الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

تمهيد

الجبال كلمة تدل على الشموخ والكبرياء ، ووصف يخيب من حاول الاتصاف به إلا الجبال ، فهي التي تنزوي أمامها رقاب الجبابرة ، وتنقطع لديها الأعناق المشرئبة التي تحاول أن تطيل شموخها ، وفي ذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى أولئك الذين يمشون في الأرض متبخترين متكبرين قائلا : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (١).

ومع تلك العظمة التي اتصفت بها الجبال فإن الحق ساقها في معرض المدح والثناء ، ومعرض ضرب الأمثال في العبودية والخشوع لسلطان القرآن وأنوار البيان ، قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).

إلا أن الجبال لم تغترّ بعظمتها ، ولم تتباه بمظاهر الرفعة والإباء التي أودعها الله فيها ، فلما عرض الحق جل جلاله الأمانة عليها ، تسرّب إليها الرعب وداخلها الخوف ، لشدّة تحمل الأمانة والمسئولية والتكاليف السماوية ، فآثرت أن تنقاد للحق طواعية دون اختيار أو عزم ، لأنها أدركت بصدق ثقل الأمانة ، وهو موقف الحساب وموطن الجزاء يوم الدين ، قال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣).

إذن ، جدير بالباحثين أن يحركوا الطاقة العقلية والعلمية في دراسة هذه الآية الدالة على بديع صنع الله ، وتألق مخلوقاته ، ليصلوا إلى مقام التفكر الذي أمروا به ، ومن ثمّ إلى مقام الخشوع والولاء المطلق للخالق العظيم سبحانه وتعالى.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٣٧.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ٢١.

(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢.

٣٤١

وسوف يتناول في هذا المبحث بعونه تعالى ، الحديث عن تكوين الجبال وكيفية نشأتها ، وما توصل إليه الباحثون في ذلك وما قد قرره كتاب الله عزوجل ، ومن ثم يتحدث عن أبرز وأهم فوائد الجبال ألا وهي محافظتها على توازن الكرة الأرضية ، وكيف أن الحق تبارك وتعالى جعلها سببا في تثبيت الأرض واتزانها ، ثم ينتقل لتحلل العلاقة الوثيقة بين الجبال الشامخات الشاهقات وبين الماء العذب الفرات ، والسر في أن القرآن يقرن بينهما ، في حين إذا ذكر الجبال دون وصف الشامخات لا يأتي بهذا الربط ، ويختم الحديث عن الجبال بالإشارة إلى حركتها وتعدد صخورها وألوانها ، بين القرآن والعلم.

٣٤٢

المبحث الأول

تكوين الجبال

قال تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) (١).

وقال سبحانه : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (٢).

وقال جل ثناؤه : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (٣).

تتحدّث هذه الآيات عن نشأة الجبال وتكوينها ، فبعد أن مدّ الله سبحانه وتعالى الأرض وبسطها جعلت تميد ، فألقى فيها رواسي شامخات ليثبتها من حركتها المضطربة ، ليتسنّى للمخلوقات التي أودعها الله فيها العيش الهادئ الهانئ.

والإعجاز العلمي في قوله تعالى : (وَالْقِيَ) والإلقاء كما نعلم يكون من أسفل إلى أعلى ، كما في قوله تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)) (٤) ، ومن الأعلى إلى الأسفل ، ومن النوعين كانت نشأة الجبال ، وفي نظرة لما قاله المفسرون تزداد الصورة بيانا ووضوحا.

يقول الطبري : (وجعل في الأرض جبالا ثابتة ، والرواسي ، جمع راسية وهي الثابتة ، يقال : منه أرسيت الوتد في الأرض ، إذا أثبته) (٥).

وفي «روح المعاني» : (وجعل فيها رواسي ، أي جبالا ثوابت ، من الرسو ، وهو ثبات الأجسام الثقيلة ، ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك ... وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض ، أما الأول : فكما إذا نقلت الريح الفاعلة

__________________

(١) سورة ق ، الآية : ٧.

(٢) سورة النحل ، الآية : ١٥.

(٣) سورة الرعد ، الآية : ٣.

(٤) سورة الانشقاق ، الآيتان ٣ ، ٤.

(٥) جامع البيان ، للطبري ، ٣١ / ٦٣ ، وانظر : تفسير غريب القرآن ، عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، بيروت ، دار الهلال ، ١٩٩١ ، ص : ٢٤٢.

٣٤٣

للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلا من التلال ، وأما الثاني : فأن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة ، وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب ، فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقى الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا ، ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا ، والأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار ، فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف وتكونت الجبال) (١).

ويقول الرازي : (والاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله سبحانه : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) من فوقها ثابتة باقية في أحيازها ، غير منتقلة عن أماكنها ، يقال : رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا) (٢).

