الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

تدفعه وتهيجه ، يقال : ثار الغبار إذا ارتفع : (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) يعني كيف يشاء الله عزوجل إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) يعني قطعا (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) يعني المطر يخرج من خلاله ، من وسط السحاب (فَإِذا أَصابَ بِهِ) يعني بالمطر (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يعني يفرحون بنزول المطر) (١).

ويعلق على الآية ابن كثير فيقول : (يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء ، فقال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) إما من البحر كما ذكره غير واحد ، أو مما يشاء الله عزوجل : (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) أي يمدّه فيكثره وينميه ، ويجعل من القليل كثير ، ينشئ سحابة ترى في رأي العين مثل الترس ، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق ، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالا مملوءة) (٢).

ونحتاج للوقوف على وجه الإعجاز أن نحلل بعض المفردات الواردة هنا : تثير ، سحب ، ودق ، أما معنى تثير ، ففي «لسان العرب» : (ثار الدخان والغبار وغيرهما يثور ثورا وثؤورا وثورانا ، ظهر وسطع ، وثار القطا من مجثمه ، وثار الجراد ثورا وانثار ، ظهر) (٣).

وأما معنى السحب ، ففي كتاب «العين» : (السحب ، جرك الشيء ، كسحب المرأة ذيلها وكسحب الريح التراب ، وسمي السحاب لانسحابه في الهواء) (٤).

وفي «لسان العرب» : (جرك الشيء على وجه الأرض ، كالثوب وغيره ، سحبه يسحبه سحبا فانسحب ، جرّه فانجر ، والمرأة تسحب ذيلها ، والريح تسحب التراب ، والسحابة : الغيم ، السحابة التي يكون عنها المطر سميت بذلك لانسحابها في الهواء) (٥).

وأما الودق ، فمعناها : (الودق : المطر ، ودق ، كوعد ، قطر وإليه ودوقا وودقا ، دنا منه وأمكنه وبه استأنس ، وبطنه اتسع أو استطلق ، والسماء أمطرت ، كأودقت) (٦).

__________________

(١) بحر العلوم ، للسمرقندي ، ٣ / ١٦.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٦ / ٢٨٩.

(٣) لسان العرب ، لابن منظور ، ٤ / ١٠٩.

(٤) كتاب العين ، للفراهيدي ، ٣ / ١٥١.

(٥) لسان العرب ، لابن منظور ، ١ / ٤٦١.

(٦) القاموس المحيط ، للفيروزآبادي ، ١ / ١١٩٧ ، وانظر : لسان العرب ، لابن منظور ، ١٠ / ٣٧٢.

٣٢١

ويتسنّى لنا الآن أن نستخلص من معطيات ما سبق ، أن الإثارة معناها الإظهار ، وليس كما ظن المفسرون جزاهم الله خيرا ورحمهم‌الله ، أن الإثارة هي تقليب الرياح وتحريكها ، لا بل إن المقصود بالإثارة هنا الإظهار كما رأينا في المعاجم ، ذلك لأن الرياح تحمل بخار الماء ونوى التكاثف لتكوين السحاب ، ثم بعد ذلك تتم إثارته أي إظهاره ليكون مرئيا للعيان ، ثم تحريكه وتوزيعه بحكمة العليم الحكيم جل جلاله ، وهذه حقيقة كشف عنها العلماء.

الحقائق العلمية :

ففي موسوعة «المعارف الكونية» : (الإثارة هي تحريك السحاب ، والعلم أوضح لنا أن الرياح تحمل بخار الماء ونوى التكاثف لكي يتكوّن السحاب وتتم إثارته ويظهر للأعين ، وبعد ذلك يتم تحويله وتحريكه بتوجيه إلهي ، وبهذا يجب علينا أن نستبعد حركة السحاب ضمن معاني الإثارة ، فالآية هنا رتبت السوق على الإثارة وليس العكس ، ولهذا فإن الإثارة هي بالتأكيد إظهار وتكوين السحب أولا ، وذلك بالتكثيف ، فكلنا يعرف الآن أن السحاب بخار كان كامنا في الهواء غير المشبع أو في الهواء فوق المشبع الخالي من نوى التكاثف ، ثم ظهر بالتكثيف بفعل الرياح سواء كان ذلك بحملها البخار إلى المناطق الباردة العلوية ، أو بحملها نوى التكاثف ، وبذلك يتضح لنا المعنى العلمي للآية الكريمة المراد من إثارة الرياح للسحاب ، أي أثر الرياح في تكوين السحاب وإظهاره وليس نقله كما اعتقد المفسرون) (١).

