الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

وقال الزمخشري : (مرج البحرين ، أرسل البحر المالح والبحر العذب ، متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز من قدرة الله تعالى (لا يَبْغِيانِ) لا يتجاوزان حدّيهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة) (١).

وعند الرازي : ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلاهما وأرسلهما يقال : مرجت الدابة إذا خليتها ترعى وأصل المرج الإرسال والخلط ، سمى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين ، قال ابن عباس : مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج وهما يلتقيان ، وقوله : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) والمقصود من الفرات البليغ في العذوبة حتى يصير إلى الحلاوة ، والأجاج نقيضه ، وأنه سبحانه بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ، وجعل من عظيم اقتداره برزخا حائلا من قدرته ، وهاهنا سؤالات :

السؤال الأول : ما معنى قوله : (وَحِجْراً مَحْجُوراً)؟ الجواب : هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها ، وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له حجرا محجورا ، كما قال : (لا يَبْغِيانِ) أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة ، فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ ، وهاهنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه ، فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات) (٢).

وفي «أنوار التنزيل» : (خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان ، من مرج دابته إذا خلاها ، (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) قامع للعطش ، من فرط عذوبته (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بليغ الملوحة وقرئ (مِلْحٌ) على فعل ، ولعل أصله مالح فخفف كبرد في بارد ، (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) حاجزا من قدرته ، (وَحِجْراً مَحْجُوراً) وتنافرا بليغا ، كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه ، وقيل : حدا محدودا ، وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها وقيل : المراد بالبحر العذب ، النهر العظيم مثل النيل وبالبحر الملح البحر الكبير ، وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصفة ، مع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت وتلاصقت وتشابهت في الكيفية) (٣).

__________________

(١) الكشاف ، للزمخشري ، ٤ / ٤٥ ، وانظر : معرض الإبريز من الكلام الوجيز عن القرآن العزيز ، عبد الكريم الأسعد ، الرياض ، دار المعراج ، الطبعة الأولى ، ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٨ ، ٣ / ٩٣٥.

(٢) التفسير الكبير ، للرازي ، ٢٤ / ٤٧٥.

(٣) أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٤ / ٢٢١.

٣٨١

ونفس المعنى في «تفسير القرآن» : ((وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي خلط البحرين ، وقيل : أرسل البحرين ، وقوله : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) العذب ، يسمى كل ماء عذب فراتا ، ويسمى كل ماء ملح بحرا ، و (أُجاجٌ) أي شديد الملوحة ، وقيل : مرّ ، وقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) اليبس بين البحرين والبرزخ هو الحاجز ، وقوله : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي مانعا ممنوعا) (١).

ونحلل بعض المصطلحات القرآنية الواردة هنا مثل : مرج ، وأجاج ، وبرزخ من المعاجم :

ففي «لسان العرب» : (مرج ، مرج الدين والأمر اختلط واضطرب ، ومنه الهرج والمرج ، ويقال إنما يسكن المرج لأجل الهرج ، ازدواجا للكلام ... والمرج الخلط ومرج الله البحرين العذب والملح : خلطهما حتى التقيا) (٢).

ومعنى الأجاج ، من الأجة (والأجة الاختلاط وشدة الحر ، وقد ائتج النهار وتأج وتأجج ، وماء أجاج ، ملح مر) (٣).

وفي «مختار الصحاح» : (الأجيج تلهب النار ، وقد أجت تؤج أجيجا ، وأججها غيرها فتأججت وائتجت ، وماء أجاج أي ملح مر) (٤).

وأما البرزخ فهو : (البرزخ ما بين كل شيئين ، وفي الصحاح ، الحاجز بين الشيئين ، والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث ، فمن مات فقد دخل البرزخ ... والبرزخ ما بين كل شيئين ، ومنه قيل للميت : هو في برزخ لأنه بين الدنيا والآخرة ... والبرازخ جمع برزخ ، وقوله تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) يعني حاجزا من قدرة الله سبحانه وتعالى ، وقيل : أي حاجز خفي) (٥).

يتّضح لنا من هذا العرض أن المقصود من قوله تعالى : (مَرَجَ) أي خلط ، و (بَرْزَخ) أي حاجزا ، ولزيادة الإيضاح نقول : إن كلمة البحر إذا أطلقت في لغة العرب ، تنصرف إلى البحر المعهود ذي الماء الكثيف المالح ، أما إن خصصت بقيد ، كقولنا : «بحر

__________________

(١) تفسير القرآن ، للإمام أبي مظفر السمعاني ، تحقيق ، ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس غنيم ، الرياض ، نشر دار الوطن ، الطبعة الأولى ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٧ ، ٤ / ٢٦.

(٢) لسان العرب ، لابن منظور ، ٢ / ٣٦٤.

(٣) القاموس المحيط ، للفيروزآبادي ، ١ / ٢٢٩.

(٤) مختار الصحاح ، للرازي ، ١ / ٣.

(٥) لسان العرب ، لابن منظور ، ٣ / ٨.

٣٨٢

عذب» فينصرف المعنى إلى المخصص وإلى المقيد ، فالبحر العذب أي النهر ، وهذا ما رأيناه في بعض التفاسير ، وبوسعنا الآن بعد هذه الإشارات أن نحلل الآيات القرآنية ، ثم نثبت الحقائق العلمية على ضوء ذلك.