وفي تفسير «السراج المنير» : (وألقينا فيها رواسي ، أي جبالا ثوابت كانت سببا لثباتها ، وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق ، والمراسي التي تعالجونها أنتم من تحت) (٣).

رسم بياني لامتداد القارات والجبال في النطاق الأرضي إضعاف الأجزاء البارزة منها على السطح

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ١٣ / ١١٣ ، وانظر : الفتوحات الإلهية ، سليمان بن عمر العجيلي ، بيروت ، دار الفكر ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤ ٤ / ٣١٥.

(٢) التفسير الكبير ، للرازي ، ١٩ / ٨.

(٣) السراج المنير ، للخطيب الشربيني ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الثانية ، د. ت ، ٤ / ٨٠.

٣٤٤

ونجد المعنى ذاته في المعاجم لو بحثنا عن الرواسي ، ففي لسان العرب : (رسا الشيء يرسو رسوا وأرسى ثبت ، وأرساه هو ، ورسا الجبل يرسو إذا ثبت أصله في الأرض ، وجبال راسيات والرواسي من الجبال الثوابت الرواسخ ... راسية ورست قدمه ثبتت في الحرب ، ورست السفينة ترسو رسوا بلغ أسفلها القعر وانتهى إلى قرار الماء فثبتت وبقيت لا تسير) (١).

وفي «المصباح المنير» : (رسا الشيء يرسو رسوا ورسوا ، ثبت فهو راس ، وجبال راسية وراسيات ورواس ، وأرسيته بالألف للتعدية ، ورست أقدامهم في الحرب ، ورسوت بين القوم أصلحت ، وألقت السحابة مراسيها ، دامت) (٢).

يتسنّى لنا الآن وقد عرضت طائفة من أقوال المفسرين وأصحاب المعاجم ، أن يستخلص من معطيات النصوص القرآنية ما يلي :

أولا : عبّر القرآن الكريم عن عملية نشأة وتكوين الجبال بالفعل «ألقى» ، والإلقاء يكون من أعلى إلى أسفل ، كقوله تعالى : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٣) ، وكقوله سبحانه : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (٤).

وكذلك يكون الإلقاء من أسفل إلى أعلى كقوله تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)) (٥) ، وتعتبر هاتان الطريقتان من أبرز الطرق التي تتم من خلالها تشكيل الجبال ، وهذا ما سنتعرف عليه بعد قليل.

ثانيا : يستخدم القرآن الكريم أحيانا لفظ (رواسي) عوضا عن (جبال) ، وفي ذلك تصريح واضح بأن الجبال هي بمثابة الرواسي للأرض ، والتي تثبتها وتقرها.

الحقائق العلمية :

سيساق طائفة من أقوال ودراسات علماء الجيولوجيا ، والتي سنرى من خلال عرضها أن نشأة وتكوين الجبال إنما تتم بفعل الإلقاء من الأعلى إلى الأسفل ، كتكوين

__________________

(١) لسان العرب ، لابن منظور ، ١٤ / ٣٢١.

(٢) المصباح المنير ، للمقري ، ١ / ٢٢٧.

(٣) سورة طه ، الآية : ٦٩.

(٤) سورة النمل ، الآية : ١٠.

(٥) سورة الانشقاق ، الآيتان ٣ ، ٤.

٣٤٥

الجبال الرسوبية ، والتي تتكوّن بفعل التعرية بسبب الرياح أو ماء الأنهار وغيرها ، أو كتكوين الجبال البركانية ، والتي تتكون بسبب النشاط البركاني الذي يقذف ويلقي من داخله إلى الأعلى الحمم والفوهات والتي تتحول بعد ملايين السنين إلى جبال.

بركان نشط يقذف الحمم من داخله ، ويلقي بالأحجار والصهارة والتي تكوّن الجبال البركانية

وسنرى أن هذا هو الذي أثبته العلم في القرن العشرين ، بعد اعتقاد ساد القرون الماضية أن الجبال هي ما نرى فوق البسيطة لا غير ، فكشف العلم عن نشأة الجبال وأطوار تكونها ، وقد قرر ذلك كتاب ربنا منذ أربعة عشر قرنا ، وإليك ما توصل إليه الجيولوجيون في ذلك :

٣٤٦

ـ بالنسبة لتكوين الجبال الرسوبية ، أي الإلقاء من أعلى إلى أسفل ، فيقول الدكتور محمد جمال الدين الفندي : (إن المياه تجري إلى المنخفضات التي تسمى بالبحار الجيولوجيا وتغمرها ، وهذه تكون عادة بحارا ضحلة متّسعة ممتدة في وسط القارات أو أعلى حوافها وتصير قيعانها بمرور الزمن الجيولوجي مأوى لأثقال عظيمة جدا من الرسوبيات ، تأتي بها عوامل التعرية من مناطق الارتفاع كالجبال والهضاب ، وكلما عظمت تلك الأحمال هبطت تحت وطأتها قيعان البحار ، وتظل هذه الرسوبيات تتراكم هكذا حتى تكون جذور الجبال مستقبلة نتيجة للضغط الشديد ، فتلتوي وتنثني وترتفع رويدا رويدا طافية فوق مواد المنطقة ، التي تحمل القشرة وتفصلها عن باطن الأرض ، وأخيرا تطل من سطح الماء ، وينحسر الماء عنها إلى أماكن أخرى مكونا بحارا جيولوجية جديدة ، وتلك هي الثورات الجيولوجية أو حركات بناء الجبال) (١).

