الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

ويقال يومها : إن القمر في حالة تقابل مع الشمس ، إذ يكون هو والشمس وبينهما الأرض على استقامة واحدة ، ويدعى القمر عندها بدرا ، وذاك هو رابع منزل من المنازل التي يبلغها القمر بعد مضي ١٤ يوما على بداية الشهر القمري.

الأحدب الثاني :

ويأخذ القمر يوما بعد يوم بالتأخّر في الشروق بمقدار ٥٠ دقيقة وسطيا ، كما يأخذ النور بالانحسار عن الجزء الأيسر منه ، حتى إذا ما انقضت أربعة أيام على الحالة التي كان القمر فيها بدرا ، رسم الخط الفاصل بين القسم المنار منه والقسم المظلم ، خطا منحنيا تحدبه نحو الطرف الأيسر منه ويدعى القمر عندها الأحدب الثاني ، وهو المنزل الخامس من منازل القمر ، كما يلاحظ أنه بدءا من اليوم السادس عشر من الشهر القمري ، يأخذ القمر بالاقتراب من الأفق الجنوبي ، يوما بعد يوم إذ يكون قد انتقل إلى سماء نصف الكرة الجنوبي.

التربيع الثاني :

وعند ما يمضي من الشهر القمري ٢٢ يوما ، نجد أن النور لم يعد يغطي إلا النصف الأيمن فقط من سطح القمر ، وذلك هو المنزل السادس من منازل القمر الذي يدعى التربيع الثاني ، ويلاحظ أن شروقه يومها يتأخر حوالي ٥ ساعات تقريبا بعد غروب الشمس ، كما يرى نهارا وهو يتحرك شيئا فشيئا باتجاه الأفق الغربي ، حيث يقترب منه ظهيرة ذلك اليوم.

الهلال الثاني :

وفي الأيام الثلاثة التي تلي التربيع الثاني ، يلاحظ أن النور لم يعد يغطي إلا قسما صغيرا من طرفه الأيمن ، متخذا شكل هلال يرى في النهار ، ويكون تحدبه مساء عند اقترابه من الأفق الغربي نحو يمين القمر ، وذاك هو المنزل السابع من منازل القمر.

المحاق :

وفي آخر يوم من الشهر القمري ، يكون القمر قد بلغ نقطة الصعود ، وأصبح بين الأرض والشمس على استقامة واحدة ، وقد غمر الظلام كامل وجهه المتجه نحونا ، ويكون قد غاب تحت الأفق مع مغيب الشمس ، فلا يرى ، ويقال لحالته تلك : «حالة الاقتران» أما منزله وهو المنزل الثامن فيدعى المحاق ، إذ يقال للقمر يومها : إنه محاق ، لأنه محق لا تمكن رؤيته.

٣٠١

القمر الرمادي :

في بداية الشهر القمري ، حين يكون الهلال نحيلا ، نجده وقد احتضن القسم المظلم الباقي من القمر والذي يبدو لأعيننا على شكل دائرة سوداء ، ولو نظرنا لتلك الدائرة بالمرقب ، لرأينا غشاء خفيفا من نور رمادي اللون يغطيها ، وما مصدر ذلك النور إلا الأرض التي تعكس نورها نحوه ، مما يجعل ذلك القسم المظلم من القمر يرى بالعين المجردة.

بداية الشهر القمري وأول وجوه منازل القمر :

يبدأ اليوم عند المسلمين من بعد غروب شمس اليوم السابق ، بينما يبدأ اليوم عند بقية الشعوب في منتصف الليلة التي تلي نهار اليوم السابق ، وهذا مما جعل أول وجه من وجوه القمر لدى المسلمين الهلال ، بينما تعتبر بقية شعوب العالم وجه القمر المسمى محاقا ، أول وجوهه أي منازله) (١).

ونحن المسلمين نستخدم في دولنا الإسلامية التقويم الهجري ، والسنة القمرية التي ترتكز أساسا على رصد الأهلة الاثني عشر شهرا ، أي ٣٥٤ يوما ، بينما السنة الميلادية أو الشمسية ترتكز على زمن دورة الأرض حول الشمس والتي تقدر ٣٦٥ ، يوما أرضيا وربع ، وهنا إعجاز قرآني عجيب ، إذ أن كل ٣٠٠ سنة ميلادية يعادلها ٣٠٩ سنة قمرية ، وهذا تحقيق للمعجزة القرآنية في قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (٢).

(ولبثوا في كهفهم ، ولبث الفتية في كهفهم أحياء نائمين ، فمنذ أن أنامهم الله إلى أن أيقظهم ثلاثمائة سنة وتسعا ، وذكر بعض المفسرين أن المدة ثلاثمائة سنة شمسية ، وثلاثمائة وتسع قمرية) (٣).