تتحدّث الآية الأولى عن بحرين يلتقيان ويختلطان ، إلا أن هذا الاختلاط كان سلميا ، لا ظلم فيه ولا بغي ولا تعدّي على حقوق أحد ، فلم يبغ أحدهما على الآخر بوجود البرزخ ، الحاجز بينهما والمعنى نفسه تتحدث عنه الآية الثانية ، فهي تشير إلى وجود حاجز بين البحرين ، إن هذه الحقيقة العلمية اعتقد بها المسلمون قديما ، كما رأينا من عرض أقوال المفسرين لكنهم لم يروها في عالم الشهادة ، فاعتقادهم بها كان نابعا من يقينهم الجازم الذي لا يخامره أدنى ريب ، أن هذا الكلام هو كلام الخالق العظيم ، وبالتالي فحقائقه كلها صادقة وواقعة ، فالرجل كان ينظر في البحر ، أو يركبه فلا يرى حواجز ولا فواصل فيه ، إلى أن جاء العلم الحديث وكشف عن هذه الحقيقة الكونية والمعجزة القرآنية ، وأثبت أن هناك حواجز حقيقية بين البحار.

الحقائق العلمية :

(نشرت بعثة (السير جون أمري) مع بعثة الجامعة المصرية بخفر السواحل لدراسة أعماق البحر الأحمر والمحيط الهندي في جنوب عدن ، وبعض الملاحظات التي تسترعي النظر ومما جاء أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر ، وحققت البعثة بواسطة قياس الأعماق ، وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر وتبعد قمته نحو ٣٠٠ متر عن سطح البحر.

وتماثل هذه النتيجة ما وصلت إليه السفينة (مباحث) في رحلتها الأولى في المحيط الهندي والبحر الأحمر ، إذ حققت وجود حاجز مغمور بين البحرين ، وأثبتت المشاهد بالتحليل الكيميائي ، أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها الطبيعية و (الكيميائية) عن مياه البحر الأحمر ، ويعلل علماء البحار الاختلاف في خواص الماء في المحيط الهندي والبحر الأحمر ، وفي خواصه في خليج العقبة والبحر الأحمر بوجود الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين) (١).

__________________

(١) لفتات علمية من القرآن ، يعقوب يوسف ، الرياض ، الدار السعودية للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية ، ١٩٩٧ ، ص : ٥٧.

٣٨٣

هذا عن التقاء البحرين ، لكن ما معنى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً).

هذه الآية تتحدث عن التقاء نهر وبحر (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وهما مختلطان لكن في نفس الوقت يوجد بينهما فاصل ، برزخ.

إن هذا المفهوم القرآني ، فسّره العلم الحديث وأكد حقائقه الثابتة ...

فقد أثبتت الدراسات أن البحر الأبيض المتوسط في لقائه مع المحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق بينهما برزخ ، ومن خلال التحليل الكيميائي لمياه كل منهما وجدوا أن البحر الأبيض المتوسط بالمقارنة مع المحيط الأطلسي حار ويختلف في ملوحته ، فالبحر المتوسط أكثر ملوحة من الأطلسي وأكثر حرارة ، ويختلف كل منهما في الكائنات الحية.

(أما بالنسبة لالتقاء الأنهار مع البحار واختلاطهما مع وجود البرزخ فقد أصبحت هذه الحقيقة من القضايا الثابتة علميا ويعبر عنها بالاصطلاح العلمي ب ظاهرة التوتر السطحي (Surface Tension) ، وملخصها ما يلي : أن كلا من الماء العذب والملح ، نظرا لاختلاف كثافتهما لا يتحد مع الآخر ولا يختلط به ، وإنما تنزع جزئيات الماء في كل منهما إلى الانكماش والتجاذب محدثة توترا في سطح كل منهما الأمر الذي يكوّن أغلفة شفافة فاصلة بين الكتلتين لا يمكن رؤيتها وبذلك لا تبغي إحداهما على الأخرى بالاختلاط ... وفي الخليج العربي تندفع الأنهار الجوفية العذبة قرب البحرين وقطر ، في مياه الخليج المالحة دون أن يختلط أحدهما بالآخر ، وعند ملتقى نهر (الكنج والجامونا) وفي مدينة (الله آباد) يتّحد ماء النهرين مع بقاء غشاء التمدد السطحي ، فاصلا بينهما طوال مسيرتهما وعند لقاء نهر النيل بمياه البحر المتوسط المالح ، يندفع خط من الماء الحلو ويشق طريقه وسط مياه البحر المالحة دون أن يختلط بها ، وفي باكستان الشرقية يسير نهران من (تشاتغام) إلى مدينة (أركان) في (بورما) ويمكن مشاهدة النهرين في نهر واحد ، يفصل بينهما شريط من الماء الملحي يسير كل من الماء العذب والملح في جانب دون اختلاط أو ذوبان ، وعند حدوث المد البحري بفعل جاذبية القمر ليلا ، يرتفع مستوى الماء البحري عند الشواطئ وبالتالي عند أفواه الأنهار التي تصب في

٣٨٤

البحار ، وتندفع مياه البحر المالحة متوغلة في عمق مصب النهر العذب لمسافات كبيرة فوق ماء النهر ، ويبقى الملح ملحا والعذب عذبا) (١).