ويصف العالم الجيولوجي ليون موريه (٢) تكوين الجبال بكلا الطريقتين المذكورتين فيقول : (من السلاسل الجبلية ، سلاسل المقعرات الأرضية ، والتي تنجم عن انضغاط حفر الترسب الكبرى بفعل حركات تماسية ، والتي دعيناها المقعرات الأرضية ، والتي تراكمت فيها خلال حقب طويلة ثخانات كبيرة من روسوبات بحرية عميقة ، ويكون توافق المظاهر البحرية العميقة مع المناطق الملتوية هو قاعدة عامة ، بحيث أمكن القول : أن السلاسل الجبلية تتشكل دوما فوق موقع المقعرات الأرضية ، كما يمكننا اعتبار طيات القاع كرد فعل للحركات التماسية التي تبقى لوحدها في الأصل ، ففي حين الانضغاط الأقصى على مقعر أرض ما ، فإن مشارف المنطقة تتحدب بتأثير الجهد

__________________

(١) الله والكون ، محمد جمال الدين الفندي ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتب ، الطبعة الثانية ، ١٩٨٧ ، ص ٢٢٣ ، وانظر : ما هي الجيولوجيا ، وليم ماثيوز ، ترجمة مختار رسمي ناشد ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتب ، ١٩٩٥ ، ص ٢٢٠ ، وانظر : الجيولوجيا والكائنات الحية ، دولت عبد الرحيم إبراهيم ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتب ، ١٩٩٥ ، ص : ١٨.

(٢) ليون موريه : يحتل مكانة مرموقة بين علماء الجيولوجيا ، بل يعد صاحب مدرسة جيولوجية قائمة بذاتها ، وهو عضو المجمع ، وعميد فخري لكلية العلوم ، وأستاذ في المعهد العالي الوطني للهيدروليك في غرينوبل. انظر : مقدمة المترجم ، ص : ٩.

٣٤٧

وتعطي معقدا من طيات قاع ، يؤدي كما تؤدي موجة قاع بحرية إلى نهوض قارة برمتها ، وتأتي اندفاعات بركانية تؤدي إلى نشوء الجبال) (١).

كذلك فإن (الأحواض البحرية تتكون بسبب انخفاض بسيط على سطح الأرض نتيجة الحركات الأرضية ، ثم يمتلئ هذا المنخفض بالمياه وتعيش فيه الكائنات البحرية ، وتترسب فيه المواد الرسوبية إلى أن يمتلئ بالرسوبيات ، وأخيرا تضغط جوانبه مسببة تكوّن الثنيات والجبال ، وعليه يجب عدم الاستغراب إذا ما تسلّقنا قمة جبل ما ، ولاحظنا وجود القواقع البحرية المتحجرة ، أو آثار الأسماك المطبوعة على صخور الجبل ، لأن تلك الجبال كانت في يوم ما رسوبيات مترسبة في قيعان البحار) (٢).

وقد أسهب العلماء في ذكر أنواع الجبال وطرق تكوينها ، من ذلك ما ورد في كتاب «أساسيات علم الجيولوجيا» إذ نجد فيه : (وهناك ثلاثة أنواع أساسية من الجبال :

١ ـ جبال جيوسنكلينية : ويطلق عليها أحيانا اسم أحزمة الطيات ، لكثرة وجود الطيات في داخلها وهي تتكون نتيجة لرفع وطيّ الرسوبيات المتراكمة في الأحواض البحرية ، وتعرف الحركات الأرضية التي تتحكم في تكوين مثل هذه الجبال باسم : الحركات الأرضية البانية للجبال.

٢ ـ جبال بركانية : والتي تكون سلاسل جبلية مغمورة في قيعان المحيطات ، على طول الحدود البناءة وتتكون هذه الجبال من الانبثاقات البازلتية ، والتي تكوّن قيعان المحيطات أثناء عملية انتشار قاع البحار.

٣ ـ جبال تصدّعية : وتوجد في وسط ألواح قارية ثابتة ، وأحيانا تتكون الرسوبيات التي تؤدي إلى تكوين مثل هذه الجبال في أحواض ترسيبية) (٣).

