الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

يقول : إن فعلت كذلك أتصدق بأني صادق ، أو يقول من يتحداه : لا أصدقك حتى تفعل كذا ، ويشترط أن يكون المتحدى به مما يعجز عنه البشر في العادة المستمرة ، وقد وقع النوعان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدة مواطن ، وسميت المعجزة ، لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها) (١).

__________________

(١) فتح الباري ، لابن حجر العسقلاني ، ٨ / ٤٧١.

٤١

المبحث الثالث

مراحل التحدي بالقرآن الكريم

سبقت الإشارة إلى أن من شروط المعجزة التحدي ، وبما أن القرآن الكريم هو

المعجزة الخالدة وهو الآية الساطعة الناطقة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان لزاما أن يميط اللثام عن مزاعم القوم ، وضعفهم وعجزهم أمام عظمته وإعجازه ، فلذلك دخل معهم ساحة التحدي ، وميدان المبارزة ...

ونلحظ ذلك في غير ما موضع من كتاب الله تعالى ، حيث مهّد للتحدي بآيات عظيمة تعلن أن مصدر هذا القرآن هو من عند الله عزوجل ، ومن المحال أن يصدر من أدمغة البشر مهما ترقوا في مدارج العبقرة والتأمل ...

وها هو ذا يؤكد هذا المعنى من جهة ، ويبدد سحب الظلام التي تغشّت سماء عقول القوم من جهة أخرى حول مصدر القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ...) (١).

جاء في «فتح القدير» عند هذه الآية : (أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البينة والبراهين الواضحة يفترى من الخلق من دون الله ، وإنما هو من عند الله عزوجل وكيف يصح أن يكون مفترى ، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه ، القوم الذين هم أفصح العرب لسانا وأدقهم أذهانا (وَلكِنْ) كان هذا القرآن (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المنزلة على الأنبياء ، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة ، لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ولا اتصل بمن له علم بذلك) (٢).

ثم يقلب وجوه عموم هذا التحدي ، وذلك من خلال التنبيه على أن هذا الكتاب

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٣٧.

(٢) فتح القدير ، محمد بن علي الشوكاني ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، د. ت ، ٢ / ٦٤٤.

٤٢

الذي ضمّ بين دفتيه آيات وسورا كثيرة ، وما انطوت عليه هذه السور من أحكام الحلال والحرام ، وقصص الأقوام الغابرة ، وسبل ترسيخ العقيدة في النفوس ، ومعالم الآداب والأخلاق الرفيعة ...

كل ذلك ذكر في القرآن الكريم بدقة بالغة ، وحكمة عالية ووضوح لا يعتريه لبس ، وإحكام لا يتسرب إليه تناقض قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وفي موضع آخر يوضح الحق سفور جهلهم ، وشدة مغالطتهم لأنفسهم وإنكارهم لواقعهم وماضيهم ، وذلك من خلال توصيدهم أبواب الزمن أمام أربعين سنة عاشها رسول الله بين ظهرانيهم والجميع موقن أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فأنى له هذا القرآن؟ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).

يا سبحان الله ، لقد كان بوسعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يتلوه عليهم ولا يقرأ شيئا منه إن كان من عنده ، ولكنه وحي من عند الله تبارك وتعالى ، ينبغي أن يبلغه ، ويجب عليه أن يبين لهم أحكامه وتوجيهاته كما أنزلت ، وكما نصّ عليها الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

(لقد شعروا بعجزهم في قرارة أنفسهم عند ما دعوا إلى معارضة القرآن والإتيان بمثله ، ولكنهم عاندوا واستكبروا ولم يستجيبوا لنداء العقل وأحاسيس الفطرة التي يستشعرونها في داخلهم ، وقالوا عند سماع آيات القرآن تقرع مسامعهم وتتحداهم) (٣)؟ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٤).

(وهذا كما ترى غاية المكابرة ، ونهاية العناد ، وكيف لا ، ولو استطاعوا شيئا من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة ، وقد تحدوا عشر سنين وقرعوا على العجز

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة يونس ، الآية : ١٦.

(٣) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص ٣٢ ، وانظر : مباحث في علوم القرآن ، د.

صبحي الصالح ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة العشرون ، ١٩٩٧ م ، ص : ٣١٣.

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٣١.

٤٣

وذاقوا من ذلك الأمرّين ، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان) (١).

ثم إنهم راحوا يتهمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه متقوّل مفتر على الحق عزوجل ، وذلك من خلال التدرج في أحكام القرآن ، والنسخ الحكيم الذي لا تكاد تخلو منه شريعة سماوية أو منهج وصفي قال الله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢) (٢).

وللأستاذ المراغي (٣) تعليق جميل في تفسيره لهذه الآية ، يقول : (وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه قال المشركون المكذبون لرسوله : إنما أنت متقول على الله تأمر بشيء ثم تنهى عنه ، وأكثرهم لا يعلمون ما في التبديل من حكم بالغة ، وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادا واستكبارا ... ثم يبين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله ، وأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد افتراه) (٤) فقال الحق سبحانه تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٥).

(وعند ما ضاقت عليهم الحيلة وسدّت في وجوههم السبل طرقوا كل باب في الادعاء والافتراء والبهتان لشدة حرصهم على إبطال شأن القرآن والتشكيك في ربانية مصدره فقالوا : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٦) ، ولكي

__________________

(١) إرشاد العقل السليم تفسير القرآن الكريم ، محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، د. ت ، ٤ / ١٩.

(٢) سورة النحل ، الآيتان ١٠١ ، ١٠٢.

(٣) (... ـ ١٣٧١ ه‍ ... ـ ١٩٥٢ ، أحمد بن مصطفى المراغي ، مفسر مصري ، من العلماء ، تخرج بدار العلوم سنة ١٩٠٩ ، ثم كان مدرس الشريعة الإسلامية بها ، توفي بالقاهرة سنة ١٩٥٢ ، له كتب منها : الحسبة في الإسلام ، والوجيز في أصول الفقه ، وتفسير المراغي وغيرها). انظر : الأعلام ، للزركلي ، ١ / ٢٥٨ ، بتصرف.

(٤) تفسير المراغي ، أحمد مصطفى مراغي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ ، ١٩٩٨ ، ١٤ / ١٤٣.

(٥) سورة النحل ، الآية : ١٠٢.

(٦) سورة الفرقان ، الآية : ٥.

٤٤

يلقوا ظلالا من الشكوك على افترائهم لعلها تكون مستساغة عند الجاهلين بواقع الأمور قالوا : إن الذي يعلمه ليس من قريش ، وإنما هو رجل لديه علم لم تعلمه قريش ، ولكن أنّى لأعجمي أن يأتي ببيان معجز للعرب الفصحاء) (١)؟!؟

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٢).

ولم يكتف القوم بهذا الهراء البليد ، بل إنهم راحوا يروجون على الملأ ، وبشتى وسائل إعلامهم في ذلك الزمان ، أن الذي يجري على لسان محمد بن عبد الله ما هو إلا شعر نسج خيوطه ورتّب قوافيه في هدأة من الليل المحندس ، أو على أقل تقدير هو سحر استقاه من شعوذة الدجالين والكهنة.

وتتنزل آيات القرآن الكريم ، لتمزّق أستار هذا الوهم ، وتبدد أوصال هذه السذاجة وتصرخ في وجوه المبطلين قائلة : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢) (٣).

ولم يكتف الحق بذلك لكنه أعلن التحدي بالقرآن الكريم إعلان المظهر لعجزهم ، المسفّه لعقولهم وهي المرحلة الأولى في التحدي.

المرحلة الأولى :

كان التحدي في هذه المرحلة بكل ما تنزل من السماء من القرآن العظيم ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٤).

(أي قل لهم متحديا : والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا

__________________

(١) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص ٣٢ ، وانظر : بحوث منهجية في علوم القرآن ، موسى إبراهيم ، عمّان ، دار عمار الطبعة الثانية ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٦ ، ص : ١٢٤.

(٢) سورة النحل ، الآية : ١٠٣.

(٣) سورة الحاقة ، الآيات ٤١ ـ ٥٢.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

٤٥

بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة ، وحسن معنى وتصرفا وأحكاما ونحو ذلك ، لا يأتون بمثله وفيهم العرب العظماء وأرباب البيان ، ولو تعاونوا وتظاهروا ، فإن هذا غير ميسور لهم ، فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل ...) (١).

(إلا أننا وجدنا العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان يعجزون جميعا عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، الذي تتلى آية التحدي فيه صباح مساء ، على رءوس الأشهاد ، وكأنها تثير فيهم الحمية لمجابهة هذا التحدي ، إلا أنهم رغم هذا ورغم كل ما يبذلونه من محاولة للقضاء على القرآن ودعوته لم يجدوا إلى تحدّي القرآن أي سبيل ، ولو وجدوا لفعلوا ... إلا أنه العجز البشري ، أمام القدرة الإلهية التي لا تتحدّى ...) (٢).

(وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك ، مع طول الزمن دليل قاطع على أنه ليس مما اعتيد صدوره عن البشر ، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة ...) (٣).

المرحلة الثانية :

وتبدأ المرحلة الثانية ، وهي مرحلة التحدي بعشر سور من القرآن الكريم ، فبما أن القوم تعثرت عبقريتهم في طريقها لتحدي القرآن ، وتقوّضت أركان الفكر والبيان لديهم وراح العجز يحيطهم من كل مكان عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، أرخى الحق لهم العنان وطالبهم بعشر سور من مثل هذا البيان ، فقال تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤).