وفي كتاب «علم البحار» عقد فصل بعنوان (أنهار عظيمة في البحر) وتحدث عن وجود العديد من الأنهار في البحار والخلجان والمحيطات ، ومما جاء فيه : (توجد أعظم أنهار الدنيا في البحر ، ويبدو نهر (الميسيسيبي) ، أو حتى نهر (النيل) ، أو نهر (الأمازون) بجانبها وكأنه غدير ، ويبدو غريبا أن تستطيع تيارات من المياه أن تتحرك لمثل هذا البعد خلال مياه أخرى دون أن تختلط بها ، وفي بعض الأحيان تتميز ضفتاه بوضوح يشبه تقريبا وضوحها لو كان المجرى على الأرض ، وقد توقفت مرة باخرة خفر السواحل الأمريكية المسماة (تمبا) على حافة أحد هذه الأنهار البحرية الغريبة ، لقياس درجة حرارة الماء وكانت درجة الحرارة عند مقدم الباخرة ٥٦ درجة ، وعند مؤخرتها ٣٤ درجة فقط ، وقد يختلف أيضا تيار الماء المتحرك في لونه عن ماء البحر المحيط به ، وفي بعض الأحيان يكون سطحه هائجا ، أو قد يغطيه الضباب ، وأعظم الأنهار البحرية هذه هو تيار الخليج ، فهو ينساب خارجا من خليج (المكسيك بين كوبا وفلوريدا) ، وهناك يتحرك بسرعة خمسة كيلومترات في الساعة ، أو بسرعة مشي الإنسان العادية ، وعرضه ١٤٥ كيلومترا ، وعمقه في بعض الأماكن من ٨٠٠ متر ، ويمر بليون طن من الماء تقريبا على طول ساحل (فلوريدا) كل دقيقة ... ويحمل تيار الخليج عند انسيابه من البحار الحارة ماء دافئا ، ويحتفظ بجزء كبير من دفئه وهو يعبر المحيط (الأطلسي) ، وتوجد أنهار عظيمة في المحيط (الهادي) أيضا) (٢).

لكن في نهاية الآية نجد إشارة أخرى هي قوله تعالى : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) وهذه الإشارة تعتبر زيادة عن الآيتين السابقتين ، فما معنى (وَحِجْراً مَحْجُوراً)؟.

الحجر لغة : (المنع ، وأصل الحجر في اللغة ، ما حجرت عليه أي منعته من أن يوصل إليه ، وكل ما منعته منه) (٣).

__________________

(١) الماء والحياة بين العلم والقرآن ، عبد العليم عبد الرحمن خضر ، ص : ١٦٧ ، وما بعدها.

(٢) علم البحار ، هاشم أحمد محمد ، نشر : هلا بوك شوب ، د. ت ، ص : ٣٥.

(٣) لسان العرب ، لابن منظور ، ٣ / ٥٧.

٣٨٥

فالحجر المحجور : هو المكان الذي يمنع الدخول إليه والخروج منه ، وهذا المعنى القرآني أثبته العلم الحديث في أبحاثه ودراساته البحرية.

(وذلك يتم عند التقاء النهر العذب بالبحر المالح فتتشكل منطقة ثالثة ليست بحرا ولا نهرا تسمى (منطقة المصب) فيتضح للرائي النهر ويتميز عن البحر ، لكن منطقة المصب تختلف عن البحر والنهر من ناحية الكثافة والملوحة وحتى في الكائنات الحية ، وهنا تظهر ومضة الإعجاز القرآني في قوله سبحانه وتعالى : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) فمما ثبت أن الكائنات الحية التي تعيش في منطقة النهر لو دخلت في منطقة المصب لماتت ، وكذلك فإن الكائنات الحية التي تعيش في منطقة البحر لو دخلت منطقة المصب تموت ، والكائنات الحية التي في منطقة المصب لو دخلت منطقة النهر أو البحر تموت أليس حجرا محجورا ، لا إله إلا الله وسبحان الخالق العظيم ، ما أدرى محمدا بهذه المعلومات البحرية وهذه الخصائص العلمية ، إنه الحق) (١).

وفي كتاب «علم المحيطات» : (الفرق بين البحار والمصبات يرجع إلى مسألة الحجم ، ويحدّد الدوران في بحر ما ، فيما إذا كان معدل التبخر يزيد على معدل الماء العذب الذي يدخل البحر ، فإذا كان التبخر أكبر ، فإن المياه السطحية ستصبح أكثر ملوحة باستمرار وتغطس ، وتجدد مياه القاع ، أما إذا كان الماء العذب الداخل أكبر فإن مياه السطح تميل إلى أن تبقى على السطح ، وتميل مياه القاع إلى أن تكون راكدة وعديمة الحياة ، وبصورة خاصة إذا كان البحر مفصولا عن المحيط بواسطة عتبة ضحلة ، وتوجد المصبات عادة في الأماكن التي يمتزج فيها الماء العذب مع الماء المالح ، وهي المناطق التي تكون أكثر عرضة لتأثيرات التلوث) (٢).

الإعجاز :

من الذي أخبر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه القوانين البحرية وبهذه التفاصيل العلمية؟ وهو النبي الأمي الذي لم يركب البحر قط ، بل كان يعيش بين بحار من الرمال والجبال الجرداء ... إن الذي أنبأه بذلك هو العليم الخبير ، الذي أذن لإنسان عصرنا أن يكشف

__________________

(١) لقطة من محاضرة الداعية الإسلامي الكويتي طارق سويدان عن البحار ، شريط كاسيت.

(٢) علم المحيطات ، كيث ستو ، ترجمة ، تلفات عناد أحمد ، البصرة ، نشر جامعة البصرة ، ١٩٨٦ ، ص : ٤٨٣.

٣٨٦

عن بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم ليتحقق قول الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

صورة رقم : (٣٠) ، تظهر مكان التقاء نهر الميسيسيبي بالبحر (دلتا المسيسبي)

٣٨٧

المبحث الثالث

والبحر المسجور

قال تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (١).

هذا قسم الله سبحانه وتعالى بالبحر ، وقد وصف هذا البحر بأنه مسجور ، والقسم كما هو معلوم يؤتى به للتوكيد ، وكلام الله لا يحتاج لتوكيد ، ومن أصدق من الله قيلا ، لكن لينبه الغافلين ويرشد الطائعين ، ويقيم الحجة على الكافرين.