__________________

(١) الوجيز في الجيولوجيا ، ليون موريه ، ترجمة ، يوسف خوري وعبد الرحمن حميدة ، دمشق ، دار طلاس ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٧ ، ص ٥٧٢ وانظر : علوم الأرض والبيئة ، فتحي أبو ناصر ، عمان ، دار اليازوري ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٩ ، ص ٦٠.

(٢) الجيولوجيا للجميع ، عادل حاتم جوزي ، بغداد ، دار الرشيد ، ١٩٨٠ ، ص ٧٥.

(٣) أساسيات علم الجيولوجيا ، محمد حسن وآخرون ، عمان ، مركز الكتب الأردني ، ١٩٩٠ ، ص : ١٨٦ ، وانظر : كوكب اسمه الأرض ، جورج جامو ، ترجمة ، الدكتورة هذارة ، القاهرة ، مؤسسة سجل العرب ، ١٩٧٤ ، ص : ١١٠ ، وانظر : الأرض وأسرارها ، جورجيت بارتلمي ، ترجمة ، ميشيل خوري ، دمشق ، منشورات وزارة الثقافة ، ١٩٩١ ، ص : ٤٠ ، وانظر : ـ

٣٤٨

وفي الكتاب القيم «الأرض مقدمة للجيولوجيا الطبيعية» : (لقد حدثت عمليات نشوء الجبال في التاريخ الجيولوجي الحديث بعدة مواقع حول العالم ، وتشمل هذه الأحزمة الجبلية الحديثة الكورديلير الأمريكية ، والتي تمتد على طول الحافة الغربية للأمريكيتين ... ومعظم هذه الأحزمة الجبلية قد تكونت خلال المائة مليون سنة الماضية ، وقد ابتدأ بعضها في التكون ، بما في ذلك الهيمالايا في مدة لا تزيد عن ٤٠ مليون سنة مضت ... وتتألف أحزمة بناء الجبال عادة من مرتفعات متوازية من الصخور الرسوبية والبركانية المطوية والمتصدّعة ، التي تكون بعض أجزائها قد تحولت تحولا شديدا ، واقتحمت بأجسام نارية حديثة نوعا ، وفي معظم الحالات تكون الصخور الرسوبية قد تراكمت في بحار عميقة وقد زاد سمكها عن ١٥٠٠٠ متر ، وكذلك من صخور أقل سمكا تراكمت في بحار ضحلة ، وعلاوة على ذلك فلا بد أن تكون هذه الصخور المشكّلة أكبر عمرا في معظمها من حادثة بناء الجبال التي تضمنتها ، مما يشير بالضرورة إلى فترة غير قصيرة من التراكم الهادئ المتبوع بحادثة مفاجأة من الطي والتصدّع) (١).

الإعجاز :

هذا طرف من الحديث عن نشأة الجبال الرسوبية والجبال والبركانية ... ورأينا كيف أن الجبال الرسوبية تتكون مما تلقيه الأنهار والرياح بعد عملية الحت والتعرية في اليابسة ، وثوران البراكين في قاعات البحار والمحيطات ، لتكوّن بعد ذلك الجبال ، أليس هذا إلقاء؟ ، ودليلا على عظمة القرآن الكريم وهو يثبت هذه الحقيقة الجيولوجية الرائعة ، (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ، وما الجبال البركانية إلا أجسام ضخمة مؤلفة من صخور ، وفتات بركاني قذفتها فوهات البراكين بشدّة ، ثم تساقطت على أطرافها وتراكمت فكانت الجبال ، أليس هذا كذلك إلقاء؟ ، ألقاه الله من البحار والبراكين لتتكون الجبال ، فسبحان من أشار إلى هذه الحقيقة الرائعة وسجلها في كتابه لتكون سابقة في مضمار إثبات الحقائق العلمية ، فقال تقدست أسماؤه : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ).

__________________

كوكب الأرض ، إعداد ونشر ، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ، الكويت ، الطبعة الثانية ، ١٩٨٧ ، ص : ٤٤ ، وانظر : موسوعة عالم المعرفة ، بيروت ، دار نوبليس ، الطبعة الأولى ١٩٩٦ ، ٤ / ٣٢١.

(١) الأرض مقدمة للجيولوجيا الطبيعية ، تاربوك ولو تجنز ، ص : ٥٠٩.

٣٤٩

المبحث الثاني

الجبال تحافظ على توازن الأرض

قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧)) (١).

وقال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) (٢).

وقال تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣).

تسجّل هذه الآيات قاعدة جيولوجية في القرآن الكريم ، وهذه القاعدة هي : وتديّة الجبال ، فالحق سبحانه وتعالى في معرض الامتنان على عباده ، وفي سياق الرحمة التي غمرهم بها يذكّرهم بأنه هو الذي جعل الجبال أوتادا ، ووزعها بدقة وحكمة فائقة ، مما يساعد على توازن الأرض ، بحيث لا تميد ولا تضطرب ، فكما أن الأوتاد تثبت الخيمة وتعمل على استقرارها ، فكذلك الجبال جعلها الله للأرض كالأوتاد للخيمة.