(تبلغ السنة الشمسية ، وهي التي تسمى الانقلابية ، لأنها عبارة عن مدة تنقضي بين مرورين متتاليين للشمس بنقطة اعتدال واحد ٢١٧ ، ٢٤٢ ، ٣٦٥ يوما شمسيا ، ينتج بمرورها الصيف والخريف والشتاء والربيع ، والسنة القمرية تتكون من

__________________

(١) انظر : القمر ، إبراهيم حلمي غوري ، ص ١٤٨.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٢٥.

(٣) غاية البيان في تفسير القرآن ، حسن علوان وآخرون ، الدوحة ، مطابع قطر الوطنية ، د. ت ، ٣ / ٩٤.

٣٠٢

٠٦٧ ، ٣٦٧ ، ٣٤٥ يوما ، وهي المدة بين كسوفين متواليين مقسومة على عدد حركات القمر الدائرية ، فالفرق بين السنة الشمسية والسنة القمرية أي الهجرية ١٠ ، ١٤٩ ، ٨٧٥ يوما ، وبذلك يكون في كل ٣٣ سنة فرق قدره ٩١٧ ، ٨٧٩ ، ٣٥٨ يوما ، أي ما يقرب من السنة ، وعليه تزيد كل مائة سنة ثلاث سنوات ، وتكون ٣٠٠ سنة شمسية يقابلها ٣٠٩ سنة قمرية ولقد تم أيضا حساب الشهر القمري حديثا فوجد أنه ٥٣٠٥٩ ، ٢٩ وتكون السنة القمرية مساوية ٥٣٠٥٩ ، ٢٩X ١٢ ٣٦ ، ٣٤٥ يوما. وبهذا فإن ٣٠٠ سنة شمسية تقابل ٣٠٩ سنة قمرية (هجرية) وهذه العلاقة الرياضية واضحة في الآية السابقة التي تبين أيضا نسبية الزمن ، سواء قسمناه بالتقويم الشمسي أو القمري) (١).

ومن المعلوم أن العرب يستعملون السنة القمرية لحساب شهورهم وسنواتهم ، ولكن أصحاب الكهف وأهل زمانهم كانوا يستخدمون السنة الشمسية ، فلقد لبث أهل الكهف ٣٠٠ سنة شمسية لأنهم يستخدمون التقويم الشمسي في زمانهم ، (وَازْدَادُوا تِسْعاً) حسب استعمال العرب والمسلمون للسنة القمرية.

الإعجاز :

يتجلّى الإعجاز القرآني في القمر هاهنا ، أن الله عزوجل قد جعل للقمر منازل ينزلها في كل شهر ، وهذا دليل قطعي على دورانه حول الأرض ، وهذا ما اكتشفه العلم وأثبته ، والتعبير القرآني المعجز دقيق : (مَنازِلَ) إذ فيه دلالة قطعية على دوران القمر حول الكرة الأرضية ، تلك الحقيقة التي لم يكن أحد يعرفها إبان نزول القرآن وبعده بقرون.

كما أن الإعجاز القرآني الحسابي الدقيق يتضح في السنة الشمسية والقمرية ، فكل ٣٠٠ سنة شمسية تساوي ٣٠٩ سنة قمرية ، فسبحان الله العظيم.

__________________

(١) من دلائل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية ، موسى الخطيب ، ص : ٢٧٤.

٣٠٣

المبحث الرابع

وجمع الشمس والقمر

قال تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (١).

تتحدث هذه الآية الكريمة عن حدث من الأحداث التي ستتزامن مع قيام الساعة ، وتتساور مع خراب الكون ودماره ، فالشمس والقمر ـ كما تنص الآية القرآنية ـ سوف يجتمعان ، وهذه الصورة القرآنية أسهب علماء الفلك بالحديث عنها ، من أن الشمس سيكبر حجمها وتجتمع مع القمر ، ولا شك أنهم لا يعرفون الآية القرآنية ولم يقرءوها ، بحكم توغّلهم في العلوم المادية التطبيقية وبعدهم عن القرآن ، كما أنهم تحدثوا عن دوران القمر حول الأرض ، وأنه خلال دورانه يبتعد شيئا فشيئا عن الأرض ، ولو بنسبة قليلة إلا أن هذا الابتعاد سيوقعه في جاذبية الشمس ويجتمع معها يوما ما ، وقبل أن نصغي لهذه النتائج العلمية الفلكية ، نسوق بعض أقوال المفسرين في الآية الكريمة.

