الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى الروح الغالية التي سهرت الليالي والسنوات وهي تكافح وتكابد الحياة لإنشاء أسرة تكتب في سجل الخادمين لشرع الله ودينه ... أمي.

إلى الذي أحاطني بعطفه الحارّ وحنانه الفوّار ، صاحب الفضل الكبير ، والقلب الرحيم .. أبي.

إلى إخوتي وأخواتي ، الذين عشت معهم مرحلة التأسيس في درب الهدى والوفاء والإيمان ...

إلى كل من يطوف حول كعبة الحقيقة المقدسة من بني البشر أهدي هذا العمل المتواضع ...

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

بقلم : الشيخ محمد علي الصابوني

نحمده تعالى ونصلي ونسلم على رسوله الكريم محمد بن عبد الله ، خاتم النبيين ،

وبعد ...

فعصرنا الذي نعيش فيه ، عصر العجائب والغرائب ، عصر الخوارق والمدهشات! لا تكاد العين ترى فيه إلا كلّ طريف وجديد!

ما كان مستحيلا وغير معقول منذ قرون ... أصبح واقعا في هذه الأيام!!

ولا عجب في ذلك ، فهو عصر الازدهار العلمي ، والتقدم الحضاري ، عصر المكتشفات والمخترعات ، عصر الذرة ، وعصر الأقمار الصناعية والمراكب الفضائية ، عصر غزو الفضاء ، ويمكننا أن نقول جازمين :

إنه عصر (ظهور معجزة القرآن) تحقيقا لقول الله العلي الكبير : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أهدى وأقوم قيلا

لا تذكر الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفئ القنديلا

لقد أيّد الله خاتم الأنبياء محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزة القرآنية الخالدة ، وجعل هذا القرآن أجلّ وأعظم برهان على صدق رسالته .. فهو نبي أميّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، ولا يعرف أن يفكّ حرفا عن حرف حتى آخر حياته صلوات الله عليه ، وهذا ما أكده القرآن الكريم في صفة هذا النبي العظيم حين قال سبحانه : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤٩) (٢).

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

(٢) سورة العنكبوت ، الآيتان : ٤٨ ، ٤٩.

٧

وكأني بالقرآن يهتف وينادي أصحاب النهى والعقول فيقول لهم : فكّروا في شأن هذا النبي الأمي الذي جاءكم بهذا الكتاب المعجز ، أيعقل أن يكون هذا الكتاب من صنعه وتأليفه؟ وهو لم يتتلمذ على يد أحد ، ولم يقرأ كتابا ، ولا خطّ بيده حرفا ، ثم جاءكم بكتاب حوى العجائب من علوم ، وفنون ، وقصص ، وأخبار ، وأمور غيبيّة ، وأخبركم عن مكتشفات لم تعرفوا عنها شيئا إلّا في عصركم هذا ، أفلا يكون ذلك أعظم برهان على عظمته وصدقه!؟

تصوروا أن عشرة أطباء اجتمعوا على تشخيص داء مريض ، وكلّ منهم نابغة في تخصصه ، وعجزوا جميعا عن معرفة المرض ، ووصف العلاج والدواء له! وجاءهم رجل من البادية ، لا يعرف شيئا عن الطب ، ولم يمارس هذه الصنعة مطلقا ، وبمجرد إلقاء نظرة على المريض ، ووضع يده على جسده ، عرف المرض ووصف له الدواء ، وشفي المريض بتناول العلاج الذي عجز عن معرفته كبار الأطباء ، أليس هذا الأمر يدعو إلى الدهشة؟ والإجلال والإكبار لهذا الذي وصل إليه نبوغ هذا الرجل ، والإقرار له بالحذاقة وقوة المعرفة!؟

هذا هو مثل خاتم الأنبياء مع كبار الأطباء!! أتاهم بعلوم ومعارف قبل أربعة عشر قرنا من الزمان ، لم يصلوا إلى معرفة بعضها إلا في هذا العصر ، عصر ظهور (المخترعات والمكتشفات).

وحين طلب المشركون من سيد الخلق معجزة تدلّ على صدقه ، جاء القرآن يقرّعهم ويوبّخهم على تركهم التدبر لآيات هذا الكتاب الحكيم الذي جاءهم به نبي أمّي من عند الرحمن ، بأفصح حجة وأوضح بيان ، فقال جلّ ثناؤه : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١).