ويصف الدكتور مصطفى مسلم هذه المرحلة فيقول : (ولم يبق للمشركين أرض يقفون عليها ولا حجة يستندون إليها ، فقالوا : إن هذه العلوم والأمور الغيبية والهدايات الواردة في القرآن لا عهد لنا بها ، وهذا سبب عجزنا عن معارضة القرآن ، قالوا ذلك وهم لا يدرون أن هذا حجة عليهم لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو إلا رجل منهم عاش بين أظهرهم ولم يزد في العلوم الاكتسابية عليهم بشيء ، فأرخى القرآن الكريم لهم العنان

__________________

(١) تفسير المراغي ، أحمد مصطفى المراغي ، ١٤ / ٩٢.

(٢) المعجزة القرآنية ، د. محمد حسن هيتو ، ص : ٣٣.

(٣) محاسن التأويل ، محمد القاسمي ، بيروت ، دار الفكر ، الطبعة الأولى ، ١٩٧٨ ، ١٠ / ٢٩٦.

(٤) سورة هود ، الآية : ١٣.

٤٦

وتنازل معهم في المحاورة إلى مجال يتوهمون إحراز قصب السبق فيه ولم يطالبهم بشيء من حقائق الكون والتاريخ ، ومن قصص الأنبياء الغابرين وشأن الألوهية وكمالاتها وأمهات الأخلاق ومقومات الحضارات ورقيّ المجتمعات ، وإنما عليهم أن يأتوا بمثل عشر سور من سور القرآن ، وليفتروا موضوعاتها كما يشاءون على أن تكون في فصاحة القرآن وبلاغته) (١).

ونجد تعليقا جميلا على هذه الآية في تفسير «إرشاد العقل السليم» (أي ، بل يقولون افتراه وليس من عند الله (قُلْ) إن كان الأمر كما تقولون (فَأْتُوا) أنتم أيضا (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في البلاغة وحسن النظم ... (مُفْتَرَياتٍ) صفة أخرى لسور أخرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفة المقصودة بالتكليف إذ بها يظهر عجزهم وقعودهم عن المعارضة ، وأما وصف الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ، ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة في الافتراء ، والمعنى : فأتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة ، مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اخلقته من عندي ، فإنكم أقدر على ذلك مني لأنكم عرب فصحاء بلغاء قد مارستم مبادي ذلك من الخطب والأشعار وحفظتم الوقائع والأيام وزاولتم أساليب النظم والنثر) (٢).

ولقد هشمت هذه الآية كبرياء المشركين ، وفضحت عجزهم ، وأردتهم في مهاوي الذل والخذلان فما استطاع أحد أن يتفوه ببنت شفه ، ولقد استعجمت ألسنتهم عن النطق بمثل هذا الكلام البديع وذلكم النظم المتألق الفريد ...

(أما زلتم تقيمون على الزعم بأن محمدا افترى هذا القرآن على الله ...؟ أم أنكم لم تبرحوا تتقوّلون أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها محمد فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ، لئن دار بعض هذا في خلدكم فخلوا عنكم أخباره الغيبية وعلومه اللدنية ، فلن يكون أسهل عليكم حسب زعمكم من اختلاق عشر سور تماثله بلاغة أسلوب وفصاحة بيان ، فأنتم العرب سادة الفصاحة والبلاغة؟ وقد دعيتم إلى مثله في النظم في أي معنى أردتم مطلقا غير مقيد ، موسعا غير مضيق ، فليس إلى معاني القرآن دعيتم ، ولكن إلى بلاغة أسلوبه وفصاحة عباراته ... أما وقد عجزتم ، وباء جمعكم بالخزي والخذلان

__________________

(١) مباحث في إعجاز القرآن الكريم ، مصطفى مسلم ، ص : ٢٣.

(٢) إرشاد العقل السليم ، محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود ، ٤ / ١٩٢.

٤٧

ولم يبق لديكم بعد شائبة شبهة في صدق هذا الرسول ، وحقيّة القرآن ، وبطلان ما أنتم عليه من شرك ، فهل تغادرون المكابرة والعناد وتدخلون الإسلام دين الله أفواجا) (١).