وهذا التوكيد على أن البحر مسجور ، سيق في معرض الحديث عن دلائل قدرة الله وعظمته وتهديد الكافرين المعرضين عن دين الله وشرعه ، فهو حديث عن بحر مسجر في الدنيا ، غير الحديث المعهود عن قيام الساعة ونهاية الحياة ودمار الكون وتسجير البحار وذلك في قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٢) فهذه الآية تتحدث عن نهاية الكون وتسجير البحار ، وإذا ، كما هو معروف ظرف لما يستقبل من الزمن ، أي في المستقبل إبان خراب الكون ستسجر البحار وتتحول كلها إلى كتل نارية.

وما يهمنا هنا ، هو قسم الله عزوجل بوجود بحر مسجور في الأرض التي تقلنا ، وهذا البحر بل والبحار بان تسجيرها في زمن العلم ، لكن قبل التعرض للحقائق العلمية في ذلك ، سنتعرف على معنى المسجور لغة من خلال تحليل العلماء لهذه الكلمة في تفاسيرهم وكتب اللغة.

يقول الإمام الطبري : (اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور ، فقال بعضهم : الموقد ، وتأوّل ذلك والبحر الموقد المحمي ، ذكر من قال ذلك عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين جهنم؟ فقال : البحر ، فقال : ما أراه إلا صادقا ، والبحر المسجور وإذا البحار سجرت مخففة ... وعن مجاهد ،

__________________

(١) سورة الطور ، الآية : ٦.

(٢) سورة التكوير ، الآية : ٦.

٣٨٨

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال : الموقد) (١).

وفي «إرشاد العقل السليم» : ((وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي المملوء وهو البحر المحيط أو الموقد) (٢).

ويقول الزمخشري : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (أي المملوء ، وقيل الموقد) (٣).

وعند القرطبي : ((وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال مجاهد : الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور ... وقال عبد الله بن عمرو : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم) (٤).

وفي «مفردات ألفاظ القرآن» : (السجر ، تهييج النار ، يقال : سجرت التنور ، ومنه (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)) (٥).

وفي «لسان العرب» : (سجره ملأه ، سجرت النهر ملأته ، وقوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) لا وجه له إلا أن تكون ملئت نارا ، وقوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم ، سجر يسجر وانسجر امتلأ ، وكان علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : المسجور بالنار أي مملوء ، قال المسجور في كلام العرب المملوء وقد سكرت الإناء وسجرته إذا ملأته) (٦).

إذن يتضح لنا من هذا الكلام ، أن المقصود بالمسجور هو الموقد أو المهيج بالنار ، وقسم الله سبحانه وتعالى هذا فيه دلالة صريحة على وجود بحار مسجرة بالنيران ، إذ أن المقصود بالبحر المسجور هنا هو من بحار الدنيا وليس الآخرة ، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تتجلّى هذه الحقيقة القرآنية في عصر العلم ، ويصل علماء البحار إلى التأكد الجازم من وجود براكين ملتهبة بالنار في القيعان.

__________________

(١) جامع البيان ، للطبري ، ٢٧ / ١٠ ، وانظر : صفوة التفاسير ، للصابوني ، بيروت ، دار إحياء التراث ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٥ ، ٣ / ١٨٦.

(٢) إرشاد العقل السليم ، لأبي السعود ، ٨ / ١٤٦.

(٣) الكشاف للزمخشري ، ٤ / ٢٢ ، وانظر : الدر المصون ، محمد السمين ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٤ ، ٦ / ١٩٥.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ٩ / ٤٢.

(٥) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص : ٢٢٧.

(٦) لسان العرب ، لابن منظور ، ٤ / ٣٤٥.

٣٨٩

الحقائق العلمية :

يقول الدكتور جمال الدين الفندي في كتابه «طبيعيات البحر وظواهره» : (أثبتت الدراسات أن في قشرة قاع المحيط يوجد بعض الثغرات أو الشقوق العميقة ، نتيجة التصدع بتقلصات القشرة لإحداث التوازن واختلافات الحرارة ، وما يتبع هذه الاختلافات من تمدّد بالتسخين وتقلص بالبرودة ، وعلى طول مثل هذه الأماكن المتمددة الضعيفة ، تندفع الحمم البركانية المنصهرة من باطن الأرض من خلال قشرة القاع ثم تنبثق متدفقة في البحر ، إلا أنها تلقى مقاومة بسبب ثقل مياه البحار ، وبرغم ذلك فإن براكين البحر أيضا تقذف حممها إلى أعلى ، كما تبني فوهاتها المخروطية صاعدة نحو السطح بتوالي تراكم الحمم المنصهرة ، وقد تسبب الانفجارات البركانية نسف الجزر أو اختفائها ، ومن أمثلة ذلك ما حدث في عام ١٨٨٣ عند ما انفجرت جزيرة (كاراكاتوا) من مجموعة جزر الهند الشرقية برمتها ، وبعد يومين من تعاقب الانفجارات البركانية أصبحت هذه الجزيرة التي كانت تعلو سطح البحر بنحو ١٤٠٠ قدم ، مجرد شعبة منخفضة عن سطح الماء بنحو ١٠٠٠ قدم ، ولم يبق ظاهرا منها إلا جزء من حافة قمتها الأصلية) (١).

وعقد فصلا جورج جامو في كتابه «كوكب اسمه الأرض» تحت عنوان : جهنم تحت أقدامنا ، وتحدث فيه عن تسجير قاع البحر ، والنار والبراكين النشطة فيه ، يقول في مطلعه : (ازدياد الحرارة مع العمق : إن سحب الدخان الأسود المتصاعد من فوهات البراكين الثائرة ، والحمم الملتهبة المتدفقة على جوانبها ، وعيون المياه الساخنة ، كل هذا دعا الأقدمين إلى الاعتقاد بوجود نار متقدة ليست بعيدة تحت أقدامنا أعدت للخاطئين ...) (٢).

