرق الإسلامية ، شريف يحيى الأمين ، بيروت ، دار الأضواء ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ ص ٢٥٠.

(٣) الحيوان ، عمر بن بحر بن محبوب الجاحظ ، بيروت ، دار الهلال ، تحقيق ، يحيى الشامي ، الطبعة الثالثة ، ١٩٩٧ ، ٤ / ٦٩.

٧٦

وقال عنه الجاحظ أيضا : (وكان لا يرتاب بحديث النظّام إذا حكى عن سماع أو عيان) (١).

ووصفه أحمد أمين (٢) بأنه (عقلية قوية سابقة لزمنها ، فيها الركنان الأساسيان اللذان سببا النهضة الحديثة في أوروبا وهما : الشك والتجربة) (٣).

لكن مع كل هذا الثناء والمديح سواء كان مبالغا فيه أم لا (لم يستخدم النظّام قدرته العقلية وطاقاته المعرفية والذكائية في خدمة الشريعة الغراء ، والكشف عن أسرارها وحكمها وشموليتها للكون والحياة والإنسان ، بل على العكس من ذلك تماما ، فقد سلط قلمه ولسانه على الشرع السمح واستهتر بقضايا الدين ، وطعن في أصول الشريعة كما طعن في فتوى أعلام الصحابة ...) (٤).

علاوة على ذلك فإنه كان منحرف السلوك ، سيّئ الخلق ، وهذا وصف ابن قتيبة له يقول : (وجدنا النظّام شاطرا من الشطّار ، يغدو على سكر ويروح على سكر ، ويبيت على جرائرها ، ويدخل في الأدناس ، ويرتكب الفواحش والشائنات ، وهو القائل :

ما زلت آخذ الزقّ في لطف

وأستبيح دما من غير مجروح

حتى انثنيت ولي روحان في جسدي

والزقّ مطّرح جسم بلا روح

ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله : إن الله عزوجل يحدث الدنيا وما فيها ، في كل وقت من غير إفنائها ...) (٥).

وقد اتفق أكثر المعتزلة على تكفير النّظام كما قال البغدادي : (وقد قال بتكفيره أكثر شيوخ المعتزلة ، منهم أبو الهذيل ، فإنه قال بتكفيره في كتابه المعروف «بالرد على

__________________

(١) المصدر نفسه ، ٤ / ١٠٦.

(٢) ١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ ه‍ ١٨٧٨ ـ ١٩٥٤ ، أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ ، عالم بالأدب غزير الاطلاع على التاريخ ، من كبار الكتاب ، مولده ووفاته بالقاهرة ، قرأ بالأزهر وتخرج بمدرسة القضاء الشرعي ، تولى الكثير من المناصب ، من مؤلفاته ، فجر الإسلام وضحى الإسلام ، وظهر الإسلام ، وغيرها. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ١ / ١٠١ بتصرف.

(٣) ضحى الإسلام ، أحمد أمين ، القاهرة ، النهضة المصرية ، الطبعة السابعة ، ١٩٦١ ، ٣ / ١١٢.

(٤) انظر : الملل والنحل ، للشهرستاني ، ١ / ٥٧ ، ولوامع الأنوار ، للسفاريني ، ١ / ٧٨ ، بتصرف.

(٥) تأويل مختلف الحديث ، عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، تحقيق ، محمد الأصفر ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٩ ، ص ٢٥.

٧٧

النظّام» ، وفي كتابه عليه في الأعراض ، والإنسان ، والجزء الذي لا يتجزأ ، ومنهم الجبائي ، فقد كفّر النظام في قوله : إن المتولدات في أفعال الله بإيجاب الخلقة ... ومنهم جعفر بن حرب فقد صنّف كتابا في تكفير النظّام بإبطاله الجزء الذي لا يتجزأ ... وأما كتب أهل السنة والجماعة في تكفيره فالله يحصيها ، ولشيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه‌الله في تكفير النظّام ثلاثة كتب ، وللقلانسي عليه كتب ورسائل ، وللقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الأشعري رحمه‌الله كتاب كبير في نقض أصول النظام ، وقد أشار إلى ضلالاته في كتاب ، إكفار المتأولين) (١).