نبي أمّي جاءكم بكتاب جمع شتات العلوم ، وكشف لهم عن حقائق علمية ما عرفها البشر إلّا منذ زمن قريب ، وقال لهم : إن معجزتي إليكم هذا الكتاب المبين ، فاتوا بمثل سورة واحدة منه إن كنتم صادقين.

ألا يكفي هذا أن يكون برهانا قاطعا ساطعا على صدق دعواه؟

لقد بهر القرآن العرب برونقه وجماله وعذوبته وحلاوته وبذلك الأسلوب الرائع الخلاب!

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٥١.

٨

واسمعوا هذه القصة :

روي عن جبير بن مطعم أنه قال : قدمت المدينة المنورة لأسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣) (١). يقول فلما قرأ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٨) (٢) شعرت كأنما صدع قلبي .. فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، فلما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦) (٣) أحسست أن قلبي كاد يطير)!!

وبهر القرآن «علماء الكون» حين رأوا فيه بعض ما توصلوا إليه بعد جهد جهيد ، من مكتشفات رائعة سبقهم إليها القرآن الكريم ، سواء أكان ذلك في علوم الطبيعة ، أو الطب ، أو الفلك ، أو الأجنة ، أو في علوم (جيولوجيا الأرض)!!

وقد اطلعت على بعض فصول ، مما كتبه أخونا الفاضل الشيخ «مروان شعبان» حفظه الله حول : «الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث» فألفيته بحثا قيما ، فيه جهد مشكور ينبغي أن يطبع ، وأن يستفيد منه من يريد أن يعرف عظمة هذا الدين ، وروعة هذا القرآن ، الذي جاء معجزة خالدة ، تنطق بصدق رسالة النبي الأمي (محمد بن عبد الله) صلوات الله وسلامه عليه ، سواء أكان المطّلع عليه مسلما أو رجلا لا يدين بالإسلام ، فإن ما حواه الكتاب المنير من علوم ومعارف ، وبدائع وروائع ، حريّ بكل إنسان منصف أن يعرفه وأن يدرسه ليتبيّن له صدق معجزة خاتم النبيين ، وصدق الله العظيم حيث يقول : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦) (٤).

خادم الكتاب والسنة

الشيخ محمد علي الصابوني

١٤ صفر الخير سنة ١٤٢١ ه‍

الموافق ١٦ / ٥ / سنة ٢٠٠٠ م

__________________

(١) سورة الطور ، الآيات : ١ ـ ٣.

(٢) سورة الطور ، الآيتان : ٧ ، ٨.

(٣) سورة الطور ، الآيتان : ٣٥ ، ٣٦.

(٤) سورة المائدة ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

٩

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

بقلم : د. إبراهيم الشيخ محمد حسن

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد فقد طلب مني الأخ في الله حقا والمحبّ صدقا الشيخ مروان شعبان إلقاء نظرة سريعة في كتابه القيم «الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث» وبعد تجوال النظر في صفاته وجدت فيه الترتيب والتنسيق مع التعزيز بأسرار الإعجاز بثوب جديد في أسلوبه أنيقا في مظهره نادرا في مخبره ، ليستفيد الناظر فيه بمطالعته لأنه من أمثل ما جمع في هذا الباب ، وأن هذا الأسلوب الجديد يلائم حقا مستوى العصر ويراعي ما اتصف به الجيل الجديد من تطلع إلى فهم أسرار الكون ومعرفة موقف الإسلام من المكتشفات ـ التي هي سرّ إبداع الله تبارك وتعالى الخالق العظيم من خلقه على أيدي المسلمين وغيرهم ، ولا يخفى أن علماء الإسلام كانوا سباقين إلى مثل هذه العلوم والمعارف. وما جهود الرازي والحسن بن الهيثم وابن سينا والقاسم واليعقوبي والإدريسي ـ صاحب الكشف الجغرافي واقتحام المحيطات ـ ليس ببعيد ، وهذا مما يدل على أن الإسلام هو مصدر الحضارة الحقيقة ، وأن علماء الإسلام ساهموا بأروع ما في هذه الحضارة للبشرية سائلين الله تعالى المزيد من التوفيق للباحث لما يحبه ويرضاه ، وأن ينفع بجهوده العلميّة طلاب العلم الشريف ، ورواد الحق والحقيقة في عصر الشتات والتمزق ، إنه سميع مجيب.