وفي كتاب «الطقس» : (يتكوّن بخار الماء في الجو عن طريق تبخّر مياه المحيطات والبحيرات والأنهار ، وتقوم النباتات بعد امتصاص جذورها لسوائل التربة ، بإطلاق كميات كبيرة من بخار الماء من خلال أوراقها ، وتدعى العملية «بالنقع» ويجري تبخر المياه بشكل رئيسي من الأجزاء الأكثر دفئا من المحيطات ، ومن الغابات الاستوائية ، ثم تنتقل بعد ذلك باتجاه علوي حيث تحملها الرياح حتى تنفذ إلى كافة أجواء الغلاف السفلي ... وعند ما يتكثف الماء في الجو فإنه يبدو أولا بشكل سحب ، إذا كان في طبقة هوائية عالية ، وبشكل ضباب إذا كان قريبا من الأرض ، وتتألف السحب من

__________________

(١) المعارف الكونية ، إعداد نخبة من العلماء ، ص : ٣٥٧ ، وانظر : الاستمطار ، محمد فياض وأحمد خليل ، الكويت ، دار سعاد الصباح ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٩ ، ص : ١٥ ، وانظر :

الطقس والمناخ ، محمد عياد مقيلي ، ليبيا ، نشر الجامعة المفتوحة ، ١٩٩٢ ، ص : ١٣٨.

٣٢٢

قطرات مائية بالغة في الصغر ، بحيث يمكنها العوم في الهواء والانجراف بواسطة تياراته ، ولن يكون في وسع بخار الماء التكثف والتحول إلى قطيرات مرئية ، إذا كان يحتويه هواء غاية في الصفاء والنقاء ، إلا أن الهواء لا يخلو في الواقع من جزيئات الغبار والدخان والملح الناجم عن رذاذ مياه البحر ، بحيث يقدر محتوى الأنش المكعب منه بالآلاف من هذه الجزيئات ، التي تقوم بدورها بإحاطة نفسها بقطيرات من الماء تدعى هذه القطيرات «بنوى التكاثف») (١).

ولقد ذكر علماء المناخ العديد من أنواع السحب ، وبسطوا الحديث عن طبائعها وأشكالها ولسوف نقتصر هنا على نوعين ، البساطي (etirement) والركامي (cumulonimbus) ، ولكن بعد أن نعرض لأهم أنواعها كما ذكر ذلك العلماء.

أنواع السحب من حيث النشأة :

(يمكن تصنيف السحب من حيث النشأة إلى أربع فئات وهي :

١ ـ الارتفاع التدريجي للهواء فوق مساحات واسعة مع الارتباط بنظام الضغط المنخفض.

٢ ـ الحمل الحراري ، بحيث تنتقل الحرارة من طبقة إلى الطبقة المجاورة على المقياس الركامي المحلي.

٣ ـ الارتفاع بواسطة الاضطرابات الجوية الميكانيكية (قوة الحمل الحراري).

٤ ـ الصعود فوق الحواجز الجبلية) (٢).

ولقد صنف (مجموعة من العلماء المختصين السحب إلى نوعين :

أولا : السحب البساطية (etirement).

ثانيا : السحب الركامية cumulonimbus (٣).

__________________

(١) الطقس ، فورس إيك ، ترجمة ، نبيلة منسى ، بيروت ، معهد الإنماء العربي ، ١٩٨١ ، ص : ٤٩ ـ ٥٠ ، وانظر : أسرار الأرصاد الجوية الموسوعة العلمية المبسطة ، ترجمة ، عيسى طنوس ، بيروت ، دار الحقائق ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٧ ، ص : ٣٠.

(٢) الغلاف والطقس والمناخ ، بيري شوري ، ص : ١١١.

(٣) المعارف الكونية ، إعداد نخبة من العلماء ، ص : ٣٥٦ ، وانظر : معجم المصطلحات الجغرافية ، بيار جورج ، ترجمة : الدكتور حمد الطفيلي ، بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٤.

٣٢٣

وليشرع بالنوع الأول : السحب البساطية.

قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١).

وقفنا قبل قليل مع هذه الآية الكريمة من جهة تكوين السحب ، وعرفنا أن معنى أثار أي أظهر وليس حرّك ، وهذا المعنى يوافق تماما حال إثارة الرياح للسحب وإظهارها ، كما أن الآية تشير إلى نوع من أنواع السحب وهو السحب البساطي ، كذلك أشرنا إليه ، وعرفنا رأي المفسرين حول هذه الآية ، وتأكيدا على هذا النوع من السحب ، نورد بعض دراسات العلماء والباحثين حوله.

السحب البساطية أو الطبقية : (وهي كما يفهم من اسمها تظهر بشكل طبقات تحجب السماء بأكملها ، ولا توجد لها حدود واضحة ، ويمكن تشبيهها بالضباب المرتفع ، وهي من السحب المنخفضة ، وقد تصل قاعدتها في بعض الأحيان إلى سطح الأرض فتظهر بشكل ضباب ، وقد يحدث أن تتكون من الضباب نفسه عند ما يرتفع بتأثير حرارة الشمس أو الرياح أو كليهما ، وهي من السحب التي قد يصاحبها هطول خفيف من الرذاذ أو حبيبات الثلج ، ويكون الهطول عادة متصلا أو متقطعا ... ومنها ما يكون رقيقا شفافا لا يحجب الشمس ، ومنها ما يكون سميكا معتما ، والنوع السميك منها يصاحبه في المعتاد هطول من المطر أو الثلج أو خليط منهما) (٢).