يقول الإمام الرازي : (قوله : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فيه مسائل : المسألة الأولى ، ذكروا في كيفية الجمع وجوها أحدها : أنه تعالى قال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) (٢) فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه واجتمعا ، وثانيها : جمعا في ذهاب الضوء ، فهو كما يقال مثلا : الشافعي يجمع ما بين كذا وكذا في حكم كذا ، وثالثها : يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار ، وقيل : يجمعان ثم يقذفان في البحر ، فهناك نار الله الكبرى) (٣).

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ٩.

(٢) سورة يس ، الآية : ٤٠.

(٣) التفسير الكبير ، للفخر الرازي ، ٣٠ / ٧٢٥ ، وانظر : تفسير ابن عباس ، إعداد ، عبد العزيز بن عبد الله الحميدي ، مكة المكرمة ، مركز البحث العلمي ، د. ت ، ص ٩٤٩.

٣٠٤

وفي تفسير «غاية البيان» : (وجمع الشمس والقمر ، يخسف القمر ويذهب ضوؤه ، ويصطدم بالشمس لضعف ما كان بينهما من تماسك ، فتكون نهاية العالم) (١).

وفي تفسير «بحر العلوم» : (ويقال : جمع الشمس والقمر ، يعني ، سوى بينهما في ذهاب نورهما ، وإنما قال : وجمع الشمس والقمر ، ولم يقل وجمعت ، لأن المؤنث والمذكر إذا اجتمعا ، فالغلبة للمذكر) (٢).

وقال الإمام القرطبي : (أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما ، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه ... وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما ، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران ، وقال عطاء : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى ، وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب ، وقد يجمعان في نار جهنم ، لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد ، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم ، وقيل : يجمع الشمس والقمر فلا يكون ثمّ تعاقب ليل ولا نهار) (٣).

هذا هو النبأ القرآني حول مصير القمر الذي سيجتمع مع الشمس ، وهذه هي معطيات النصوص القرآنية الكونية ، ولقد توصل علماء الفلك إلى هذه الحقيقة بعد بحث ودراسة مضنيين.

الحقائق العلمية :

ففي كتاب «النهاية» والذي يتحدث عن نهاية الكون والأفلاك ، يشير إلى أن كوكب الشمس سيصبح عملاقا أحمر ويلتقم بعض كواكبه بما فيهم القمر : (... وستبدو الأرض لمن ينظر إليها من خارجها محجوبة بغطاء مثلما يبدو لنا الزهرة الآن ، ويسود منظر السحاب حمرة شديدة حتى تؤدي الحرارة إلى غليان المحيطات تماما ، وتتبخر السحب والجو إلى الفضاء ، ويصبح الكوكب العاري بلا وسيلة دفاع في وجه العملاق الأحمر الذي يملأ كل سماء وقت النهار ، ولا يوجد أي أمل بالنسبة لعطارد والزهرة ،

__________________

(١) غاية البيان ، حسن علون وآخرون ، ٦ / ١١٤ ، وانظر : التفسير المنير ، وهبة الزحيلي ، بيروت ، دار الفكر المعاصر ، الطبعة الأولى ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ ، ٢٩ / ٢٥٤.

(٢) بحر العلوم ، للسمرقندي ، ٣ / ٥٢٠.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١٩ / ٩٥.

٣٠٥

فهذان الكوكبان سيتم التهامهما داخل الشمس المتضخمة ، وإذا ظلت الأرض تقبع في الخارج ، فإنها ستصبح ملفوحة وقفراء ، بلا حياة) (١).

(وهذا الأمر حاصل ، عند ما تتضخم الشمس لتبتلع الكواكب الثلاثة الأولى ، عطارد والزهرة والأرض ومعها القمر ، فهاهنا يجتمع الشمس والقمر ، حين تصير الشمس عملاقا أحمر قبل تكويرها إلى قزم أبيض ، وهذا ما سيحصل لمستقبل النظام الشمسي) (٢).

ونجد نفس الحقيقة في «المعارف الكونية» : (فالشمس سوف تنتفخ عند شيخوختها لتصبح عملاقا أحمر ، أكبر ملايين المرات من الحجم الذي هي عليه الآن ، وبذلك سوف يتحول لونها من الأصفر إلى الأحمر ، أي تقل درجة حرارتها السطحية ٦٠٠٠ إلى ٣٠٠٠ لاتساع مساحة سطحها المنتفخ لتبلع عندئذ الكوكبين القريبين عطارد والزهرة وتلتهمهما التهاما ، ويتحولان بذلك إلى دخان في باطن العملاق ، وتستمر الشمس العملاقة الحمراء في الانتفاخ فتبتلع قمر الأرض ، ثم يصل سطحها بلونه الوردي إلى السحاب فوق رءوسنا ، فيخطف أبصارنا لشدة الالتماع والبرق ، وعندئذ تشتعل البحار والمحيطات على سطح الكرة الأرضية ، لتحلّل مائها في هذه الحرارة المرتفعة إلى أيدروجين يشتعل وأكسجين يساعد على الاشتعال) (٣).