د. إبراهيم الشيخ محمد حسن

مفتي محافظة الحسكة

عضو مجلس الإفتاء الأعلى في دمشق

١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

بقلم : الشيخ محمد حكمت المعلم

الحمد لله الذي علم بالقلم ، وأوحى بالملك ، وهدى بالفطرة. الحمد لله مستوجب

الحمد والثناء بإنزاله الكتاب على عبده ، الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجا قيما والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي بلغ هذا الكتاب على أكمل وجه وأدى الرسالة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير الجزاء.

وبعد ... فقد اطلعت على كتاب : «الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث» لمؤلفه مروان وحيد شعبان التفتنازي فوجدته كتابا جامعا لمظاهر الإعجاز في كتاب الله ، جيد في أسلوبه ، جميل في تبويبه قيّم في حسن العرض والأداء والتشويق. وإذا كان العلماء قد وضعوا لتفسير كتاب الله قواعد ومناهج وضوابط فقالوا : تفسير القرآن بالقرآن ، ثم تفسيره بالسنة القولية والفعلية المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم فهذا لا يمنع من التدبير في كتاب الله والتفكير بآياته ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائل حين نزلت خواتيم آل عمران : «ويل لمن يقرأها ولا يتدبرها ويتفكر في معانيها» والقرآن هو المعجزة الأبدية المتجددة في كل آن إلى قيام الساعة لأنه دستور البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ووجوه الإعجاز في كتاب الله متعددة في التنظيم والأسلوب والتركيب وفي إخباره عن المغيبات وفي تشريعاته.

نزل القرآن على قوم برعوا بالفصاحة والبلاغة وقرض الشعر فارتجزوه وعلّقوه على أستار الكعبة وسجدوا له ، فلما سمعوا القرآن ذهلوا وأسقط في أيديهم وقال كبيرهم : إن لهذا القرآن لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسلفه لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وقد ألّف الكثير من العلماء في وجوه إعجاز القرآن المؤلفات الكثيرة وجاء في هذا العصر الفتنة بالعلم فألهوا المادة وأعمتهم الحضارة الحديثة فوضعوها في المقام الأول ، وربما قدموا النظريات العلمية على الحقائق الدينية ، فإذا عرضت لمسألة دينية أو حكم شرعي قالوا لك : ولكن هذا لا يقره العلم ولا يوافق عليه وما دروا أن

١١

الحقائق الدينية يقينيّة وأن النظريات العلمية مبنية على الظن والحدس (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١) ، فلا يمكن للنظرة العلمية أن تتصادم مع الحقائق الدينيّة ، لأن مصدر الدين والعلم واحد قال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) (٢) وقال : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (٣) في هذا الجو المحموم من الفتنة بالعلم كان لا بد من التصدى لوثنية العلم وعولمة الإلحاد فجاء هذا الكتاب لعرض الحقائق العلمية المبثوثة في كتاب الله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٤) كل آية من كتاب الله لها منطوق ومفهوم والمستفاد بالعبارة والإشارة والقرآن حمّال معاني إلى قيام الساعة له دلالة بالنص والعبارة وله دلالة بالإشارة بالمنطوق والمفهوم قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (٥) نص بالنفقة على الوالد وقوله : المولود له مع مولود لهما إشارة إلى أن النسب للأب ، وفي قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٦) في معرض التحدي والرد على منكري البعث ، العين أعقد تركيبا من البنان ولكن المراد إن لكل إنسان بنانه الخاص وبصمته التي تميزه عن سواه ، ومن آياته أيضا اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وإعجاز القرآن يتجلى بأنه كتاب هداية وعلم أدنى العامة فهما يقرأه فيهتدي بمواعظه وأعلى الخاصة فهما يقرأه فيجد فيه الفلسفة العميقة والعلم الدقيق.

وختاما جزى الله المؤلف خير الجزاء ، ونفع به وبمؤلفه المؤمنين والمسلمين ، وجعل هذا الكتاب دستور هداية لكل طالب للحقيقة وبداية لمزيد من الكشف والبحث ، فهو الكتاب الذي لا تفنى عجائبه ، ولا تنفد غرائبه ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الحكماء ، ولا يبلى على كثير والرد ... والسلام.

الشيخ محمد حكمت المعلم

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣١.

(٣) سورة الشورى ، الآية : ١٣.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣.

(٦) سورة القيامة ، الآية : ٤.