٢ ـ الشريف المرتضى من الشيعة (٢) :

والصرفة عنده هي : أن الله سلبهم العلوم التي يحتاجون إليها في معارضة القرآن والإتيان بمثله ، أي إنهم قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن ، وذلك بما زودوا من فصاحة وبلغة وبيان ، إلا أنهم عاجزون عن ذلك بسبب أن الله سلبهم هذه العلوم التي يحتاجون إليها لمحاكاة القرآن والإتيان بمثله.

وهذا قوله كما نقله الرافعي (٣) : (وقال المرتضى من الشيعة : معنى الصرفة أن الله سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن) (٤).

وإليه أشار ياقوت الحموي في كتابه «معجم الأدباء» إذ يقول : (قرأت بخط عبد الله ابن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الشاعر في كتاب ألفه في الصرفة ، زعم فيه أن

__________________

(١) الفرق بين الفرق ، للبغدادي ، ص ١٣٣.

(٢) ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍ ، ٩٦٦ ـ ١٠٤٤ ، علي بن الحسن بن موسى بن إبراهيم أبو القاسم ، من أحفاد الحسين بن علي بن أبي طالب نقيب الطالبيين وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر ، يقول بالاعتزال ، مولده ووفاته ببغداد ، له تصانيف كثيرة منها : الغرر والدرر ويعرف بأمالي المرتضى ، والشهاب في الشيب والشباب ، والشافي في الإمامة ، وتنزيه الأنبياء والانتصار ...

وكثير من مترجميه يرون أنه هو جامع «نهج البلاغة» ومن طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٤ / ٢٧٨ ، بتصرف.

(٣) ١٢٩٨ ـ ١٣٥٦ ه‍ ، ١٨٨١ ـ ١٩٣٧ ، مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد الرافعي ، عالم بالأدب ، شاعر ، من كبار الكتاب أصله من طرابلس الشام ، ووفاته في طنطا بمصر ، له ديوان شعر ، وتاريخ آداب العرب ، وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، وغيرها من الكتب. انظر الأعلام ، للزركلي ، ٧ / ٢٣٥ ، بتصرف.

(٤) إعجاز القرآن ، للرافعي ، ص ١٤٤.

٧٨

القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله ، إلا أنهم صرفوا عن ذلك ، لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة ، وهو مذهب الجماعة من المتكلمين والرافضة منهم بشر المريسي ، والمرتضى أبو القاسم ...) (١).

ويقول السفاريني (٢) : (وكان المرتضى العلوي يقول بالصرفة ، يعني أن الله تعالى صرف العرب عن الإتيان بمثله ...) (٣).

وهكذا يتضح لنا الفرق الدقيق بين ما ذهب إليه النظّام في الصرفة ، وما ذهب إليه المرتضى فالنظّام يرى بأن الصرفة هي : عدم معارضتهم للقرآن مع قدرتهم عليها ، لكن الله صرفهم عنها ، أما عند المرتضى فالصرفة هي : عدم قدرتهم على الإتيان بمثل القرآن ، لأن الله سلبهم العلوم التي يحتاجون إليها لمحاكاة القرآن والإتيان بمثله ، بعد أن كانت متأصّلة فيهم.

٣ ـ ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري (٤) :

ابن حزم ممن قال بالصرفة في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» تحت

__________________

(١) معجم الأدباء ، ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي ، بيروت ، دار صادر ، د. ت ، ٣ / ١٣٩.

(٢) ١١١٤ ـ ١١٨٨ ه‍ ، ١٧٠٢ ـ ١٧٧٤ ، محمد بن أحمد بن سالم السفاريني ، عالم بالحديث والأصول والأدب ، ولد في سفارين من قرى «نابلس» ورحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها ، وعاد إلى نابلس فدرس وأفتى وتوفي فيها ، من كتبه : الدراري المصنوعات في اختصار الموضوعات ، وكشف اللثام شرح عمدة الأحكام ، ولوامع الأنوار البهية ، وغيرها. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٦ / ١٤ ، بتصرف.

(٣) لوامع الأنوار البهية ، للسفاريني ، ١ / ١٧٤.