وفي «موسوعة الظواهر الطبيعية» : (ولانفجار البراكين في قيعان المحيطات والبحار أثر نشوء الأمواج العالية والسريعة ، التي تحطم وتكتسح ما تصادفه في طريقها ... أما البراكين أو جبال النار فهي المنافذ التي تقذف منها المواد الأرضية الباطنية المنصهرة ، عند ما يشتد ضعفها) (٣).

__________________

(١) طبيعيات البحر وظواهره ، محمد جمال الدين الفندي ، ص : ٢١٠ ، وانظر : البحار وما فيها ، روبرت كاون ، ترجمة عبد الحافظ حلمي القاهرة ، مؤسسة سجل العرب ، ١٩٧٤ ، ص : ١١٧.

(٢) كوكب اسمه الأرض ، جورج جامو ، ص : ٧٤.

(٣) موسوعة الظواهر الطبيعية ، خليل بدوي ، عمان ، دار عالم الثقافة ، الطبعة الأولى ، ٢٠٠٠ ، ص : ٨٠ ، وانظر : كوكب الأرض ، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ، ص : ٣٠.

٣٩٠

الإعجاز :

لقد قرر كتاب الله تعالى أن قاع البحار مسجرة بالنار ، ولم يكن يعلم قبل ومع نزول القرآن الكريم هذه الحقيقة العظمى ، حتى بداية القرن العشرين حيث تبين للعلماء أن قاع البحار مسجرة ومضطرمة بالنيران ، غير أن الحق قرّر هذه الحقيقة البحرية بقوله : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، فمن الذي أخبر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن البحر قاعه ملتهب ومتفجر بالبراكين التي تقذف الحمم النارية ، ورسول الله لم يركب البحر قط ، ولم يكن في عصره غواصات بحرية تصور تلك المشاهد العجيبة في قاع البحر؟ إنه الحق.

رسم يوضح البراكين تحت البحار

٣٩١

المبحث الرابع

اهتزاز الأرض بنزول ماء السماء

قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (١).

وقال سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

في هاتين الآيتين حقائق علمية وعطاءات جيولوجيا مدهشة ، فالقرآن يصف سطح الأرض بأنه هامد وخاشع ، ثم إنه يعقب على ذلك بحيث إذا نزل ماء السماء ، حدث في الأرض اهتزاز مما يؤدي إلى زيادة في الأرض.

هذه الصورة القرآنية هي صورة وصفية لأدق الحقائق العلمية ، التي وفّق إنسان عصرنا للكشف عنها والتعرف على مراحلها بدقة ، وحري بنا أن نقف عند ما قاله المفسرون وأصحاب اللغة في هاتين الآيتين الكريمتين.

يقول الإمام الطبري : (وترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع ، وأصل الهمود الدروس والدثور ، ويقال منه : همدت الأرض تهمد همودا) (٣).

وعند الرازي : ((وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) وهمودها يبسها وخلوها من النبات والخضرة (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) والاهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله : (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي تحركت بالنبات وانتفخت ، أما قوله : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) فهو

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٥.

(٢) سورة فصلت ، الآية : ٣٩.

(٣) جامع البيان ، للطبري ، ١٧ / ٨٩.

٣٩٢

مجاز ، لأن الأرض ينبت منها والله تعالى هو المنبت لذلك ، لكنه يضاف إليها توسعا ، ومعنى (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس ، والبهجة حسن الشيء ونضارته ، والبهيج بمعنى المبهج) (١).

وقال الإمام القرطبي : (الاهتزاز : شدّة الحركة ، يقال : هززت الشيء فاهتز ، أي حركته فتحرك وهزّ الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه ، واهتز الكوكب في انقضاضه وكوكب هازّ ، فالأرض تهتز بالنبات لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية فسماه اهتزازا مجازا ... والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض ، (وَرَبَتْ) أي ارتفعت وزادت وقيل : انتفخت والمعنى واحد ، وأصله الزيادة ، ربا الشيء يربو ربوّا أي زاد ، ومنه الربا والرّبوة) (٢).

ويقول سيد قطب رحمه‌الله في تفسيره «الظلال» : (الهمود درجة بين الحياة والموت ، وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء ، فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت ، وهي حركة عجيبة سجّلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز ، وهي تشرب الماء فتنتفخ وتربو ثم تفتح بالحياة عن النبات من كل زوج بهيج ، وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود) (٣).

وأما الآية الثانية والتي ذكرت (خاشِعَةً) دون (هامِدَةً) فيقول الإمام الرازي : (الخشوع التذلل والتصاغر ، واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي تحركت بالنبات ، وربت ، انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ، ثم تصدعت عن النبات ، ثم قال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها) (٤).

__________________

(١) التفسير الكبير ، للرازي ، ٢٣ / ٢٠٧ ، وانظر : محاسن التأويل ، محمد القاسمي ، بيروت ، دار الفكر ، الطبعة الأولى ، ١٩٧٨ ، ١٢ / ٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١٢ / ٥.

(٣) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ٤ / ٢٤١١.

(٤) التفسير الكبير ، للرازي ، ٢٧ / ٥٧٠.

٣٩٣

وفي تفسير «النكت والعيون» : ((وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) خاشعة ، أي ذليلة بالجدب لأنها مهجورة) (١).

وبالعودة إلى معاجم اللغة نتبين معنى كل من «خاشعة ، وهامدة ، واهتزت ، وربت» ، أما معنى خاشعة ، ففي لسان العرب : (الخاشعة المتغبرة المتهشمة وأراد المتهشمة النبات ، وبلدة خاشعة أي مغبرة لا منزل بها ، وإذا يبست الأرض ولم تمطر قيل قد خشعت قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) والعرب تقول : رأينا أرض بني فلان خاشعة) (٢).