١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واتبع هداهم إلى يوم الدين

وبعد :

لقد تبوّأ القرآن الكريم سدّة الصدارة في حياة المسلمين ، فتحلّق حوله المسلمون ينهلون من ينابيعه الصافية ويتزوّدون من معينه الذي لا ينضب ، فكان نورا لعقولهم ، ومرشدا في حياتهم ، وقبسا وضّاء لأرواحهم ونفوسهم ... والقرآن الكريم منذ نزل من السماء رسم معالم الطريق للبشرية ، وضبط سلوكهم بتشريعه وإرشاداته ، فكان المحور الذي تدور حوله أهداف المفكرين والعباقرة ، والدافع الحيّ لأساطين العلم والتأليف على الاستمرار والتواصل في مسيرة الاستنباط والكتابة والتعليم ...

وهو صمام الأمان من كل زلل ، والعصمة الواقية ، والحجة البالغة ، والنور الساطع ؛ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١).

ولقد قام جهابذة العلم قديما وحديثا بدراسة القرآن الكريم ، وتشرفوا بخدمته ، فبرع المفسرون لآيات الذكر الحكيم ، يعرضون أسباب النزول ويبينون الناسخ والمنسوخ ، ويوضحون المحكم منه والمتشابه ، فأثرت دراساتهم هذه المكتبة العربية ، بل وفاضت الكتب ، تأليفا وتصنيفا وتبويبا وتحقيقا ، حول القرآن وعلومه ...

ولقد فكرت مليا ، وأنا الضعيف القاصر في آيات كتاب الله ، فرأيت أن تكون خدمتي لكتاب الله في الوقوف عند الآيات الكونية فيه (٢) ، فهي جديرة بالبحث والتحليل والكشف عن بعض أسرارها ، فأسرار القرآن الكريم ذاخرة في كل آية من آياته ، وعطاء هذا الكتاب متجدّد على ممر الأحقاب وترادف الدهور ...

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٧٤.

(٢) تعني الآيات القرآنية التي تتحدّث عن المظاهر الكونية ، كالسماء والنجوم والأفلاك والأرض وغيرها.

١٣

ومن أهم الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع وللكتابة فيه ، أننا نعيش في عصر الثورة العلمية ، وينبغي أن نسخّر طاقاتنا وكل ما نملك في عصر السرعة هذا في سبيل دعوة الناس إلى الله تعالى ، والدعوة إلى الله تعالى تتعدّد سبلها وتختلف وسائلها تبعا لاختلاف الزمان والمكان والحال ، وهذا هو السر في تباين وسائل الدعوة وأدواتها لدى الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام ، فكانت بيناتهم تنسجم وتتناسب مع المستوى العلمي والعقلي لأقوامهم ، لكن تلك البينات كانت حياتها مرهونة بحياة أصحابها من الأنبياء ، فبرحيلهم عن هذا العالم ، رحلت معهم بيناتهم ، إلا ما خلدته الكتب السماوية والتاريخ.

ولئن كان علماؤنا اشترطوا مطابقة الدعوة للحال ، فإن أبرز ظاهرة تميّز بها عصرنا أنه عصر الاكتشافات العلمية ، والثورة التقنية التكنولوجية ، فالإعجاز العلمي بناء على ذلك هو أهم وسيلة دعوية تتلاءم مع معطيات زماننا ، ذلك لأن الإيمان بالله تعالى ما هو إلا ثمرة تحريك العقل وإعمال الفكر قبل أن يكون مسألة عاطفية شعورية.

ومما لا يخفى على أحد ، أن الداعية ينبغي أن يتسلّح بسلاح المنطق السليم والبرهان القويم ، ليقيم الحجة ويثبت صدق دعوته ، وإن السلاح العلمي المادي يعتبر من أقوى الأدلة المقنّعة للمكلفين ، ذلك لأنه مشاهد ومرئي ولا يستطيع أحد أن ينكره ... وإبراز مظاهر الإعجاز العلمي في هذا الصدد ، والتي تتمثل في عرض الآيات الكونية العلمية مقارنة مع المكتشفات العصرية ، لهو أعظم أسلوب يتفق مع ما توصل إليه الإنسان في هذا العصر ، والذي يمعن النظر في آي القرآن الكريم ، وما ورد مما صح عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلاحظ أن عددا ليس بالقليل من الآيات والأحاديث توجه عقولنا لدراسة الآيات الكونية مع معطيات العلوم الإنسانية ، ليقف الإنسان بعد ذلك على مشاهد الجلال في كتاب الله تعالى حيث يتضح له السبق القرآني في ميدان إثبات الحقائق العلمية ، وهذه الحقائق تتضح وتنجلي كلما تقدم العلم ، وانكشفت أستار الكون واتضحت غوامضه وبانت خفاياه ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١).