وفي كتاب «السحب» ذكر أن السحب تنقسم إلى أربعة عشر نوعا ، حسب الشكل الذي تبدو به في السماء ، وجعل السحب البساطية في المرتبة السادسة : (السحب المنبسطة : وهي سحب منتشرة أفقيا بشكل طبقة أو صحيفة ، نجدها ممثلة في سحب الركام المتوسط ، والركام الطبقي) (٣).

ثانيا : السحب الركامية

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٤٨.

(٢) الجغرافية المناخية والنباتية ، عبد العزيز شرف ، الإسكندرية ، دار الجامعات المصرية ، الطبعة الحادية عشر ، ١٩٨٥ ، ص : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ، وانظر : مدخل إلى علم المناخ ، ضاري العجمي ومحمود صفر ، الكويت ، مكتبة الكويت ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٧ ، ص : ١٩٠.

(٣) السحب ، علي حسن موسى ، دمشق ، دار الفكر ، ١٩٨٨ ، ص : ٧٥.

٣٢٤

خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (١).

تمثّل هذه الآية الكريمة إعجازا علميا رائعا في علم المناخ والرياح ، وتكوين السحب الركامية ، فهي تتحدّث عن مراحل تكون السحب الركامية ، والتي تبدأ بدفع الرياح للسحاب رويدا رويدا ، ثم تأتي المرحلة الثانية والتي تتمثل بتأليف وجمع قطع السحاب ، ثم تصبح هذه القطع مركومة فوق بعضها البعض ، وعملية الركم هذه تنتج نزول المطر ، وبسبب التراكم التصاعدي تنشأ جبال سيارة في السماء من البرد ، ونويات البرد هذه محصورة في السحب الركامية ، ولم نقرأ في السحب البساطية أنها تحتوي البرد أو البرق والرعد ، ثم إن الآية تخبر أن هذا البرد له برق ، والبرق هو نتيجة حتمية للبرد وغير هذه الحقائق والأسرار تحتويها هذه الآية ، وسوف نرى أن العلم وصل بشكل دقيق إلى ما أوضحتها الآية القرآنية ، بعد ما تطور علم الأرصاد الجوية ، واستعمل العلماء أجهزة الاستشعار عن بعد والرادارات والأقمار الصناعية وغيرها ، ولكن نقف عند تفسير الآية مع علماء التفسير ، وشرح مفرداتها مع اللغويين.

يقول ابن كثير : (يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة ، وهو الإزجاء (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجمعه بعد تفرقه (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما ، أي يركب بعضه بعضا (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من خلله ... (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد ... (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) يحتمل أن يكون المراد بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد ، فيكون قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) رحمة لهم (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي يؤخر عنهم الغيث ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله سبحانه : (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بالبرد نقمة على من يشاء ، لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم ويصرفه عمن يشاء أي رحمة بهم ، وقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته) (٢).

وفي تفسير «روح المعاني» : ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الإزجاء سوق الشيء برفق

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٣.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، ٦ / ٦٦ ، وانظر : الأساس في التفسير ، سعيد حوى ، القاهرة ، دار السلام ، الطبعة الثانية ، ١٩٨٩ ، ٧ / ٣٧٩٢.

٣٢٥

وسهولة وقيل : سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به ، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئا بعد شيء على قلة وضعف ، وقيل : أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بأن يوصل سحابة بسحابة ، وقال غير واحد : السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه ، وهذا لأن (بَينَه) لا تضاف لغير متعدد ، وبهذا التأويل يحصل التعدد ... (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر شديدا كان أو ضعيفا إثر تراكمه وتكاثفه ، (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار ، وهو جمع خلل كجبال وجبل ... (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) أي من السحاب ، فإن كل ما علاك سماء ، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلا فيما ينزل ، بناء على المشهور في سبب تكون البرد ، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل (مِنْ جِبالٍ) أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ ... لأن الله تعالى خلق في السماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من حجر ، وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل ... (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بما ينزل من البرد (مَنْ يَشاءُ) أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أن يصرفه عنه فينجو من غائلته ، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر ... (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما ، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه ، للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء ، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر ، (سَنا) ممدودا (سَنا بَرْقِهِ) بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة ... وهو هنا كناية عن قوة الضوء ، (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أي يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها ، وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها ، كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض ، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة ، لأنه توليد للضد من الضد) (١).

وهناك بعض المفردات الواردة في الآية الكريمة ، ستأخذ معانيها من المعاجم ، مثل : يزجي ، ويؤلف وسنا ، وركام ، أما معنى يزجي ، ففي «لسان العرب» : (التزجية ،

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ١٨ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٣٢٦

دفع الشيء كما تزجي البقرة ولدها أي تسوقه ، ويقال : أزجيت الشيء إزجاء ، أي دافعت بقليله ، ويقال : أزجيت أيامي زجيتها أي دافعتها بقوت قليل ... والريح تزجي السحاب أي تسوقه سوقا رفيقا) (١).

وأما معنى يؤلف ، ففي «مفردات ألفاظ القرآن» : (الإلف ، اجتماع مع التئام ، والمؤلّف ، ما جمع من أجزاء مختلفة) (٢).