المرحلة الثالثة :

وفي هذه المرحلة وسّع لهم الحق عزوجل ، فتحداهم بسورة واحدة من القرآن الكريم حتى ولو كانت من أقصر سوره ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

وللشوكاني رحمة الله كلام نفيس حول هذه الآية نثبته هنا ، يقول : (... والتقدير ، أيقولون افتراه والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يتحداهم حتى يظهر عجزهم ، ويتبين ضعفهم ، فقال : قل : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمدا افتراه فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة ، وجودة الصناعة ، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن ، وبلاغة الكلام (وَادْعُوا) بمظاهريكم ومعاونيكم (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب ، ومن آلهتكم التي تجعلونها شركاء لله ، ثم يقول : وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة ، وأوضحها وأظهرها للعقول ، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية ، قال لهم : هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجمّ بسورة مماثلة لسورة من سوره ، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم ، أو من غيرهم من بني آدم ، أو من الجن أو من الأصنام ، فإن فعلتم هذا بعد اللتيّا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي ...

فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف ، والتنزل البالغ بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة ، بل كاعوا عن الجواب ، وتشبثوا بأذيال العناد البارد ، والمكابرة المجردة عن الحجة) (٣).

ولكي يبرهن الحق تبارك وتعالى على صدق نبوة محمد بن عبد الله صلوات الله

__________________

(١) المعجزة الخالدة ، حسن ضياء الدين عتر ، بيروت ، دار ابن حزم ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٩ / ١٩٨٩ ، ص : ١١٩.

(٢) سورة يونس ، الآية : ٣٨.

(٣) فتح القدير ، للشوكاني ٢ / ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

٤٨

وسلامه عليه ويثبت عظمة القرآن ، ولقطع (دابر وساوس الشيطان ونزغات أهل الباطن المرجفين ، ولكي لا يقال إن محمدا تحدى أهل مكة ، والأميّة فاشية فيهم ، ولا علم لهم بعلوم الأديان وبالأنبياء والكتب ، ولو أنه تحدى غيرهم لأمكنهم أن يأتوا بمثل قرآنه ، كرر في المرحلة المدنية وبين ظهراني أهل الكتاب ، وسجل العجز المطلق لكل المخلوقين إلى يوم القيامة ، ولا زالت أصداؤه في أذن الزمن على مرّ العصور ليبرهن على خلود الرسالة وصدق صاحبها) (١) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) (٢).

إنه تحدّ بعد تحد ، ومن جرّاء تكرار هذا التحدي طبع الحق عزوجل عليهم طابع العجز والقصور ، ليحولهم إلى كتلة من الذل والصغار ، هيا شمّروا عن ساعد الجد والعنفوان ، بكل وسائلكم وحيلكم ، واستعينوا بمن شئتم وكيفما شئتم ، وأتوا بسورة تماثل هذا الكلام الإلهي الأخّاذ.

يقول رشيد رضا في هذا المقام : (يا أيها الناس عليكم بعد أن تنسلوا من مضايق الوساوس وتتسللوا من مآزق الهواجس ، وتنزعوا ما طوقكم به التقليد من القلائد وتكسروا مقاطر ما ورثتم من العوائد ، أن تهرعوا إلى الحق فتطلبوه ببرهانه ، وأن تبادروا إلى ما دعيتم إليه فتأخذوه بربانه ، فإن خفي عليكم الحق بذاته ، فهذه آية من أظهر آياته وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أمي مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله تساوي سورة في هدايتها ، وتضارعها في أسلوبها وبلاغتها ، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة ، وقد اشتهر كثير منكم بالسبق في هذا الميدان ، ولم يكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن يسابقكم من قبل هذا البرهان ، لأنه لم يؤت هذا الاستعداد بنفسه ولم يتمرن عليه أو يتكلفه لمباراة أهله ، فاعلموا أن ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم ، لم يكن إلا بوحي إلهي وإمداد سماوي لم يسم عقله إلى علمه ، ولا بيانه إلى أسلوبه ونظمه) (٣).

__________________

(١) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ٣٤.

(٢) سورة البقرة ، الآيتان ٢٣. ٢٤.

(٣) تفسير المنار ، رشيد رضا ، ١ / ١٩١.

٤٩

وبعد هذا التحدي العظيم الذي قصم الظهور ، وأذلّ الأعناق ، ما استطاع أحد منهم أن يتجرأ أو يتلفّظ بسورة تشابه كلام الله تعالى ، بل راحوا يتساقطون وينهزمون ، بعجز سافر وضعف ذليل ، لقد مدّ اليأس سلطانه على نفوسهم ، وامتلأت أقطار نفوسهم بالإحباط والفشل ، ورأوا أنفسهم ذرة أمام قلعة شماء شامخة ، إنها قلعة البيان وصرح القرآن ، إنه المعجزة الخالدة على مرّ العصور والأزمان ، إنه كلام الله.

تلك هي مراحل التحدي ، ولقد أشار الحافظ ابن كثير إلى ترتيبها ، على النحو الذي ذكرنا عند تفسيره لقوله سبحانه وتعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) يقول : (فأتوا أنتم بسورة من مثله ، أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجن ، وهذا هو المقام الثالث في التحدّي ، فإنه تعالى تحدّاهم ودعاهم ، إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد ، فليعارضوه ، بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا ، وأخيرا أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال سبحانه تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣).

ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة (٤) : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٥).

رأينا من خلال هذا العرض ، عظمة القرآن وهو يتحدّى العرب ، وكيف أنه يطاولهم في المعارضة ثم إنه قد تنازل لهم في تحديهم بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ، ومن ثم إلى التحدي ولو بسورة واحدة ، وهم مع ذلك يتقلبون في أطوار كليلة هزيلة من عجز إلى عجز ومن نكص إلى نكص ، والقرآن يتألق في كل مرحلة وينتقل من فوز إلى فوز ، ومن ألق إلى ألق.

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٣٨.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٣) سورة هود ، الآية : ١٣.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ٤ / ٣٠٤ ، وانظر : لوامع الأنوار البهية ، محمد السفاريني الحنبلي ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة ، ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ ، ١ / ١٧٠.

(٥) سورة يونس ، الآية : ٣٨.

٥٠

ولكن بعد هزيمة العرب وعجزهم عن تحدي القرآن الكريم ، ما هو القدر المعجز من القرآن الكريم؟

أورد القاضي الباقلاني في كتابه «إعجاز القرآن» خلاف العلماء في ذلك فقال : (قدر المعجز عند الأشعريين :

الذي ذهب إليه عامة أصحابنا ، وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه ، أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة ، قصيرة كانت أم طويلة ، أو ما كان بقدرها ، قال : فإذا كانت الآية بقدر حروف السورة ، وإن كانت سورة الكوثر ، فذلك معجز.

قال : ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.

القدر المعجز عند المعتزلة :

وذهب المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة ... وقد حكي عنهم نحو قولنا ، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة ، بل شرط الآيات الكثيرة وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ولم يخص ، ولم يأتوا لشيء منها بمثل ، فعلم أن جميع ذلك معجز) (١).

ويرى الشيخ الزرقاني (٢) أن (القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه ، وأن القائلين بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه ، وهم المعتزلة ، والقائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن ولو كان أقل من سورة ، كل أولئك بمنأى عن الصواب) (٣).

ويؤكد هذا الدكتور مصطفى مسلم فيقول : (وبما أن السورة جاءت بلفظ نكرة بسورة ، فهي تشمل كل سورة في القرآن طويلة أو قصيرة ، فيكون القدر المعجز من القرآن هو السورة من القرآن الكريم طويلة أو قصيرة ، هذا هو رأي جمهور العلماء ، إلا أن بعضهم زاد على ذلك : أن مقدار السورة القصيرة ، هي ثلاث آيات معجز أيضا) (٤).

__________________

(١) إعجاز القرآن ، محمد بن الطيب الباقلاني ، بيروت ، دار إحياء العلوم ، تعليق ، محمد سكر ، الطبعة الثالثة ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤ ، ص : ٣٢٤.

(٢) (... ـ ١٣٦٧ ه‍ ... ـ ١٩٤٨ ، محمد عبد العظيم الزرقاني ، من علماء الأزهر بمصر ، تخرج بكلية أصول الدين ، وعمل بها مدرسا لعلوم القرآن والحديث ، وتوفي بالقاهرة ، من كتبه :

مناهل العرفان في علوم القرآن). انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٦ / ٢١٥ ، بتصرف.

(٣) مناهل العرفان في علوم القرآن ، محمد عبد العظيم الزرقاني ، بيروت ، دار الفكر ، تحقيق ، مكتب البحوث والدراسات ، الطبعة الأولى ١٩٩٦ ، ٢ / ٢٣٠.

(٤) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ٣٥.

٥١

استدراك : هناك استدراك بسيط يلفت الانتباه إليه هنا ، وهو أن الجمهور ذهبوا إلى أن القدر المعجز من القرآن هو السورة ، سواء كانت طويلة أم قصيرة كسورة الكوثر ، لكن الذي زاد على هذا الذي ذهب إليه الجمهور ـ كما سلف ـ فقال : أو مقدار السورة القصيرة ، وهي ثلاث آيات معجز أيضا ، هذا الرأي يحتاج إلى تمحيص وتحقيق ... فالحق سبحانه وتعالى قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) (١) فالله تبارك وتعالى تحداهم (بِسُورَةٍ) وهي نكرة فهي تشمل السورة القصيرة والطويلة ، لكنه لم يقل : أو مقدارها ، فمقدار أقصر سورة وهي سورة الكوثر ثلاث آيات ، هل هو معجز؟.