وفي لقاء مع الدكتور زغلول النجار ، سألته عن هذه القضية فأجابني نفس الحقائق العلمية التي أثبتناها هنا ، إلا أنه زاد وأشار إلى لطيفة هامة حول جمع الشمس والقمر فقال : إن القمر خلال دورانه حول الأرض يبتعد عن مساره كل فترة زمنية شيئا من الثانية ، وبمرور السنوات والأحقاب سوف ينفلت من جاذبية الأرض ليقع في جاذبية الشمس وعندها يجمع مع الشمس ، وهذا مصداق لقوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ).

الإعجاز :

سبحان الله العظيم هذا الذي توصل إليه العلماء من حقائق كونية ، وأثبتوا أن القمر سيجمع مع الشمس ، إلا أن كتاب الله قد سبقهم إلى تقرير هذه الحقيقة العلمية العظيمة ، مما يحتم على الناس أجمع أن يعلنوا الخضوع والولاء لهذا الكتاب العظيم.

__________________

(١) عالم المعرفة ، النهاية ، فرانك كلوز ، ص ٢٩٢.

(٢) خلق الكون ، محمد باسل الطائي ، ص ٤٢.

(٣) المعارف الكونية ، مجموعة من العلماء ، ص ٥٧.

٣٠٦

الفصل الثامن

الإعجاز القرآني في الرياح

تمهيد.

المبحث الأول : أنواع الرياح بين القرآن والعلم.

المبحث الثاني : تكوين السحب وأنواعها بين القرآن والعلم.

المبحث الثالث : البرق والبرد بين القرآن والعلم.

٣٠٧
٣٠٨

تمهيد

الرياح هو هواء متحرك ، وفيه الحياة فوق هذه البسيطة ، ولم يستأثره أحد دون الآخر ، وما ملّكها الله سبحانه وتعالى ووكل بها أحدا من الناس ، بل زمام أمورها وتصاريف حركاتها وشئونها بيد الخالق الرحيم جل جلاله.

قال تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١).

وقال سبحانه : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢).

وللرياح وظائف كثيرة ، سخرها الحق سبحانه وتعالى خدمة لمخلوقاته ، فالرياح تنقل الطاقة من المناطق المدارية إلى المناطق القطبية الشحيحة بالطاقة ، كما أن لها دورا فعالا في تكاثف بخار الماء وتكوين السحب والغيوم ...

كما أنها تنقل بعض عناصر الجو من أمكنتها إلى مناطق أخرى ، وتنقل الأوبئة والتلوث الجوي من مكانها إلى مكان آخر ، وتنقل الضباب المتنقل والصقيع ، وغير ذلك من الظواهر الطبيعية التي يعرفها دارسو المناخ والغلاف الجوي.

وسيعرض موجز لأهم أنواع الرياح وأشكالها ، وذلك من منظور القرآن والعلم ، ثم يوقف بعد ذلك على وجوه الرحمة والعظمة في هذا المخلوق العجيب ، لأن الرياح إما أن تكون رياح خير وبشرى ، أو ريح دمار وعذاب ، كما سيركز على السحب وأنواعها وطرق تشكلها ، ويشار إلى وصف القرآن لهذا التشكل ، ثم يثبت ما وصل إليه العلماء

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٦٤.

(٢) سورة الجاثية ، الآية : ٥.

٣٠٩

بأحدث الأجهزة التقنية إلى ذلك ، كما سيعرج للحديث عن البرق والرعد بين العلم والقرآن ، وأهم ما توصل إليه علماء المناخ بشأن البرد وارتباطه بالشحنات الكهربائية ، ودلالة ذلك من كتاب الله تعالى ، ليتضح أن كثيرا من حقائق العلم التي أصبحت اليوم قطعية ثابتة ، قد أشار بل صرح بها كتاب الله تعالى إبان نزوله على قلب الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله سبحانه الموفق.

٣١٠

المبحث الأول

أنواع الرياح بين القرآن والعلم

بادئ ذي بدء يشار إلى أن الرياح وردت في كتاب الله تعالى بمعنى الخير والبشرى ، وذلك عند ما تجمع (رياح) وإذا أفردت (ريح) فإنها تدل على الخراب والدمار والهلاك ، وقد عرفها صاحب «مفردات ألفاظ القرآن» فقال : (الريح معروف ، فهو فيما قيل : الهواء المحرك ، وعامة المواضيع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب ، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع فهو عبارة عن الرحمة ، أمثلة لذلك :

فمن الريح قوله تعالى في شأن عاد : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (١).