ومعنى الركام : (ركم الركم ، جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله ركاما مركوما ، كركام الرمل والسحاب ونحو ذلك ، من الشيء المرتكم بعضه على بعض ، ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض ، وهو مركوم بعضه على بعض ... وفي التنزيل العزيز (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) يعني السحاب) (٣).

وأما معنى سنا : (سنا ، سنت النار تسنو سناء ، علا ضوؤها ، السنا مقصور ضوء النار والبرق وقد أسنى البرق ، إذا دخل سناه عليك بيتك ، أو وقع على الأرض ، أو طار في السحاب) (٤).

هذا معنى الآية كما ورد في كتب المفسرين ، ومعاجم اللغويين ، وهذا هو الوصف العلمي للسحب وخصائصها ونتائجها ، ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقائق في آية سورة النور هذه ، ولدى عرضنا للآية وتمعننا فيها بشكل دقيق ، سنلحظ هذه القراءة العلمية في الآية الكريمة ، وهي تتحدث عن تكوين السحب ، وعملية تراكمه ، ثم كيف يخرج المطر منه وينزل البرد على من يرسله من عباده ويصرفه عمن يشاء من عباده سبحانه وتعالى ، وإنه حقا لوصف قرآني عجيب ودقيق للسحب الركامية التي أشير إليها آنفا ، وبنظرة دقيقة في الآية الكريمة تتّحد معطياتها كما يلي :

أولا : تقرر الآية الكريمة أن أوّل مرحلة من مراحل تكوين السحاب الركامي ، إنما تكون بدفع الهواء للسحاب بشكل هادئ ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) أي يسوق السحاب إلى حيث يشاء فالإزجاء هو السوق كما قرر ذلك علماء اللغة والتفسير.

__________________

(١) لسان العرب ، لابن منظور ، ١٢ / ٢٦٢.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص ٨١.

(٣) لسان العرب ، لابن منظور ، ١٢ / ٢٥١.

(٤) المصدر نفسه ، ١٤ / ٤٠٣ ، وانظر : كتاب العين ، للفراهيدي ، ٧ / ٣٠٢.

٣٢٧

ثانيا : بعد سوقه وتجميع أجزائه (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجمعه ، فالتأليف هو الجمع ، وتلك هي المرحلة الثانية من تكوين السحابة الركامية ، فالحق عزوجل يجمع بين السحب المتوزعة لتكون سحابة واحدة ، و (ثُمَ) للترتيب مع التراخي ، أي تحتاج عملية تأليف السحب وجمعها إلى شيء من الوقت ، والإشارة العجيبة هنا في التأليف ، وهل يكون التأليف إلا بين المتنافرين ، فكذلك يكون التأليف في السحابة بين الشحنات الكهربائية السالبة والموجبة.

ثالثا : ثم تأني عملية ركم السحاب بعضه على بعض ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متجمعا ، يركب بعضه فوق بعض ، وتلك هي المرحلة الثالثة في تكوين السحاب الركامي بالنمو الرأسي كما أثبت العلم.

رابعا : كما أن الآية تشير إلى نزول المطر عند تكامل الركم ، (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) الودق ، المطر (مِنْ خِلالِهِ) بمعنى من فتوقه ومخارجه ، وهذا الذي أشارت إليه أبحاث الأرصاد من مراحل نزول المطر في السحاب الركامي بعد تمام مرحلة الركم ، أي بعد أن يضعف الرفع في السحاب ، أو ينعدم فينزل المطر على الفور ، فيخرج المطر من مناطق الخلل في جسم السحابة.

خامسا : ثم إن الآية تتحدّث عن نشوء جبال من البرد في السماء ، جراء هذا الركام الهائل من السحاب ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) ، وقد يصل حجم حبات البرد إلى حجم البرتقالة وبذلك يكون المعنى ، وينزل من السماء بردا أي من جبال لا بد وأن يكون فيها شيء من برد ، والجبال هي السحب الركامية التي في شكل الجبال.

سادسا : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ففي الآية إشارة علمية واضحة إلى أن البرد يولد البرق ، وهذا ما أثبته العلم ، حيث يقوم البرد بتوزيع الشحنات الكهربائية في جسم السحابة أثناء صعوده وهبوطه ، ثم يقوم بالتوصيل بين الشحنات الكهربائية المختلفة ، فيحدث تفريغا كهربيا هائلا ولهذا نسب الله البرق إلى البرد.

الحقائق العلمية :

تحدّث علماء المناخ عن السحاب الركامي بشكل مستفيض ، خاصة وأن الأجهزة الحديثة سهلت عليهم الكثير من العقبات ، كما أنها وفّرت لهم كمّا هائلا من المعلومات التي كانت في عالم المجهول بالنسبة لهم ، ولسوف نستعرض بعضا مما قدمه العلماء

٣٢٨

من خلال تجاربهم وأبحاثهم في الحديث عن السحاب الركامي ، لنرى أن ما وصلوا إليه هو ذاته الذي حدثتنا عنه آية النور المعجزة.

أنواع الغيوم :

(جرت العادة على تقسيم أنواع الغيوم إلى أربعة أنواع رئيسية ، كل منها يقسم إلى عدة أقسام فرعية ، وتشمل الأصناف التالية :

١ ـ الغيوم العالية : وتتكون من بلورات جليدية ، ويتراوح ارتفاع قاعدتها ما بين أكثر من ٦ كم في المناطق المدارية ، إلى أكثر من ٣ كم في العروض العليا.