ويشار إلى أن هناك عددا ليس بالقليل من الكتب التي استفدت منها ، سواء في الدراسة التاريخية أم في التطبيقات المعاصرة ، ومن هذه الكتب : «مباحث في إعجاز

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

١٤

القرآن» (١) للدكتور «مصطفى مسلم» ، و «الإعجاز في دراسات السابقين» (٢) «لعبد الكريم الخطيب» ، و «فكرة إعجاز القرآن» (٣) «لنعيم الحمصي» ، و «المعجزة الكبرى» (٤) «لمحمد أبو زهرة» ، و «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» (٥) «للقاضي عياض» ، و «إعجاز القرآن» (٦) «للباقلاني» ، وفي التطبيقات المعاصرة كتاب «الأرض مقدمة للجيولوجيا الطبيعية» (٧) «لتاربوك لوتجنز» ، و «الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون» (٨) «لستيفن ونبرغ» ، و «علم المحيطات» (٩) «لريتشارد فيتر» ، و «علم الفلك» (١٠) «لبيرسي سيمور» ، و «الكون» (١١) «لسان ساغان» ، وغيرها كثير.

إلا أن ما يلاحظ على ما كتبه وتوصل إليه السابقون ما يلي :

ـ معظم الذين كتبوا في هذا المجال ، كانوا لا يرجعون إلى المصادر العلمية

__________________

(١) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، جدة ، دار المنارة ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨.

(٢) الإعجاز في دراسات السابقين ، عبد الكريم الخطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥.

(٣) فكرة إعجاز القرآن ، للشيخ نعيم الحمصي ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠.

(٤) المعجزة الكبرى ، محمد أبو زهرة ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، د. ت.

(٥) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، تحقيق : علي محمد البجاوي ، د. ت.

(٦) إعجاز القرآن ، محمد بن الطيب الباقلاني ، بيروت ، دار إحياء العلوم ، تعليق : محمد سكر ، الطبعة الثالثة ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤.

(٧) الأرض مقدمة للجيولوجيا الطبيعية ، تاربوك ولوتجنز ، ترجمة : عمر سليمان حمودة وآخرون ، طبع في مالطا ، ١٩٨٤.

(٨) الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون ، ستيفن وينبرغ ، ترجمة : محمد وائل الأتاسي ، دمشق ، الدار المتحدة ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٦.

(٩) علم المحيطات ، ريتشارد فيتر ، ترجمة : ميشيل تكلا ، القاهرة ، مطبوعات كتابي ، د. ت.

(١٠) علم الفلك ، بيرسي سيمور ، ترجمة : أحمد حمادة ومحمد حسّان ، بيروت ، نشر دلمون ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٩.

(١١) عالم المعرفة ، الكون ، كارل ساغان ، ترجمة : نافع أيوب لبس ، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٣.

١٥

الأصلية أعني العلوم التطبيقية ، فكانوا يتناقلون المعلومات فيما بينهم ، وهنا آثرت أن أرجع إلى الكتب العلمية التي كتبها الغربيون أنفسهم وغيرهم من أهل الاختصاص وأتناول المادة من مصادرها الأصلية.

ـ كثير من الكتب تخصّصت في الحديث عن العلوم والاكتشافات العصرية دون الإشارة إلى الناحية التاريخية ، وقليل منها تحدث عن الناحية التاريخية دون الإشارة إلى القضايا التطبيقية ، لكني حاولت أن أجمع بينهما.

ـ معظم الذين كتبوا في هذا المجال لم يلتزموا بالضوابط والموازين التي وضعها العلماء للتفسير العلمي ، بل اعتمدوا في بحوثهم على النظريات والفرضيات ، وأقحموا المعارف الكونية إقحاما ، أو أثنوا أعناق الآيات لتفسيراتهم ، وكما هو معلوم أن النظريات تتغير وتتبدل ، ولكنني اعتمدت في بحثي على القضايا اليقينية التي ارتقت إلى مستوى القطعية وما أكثرها .. وهذا هو السبب في أنني لم أخصص الرسالة في جانب معين ، والذين خصصوا أبحاثهم في جانب معين تجاوزوا الحدود والضوابط ، فالذي كتب في الطب القرآني مثلا ، أكثر من ذكر القضايا الطبية ، وكأن الكتاب كتاب طب ، وهكذا في سائر العلوم ، فمن أجل المحافظة على مقاصد الآيات ، اكتفيت هنا بالحديث عن الإشارات القرآنية ، ولم أجعل من القرآن الكريم كتاب علم فقط.