وفي الحديث عن غزوة الأحزاب قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) (٢).

وشبه الحق أعمال الكفرة بالرماد التي تشتد به الريح فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (٣).

وكذلك قوله تعالى : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) (٤).

وأورد أمثلة بصيغة الجمع «الرياح» التي يدل على رحمته ، من ذلك قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) (٥).

وقوله سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) (٦).

__________________

(١) سورة القمر ، الآية : ١٩.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٩.

(٣) سورة إبراهيم ، الآية : ١٨.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١١٧.

(٥) سورة الحجر ، الآية : ٢٢.

(٦) سورة الروم ، الآية : ٤٦.

٣١١

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (١).

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (٢).

فالأظهر فيه الرحمة ، وقرئ بلفظ الجمع) (٣).

ويعلّل القرطبي ويعلق على هذه القضية بكلام نفيس رائع فيقول : (فمن وحّد مع الريح فلأنه اسم للجنس ويدل على القليل والكثير ، ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح ، ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن نحو : الرياح مبشرات ، والريح العقيم ، فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة ، مفردة مع العذاب إلا في يونس (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (٤).

وروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا هبت الريح : «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (٥) وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح ، فأفردت مع الفلك في يونس ، لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب) (٦).

وإنها دقة عالية في التعليل لدى القرطبي رحمه‌الله ، فالريح هي التي تحمل الدمار والخراب والشر ولشدة قوتها واتصال أجزائها لا يشعر بها الناس ، حتى إذا ما وصلت إليهم ونسفت قواعدهم ودمرت منازلهم ، تراهم قد أصيبوا بالهلع والذعر وربما الزوال ، أما الرياح فهي النسيم العليل الحافل بالخير والبركة والهدوء والمطر والراحة النفسية والطمأنينة القلبية ، فتبارك الله الذي جعل للهواء جناحين جناح رحمة والآخر عذاب.

__________________

(١) سورة الأعراف ، ٥٧.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٤٨.

(٣) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص : ٣٧٠.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٢٢.

(٥) مسند الشافعي ، ١ / ١٨ ، وأبو يعلى ، رقم : (٢٤٥٦) ، ٤ / ٢٤٣ ، والمعجم الكبير ، سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني ، تحقيق ، حمدي السلفي ، الموصل ، مكتبة العلوم والحكم ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٤ ه‍ / ١٩٨٣ ، رقم : (١١٥٣١) ، ١١ / ٢١٣.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١ / ١٩٨.

٣١٢

بعد هذا الإيضاح والتعريفين الهامين ، نأتي للحديث عن أنواع الرياح بين العلم والقرآن ، وسنتعرض الآن للقسم الأول من الرياح التي بسط الحديث عنها ربنا في كتابه العزيز ، وهي المختصة بالرحمة والخير ، الرياح.

أولا : اللواقح :

قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (١).

تعلق هذه الآية الكريمة إنزال الماء من السماء بتلقيح الرياح للسحب ، وتزويد السحب بقطرات الماء ، وهذه حقيقة مشاهدة أثبتها علماء المناخ وأفاضوا الحديث عنها ، ولكن لنجول في تفاسير العلماء والمعاجم حتى نرى كيف فهموا هذه الآية.

يقول القرطبي : (معنى لواقح ، حوامل لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع ... وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب ، أي تقله وتصرفه ثم تمر به فتستدرّه أي تنزله) (٢).

وقال الزمخشري عن اللواقح : (فيه قولان : أحدهما أن الريح لاقح ، إذا جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير ريح عقيم ، والثاني : أن اللواقح بمعنى الملاقح) (٣).

وقال الطبري : (اختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح ، وإنما هي ملقحة لا لاقحة وذلك أنها تلقح السحاب والشجر ، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح ، كما يقال : ناقة لاقح ، كان بعض نحويي البصرة يقول : قيل : الرياح لواقح ، فجعلها على لاقح ، كأن الرياح لقحت ، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير ، قال : وقال بعضهم : الرياح تلقح السحاب ، فهذا يدلّ على ذلك المعنى لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه ، وكان بعض نحويي الكوفة يقول : في ذلك معنيان أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح ، فيقال : ريح لاقح ، كما يقال : ناقة لاقح ... والصواب من القول في ذلك عندي : أن الرياح لواقح

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٢٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ٥ / ١٥ ، وانظر : تفسير البشائر ، علي الشربجي ، دمشق ، دار البشائر ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ ٢ / ٢٢٤.