٢ ـ الغيوم المتوسطة : ويتراوح ارتفاع قاعدتها ما بين ٣ ، ٥ كم في العروض المدارية إلى حوالي ٢ كم في العروض العليا.

٣ ـ الغيوم المنخفضة : ويتراوح ارتفاع قاعدتها من سطح الأرض إلى حوالي ٢ كم في العروض المختلفة.

٤ ـ الغيوم التراكمية : وتشمل غيوم ذات امتداد عمودي ، مثل الغيوم التراكمية الصغيرة الحجم التي تظهر أثناء الطقس المعتدل ، أو الغيوم السمحاقية التي يتجاوز امتدادها العمودي في المناطق المدارية ١٣ كم ، ويصاحب هذه الغيوم العواصف الرعدية والأمطار الغزيرة) (١).

ونجد في موسوعة المعارف الكونية الحديث عن السحب الركامية ، ومما جاء فيها : (ومنها السحب الركامية العادية في الطقس الصباحي ، والسحب الركامية الضخمة الماطرة ، ويتشكل هذان النوعان في الطبقة السفلى في الجو على ارتفاع حوالي ١ كم ، وقمّتها في الطبقة العليا بحدود ٥ ـ ٨ كم ... وأما مقدارها الأفقي فيتراوح من ١ ـ ١٠ كم للنوع الأول ، وبضع عشرات الكيلومترات للنوع الثاني ويلعب الانتقال الرأسي إلى أعلى للكتل الهوائية بسرعة ١٠ متر / ثانية ، دورا ضخما في تكوينها وخلافا للسحب البساطية ، فإن فترة انتقالها محدودة وتقاس بالساعات أو بعشرات الدقائق ، والسحب الركامية الضخمة الماطرة التي تتميز أبعادها الكبيرة وارتفاعها الزائد

__________________

(١) مبادئ المناخ الطبيعي ، إبراهيم العرود ، عمان ، دار الشروق ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٧ ، ص ١٤٧ ، وانظر : العلوم الجوية وتطبيقاتها ، محمد أحمد الشهاوي ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، الطبعة الأولى ، ١٤٢٠ ه‍ / ٢٠٠٠ ، ص : ٥١.

٣٢٩

كالجبال ... تسبب هطولات قوية وبردا لمدة قصيرة تقدّر بعشرات الدقائق لكنها غزيرة ... والسحاب الركامي الضخم الممطر يشبه الجبال ، وقد يجود بالبرد في العواصف الصيفية ... وهطولات البرد محلية لدرجة أنها قد تصيب حقلا وتترك حقلا مجاورا ، وتسبب أضرارا جسيمة للمزروعات والمباني والكائنات الحية ، حيث يصل قطرها أحيانا إلى قطر البرتقالة أو الرمان) (١).

كما أن العلماء تحدّثوا عن تشكل البرد ، وأوضحوا أن البرد إنما يتم تكوينه داخل السحب الركامية ، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة ، ففي كتاب «أسرار الأرصاد الجوية» نجد هذا المعنى بكل جلاء : (يتكون المطر داخل الغيوم ، وتتحول قطرات الماء إلى جليد إذا انخفضت درجة حرارة الغيمة إلى أقل من الصفر ، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تساقط البرد ، وينشأ البرد عادة في الغيوم الكبيرة التي تشبه زهرة القنبيط (غيوم الركام) حيث تحدث داخل الغيمة تيارات عمودية قوية ، فتتجمد قطرات الماء وتبدأ بالسقوط ، لكن التيار الصاعد يرفعها ثم تهبط قليلا وتصعد ، مما يؤدي إلى تضخمها وتحولها إلى جليد ، وهكذا فإن لقطعة البرد نواة صغيرة مؤلفة من عدة طبقات ، وعند ما يغلب وزنها قوة التيارات الصاعدة ، يتساقط البرد على الأرض ، وكل كتلة من الجليد نسميها حبة برد ، يتفاوت حجمها ، منها الكبير والصغير ، وبلغ وزن بعض حبات البرد ٣٠٠ غرام ، وهي قادرة على تحطيم النوافذ وإتلاف المحاصيل) (٢).

وأكد العلماء أن السحب الركامي فقط يحتوي على البرق والرعد ، وهذا ما قررته الآية الكريمة المعجزة ، جاء في كتاب «العواصف والأعاصير» : (العاصفة الرعدية هي ظاهرة جوية كهربائية ، وهي من التفريغات الكهربائية الفجائية التي تظاهرها ومضة ضوئية (البرق) وصوت حاد (الرعد) وتتمثل غيوم العواصف الرعدية ، بغيوم الركام المزني فقط ، لما تتّصف به من نمو رأسي كبير ، وفعالية كهربائية شديدة ، فهي إن دلت فإنها تدل على حالة اضطراب عنيفة في الجو ، وعدم استقرار شديد في أعماق كبيرة من

__________________

(١) المعارف الكونية ، إعداد نخبة من العلماء ، ص ٣٦٠ ، وانظر : الأرصاد الجوية ، محمد الهوني وإبراهيم سويدان ، ليبيا ، نشر القوات البحرية ، ١٩٧٩ ، ص : ٢٨.