والمنهج المعتمد في هذه الدراسة ، هو منهج الاستنباط والمقابلة ، فإننا نستنبط من الآيات القرآنية ما نقف عليه من القضايا الكونية الثابتة عند المقابلة الدقيقة ، ولسوف يكون مجال الدراسة هو رياض القرآن الكريم ومعطيات العلوم الكونية.

ولا يخفى أن أي طالب أو باحث تعتريه خلال خطوات بحثه صعوبات وإشكالات تعرقل له مسيرة بحثه ، لكن بفضل الله تعالى ، ثم بفضل توجيهات الأستاذ المشرف وغيره من أهل العلم والاختصاص ، تذلل هذه الصعوبات ويتسنّى للطالب القدرة على تركيب مفردات القضية المدروسة ثم بناؤها بالشكل الدقيق.

ومن أبرز ما استوقفني من المصاعب خلال مراحل البحث ، محاولة هضم القضايا العلمية والإحاطة بمصطلحاتها المتنوعة ، فكنت أطيل القراءة في الكتب العلمية لفهم مصطلح معين أو قضية ما ، ولا شك أن توفر كل وسائل البحث والكتب المطلوبة أمر صعب للغاية ، مما حتّم عليّ السفر والتنقل المستمر للحصول على المراجع المطلوبة ، فضلا عمّا هو متوفر في المكتبات العامة ، وقد سافرت إلى العديد من البلدان ، واستفدت بفضل الله تعالى من هذه التنقلات.

١٦

وفي المقابل فإن المستجدات العصرية التقنية المتطورة سهلت عليّ كثيرا من المشاكل ، ومن أهمها شبكة (الإنترنت) التي استفدت من مواقعها بشكل كبير ، وخاصة في الجوانب العلمية البحتة ، كذلك في الدخول على مواقع العلماء في التخصّصات المختلفة والاستفادة منهم ، أضف إلى ذلك القضايا العلمية المدونة باللغة الإنكليزية والتي قمت بترجمتها والاستفادة منها ، متوخيا في كل ذلك الدقة في المعلومة والتوثيق لما أسجله من بيانات واقتباسات من الكتب المعتمدة ، ويذكر أن الاستبيانات الشخصية من العلماء والالتقاء بهم ، كان دافعا للبحث إلى الأمام.

خطّة البحث :

الخطة التي وفّقني المولى عزوجل لأسير عليها ، تتضمن مقدمة ، وعشرة فصول ، وخاتمة ، وكانت الفصول الثلاثة الأولى عبارة عن دراسة تاريخية لقضية إعجاز القرآن الكريم عبر التاريخ ، وسبعة فصول عن التطبيقات المعاصرة للإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

المقدمة : وتحدثت فيها عن أهمية البحث وسبب اختياري للموضوع ، وأشرت إلى من سبق وأن كتب في هذا الموضوع ، والجهد الذي توصلوا إليه مبينا نتائج عملهم من مزايا ومآخذ ، وذكرت عددا من أبرز المراجع التي ارتكز البحث عليها ، كما أنني أوضحت المنهج المتبع في هذه الرسالة ، وأشرت إلى بعض الصعوبات التي اكتنفت البحث خلال مراحله ، وفي المقابل بيّنت ما قدم للبحث من تسهيلات.

الفصل الأول : وتضمن الحديث عن مفهوم المعجزة ، والفرق بين معجزة رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزات الأنبياء من قبله عليهم‌السلام ، وعن التسلسل التي مرت به مراحل التحدي بالقرآن الكريم وكيف أن المشركين أعلنوا عجزهم واعترافهم بعظمة كتاب الله تعالى.

الفصل الثاني : وجاء فيه الحديث عن نشأة الإعجاز في القرآن الكريم ، وما هي العوامل التي أدّت لظهور مصطلح الإعجاز ، وأشرت إلى قضية «الصرفة» وأبرز القائلين بها ، ثم نقد مذهب الصرفة من الناحية النقلية والعقلية ، وبيّنت أوجه إعجاز القرآن وآراء العلماء في ذلك.