الجواب : نحن نعلم من خلال دراستنا لأسلوب القرآن الكريم في عرض السورة ، أن السورة لها بناء متكامل ، ووحدة موضوعية دقيقة ، وتناسق وتساوق في إبراز معالم القضية المعروضة من مقدمة ولب وخاتمة ، ولربما تبسط القضية فتأخذ شوطا واسعا أو تكون مقتضبة ، وفي كل الأحوال فإنها تعبر عن شخصية متكاملة ، وهذا هو الميزان الذي ينبغي أن نحتكم إليه عند ما نقول : أو ما يماثل السورة من الآيات ، فإن كانت هذه الآيات التي تماثل السورة خاضعة لهذا الميزان ففيها الإعجاز وإلا فالقول ما قاله ربنا (بِسُورَةٍ) ، وهذا لا يعني أن في مقدور أحد من البشر أن يأتي بمقدار أقصر سورة من الآيات ، أي بثلاث آيات ، لا وإنما نركز ونقيد قدر السورة بالوحدة الموضوعية ، والبناء المت ناسق الذي هو شرط للقول بالإعجاز.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيتان ، ٢٣ ـ ٢٤.

٥٢

المبحث الرابع

عجز المشركين واعترافهم بعظمة القرآن

بعد ما استعرض الحق آيات التحدي في كتابه العظيم ، وطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله وفيهم فحول الشعراء والخطباء الذين ذاع صيتهم وانتشر خبرهم بين الناس ، وإذا بالقوم تستعجم ألسنتهم ، وتهتز أركان البلاغة والبيان لديهم ، فراحوا يتهربون ويتهافتون ومنهم من قد تسربل بقناع الأنفة والاستكبار ، فقال هو وأمثاله كما وصفهم ربنا تبارك وتعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) (١).

وقولهم : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٢).

(وهكذا التمسوا لأنفسهم عذر القعود عن معارضته بأنه أساطير الأولين ، أو قول شاعر مجنون أو هو كذب أعانه على اختلاقه أناس آخرون ، واعتبروا اتهامهم هذا عذرا يسوّغ صمتهم ، ويبرر عجزهم الفاضح عن المعارضة ... يا للمنطق السديد؟ ألا ترى أن هذا التهرب من مواجهة التحدي ومن تقديم المعارضة ليس في الواقع إلا إقرارا منهم بالعجز وأي إقرار) (٣)؟

يقول الإمام الباقلاني : (فلو كان هذا القرآن من ذلك القبيل : الشّعر أو من الجنس الذي ألفوه ، لم تزل أطماعهم عنه ، ولم يدهشوا عند وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة ، قال عز من قائل : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٤).

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآيتان ٤ ، ٥.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ٦.

(٣) المعجزة الخالدة ، حسن ضياء الدين عتر ، ص : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) سورة فاطر ، الآية : ٣٧.

٥٣

وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم ، وأنهم لا يقدرون عليه ، وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ لأن ذلك طبعهم ولغتهم ، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن ، وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في الصنعة) (١).

ويؤكد هذا المعنى الجرجاني فيقول : (وإذا ثبت أنهم ـ أي العرب ـ الأصل والقدوة فإن علمهم العلم ، فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلي عليهم القرآن وتحدوا إليه ، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله ، ومن التقريع بالعجز عنه ، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه ، وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكّوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله ، ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلا على وجه من الوجوه ، أما الأحوال فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطباعهم التي لا تتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلا إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم ، كيف وأن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه يبأى (٢) بنفسه ، ويدل بشعر يقوله ، أو خطبة يقوم بها ، أو رسالة يعملها ، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته ، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل ، ويبذل ما لديه من المنة ، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه وأن يعرض كلامه عليه ببعض العلل ، وبنوع من التمحل (٣) ، هذا وهو لم ير ذلك الإنسان قط ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة ، ويدعو إلى ذلك التعرض ، وإن كان المدعى ذلك بمرأى منه ومسمع ، كان ذلك أدعى له إلى مباراته وإلى إظهار ما عنده) (٤).

(... فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب ، وفي مثل قريش ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية والأنفة والحمية ، من يدعي النبوة ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى

__________________

(١) إعجاز القرآن ، للباقلاني ، ص : ٢٨٩.

(٢) (بأى : البأواء ، هي العظمة ، ويبأى : فخر ، وبأيت عليهم أبأى ، فخرت عليهم). لسان العرب ، لابن منظور ، ١٤ / ٦٣.

(٣) (التمحل : المكر والاحتيال). لسان العرب ، لابن منظور ، ٢ / ١٨٨.

(٤) ثلاث رسائل في الإعجاز ، الرسالة الشافية ، للجرجاني ، تحقيق ، محمد خلف الله ومحمد سلام ، القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ١٣٨٧ ه‍ / ١٩٦٨ ، ص : ١١٨ ـ ١١٩.