(٢) أسرار الأرصاد الجوية ، موسوعة علمية مبسطة ، ص : ٥٢ ، وانظر : الطبيعة الجوية ، محمد جمال الدين الفندي ، الكويت ، مكتبة الفلاح الطبعة الثانية ، ١٩٧٧ ، ص : ٢٠٠.

٣٣٠

الجو ، وتوفّر رطوبة عالية ، ولذا لا بد لتشكّل غيوم العواصف الرعدية من وجود قوة رفع شديدة للهواء الرطب) (١).

الإعجاز :

من الذي أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه المراحل المتعددة في تكوين السحب ، وفي هذا الوصف الدقيق من تراكم السحب ، ونزول المطر من خلالها ، وكيف تتخذ شكلا جبليا الذي ينزل منه البرد ، ثم تفرز برقا يكاد أن يذهب بالأبصار ... إن وسائل علم الأرصاد الجوي لم تكن موجودة في البيئة الرملية القاحلة التي بعث فيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنه وحي السماء ، أنزله الذي يعلم السر وأخفى.

صورة تظهر السحاب الركامي (٢)

__________________

(١) العواصف والأعاصير ، علي حسن موسى ، دمشق ، دار الفكر ، ١٩٨٩ ، ص : ٧٩.

(٢) http // : zizooo. ws / z. php ? name Gallery do showpic pid

١٢٧١orderby date D.

٣٣١

صورة يتضح فيها السحاب البساطي والذي يحمل الأمطار (١).

__________________

(١) http / : zizooo. ws / z. php ? name Gallery do showpic pid ـ ١٢٧١ orderby ـ date D.

٣٣٢

المبحث الثالث

البرق والبرد بين القرآن والعلم

قال سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)) (١).

تبرز الآية الكريمة مظهرا من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى ، وهذا مظهر يتمثّل في آية من آيات الله ، إنه البرق.

(والبرق : الذي هو لمعان السحاب) (٢) ، وهو ذو جناحين ، جناح فاض بالبشرى والحبور ، لأنه يبشّر بهطول المطر ودرّ الغيث من السماء لتنتشر الرحمة على العباد ، وجناح يحمل الإنذار ، ويدخل الهلع والقلق على النفوس ، فترتعد الفرائص ، وتصفرّ الوجوه وتنزوي القوى.

البرق الشديد والصواعق قد تكون سببا في إحداث الضرر

__________________

(١) سورة الرعد ، الآيتان : ١٢ ، ١٣.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص ١١٨.

٣٣٣

فالله سبحان تعالى يرينا البرق الذي يحمل هذين المعنيين ـ الخوف والطمع ـ لتلهج ألسنتنا بذكر الله وتسبيحه وتحميده ، لأن الكون كله يسبح الله من ملائكة ورعد وبرق وشجر وحجر ، لكننا نحن معاشر البشر لا ندرك كنه هذا التسبيح حقيقة ، ويرسل العزيز الجبار الصواعق فيصيب بها من يشاء من عباده ويعذب بها من يريد ، ليعلم الذين غفلوا عن الله أن الله شديد المحال ، شديد البطش والقوة يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء.

ولقد أشار الحق سبحانه وتعالى إلى أن البرق والصواعق التي يرسلها تسبب الهلاك والموت. قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (١).

فالصواعق قاتله ، ومهلكة للممتلكات ومزهقة للأرواح ، ومدمرة لقواعد البشر المعمرية والعملية والبرية والبحرية ... زد على ذلك فإن الشحنات الكهربائية التي تصدر عن البرق ، تؤدّي إلى العمى قال تعالى في ذلك : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ).

إن هذه الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم عن الصواعق والبرق والرعد ، معجزة كشف العلم عنها يوم توفّرت له أجهزة البحث المتطورة ... والآية الكريمة أخذت معنا مبحثا كاملا ، وكنا قد استعرضنا آراء المفسرين واللغويين فيها ، إلا أننا نورد هنا قولا واحدا فيما يتعلق بالبرد والبرق في هذه الآية الكريمة ، يقول ابن كثير : ((وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد ... (يَشاءُ) يحتمل أن يكون المراد بقوله :

(فَيُصِيبُ بِهِ) أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد ، فيكون قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) رحمة لهم (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي يؤخر عنهم الغيث ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله سبحانه : (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بالبرد نقمة على من يشاء ، لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم ويصرفه عمن يشاء أي رحمة بهم ، وقوله سبحانه : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته) (٢).

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٣.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٦ / ٦٦ ، وانظر : التفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة الرابعة ١٩٩٠ ، ٤ / ٣٨٦.

٣٣٤

ولنأخذ مفردتين من الآية ونرى معناهما اللغوي ، برق ، ورعد.