الفصل الثالث : تعرض للحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن بين المؤيدين له والمعارضين وذكرت أبرز العلماء المؤيدين من القدامى والمعاصرين ، وكذلك أبرز

١٧

العلماء المعارضين من القدامى والمعاصرين ، وأوضحت وجهة نظر كل من الفريقين ، ثم أوردت أدلة كل منهما ، وذكرت الترجيح بعد مناقشة موضوعية.

الفصل الرابع : صدّر هذا الفصل بمدخل ارتكز على ثلاثة محاور هي : الإسلام دين العلم والإعجاز العلمي كسبيل من سبل الدعوة ، والضوابط العلمية لتفسير القرآن على أساس العلم وتضمن هذا الفصل الحديث عن علم الفلك في القرآن الكريم ، من حيث نشأة الكون ، وتمدده ، ونهايته ، كل ذلك بين النصوص القرآنية والحقائق العلمية.

الفصل الخامس : تحدثت فيه عن نجم الشمس وطبيعة تكوينه ، وعن حركات الشمس وتنقّلاتها وتطرقت للحديث عن هذا النجم المتوهج والملتهب وسبب ذلك ، وعن تعدد الشموس والأقمار في هذا الكون الرحيب ، والنظام الإلهي الدقيق الذي يلف الكون بأسره.

الفصل السادس : وجاء فيه الحديث عن القمر ولما ذا هو منير وليس ملتهبا ، وعن حادثة انشقاق القمر ثم رتقه ، ومآل القمر أنه سيجمع مع الشمس يوما ما.

الفصل السابع : وتضمن الحديث عن كوكبنا الأرض وما فيه من آيات ، وعن حركة الأرض ودورانها ، وأشرت إلى قوة الجاذبية الأرضية وما فيها من أسرار ، كما تعرضت للغلاف الجوي للأرض من أكثر من زاوية ، وعن نهاية الأرض ونقصانها وتآكلها بين القرآن والعلم.

الفصل الثامن : وتناولت فيه قضية الرياح ، كتلك التي تبشر بالخير والرحمة مثل «اللواقح والمبشرات» وأشرت إلى تكوين السحب وأنواعها ، وإلى اللفتات العلمية في البرد والرعد.

الفصل التاسع : تعرض للحديث عن علم الجبال ، من حيث كيفية نشأة وتكوين الجبال ، وكيف أن الجبال كانت كالوتد تحافظ على توازن الكرة الأرضية واستقرارها ، وعن السر في الربط بين شهوق الجبال وغزارة المياه ، وعن تعدد صخور الجبال وتعدد أنواعها وأشكالها.

الفصل العاشر : وجاء للحديث عن عالم البحار والماء ، وكيف أن الظلمات تتنوع وتتفاوت في البحار ، وأشرت إلى وجود أمواج سطحية وأخرى جوفية ، وعن اختلاط ماء البحر مع ماء النهر دون امتزاج ، وأوضحت أن البحار مسجّرة في قاعها ، ولما ذا تهتز الأرض بنزول ماء السماء بين القرآن والعلم.

١٨

الخاتمة : وضمنتها أهم نتائج البحث مع ذكر بعض التوصيات.

وإني أتوجه بالشكر الجزيل إلى الأساتذة والعلماء والإداريين في كل من كلية الإمام الأوزاعي في بيروت ، وجامعة الشارقة ، وجامعة أم درمان الإسلامية في الخرطوم ، وإلى كل الأساتذة المتخصصين الذين تكرموا بمراجعة الرسالة وترميم ما فيها من هنات ، كما أشكر الإخوة الكرام الدكتور حسين الأميري والأخويين الغاليين أحمد الحسن ورضوان شعبان لإسهامهم في إخراج هذه الرسالة ، فجزى الله الجميع عني كل خير.

وأخيرا ، فإن ما قدمته من جهد متواضع أسأل الله العلي القدير أن ينفع به الناس ، وأن يجعله الله في ميزان حسناتي ، وسببا لمغفرة زلاتي إنه جواد كريم.

وأتوجه إلى العلي القدير ، أن يجعلني بجهدي المتواضع هذا من خدام كتابه المجيد ، وسنة نبيه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.

١٩
٢٠