يقول الإمام القرطبي رحمه‌الله : ((أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تميد عند الكوفيين ، وكراهية أن تميد على قول البصريين ، والميد : الاضطراب يمينا وشمالا ، ماد الشيء يميد ميدا إذا تحرك ، ومادت الأغصان تمايلت وماد الرجل تبختر ، قال وهب بن منبه : لما خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور ، فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرّة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ، ولم تدر الملائكة مما خلقت الجبال) (٤).

وفي «روح المعاني» : ((وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي كالأوتاد ، ففيه تشبيه بليغ أيضا ، والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد) (٥).

__________________

(١) سورة النبأ ، الآيتان ٦ ، ٧.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣١.

(٣) سورة النازعات ، الآية : ٣٢.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ٥ / ٦٠.

(٥) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٩ / ١٤ ، وانظر : التسهيل لعلوم التنزيل ، محمد بن أحمد الغرناطي ، بيروت ، دار الأرقم ، د. ت ، ٢ / ٤٤٤.

٣٥٠

وعند ابن كثير ((وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي جعل لها أوتادا أرساها بها وثبتها وقررها ، حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها) (١).

وفي «التفسير البياني» : (والجبال أرساها ، الإرساء ، التثبت والترسيخ ، وقالوا : ألقت السفينة مراسيها إذا استقرت ، على أن المادة يكثر مجيئها في الجبال ، لوضوح الثبات والرسوخ فيها ، والقرآن يستغني أحيانا بالرواسي عن الجبال ، فيشهد هذا بأن صفة الرسو تبدو أوضح ما تبدو في الجبال) (٢).

وفي «البحر المحيط» : ((وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي ثبتنا الأرض بالجبال ، كما ثبت البيت بالأوتاد) (٣).

وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت ، فعجبت الملائكة من شدة الجبال قالوا : يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال : نعم ، الحديد ، قالوا : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ، قال : نعم ، النار ، فقالوا : يا رب فهل من شيء أشد من النار ، قال : نعم ، الماء قالوا : يا رب فهل من شيء أشد من الماء ، قال : نعم ، الريح ، فقالوا : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ، قال : نعم ، ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله» (٤).

ومعنى الوتد في اللغة : (الوتد بالكسر والوتد ، ما رز في الحائط أو الأرض من الخشب ، والجمع أوتاد ، قال الله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) ... ووتدته أنا أتده وتدا وتدة ووتدته ، أثبته) (٥).

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٨ / ٣٠٦.

(٢) التفسير البياني للقرآن ، عائشة بنت الشاطئ ، القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ، ١٣٨٨ ه‍ / ١٩٦٨ ، ص : ١٥٢.

(٣) البحر المحيط ، لأبي حيان الأندلسي ، ٩ / ٥٤١ ، وانظر : تبصير الرحمن وتيسير المنان ، علي ابن أحمد المهائي ، بيروت ، عالم الكتب ١٩٨٣ ، ٢ / ٣١.

(٤) رواه الترمذي في سننه ، رقم : (٣٣٦٩) ، ٥ / ٤٥٤ ، وقال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، ورواه أبو يعلى ، أحمد بن علي أبو يعلى الموصلي ، تحقيق ، حسن سليم أسد ، دمشق ، دار المأمون للتراث ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٤ ه‍ / ١٩٨٤ رقم : (٤٣١٠) ، ٧ / ٢٨٦.

(٥) لسان العرب ، لابن منظور ، ٣ / ٤٤٥.

٣٥١

وفي القاموس المحيط : (الوتد بالفتح وبالتحريك وككتف ، ما رز في الأرض أو الحائط من خشب وأوتاد الأرض جبالها ، ومن البلاد رؤساؤها) (١).

يتبيّن لنا من خلال هذا العرض ، ومن معطيات الآيات القرآنية وما قاله المفسرون وأصحاب المعاجم ، أن الله سبحانه وتعالى خلق الجبال وجعلها بمثابة الوتد الذي يشد الخيمة ، والجبال هي بدورها تقوم على تثبيت الأرض كي لا تميد وتضطرب ، وهذه الحقيقة الجيولوجية تحدث عنها علماء الجيولوجيا تحت مسمى (وتدية الجبال).