(٣) الكشاف ، للزمخشري ، ٢ / ٣٨٩.

٣١٣

كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها ، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار ، فهي لاقحة ملقحة ، ولقحها : حملها الماء ، وإلقاحها السحاب والشجر عملها فيه ، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود) (١).

وذهب طائفة من المفسرين إلى أن المقصود باللواقح هو تلقيح الرياح للشجر ، ومنهم من قرن تلقيح الشجر وتلقيح الرياح للسحب ، وعلى رأسهم ابن كثير إذ يقول : (أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها ، وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الإنتاج) (٢).

ومعنى لواقح في اللغة : (اللقح اسم ما أخذ من الفحال ليدس في الآخر ، وجاءنا زمن اللقاح أي التلقيح ، وقد لقحت النخيل ، ويقال للنخلة الواحدة : لقحت بالتخفيف واستلقحت النخلة ، أي آن لها أن تلقح ، وألقحت الريح السحابة والشجرة ونحو ذلك في كل شيء يحمل ، واللواقح من الرياح التي تحمل الندى ثم تمجه في السحاب فإذا اجتمع في السحاب صار مطرا ، وقيل : إنما هي ملاقح ، فأما قولهم : لواقح فعلى حذف الزائد ، قال الله سبحانه : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ)) (٣).

يمكن لنا أن نستخلص من معطيات الآية القرآنية ما يلي :

أولا : أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرياح وسخرها لمنافع العباد ، وصورة المنفعة في هذه الآية أنها تعمل على التلقيح «لواقح».

ثانيا : والتلقيح يكون للأشجار والسحب معا ، إلا أن الآية هنا تتحدث عن تلقيح الرياح للسحب فقط.

ولقد حمل هذه الآية عدد من المفسرين القدامى والمعاصرين ، وصرفوا وجه الإعجاز فيها على أن المقصود باللواقح تلقيح الزرع والشجر ، والذي يتمعن في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) يجد أنها تستوعب كلا المعنيين ، لكن ما ينبغي أن نغفل الجزء الثاني من الآية ، وهو قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فلو أن ما

__________________

(١) جامع البيان ، للطبري ، ١٤ / ١٤.

(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٣ / ٣٩٦.

(٣) لسان العرب ، لابن منظور ، ٢ / ٥٩٧ ، وانظر : القاموس المحيط ، للفيروزآبادي ، ١ / ٣٠٦.

٣١٤

ذهبوا إليه من أن الرياح تلقح الأشجار فقط ، لاستلزم المعنى واقتضى السياق القرآني أن ينبني عليه إخراج الزرع والثمار بدل إنزال الماء ، أما وأن القرآن قد رتب وأعقب إرسال الرياح اللواقح إنزال الماء من السماء ليسقيه الناس ، فقد تحتّم أن يكون المقصود باللواقح تلقيح الرياح للسحب لإنزال المطر ، ويتضح الربط هذا من الفاء ، التي ربطت بين السبب والمسبب ، وأقامت العلاقة المتينة بين العلة والمعلول ليكون المعنى (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهذا هو وجه الإعجاز القرآني في هذا الصدد وهذا ما أثبته علماء المناخ.

الحقائق العلمية :

جاء في موسوعة «المعارف الكونية» : (لقد اكتشف العلماء حديثا أن الرياح علاوة على حملها لبخار الماء ، فإنها تحمل معها أنوية التكثف على اختلاف أنواعها ، من جسميات صغيرة تنتشر في الهواء بكميات وفيرة أشبه ما تكون بالذرات ، أو حطام المواد الذي نراه يسبح في حزمة من أشعة الشمس ، قوامه جسيمات من التربة وأتربة المصانع ودخان الأفران ... وبطبيعة الحال يزداد تلوث الهواء بمثل هذه الجسيمات داخل المدن ويقل في الأرياف ، وهذه الجسيمات تعمل على تماسك أو تجمع جزيئات الماء العالقة في الهواء مع بعضها البعض لتكون نقط الماء أو بلورات الثلج ، ولهذا تدعى نوى التكاثف (Condensation nuclei) وبهذا فإن قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) يشير إلى فضل الله تعالى على عباده بجعل الرياح تقوم بهذه الوظيفة) (١).

وهذه الحقيقة وردت في كتب علماء المناخ ، ومن هذه الكتب كتاب «الغلاف والطقس والمناخ» ومما جاء فيه : (تكوين أو تشكيل السحب يعتمد على حالة عدم استقرار الغلاف الجوي ، والحركة الراسية كما إنه متحكم بواسطة العمليات على المقياس الصغير وهذه سوف يتم شرحها ...