وأما هامدة ، ففي «مفردات ألفاظ القرآن» : (أرض هامدة : لا نبات فيها ، ونبات هامد : يابس ، قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) (٣).

وفي كتاب «العين» : (الهمود الموت كما همدت ثمود ، ورماد هامد إذا تغير وتلبد ، وثمرة هامدة إذا اسودت وعفنت ، وأرض هامدة مقشعرة لا نبات فيها إلا يبيس متحطم ، والهامد من الشجر اليابس) (٤).

ومعنى اهتزت أي (تحركت ، واهتز النبات : إذا تحرك لنضارته قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)) (٥).

ومعنى ربت (ربا : إذا زاد وعلا ، قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي زادت زيادة المتربي) (٦).

هذا هو التحليل اللغوي لمفردات الآية الكريمة ، وتلك هي معانيها في كتب المفسرين ، ولنا أن أن نستخلص بعض النتائج من معطيات هذه النصوص القرآنية ، بعد ما سلف من توضيح العلماء.

__________________

(١) تفسير النكت والعيون ، علي بن محمد الماوردي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، د. ت ، ٥ / ١٨٤.

(٢) لسان العرب ، لابن منظور ، ٨ / ٧٢ ، وانظر : المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن ، عبد العزيز السيروان ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٦ ، ص : ٤٢٨.

(٣) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص : ٨٤٥.

(٤) العين ، للفراهيدي ، ٤ / ٣١ ، وانظر : تفسير مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، سميح عاطف الزين ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، الطبعة الثالثة ، ١٤١٤ ه‍ ، ١٩٩٤ ، ص : ٨٩٩.

(٥) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص : ٨٤٠.

(٦) المصدر نفسه ، ص : ٣٤٠.

٣٩٤

أولا : عند ما تكون الأرض هامدة لا حراك فيها ، فإذا أنزل الله عليها الماء أحدثت أولا اهتزازا.

ثانيا : المرحلة الثانية بعد الاهتزاز تربو ، أي تزداد.

ثالثا : المرحلة الثالثة بعد الزيادة تنتج الزروع والثمار ، وتكثر المحاصيل ويزداد الإنتاج.

ويشار إلى قضية هامة وهي : أن هناك فرقا دقيقا بين الأرض الهامدة والأرض الخاشعة ، فالأرض الهامدة هي اليابسة القاحلة التي لا حياة فيها ، بسبب ما أصابها من جدب وقحط وانعدام الماء ، وهذا بخلاف الأرض الخاشعة التي يوجد فيها النباتات والزروع ، إلا أن العطش وقلة الماء وندرة الأمطار جعلتها مصفرة الأوراق ، ذابلة الأغصان ، بأمسّ الحاجة إلى قطرات الماء ، وهذا المشهد هو مشهد الخشوع والانكسار في الأرض ، ويستلهم هذا المعنى من معطيات ما مرّ من المعاجم.

الحقائق العلمية :

ما هو الاكتشاف العلمي الدقيق في هذا الصدد ، لمعرفة ذلك سنثبت هنا لقطة من محاضرة الشيخ عبد المجيد الزنداني حول هذه الآية ، ناقلا لنا الاكتشافات العلمية الدقيقة لتفسير وتوضيح معاني هذه الآية الكريمة.

يقول : في عام ١٨٢٧ اكتشف العلماء أن حبيبات الطين تهتز ، وتركيب حبيبات الطين ما يلي :

الحبيبة : هي أصغر جزء من الطين بعد أن تفتته إلى أجزاء صغيرة ، فالطين مكون من هذه الحبيبات فهي صغيرة جدا لا ترى بالعين ، قطرها : ثلاثة من ألف من المليمتر ، هذه الحبيبة الطينة تتركب من صحائف معدنية بعضها فوق بعض ، وإذا نزل المطر شحن الأرض بشحنات كهربائية ، هذه الشحنات الكهربائية تختلف بسبب تركيب المعادن الموجودة في الحبيبات ، فيحدث نوع من التنافر بين هذه الحبيبات فتهتز الحبيبات ، ما سبب الاهتزاز؟ يقول : الشحنات الكهربائية ودخول الماء من عدة جهات يحدث اهتزازا ، وهذا الاهتزاز بعده ينشأ دخول الماء بين الصحائف ، أي يسمح هذا الاهتزاز بدخول الماء بين الصحائف وإذا دخل الماء بين الصحائف تنمو هذه الحبيبة وتربو ، والربا كما أشرنا هي الزيادة ، أي تربو بالماء الذي دخل بين الصحائف ، وبعد أن تربو تحاط بغلاف من الماء ، فتعتبر كل حبيبة من الحبيبات مخزنا للماء تمد النبات طوال

٣٩٥

شهرين أو ثلاثة أشهر ، وإلا من أين يجد النبات مددا لو لا تحول حبيبات التربة إلى مخازن ماء تمد النبات بالحياة ، وبالتالي يستمرّ النبات في النمو ، ثم بعد ذلك قال :

ثلاث خطوات نستنتجها من هذا :

١ ـ اهتزاز.

٢ ـ زيادة ، تربو الحبيبات.

٣ ـ ثم إنبات للنبات.

وإلى هذا تشير الآية القرآنية (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

من أخبر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا ، إذن ، الذين يكتبون تاريخ العلم عليهم أن يقولوا : اهتزازات ذكرها الله في قرآنه نزل بها الوحي على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١).

وأما عن ميكانيكية انتفاخ التربة ، فإن عملية الانتفاخ تتم بسبب (وجود الشحنات السالبة فوق سطح المعدن الطيني ، والتي هي السبب الرئيسي في جذب الأيونات الموجبة القابلة للتبدل الموجودة في ماء التربة ، وذلك لمعادلة الشحنة السالبة الموزعة على سطوح حبيبات التربة.