الحقائق العلمية :

ففي كتاب «من الآيات العلمية» : (أثبتت الدراسات أن كل قارة بها جبالها التي تتميز بها ، وأن هناك سلسلة من الجبال موزّعة على سطح الأرض توزعا دقيقا محكما ، وأن ارتفاع الجبال يتناسب ومكانه من الكرة الأرضية ، ونوع الصخور المكونة له ، وطبيعة الأرض من حوله ، وأنه بما توجد بعض الجبال التي لا يزيد ارتفاعها على ألف متر ، فهناك مثلا (جبل إفرست) في سلسلة جبال الهمالايا الذي يقرب ارتفاعها من تسعة آلاف متر ، ووجد كذلك أن الجبال الثقيلة دائما أسفلها مواد هشة وضعيفة ، وأن تحت المياه توجد المواد الثقيلة الوزن ، وذلك حتى تتوزّع الأوزان في المناطق المختلفة للكرة الأرضية ، ووجد العلماء أن هذا التوزيع يتمشّى مع مرونة القشرة الأرضية ودرجة حرارتها ، ثم كانت الحقيقة العلمية القاطعة التي وصل إليها العلماء والتي تقرر : أن توزيع الجبال على الكرة الأرضية إنما قصد به حفظها من أن تميد إلى الشمس أو تحيد عنها ، وأنها فعلا السبب الأول والرئيسي لحفظ توازن الأرض ، فكأن الجبال هي أوتاد للأرض تحفظها في مكانها وتحفظ عليها حركتها) (٢).

وفي كتاب «أساسيات علم الأرض» : (إن التوزيعات في كثافات القشرة الأرضية على أجزاء مختلفة منها يحرز وضعا متوازنا بين أجزاء القشرة الأرضية في المناطق المختلفة وهو ما يطلق عليه مصطلح اتزان القشرة الأرضيةlsostasy.

إن الاتزان النظري لكتل القشرة الأرضية الشاهقة الارتفاع لكلا الجبال والقارات

__________________

(١) قاموس المحيط ، للفيروزآبادي ، ١ / ٤١٣.

(٢) من الآيات العلمية ، عبد الرزاق نوفل ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، الطبعة الأولى ، ١٩٦٦ ، ص : ٥٧.

٣٥٢

التي تكون طافية على قاعدة صخرية عالية الكثافة وتخضع لضغط عظيم وفي وضع تجاوز حالة المرونة تكون فيها الأجزاء المرتفعة من سطح القشرة الأرضية في حالة توازن مع صخر الطبقة السفلية الكثيفة ، ولكن يجب أن ندرك أن الأحداث الجيولوجية من وقت لآخر تفسر لنا نظام الاتزان في القشرة الأرضية ...) (١).

ويقول الشيخ عبد المجيد الزنداني : (لقد تأكد الباحثون عام ١٩٥٦ ، أن تحت كل جبل عرقا لهذا الجبل وامتداد له قد غرس في الطبقة العجينية أو اللزجة التي تحت طبقة الصخور ، وقد جعل الله هذا الامتداد تحت كل جبل ماسكا للقارات من أن تطوف أثناء دوران الأرض ، فهذه الأوتاد المغروسة في الطبقة اللزجة التي تحت القارات تثبّت القارات كما يثبت الوتد الخيمة إذا غرس بين التراب ، ولكن هذا السرّ الذي لم يتأكد منه الباحثون إلا عام ١٩٥٦ ، كما ذكر ذلك الدكتور فاروق الباز المختص في علم الجيولوجيا والفضاء ، ومدير معهد سميس سونيان لعلوم الأرض والفضاء ، إن هذا السر قد ذكره القرآن قبل ألف وأربع مائة عام ، فقال تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي جعلها الله أوتادا في هذه الأرض) (٢).

الإعجاز :

حقيقة وتديّة الجبال تحدث عنها القرآن الكريم في العديد من الآيات المباركة ، ثم يأتي العلماء ليكتشفوا أن الله سبحانه وتعالى جعل الجبال مغروسة في طبقات الأرض ليتسنّى للعباد أن يعيشوا على ظهرها ، إنه السبق القرآني في إثبات الحقائق العلمية ، فسبحان من ثبّت لنا الأرض بالجبال لننعم بوافر السعادة ، ونتفيأ ظلال الرحمة الربانية ، إنه إعجاز القرآن الرائع ، وصدق ربّ العزة القائل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (٣).

__________________

(١) أساسيات علم الأرض ، الجيولوجيا الفيزيائية ، محمد بن عبد الغني عثمان مشرف ، ص : ٥١٦.

(٢) كتاب التوحيد ، عبد المجيد الزنداني ، ص : ٧٢.

(٣) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

٣٥٣

صورة رقم : (٢٤) ، توضح وتدية الجبال ، ودورها في تثبيت وحفظ توازن الأرض.

٣٥٤

صورة رقم : (٢٥) ، سبحان من جعل هذه الراسيات أوتادا للأرض (١).

٣٥٥

المبحث الثالث

الرواسي الشامخات والماء الفرات

قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (١).