٥٤

الخلق كافة ، وأنه بشير بالجنة ونذير بالنار ، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته ، ودين دان به الناس شرقا وغربا ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه لا نبي بعده ، إلى آخر ما صدع به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يقول : وحجتي أن الله تعالى قد أنزل عليّ كتابا عربيا مبينا ، تعرفون ألفاظه ، وتفهمون معانيه ، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعشر سور منه ، ولا بسورة واحدة ولو جهدتم جهدكم ، واجتمع معكم الجن والإنس ، ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ، ويبينوا شرفه في دعواه ، مع إمكان ذلك ، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه) (١)؟

يتضح لنا مما سبق أن القوم قد عجزوا عن مجاراة القرآن ، وأن ما أوتوه من بلغة وحنكة وفطنة تذوب وتتضاءل أمام روعة القرآن وبيانه ، فمنهم من واجهه بكل قبيح ووقفوا له بكل سبيل ، وهم موقنون في قرارة أنفسهم بعجزهم عن الإتيان ولو بسورة من مثله ، ومنهم من قد اهتزت مشاعرهم لسماعه ، وتفاعلت أحاسيسهم لآياته ، واستثارت كلماته من أقاصي أفئدتهم صبابة وكلفا ، وهؤلاء على قسمين ، فمنهم الذين أخبتوا لله وحكّموا عقولهم ، ونبذوا العصبية الحالكة فآمنوا بالله ربا وبمحمد نبيا وبالقرآن كتابا منزّلا ، ومنهم من استعبدهم الاستكبار والعناد وركبوا رءوسهم فعرفوا الحق ثم حادوا عنه ، ورأوا النور لكنهم آثروا الظلام ، وكلا الفريقين قد أقرّ بعظمة القرآن ولكن شتان بين من قد أقرّ فآمن ، وبين من قد أقرّ ثم نكص وكفر وفرّ ، ولنستعرض بعض الأمثلة للفريقين.

١ ـ اعتراف بلغاء المشركين بإعجاز القرآن

أولا ـ عتبة بن ربيعة :

روى ابن إسحاق : (أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيدون ويكثرون ، فقال : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص : ١٢٠.

٥٥

فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ، قال : فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل يا أبا الوليد أسمع» ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمع منه قال : «أقد فرغت يا أبا الوليد» قال : نعم : قال : «فاسمع مني» قال : أفعل ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) (١) ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» ، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم) (٢).

هذه القصة توضح لنا بكل جلاء اعتراف سيد من سادات قريش ، أمام صناديد الكفر وصناديد البلاغة والبيان ، بإعجاز القرآن وأثره في النفوس ، ووقعه في القلوب والأفئدة.

__________________

(١) سورة فصلت ، الآيات ١ ـ ٥.

(٢) السيرة النبوية ، عبد الملك بن هشام الحميري ، بيروت ، دار الجيل ، تحقيق ، طه سعد ، الطبعة الأولى ، ١٤١١ ه‍ ، ١ / ١٣٠ ـ ١٣٢ وأورده كذلك ابن كثير في تفسيره ، ٤ / ٩٠ ـ ٩٢.

٥٦

ثانيا ـ الوليد بن المغيرة :

وهو من أشد المشركين عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أكثر الذين ناصبوا رسالة الإسلام العداء فقد أشعل حربا سافرة لاهبة منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية ، لكنه يوم سمع القرآن الكريم افتتن ببلاغته ، وسحر بإعجازه وبيانه ، ولنسمع إعلانه الذي يدل على تأثره أمام قريش ، يروي ابن عباس رضي الله عنه (أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، فقالوا : أنت فقل وأتم لنا به رأيا نقول به ، قال : لا بل أنتم قولوا لأسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ... قالوا : فنقول شاعر ، قال : ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ، ولا بعقده ، قالوا : فما ذا نقول؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : هو ساحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك) (١).

يعلق الإمام الزركشي رحمه‌الله على هذه القصة فيقول : (... ثمّ صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوما ، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب ، وقرعا في النفس يريبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف ولذلك قالوا : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢) مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس

__________________

(١) الدر المنثور ، عبد الرحمن بن جلال الدين السيوطي ، بيروت ، دار الفكر ، ١٩٩٣ ، ٥ / ٩٨ ، وانظر : السيرة الحلبية ، علي بن برهان الدين الحلبي ، بيروت ، دار المعرفة ، ١٤٠٠ ه‍ ، ٣ / ٣٤٤ ، ولباب النقول في أسباب النزول ، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي ، بيروت ، دار إحياء العلوم ، د. ت ، ١ / ٢٢٤.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٥.