أما البرق ، فهو : (البرق ، واحد بروق السحاب ، والبرق الذي يلمع في الغيم ، وجمعه بروق وبرقت السماء تبرق برقا ، وأبرقت جاءت ببرق ، والبرقة ، المقدار من البرق وقرئ : يكاد سنا برقه فهذا لا محالة جمع برقة ، ومرت بنا الليلة سحابة براقة وبارقة ، أي سحابة ذات برق) (١).

وأما الرعد ، فمعناه : (الصوت الذي يسمع من السحاب ، وأرعد القوم وأبرقوا ، أصابهم رعد وبرق ، ورعدت السماء ترعد وترعد رعدا ورعودا وأرعدت ، صوتت للإمطار) (٢).

ومن الممكن أن نستخلص بعض المعطيات من الآية القرآنية ، ثم سنرى أن ما حددته الآية من حقائق علمية ، جاء العلم ليثبته ويكتشفه في عصرنا.

أولا : تحدد الآية الكريمة وجود البرد في السحب الركامية على وجه الخصوص.

ثانيا : أثبتت الآية أن للبرد برقا ، وأن البرد هو الذي يسبب حصول البرق ، وذلك في قوله سبحان وتعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ، فالضمير في (بَرْقِهِ) يعود إلى أقرب مذكور ، ألا وهو البرد ، والعجب أن جلّ المفسرين رضى الله عنهم ، أرجعوا الضمير إلى السحاب ، وليس إلى أقرب مذكور «البرد».

ثالثا : أشارت الآية الكريمة إلى أن لمعان البرق يؤدي إلى العمى ، (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وهذا ما أكّده العلماء على ما سنرى.

الحقائق العلمية :

تحدّث العلماء وبإسهاب شديد عن البرد والبرق ، وأوضحوا أن السحب الركامية هي وحدها التي يكون فيها البرد ، والذي بسببه يحصل البرق ، ففي «موسوعة المعارف الكونية» : (لقد ثبت علميا أن جميع السحب مشحونة كهربائيا ، وتبلغ الشحنات أقصاها في السحب الركامية العاصفية ... وتبعد الواحدة عن الأخرى من ١ إلى ١٠ كم ، والصاعقة مؤلفة من بروق متعددة ، تم تصويرها بآن واحد تشكل معظمها بين السحب وسطح الأرض ، ولكن يوجد منها ما يتشكل بين السحب نفسها وتسمى هذه بالبروق

__________________

(١) لسان العرب ، لابن منظور ، ١٠ / ١٤.

(٢) المصدر نفسه ، ٣ / ١٧٩ ، وانظر : كتاب العين ، للفراهيدي ، ٢ / ٣٣.

٣٣٥

الخطية والتي يصل فيها طول الخط الواحد بضعة كيلومترات ، وقد تتمحض العاصفة عن عدة آلاف عملية من عمليات التفريغ الكهربي (البرق) وقد يصل طول الشرارة الواحدة ١ ، ٥ كم ، عند ما يتم التفريغ بين السحابة والأرض (صاعقة) ، أما طولها عند ما يحدث التفريغ بين السحب فهو يزيد عن ذلك كثيرا ، وعند ما تكون الصاعقة قريبة منا لا يصعب تمييز تفرغ الشرارات وتعددها في كل اتجاه ، وقد تستغرق الواحدة منها زهاء ثانية كاملة قبل أن يتلاشى وميضها ، وقد يتعذر علينا رؤية الشرارة نفسها حيث تضيء السحب والسماء فجأة بنور ساطع يطلق عليه أحيانا اسم صحائف البرق) (١).

ونفس الحقائق في كتاب «أسرار الأرصاد الجوية» : (العواصف ظواهر عنيفة من حالات الطقس مصحوبة بالبروق والصواعق وسقوط البرد والأمطار الغزيرة ، تنشأ العواصف داخل الكتل السحب الضخمة من نوع الركام ، التي يصل ارتفاعها من ١٠ ـ ١٦ كم ، وتبلغ حرارة قمة الغيمة ـ ٥٠ درجة في أوربا ، و ـ ٧٢ درجة في خط الاستواء ، تحدث داخل الغيمة حركات صعود وهبوط وتتشكل عندها قطرات البرد ، وإن عدم التوازن داخل الغيمة يعود إلى الشحن الكهربائية الموجبة والسالبة ، تكون قمة الغيمة مشحونة إيجابيا ، وقاعدتها مشحونة سلبيا كمدخرة ، وأحيانا يكون شحن الغيمة معكوسا ، وعند ما يحدث خلل في التوازن على السطح الخارجي للغيمة ، أي بين القاعدة المشحونة سلبيا والأرض المشحونة إيجابيا ، أو بين قاعدة الغيمة السالبة والأرض الموجبة ، واعتبارا من اللحظة التي يحصل فيها تصادم مباشر بين منطقتين سالبة وموجبة يحدث التفريغ الكهربائي وينطلق البرق) (٢).

وعند ما يتحدث العلماء عن نشأة الشحنات الكهربائية في الغيوم الرعدية ، فإنهم يجعلونها تعتمد على مفهومين أساسيين ، أولهما : (إن قطرات الماء فوق المبردة أثناء تجمدها ، تأخذ بالتجمد باتجاه الداخل بدءا من سطحها ، وهذا يؤدي إلى إبقاء داخلها (لبها) أدفأ من سطحها ، ويكون داخلها الأدفأ مشحونا بشحنة سالبة ، شواردOH ، في حين يكون سطحها الأبرد موجب الشحنة بسبب هجرة شوارد الهيدروجين H + مع انخفاض تدرج الحرارة.