إن وجود الطبقة المزدوجة من الأيونات الموجبة والسالبة ، يؤثر على بعض خواص التربة منها خاصية الانتفاخية ، حيث إن (الأيونات) الحرة إذا ما تعرضت للماء فإنها ستؤدي إلى نمو الطبقة (الأيونية) المزدوجة بشكل كبير ، وهذا النمو سيدفعها إلى التحرك بعيدا عن سطح المعدن الطيني وبالتالي يؤدي إلى تباعد الجزيئات عن بعضها البعض ، وبذلك يزداد حجم التربة ويحصل الانتفاخ ويتم إنبات النبات) (٢).

__________________

(١) محاضرة الشيخ عبد المجيد الزنداني بعنوان : إنه الحق ، شريط كاسيت.

(٢) الأرض الهامدة والأرض الخاشعة ، أحمد الدليمي ، الموصل ، مطبعة الزهراء ، ١٤٢١ ه‍ / ٢٠٠٠ ، ص : ٢١ ، وانظر : الجغرافية الحيوية حسن أبو سمور ، عمان ، دار صفاء ، الطبعة الأولى ، ١٤٢٠ ه‍ ، ١٩٩٩ ، ص : ٨٠ ، وانظر : مورفولوجيا النباتات الزهرية ، مصطفى الحديدي ، الرياض ، دار المريخ ، ١٤١٤ ه‍ ، ١٩٩٤ ، ص : ٤٦٣ ، وانظر : فسيولوجيا النبات ، علي الهلال ، الرياض ، النشر العلمي والمطابع ، ١٤٢٠ ه‍ ، ص : ٢٢٦ ، وانظر : فسيولوجيا النبات ، روبرت ديفلين وفرانسيس ويزام ، ترجمة ، محمد شرقاوي وآخرون ، القاهرة المجموعة العربية للنشر ، ١٩٨٥ ، ص : ٨٠١.

٣٩٦

الإعجاز :

إن هذا السبق القرآني في تصنيف التربة الطينية ونباتاتها ، إلى أرض خاشعة وأرض هامدة ، ثم الوصف الدقيق لعملية اهتزاز التربة وانتفاخها بسبب ماء السماء ، لا يمكن أن يعرفه إنسان مضى عصره منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ، ولا بد لمن يكتشف هذه الحقائق اليوم ، ويتعرّف على أسرارها أن يعلن الإيمان بالله تعالى والتصديق بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٩٧

الخاتمة

وأخيرا فهذا ما قد ألهمنيه ربي سبحانه وتعالى ، من الدراسة في قضايا الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، والتي تربط صفحات الكون المفتوح بصفحات القرآن المقروء ، وهذا الربط يسهم في إبراز آيات العظمة الإلهية ودلائل الوحدانية ، لينطق كل جزء من هذا العالم المدهش ، بروعة الإبداع وتألّق الصنعة.

والقرآن دعانا إلى التدبر والتمعن والتفكير في العالم حولنا ، لنشاهد يد القدرة التي خلقت الخلق في نظام رتيب ، ودقة بالغة ، وألا نكون من الغافلين عن هذه الآيات ، قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١).

لقد رأينا كثيرا من الحقائق العلمية ، التي تكشّفت للعلماء في عصرنا ، قد سبقهم القرآن لإثباتها وتقرير واقعها ، لكن الذي قدمه العلماء هو الكشف عما هو موجود ، ومع الأسف فإن الذي يكشف أسرار هذا الكون ، وينقّب عن غوامضه وخفاياه هم غير المسلمين ، فبعد أن برع أسلافنا في العلوم الكونية والطبيعية ، وخلّفوا لنا ثروة هائلة من المخطوطات ، قام الغرب بترجمتها والاستفادة منها فأصبحت منارة لبداية طريق النهضة والثورة العلمية ، في حين نجد أن المسلمين أعرضوا عن تراثهم التجريبي هذا؟.

لقد قدّم علماؤنا جزاهم الله خيرا كمّا هائلا من الأحكام التشريعية والعلمية ، واستنبطوا الأحكام الفقهية الكثيرة من آيات الأحكام في كتاب الله وسنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتركوا لنا آلاف المجلدات وعمروا المكتبة الإسلامية وأثروها بخدمتهم للقرآن الكريم وللسنة المطهرة.

لكن لنتساءل إذا كان الفقهاء قد استنبطوا من آيات الأحكام تشريعا ينظم حياة الفرد المسلم والأمة المسلمة ، فلما ذا لا يقوم غير الفقهاء من العلماء ، ويتشرفوا بخدمة

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ١٠٥.

٣٩٨

القرآن الكريم باستنباط الإعجاز العلمي المستور وراء كل آية علمية أو كونية في القرآن الكريم ، وكما هو معلوم أن الآيات الكونية تفوق آيات الأحكام بكثير.

إن كلمة الحج على سبيل المثال ، ورد ذكرها في القرآن تسع مرات ، فكان نتيجة ذلك أن سطّر حولها مئات المجلدات والموسوعات الفقهية ، فكيف إذا درسنا البحر والأرض والشمس والنجوم والإنسان والنبات ... والتي ذكرها القرآن الكريم عشرات المرات فما ذا تكون النتيجة؟ إن كثيرا من أبنائنا الذين برعوا في العلوم الكونية ، تراهم منبهرين بما عند غيرنا من حضارة ، ومتى يعود أمثال هؤلاء إلى رشدهم ، ويعكفوا على كتاب ربهم ليخدموه بما قد نالوا من معارف كونية فيسخر الفيزيائي قوانينه لدراسة الآيات الفيزيائية في القرآن ، ويدرس الفلكي مواقع وأنواع النجوم والكواكب بما يستلهمه من إشارات القرآن ومعطياته ، ويقف الطبيب بعلمه على الوصف القرآني لخلق الإنسان ويشاهد عالم الزراعة والنبات العرض القرآني لعالم النبات في صفحاته ...