نواة التكاثف (Condensation nuclei) : إنه من الأهمية بمكان ملاحظة أن التكاثف يحدث بصعوبة قصوى في الهواء الصافي ، والخالي نسبيا من الغبار الذري المتساقط ، هذا فضلا عن أن الرطوبة يجب أن تجد السطح المناسب الذي يمكن أن تتكاثف عليه ، وإذا تدنت درجة حرارة الهواء الصافي إلى أقل من نقطة الندى (point Condensation)

__________________

(١) المعارف الكونية ، إعداد نخبة من العلماء ، ص : ٣٥٨.

٣١٥

تصبح مشبعة بإفراط ، وهذه النوايات يمكن أن تكون ذرات غبار أو دخان أو ملح أو أكسيد الكبريتات ، فتدخل هذه الذرات الغلاف الجوي عن طريق اندفاع فقّاعات الهواء ذرات الملح ، وذرات التربة الناعمة ، وناتج الاحتراق الكيميائي ، فترتفع بواسطة الرياح وتعتبر كلا منها مصدرا هاما للنويات متساويا في المعدل ، وفي المراحل المبكرة تنمو القطيرات الصغيرة بسرعة كبيرة بالمقارنة بالقطيرات الكبيرة ، كما أن بزيادة حجم القطيرات يزداد معدل نموها بواسطة تناقص التكاثف ، ويستمر هذا التدرج في عمليات التكاثف لتشكيل قطرات المطر ، وينمو التساقط في معظم السحب) (١).

ثانيا : المبشرات :

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢).

تصف هذه الآية الكريمة الرياح بأنها بشرى ورحمة ، لأنها تحمل السحاب المثقل بالماء ، والذي يساق بتدبير الحكيم العليم إلى الأرض الميتة لتحيا بعد ذلك ، وتزهو بالخضار وتثقل الأشجار بالثمار وينعم الإنسان بفضل الله ورحمته.

قال القرطبي : ((حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) السحاب يذكّر ويؤنّث ... والمعنى حملت الريح سحابا ثقالا بالماء ، أي أثقلت بحمله ... (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي بالبلد ، وقيل : أنزلنا بالسحاب آلة لإنزال الماء) (٣).

ورياح المبشرات هذه ، تحمل البشرى بالخير والبركة للخلائق ساكني الأرض ، ولها وظائف أخرى سخّرها الله سبحانه وتعالى لمصلحة عباده ، ومن تلك الوظائف ما ذكره

__________________

(١) الغلاف والطقس والمناخ ، بيري شوري ، ترجمة ، عبد القادر علي ، طبع الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ، القاهرة ، ١٩٩٣ ، ص ١٠٨.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٥٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ٤ / ٢٣٠ ، وانظر : حاشية الصاوي على الجلالين ، تحقيق ، علي الصباغ ، بيروت ، دار الجيل ، د. ت ٢ / ٧٤ ، وانظر : تنوير الأذهان من تفسير روح البيان ، اختصار محمد علي الصابوني ، القاهرة ، دار الصابوني ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٨ ، ١ / ٥٤٤.

٣١٦

الحق سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

ولسيد قطب رحمه‌الله ، تعليق جميل على هذه الآية الكريمة نثبته هنا يقول : (تبشر بالمطر ، وهم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة والتجربة ، فيستبشرون بها (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) سواء بدفع الرياح لها ، أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها ، وهي تجري مع هذا بأمر الله ووفق سنته التي فطر عليها الكون ، وحسب تقديره سبحانه ، فقد أودع كل شيء خاصيته ووظيفته وجعل من شأن هذا أن تحف الفلك على سطح الماء فتسير ، وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار أو ضد التيار وكل شيء عنده بمقدار) (٢).

وهذا ما كشفه علماء الطبيعة في الآونة الأخيرة (من خاصية دفع الماء للأجسام إلى أعلى مما يجعلها تطفو جميعا ، أو قد يطفو جزء منها ويغمر باقيها حسب قانون الطفو الفيزيائي (٣) المعروف ، والذي تنسب أبحاثه الأولى إلى عالم الطبيعة المشهور المدعو «أرخميدس» (٤) وقد سميت تلك الظاهرة الكونية ظاهرة دفع الماء الأجسام إلى الأعلى ، الواصفة لبعض خصائص الماء باسمه فقيل غفلة وتجاهلا : دافعة «أرخميدس» ، وأجريت لها حسابات وتطبيقات عملية ، وإنما هي في الواقع سنة من سنن الله الباري سبحانه ، سخر بها البحار والأنهار وما فيها من الماء ، للناس لتجري الفلك والمراكب البحرية بأمره جل ثناؤه ... وإنما كان «لأرخميدس» الفضل حقا في أنه أول من كشف عن هذا القانون العام ، وأماط اللثام عن هذه الحقيقة الكونية القائمة منذ القديم) (٥).