في هذه الآية الكريمة معجزة قرآنية كبيرة ، وإشارة علمية جيولوجية فريدة ، فالآية تشير إلى علاقة متينة بين الجبال الشامخات والماء الفرات ، والذي يتأمل قوله تعالى : (شامِخاتٍ) يدرك روعة الإعجاز في بيان القرآن هذا ، فالله سبحانه وتعالى يلفت انتباهنا إلى حقيقة علمية مرئية في عالم الشهادة ، فكلما كانت الجبال ذات شموخ وارتفاع وعلو كان نصيب الماء فيها أغزر ، واستأهلت لتكون محطة لواردات الثلوج المتراكمة ، وذاك الماء الذي ينساب من قممها وسفوحها يكون عذبا فراتا سائغا للشاربين ...

وبجولة في تفاسير العلماء ، نرى دقة هذا الارتباط الوثيق بين شموخ الجبال وغزارة المياه.

يقول ابن كثير : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) يعني الجبال أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا زلالا من السحاب ، أو مما أنبعه من عيون الأرض) (٢).

وعند القرطبي : ((رَواسِيَ شامِخاتٍ) يعني الجبال ، والرواسي الثوابت ، والشامخات الطوال ، ومنه يقال : شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا ، قال :

(وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وجعلنا لكم سقيا ، والفرات ، الماء العذب يشرب ويسقي منه الزرع ، أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات) (٣).

__________________

(١) سورة المرسلات ، الآية ٢٧.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٨ / ٣٠٣ ، وانظر : لباب التأويل في معاني التنزيل ، علاء الدين علي بن محمد الخازن ، بغداد مكتبة المثنى ، د. ت ، ٤ / ٣٦٩.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١٩ / ١٦٠ ، وانظر : تفسير القرآن ، منصور بن محمد السمعاني ، تحقيق ، ياسر إبراهيم وغنيم عباس الرياض ، دار الوطن ، ١٩٩٧ ، ٦ / ١٣٠.

٣٥٦

وفي «روح المعاني» : ((شامِخاتٍ) مرتفعات ، ومنه شمخ بأنفه ، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ، كأشهر معلومات وتنكيرها للتفخيم ، أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف ولم يوقف عليها ، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلا الله عزوجل ، وقيل : للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية ، وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر ، وظنّوا وجودها في غيره ، وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا ، وذلك بأن خلقناه في أصولها ، وأجريناه لكم منها في أنهار ، وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها ، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك ، والماء المنزل من السماء) (١).

وفي تفسير «أنوار التنزيل» : ((وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا ثوابت طوالا والتنكير للتفخيم ، أو الإشعار بأن فيها ما لم يعرف ولم ير ، وقوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) بخلق الأنهار والمنابع فيها) (٢).

ويقول الإمام الرازي : (من الاستدلال بأحوال الجبال ، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض وذلك أن الحجر جسم صلب ، فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل ، فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة ، ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ، ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية) (٣).

إن الإنسان ليصاب بالدهشة عند ما يقرأ تفسير هؤلاء العلماء رضي الله عنهم ، وهم يتحدثون عن هذه الحقائق العلمية الجيولوجية منذ قرون مضت ، ولم يكن في عصرهم ولا حتى بعدهم بقرون الآليات والمعدات التقنية المتطورة ، التي من شأنها أن تكشف عن أسرار المياه وارتباطها بالجبال الشامخات ، ولكنهم يستلهمون هذه المعطيات العلمية من وحي القرآن العظيم ، الذي حوى علم الأولين وعلم الآخرين.

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٨ / ١٧٨ ، وانظر : فتح الرحمن في تفسير القرآن ، عبد المنعم تعليب ، القاهرة ، دار السلام ، الطبعة الأولى ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٥ ، ٧ / ٣٨٣٦.

(٢) أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٥ / ٤٣٣.

(٣) التفسير الكبير ، للرازي ، ١٩ / ٨ ، وانظر : تفسير مجاهد ، مجاهد بن جبر المخزومي ، تحقيق ، عبد الرحمن السورتي ، بيروت ، المنشورات العلمية ، د. ت ، ٢ / ٧١٦.

٣٥٧

إذن ، ندرك من معطيات النص القرآني أن الجبال كلما كانت شامخة عالية ، كان الماء أوفر من جهة ، ومن جهة أخرى كان عذبا فراتا ، وليس ملحا أجاجا ، فما ذا قال العلم في هذا؟.

الحقائق العلمية :

إن هذا التصور القرآني الدقيق ، وهذه الإشارة العلمية الربانية ، قد كشف عنها العلم ، وأثبتها علماء الجيولوجيا ...