وقد بدت ولله الحمد بوادر هذا الاتجاه في عصرنا الحديث ، فرأينا بعض المجامع العلمية تتجه إلى خدمة هذا الأمر ، حيث وجدنا في مصر والسعودية وغيرهما من البلاد ، من يبذل جهودا مشكورة لإظهار الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ، ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب في هذا المجال الرائع الأخّاذ.

ولقد احتوت هذه الرسالة عشرة فصول ، الثلاثة الأولى منها كانت دراسة تاريخية للإعجاز في القرآن الكريم ، والسبعة الأخرى للتطبيقات المعاصرة ، أما الفصل الأول فقد تحدثت فيه عن مفهوم المعجزة وحدّها كما وضعه العلماء ، وعن الفارق بين معجزات الأنبياء ومعجزات نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما تحدثت عن تحدي القرآن الكريم للعرب أن يأتوا مثله ، ومراحل هذا التحدي ، وإيضاح عجزهم عن ذلك واعترافهم هم والعالم بعظمة القرآن العظيم ، وفي الفصل الثاني تعرضت للحديث عن منشأ إعجاز القرآن ، وكيف أن القول بالصرفة كان الباعث الأول لظهور هذا المصطلح ، وسقت ردود العلماء لمن قال بالصرفة ، ثم استعرضت وجوه القرآن الكريم مبينا اختلاف العلماء في تعدد هذه الوجوه ، وفي الفصل الثالث ركزت على الإعجاز العلمي في القرآن ، وعرضت أبرز من تناوله من العلماء القدامى والمعاصرين ، وبينت أنهم سلكوا في قضية الإعجاز العلمي ثلاثة مسالك ، مسلك يدعو للعمل على إظهار الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، إلا أنه وقع في مطبات كثيرة وشطط غير محمود ، عند ما أخضع الآيات القرآنية للنظريات المعاصرة مما صح منها ومما لم يثبت ، وبذلك يكون

٣٩٩

قد تجاوز الحد وتعسف وغالى في منهجه هذا ، وآخرون تبنوا قضية الإعجاز ولكن بتحفظ وحذر ، فلم يأخذوا من قضايا العلم إلا ما ارتقى إلى مستوى الحقيقة العلمية القطعية ، دون الفرضيات أو النظريات ، وهؤلاء قد أصابوا في منهجهم وعملهم هذا ، وفريق ثالث ضرب بقضية الإعجاز العلمي عرض الحائط واعتبرها نوعا من أنواع السذاجة وتضييع الأوقات ، وهؤلاء قد جانبوا الصواب بمنهجهم هذا لأنهم أنكروا ما هو موجود بل ذاخر به كتاب الله تعالى ، وختم الفصل بالترجيح بين هذه المسالك.

وجاء الفصل الرابع بمدخل عرض فيه أهمية الإعجاز العلمي والدعوة إليه في عصرنا ، وأن الإسلام هو دين توج رسالته بالعلم ، كما تحدث هذا الفصل عن التطبيقات المعاصرة لقضايا الإعجاز وبالشروط والضوابط التي وضعها علماء التفسير لذلك ، فكان فيه الحديث عن الجانب الفلكي في كتاب الله تعالى من حيث مولد الكون ومنشئه ، وتمدد الكون وتوسعه ، ونهاية الكون وفناؤه ، وكل ذلك بين القرآن والعلم ، وأما الفصل الخامس فقد تعرض للحديث عن الإعجاز القرآني في الشمس من حيث تحركاتها وانتقالاتها ، وتوهجها ولهيبها ، وإشارة القرآن إلى تعدد الشموس والأقمار ، ثم الحديث عن موت الشمس ونهايتها بين القرآن والعلم ، وأما الفصل السادس فقد تحدث عن الإعجاز القرآني في الأرض ، وذلك من جهة كرويتها ، ودورانها ، وجاذبيها ، وغلافها الجوي ، ونقصانها وتآكلها ثم موتها ، وفي الفصل السابع تعرضت للحديث عن الإعجاز القرآني في القمر ، وأظهرت سبق القرآن في إثباته لإنارة القمر وكيف يستمد نوره من الشمس ، ولا نور ذاتي له ، ثم تحدثت عن انشقاقه ومنازله جمعه في آخر عهده مع الشمس ثم موته.

وكان الحديث في الفصل الثامن عن إعجاز القرآن في الرياح ، وأشرت إلى أنواع الرياح بين القرآن والعلم ، وإلى تكوين السحب وأنواعها بين القرآن والعلم ، ثم تعرضت للحديث عن لفتات إعجازية في البرد والبرق ، وفي الفصل التاسع تحدثت عن الجبال وطرق تكوينها ، وكيف أن الخالق جل جلاله جعلها سببا لتثبيت الأرض وقرارها ، ثم أوضحت السر القرآني في ربطه بين الجبال الشامخات والماء الفرات ، وختمت الفصل بالحديث عن حركة الجبال وتعدد صخوره ، وجاء الفصل العاشر والأخير للحديث عن البحار وما أودع الله سبحانه فيها من عجائب وأسرار ، كتلك الظلمات المتعاقبة والأمواج المتنوعة سواء داخل البحر أو على سطحه ، وكيف سجل الحق جل جلاله حقيقة التقاء البحار دون امتزاج بسبب الحاجز المائي بينها ، ثم تعرضت للحديث عن البحر

٤٠٠