__________________

(١) المعارف الكونية ، إعداد نخبة من العلماء ، ص : ٣٧٠.

(٢) أسرار الأرصاد الجوية ، موسوعة علمية مبسّطة ، ص : ٥٤.

٣٣٦

ثانيهما : أنه عند ما تتفتت حبات البرد الهشّة أثناء عملية التجمد ، فإن شظايا الجليد الصغيرة الحاملة لشحنات موجبة ، تنطلق مندفعة إلى أعلى حجيرة الحملان مع التيارات الصاعدة ، وهذا ما يفسر كون الجزء الأعلى من الغيمة الرعدية ، الذي درجة حرارته دون ـ ٢٠ درجة ذو شحنة إيجابية ، وبالمثل فإن كريات البرد الأثقل المشحونة سلبيا تسقط باتجاه قاعدة الغيمة لتكسبها شحنتها الكهربائية السالبة وهناك عملية أخرى يمكن بفعلها أن تتولد الشحنات الكهربائية في الغيمة الرعدية ، تقوم على ما ينتج من التصادم الحاصل بين بلورات الجليد الباردة ، وكريات البرد الهش الأحرّ ، إذ ينجم عن التراكم الجاري لقطرات الماء فوق المبرد على كريات البرد ، نشوء سطوح غير منتظمة تتسخن نتيجة انطلاق الحرارة الكامنة في قطرات الماء عند تجمدها ، ويتولد من جراء صدمات بلورات الجليد الباردة لهذه السطوح غير المنتظمة تولد شحنات سالبة تكتسبها تلك السطوح ، بينما تكتسب البلورات الجليدية الأبرد شحنة موجبة ، ومرة أخرى تأخذ تأثيرات ظاهرة الفعل الجاذبي الثقالي دورها في توزع الشحنات الكهربائية في داخل الغيمة) (١).

ونفس المعنى في كتاب «الأرصاد الجوية» : (تتكون العاصفة الرعدية بصفة عامة من برق ورعد ورياح قوية مصحوبة بأمطار غزيرة وبرد وكرات من الثلج ، وتحدث السحب الركام المزني السوداء الضخمة ، وتستمد العاصفة الرعدية الجزء الأكبر من طاقتها من الحرارة الكامنة الناتجة من تكثف بخار الماء في الغلاف الجوي ، والعوامل المساعدة لتكوينها هي :

١ ـ وجود كميات من بخار الماء في الغلاف الجوي.

٢ ـ تكثف بخار الماء وانطلاق الحرارة الكامنة منه.

٣ ـ حالة عدم استقرار في الغلاف الجوي.

٤ ـ وجود تيارات صاعدة قوية) (٢).

__________________

(١) العواصف الرعدية ، علي موسى ، ص ٩٠ ـ ٩١ ، وانظر : الجو وتقلباته ، علي حسن موسى ، دمشق ، دار الفكر ، ١٩٨٨ ، ص ١١٤.

(٢) الأرصاد الجوية ، محمد أحمد النطاح ، ليبيا ، الدار الجماهيرية ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٠ ، ص : ٣٧١.

٣٣٧

الإعجاز :

هذه بعض أقوال علماء المناخ ، ولا داعي لسرد المزيد مما توصل إليه العلماء في هذا المجال من نتائج حول السحب الركامية ، وما تتضمن من برد وبرق ورعد ، ولكن لنتساءل هل كان في عهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجهزة الاستشعار عن بعد حتى قرر هذه الحقائق ، أم هل كان لديه مكوك فضائي وأقمار اصطناعية ليرسل تلامذته إلى الفضاء كي يصور له هذه الحقائق عن السحب وما حوت؟

إن هذا التوافق المدهش بين ما سجلته الآية الكريمة حول السحب الركامية وخصائصها ، وبين ما وصل إليه العلم ليدل دلالة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ، وعلى أن ما جاء به هو من عند الله تعالى ، أفلا ينبغي على رواد العلوم والمعارف أن يحنوا رءوسهم إجلالا لهذه المعجزات القرآنية العظيمة.

إنها ومضات سريعة تعرفنا من خلالها على الرياح وأنواعها والريح وعواقبها ، والسحب وأشكالها وعلى البرق والرعد والصواعق ، فكل هذه من جنود الله العظيم ، لينبه بها عباده ليتقوه ويخافوه.

صورة تظهر الصواعق والبرق والرعد (١)

__________________

(١) أخذت هذه الصورة من كتاب المعارف الكونية ، إعداد مجموعة من العلماء ، ص ٣٧٣.

٣٣٨

الفصل التاسع

الإعجاز القرآني في الجبال

تمهيد.

المبحث الأول : تكوين الجبال.

المبحث الثاني : الجبال تحافظ على توازن الأرض.

المبحث الثالث : الرواسي الشامخات والماء الفرات.

المبحث الرابع : حركة الجبال وتعدد صخورها.

٣٣٩
٣٤٠