(٤) ٣٨٤ ـ ٤٥٦ ه‍ ، ٩٩٤ ـ ١٠٦٤ ، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري عالم الأندلس في عصره ، وأحد أئمة الإسلام ، كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه ، يقال لهم «الحزمية» ولد بقرطبة ، وكانت له ولأبيه من قبله رئاسة الوزارة ، وتدبير المملكة ، فزهد بها وانصرف إلى العلم والتأليف ، فكان من صدور الباحثين ، فقيها حافظا يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة بعيدا عن المصانعة وانتقد كثيرا

من العلماء والفقهاء فتمالئوا على بغضه ، وأجمعوا على تضليله ، وحذروا سلاطينهم من فتنته ، ونهوا عوامهم عن الدنوّ منه فأقصته الملوك وطاردته ، فرحل إلى بادية لبلة من بلاد الأندلس ، فتوفي فيها ... أشهر مصنفاته : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، والمحلى وجمهرة الأنساب ، والناسخ والمنسوخ ، وحجة الوداع ، وديوان شعر. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٤ / ٢٥٤ ، بتصرف.

٧٩

عنوان : الكلام في إعجاز القرآن ، حيث يذكر عدة أقوال ، والعديد من المسائل في إعجاز القرآن ويناقشها مع انتقاده لأكثرها ، وهو يرى (أن القرآن في أعلى درجات البلاغة ، حيث إن الله قد بلغ به ما أراد ، فهو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها ، وليس هو في أعلى درجات البلاغة في كلام المخلوقين ، لأنه ليس من نوع كلامهم ، لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من متوسّطه ... ثمّ يعلن الصرفة فيقول : فصحّ أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلا ، وأن الله تعالى منع الخلق من مثله ، وكساه الإعجاز ، وسلبه جميع كلام الخلق ... إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز ، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له ، أصاره معجزا ، ومنع من مماثلته ، وهذا برهان كان لا يحتاج إلى غيره) (١).

(وعلى هذا فإن ابن حزم لا يرى القرآن معجزا ببلاغته ، وأن في استطاعة الناس أن يأتوا بمثل بلاغته ، مع اعترافه بأنه في أعلى طبقات البلاغة ، ونراه من جهة ثانية يخالف طريقة المتكلمين ، فهم يجعلون إعجاز القرآن وسيلة إلى إثبات أنه منزل من عند الله وإثبات النبوة ، وهو يعكس الأمر فيجعله معجزا لأنه كلام الله) (٢).

وللشيخ محمد أبو زهرة رحمة الله تعقيب نفيس على كلام ابن حزم الذي أوردناه آنفا يقول : (إن ذلك الكلام يبدو بادي الرأي غريبا من ابن حزم ، ولكن المتأمل فيه يجده سائرا على مذهبه في نفي الرأي ، والحكم بظاهر القول من غير تعليل ، فالاتجاه إلى تعليل الإعجاز بأن السبب فيه بلاغته التي علت عن طاقة العرب ، والتي جعلتهم يخرون صاغرين بين يديه من غير مراء ولا جدال يعد تعليلا وهو من باب الرأي الذي ينفيه والتعليل الذي يجافيه ، فلا بد أن يبحث عن سبب غير ما ذكر الله تعالى) (٣).

٤ ـ ابن سنان الخفاجي (٤) :

ومن الذين قالوا بالصرفة الخفاجي في كتابه «سرّ الفصاحة» فهو يرى أن أسلوب

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ، لابن حزم ، ٣ / ٢٩.

(٢) فكرة إعجاز القرآن ، نعيم الحمصي ، ص ٨٤.

(٣) المعجزة الكبرى ، محمد أبو زهرة ، ص ٨٢ ـ ٨٣.

(٤) ٤٢٣ ـ ٤٦٦ ه‍ ، ١٠٣٢ ـ ١٠٧٣ م ، عبد الله بن محمد بن سنان الخفاجي الحلبي ، شاعر ، أخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره وكانت له ولاية بقلعة «عزاز» من أعمال حلب ، وعصي بها ، فاحتيل عليه فسمّ فمات ، له ديوان شعر ، وسر الفصاحة. انظر : الأعلام للزركلي ، ٤ / ١٢٢ ، بتصرف.

٨٠