(فهذه الآية القرآنية معجزة تربط بين ارتفاع الجبال وتكون الجليد الذي يكلل هاماتها ، لانخفاض حرارتها تحت الصفر ، فالبرودة تكثف بخار الماء الموجود بالجو على قمم هذه الجبال ، إذا زاد ارتفاعها عند حد خاص يتوقف على موقعها قدره ٢ ، ١ ، ٧ ، ٢ ، ٥ ، ٥ كم ، بالنسبة لجبال النرويج والألب والكليمنجارو على الترتيب ، لأن هذه الارتفاعات هي الحد الأدنى لتكوّن الثلج الدائم لانخفاض حرارتها بالدرجة اللازمة لتكثيف البخار من الهواء الرطب المحيط بها في هذه المناطق على الترتيب ، وهذا الماء يتجمّد على هيئة ثلج يغطي القمم والسفوح الشامخة الباردة ، وينصهر هذا الثلج تحت ضغط الجليد العلوي المتراكم فوقه باستمرار ، فيسيل الماء العذب على سفوح هذه الجبال بتأثير الجاذبية إلى أسفل ، ولن تنفذ هذه الثلوج على قمم الجبال باستمرار ذوبان أطرافها السفلى ، لأنها كما تسيل باستمرار تتجدد أيضا باستمرار عملية التكثف لبخار الماء من الجو المحيط بهذه القمم ، ولو لا هذه الظاهرة العجيبة لجفت الأنهار إذا انقضت فصول الأمطار عند منابعها ، وتنكير الماء في هذه الآية يفيد العموم ، بحيث يشمل كلا من ماء الأمطار والماء المنحدر من جليد شوامخ الجبال التي تعمل كالإسفنج ، لتجميع وترشيح الماء العذب النقي من بخار الجو المحيط) (١).

وفي «دائرة المعارف الثقافية» نجد حول هذه الحقيقة ما يلي : (عند ما تدفع الرياح كتلة هوائية حارة مشبعة ببخار الماء ، وتصادف في طريقها منطقة جبلية ، تصطدم الكتلة الهوائية بالجبال فتوقف مسيرتها ، لكن الريح تستمر في دفعها ، مما يجبرها على الارتفاع ، وكلما ارتفعت هذه الكتلة انخفضت درجات الحرارة المحيطة ، مما يؤدي

__________________

(١) المعارف الكونية ، إعداد نخبة من العلماء ، ص ٢٩٩.

٣٥٨

قمم الجبال التي تغطيها الثلوج هي من نعم الله لتخزين المياه على سطح الأرض.

إلى تكثف قسم كبير من رطوبتها ، وتشكيل تراكم غيمي يكلل القمة في النهاية على شكل ضباب) (١).

(... إن الارتفاعات العالية ، تؤدي إلى انخفاض درجة حرارة هذه القمم ، التي تستطيع بذلك تكثيف بخار الماء في الهواء الرطب المحيط بها ، وهذا الماء المتكثف يتجمد على هيئة ثلج ، يغطي هذه القمم الشامخة وينصهر هذا الثلج تحت ضغط الطبقات الثلجية المتراكمة فوقه ، ويتحول إلى ماء عذب يسيل على سفوح الجبال منحدرا بتأثير الجاذبية إلى أسفل) (٢).

__________________

(١) دائرة المعارف الثقافية ، الأرض ، بيروت ، المركز الثقافي الحديث ، الطبعة الأولى ، ٢٠٠٠ ، ٣ / ٤٨.

(٢) من دلائل الإعجاز العلمي ، موسى الخطيب ، ص ٢٥٤.

٣٥٩

الإعجاز :

إن هذه الحقائق العلمية التي سلفت ، جمعها كتاب الله بجملة واحدة : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) ، وليس من المستغرب أن يكشفها العلم الحديث لأنها تنزيل من لدن العليم الخبير ، ثم إن هذه الآيات تلفت انتباهنا إلى أن نسبر أغوار الكون ، ونكشف عن أسراره وخفاياه لينعم الإنسان بها ، فكم هي آلاء الله ونعمه الوافرة كثيرة علينا ، فالجبال الشاهقات منابع لسيلان الأنهار العذبة النقية ، وجمال الحياة وزهوتها بهذه الأنهار التي تملأ الوديان والسهول وشق التربة القاحلة فتحيلها إلى جنة خضراء زاهية ... إنه جمال الكون وبهاؤه المنعكس عن جلال الله وجماله ...

أما ينبغي أن نطأطئ الرأس إجلالا لإعجاز القرآن في هذه الآيات الباهرات ، واعترافا بنعم الله وآلائه التي أرفدها علينا وأغدقنا بها.

صورة رقم : (٢٧) ، مشهد رائع يوضح الماء الفرات المنساب من قمم الجبال على سفوحها فسبحان الله العظيم (١).

__________________

(١) أخذت هذه الصورة من موقع :

http :/ / zizooo. ws / z. php ? name Gallery do showpic pid ٤٧٠٤

orderby date D

٣٦٠