٥٧

بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز ، وقد حكى الله عن بعض مردتهم وهو الوليد بن المغيرة المخزومي ، أنه لما طال فكره في القرآن ، وكثر ضجره منه ، وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس ، فلم يقدر على أكثر من قوله : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (١) عنادا وجهلا به وذهابا عن الحجة وانقطاعا دونها) (٢).

ثالثا ـ النضر بن الحارث :

قال ابن هشام : (ويقال : النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف ، قال ابن اسحاق : فقال : يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر؟ لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم كاهن؟ لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم ، وقلتم شاعر؟ لا والله ما هو بشاعر لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه ، وقلتم مجنون؟ لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه ، يا معشر قريش : فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.

أذى النضر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم ... فكان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا فذكّر فيه بالله وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلم إليّ ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم ... ثم يقول : بما ذا محمد أحسن حديثا مني) (٣).

هذا هو إقرار واعتراف كبار بلغاء قريش وفصحائها ، وغير هؤلاء كثير ممن خفقت

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ٢٥.

(٢) البرهان في علوم القرآن ، محمد بن عبد الله الزركشي ، بيروت ، دار المعرفة ، تحقيق ، محمد إبراهيم ، ١٣٩١ ه‍ ، ٢ / ١٠١.

(٣) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ٢ / ١٣٨.

٥٨

قلوبهم ، وثارت عواطفهم ، وتفاعلت أحاسيسهم بصدى القرآن ووقعه على مسامعهم فإنهم قد استيقنوا أن هذا الكلام هو كلام الله ، ولا يمكن أن يكون من تأليف إنس أو جن ، لأن الفرق بين كلام البشر وكلام الله كالفرق بيننا وبين الله ، بل إن المشركين كانوا يتوقون في كل لحظة لسماع كلام الحق وتضيق عليهم الأرض بما رحبت إن هم انقطعوا عن الاستماع للقرآن.

(ولذلك كان النفر من قريش يتعاهدون على عدم سماع القرآن حتى لا يتأثروا به ، ويذهبون إلى بيوتهم ، إلا أن الواحد منهم لا يلبث أن يرجع إلى الكعبة ليسمع القرآن ، الذي ملك عليه عقله وقلبه فيجد أن صاحبه الذي كان قد عاهده ، قد سبقه إلى العودة لسماع القرآن المعجز ، نديا من صوت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجتمعان أمام الكعبة وكل منهم قد نقض ما عاهد عليه صاحبه! وحق لهم هذا ... فمن ذا الذي يرى المعجزة ويملك نفسه أن لا يتأثر بها ...؟ إذ لو كان الناس يملكون هذا ، لما كان للمعجزة ذلك الأثر) (١).

وهذا ما أورده أصحاب السير في سيرهم ، من أن المشركين كانوا يتلصصون في هدأة الليل ، أو هاجرة النهار ، ليستمتعوا وينتشوا بسماع كلام الحيّ القيوم ، فقد روى ابن هشام في سيرته : (قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود على ذلك ثم تفرقوا ، فأراد الأخنس أن يستفهم عما سمعه فلما أصبح الأخنس بن شريق ، أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما

__________________

(١) المعجزة القرآنية ، محمد حسن هيتو ، ص : ٣٩.

٥٩

سمعت من محمد؟ فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم : ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ما ذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ، قال : فقام عنه الأخنس وتركه) (١).

هذه بعض الروايات التي تحكي حال أولئك القوم الذين بهروا بجمال القرآن ، وسحروا ببيانه وأقروا بإعجازه ، وترجموا هذه المشاعر بمقولاتهم التي سجّلها التاريخ لهم ، وأثبتناها هاهنا ، ولكنه العناد السافر الذي أعمى أبصارهم ، وغلف قلوبهم فأظلمت وصدئت وقست ثم ماتت ، فكانوا أضل من الأنعام الشاردة ، وأغواهم الشيطان بمكائده وحباله ، فجحدوا الحق وكفروا به بعد ما عرفوه ، وسيكون عليهم يوم القيامة حسرة وندامة.

٢ ـ اعتراف فصحاء العرب المؤمنين بإعجاز القرآن

وسنصغي الآن إلى الذين لامس القرآن الكريم شغاف قلوبهم ، ووقعت كلماته الربانية في نفوسهم ، فملك عليهم عقولهم ، وسيطر على كيانهم ، فاستجابت له جوارحهم وانسجمت مع إرشاداته سلوكياتهم ، وسجدت نباهتهم لبلاغته ، وطأطئوا الرءوس إجلالا لإعجازه فهداهم الله إلى الحق والنور المبين.

أولا ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

قال ابن إسحاق : (وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد ، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر ، وكان نعيم بن عبد الله النحام من مكة رجل من قومه من بني عدي بن كعب قد أسلم ، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه ، وكان خباب ابن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب ، يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

٦٠