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٤٦.

(٢) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ٥ / ٢٧٧٤ ، وانظر : تفسير الشعراوي ، القاهرة ، أخبار اليوم ، د. ت ، ٧ / ٤١٨٢.

(٣) وهو خاص بالأجسام التي يحملها الماء على متنه.

(٤) أرخميدس ، ٢٨٧ ـ ٢١٢ ق. م ، عالم رياضي يوناني برهن أن كل جسم إذا انغمس في سائل ، يتلقى دفعة عمودية من أسفل إلى أعلى توازي ثقل ما شغل مكانه من السائل. انظر : صانعو التاريخ ، سمير شيخاني ، بيروت ، مؤسسة عز الدين ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٦ ، ١ / ٥٤.

(٥) مشهد الرياح وتصريفها ، عبد الكريم العثمان ، الرياض ، الدار العالمية للكتاب الإسلامي ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٧ ، ص : ٤٧.

٣١٧

من هذا العرض السريع ومن هذه الزاوية ، اتضح معنى الاستبشار بالرياح ، وكيف أنها حفلت بالبشرى للناس وبالأمطار والخواص الأخرى التي ذكرناها.

ثالثا : الذاريات : قال تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)) (١).

لقد أقسم الله سبحانه وتعالى بوصف عمل الرياح الذارية ، وله جل جلاله أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لنا أن نقسم إلا بالله أو صفاته.

يقول الزمخشري : ((وَالذَّارِياتِ) هي الرياح لأنها تذر التراب وغيره ، كما قال الله سبحانه وتعالى : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (٢).

ويقول صاحب «الظلال» : ((وَالذَّارِياتِ) من عملها حمل حبوب اللقاح النباتية من أعضاء التذكير في الأزهار الأسدية أو المآبر ، إلى أعضاء التأنيث في مواقعها المتنوعة ، وهي المدقة أو المتاع الحاوي على البيوض ، وبالتالي تقوم الرياح بعمل التأبير لإخصاب أزهار النباتات ، وإنجاز تكون البذور) (٣).

وفي «لسان العرب» : (ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا وأذرته أطارته وسفته وأذهبته) (٤).

يتّضح مما أسلفنا من أقوال العلماء أن عمل الرياح «الذاريات» متنوع ، فللذاريات وظيفة في حمل التراب والرمال وغيرهما من مكان لآخر ، وحمل غبار الطلع من أعضاء التذكير الزهرية لتلقيح البويضة وذلك في عملية التأبير المعروفة علميا ، وذلك إعجاز علمي حوته كلمة الذاريات لأنها تدل على هذه الوظائف التي سخرها الله لخدمة الناس.

وفي الصحارى يظهر أثر الرياح الذارية في (تشكيل سطح الأرض كعامل إرساب بالصحارى الحارة الجافة ، وذلك لتكوين الكثبان الرملية التي هي عبارة عن تلال رملية

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآيات ١ ـ ٤.

(٢) الكشاف ، للزمخشري ، ٤ / ١٣ ، وانظر : التفسير الوسيط ، وهبة الزحيلي ، بيروت ، دار الفكر المعاصر ، ٢٠٠٠ ، ٣ / ٩٢.

(٣) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ٦ / ٣٣٧٥.

(٤) لسان العرب ، لابن منظور ، ١٤ / ٢٨٢.

٣١٨

حبيباتها مستديرة يتراوح الارتفاع فيها بين بضعة أقدام إلى عشرات الأمتار ... ومن فوائدها أنها تنقل هذه البذور من أماكن إنتاجها إلى مناطق أخرى بعيدة عن الوطن الأم ، مما يوسع انتشارها وينوّع الغطاء النباتي في المنطقة الزراعية ، فإن الرياح التي تذر ذلك الهشيم تنتقل إلى مسافات بعيدة ، وهي تحمل معها تلك الثمار أو البذور ، فإذا هدأت سرعتها وعجزت عن الاستمرار في الإمساك بحمولتها النباتية ، وقعت تلك البذور في تربة جديدة ، فإذا ما استقرت فيها واستوفت حاجتها من الماء والمساحة والضوء وغير ذلك من العوامل اللازمة للإنتاج ، فإنها تنمو دون تنافس وتنوع الغطاء النباتي في الأرض الجديدة ، ولهذا أهميته المعتبرة عند الأخصائي الزراعي) (١).

كما أنها تحمل (بعض النباتات أو أجزاء منها من مكان إلى آخر ، حاملة البذور تنثرها أينما ذهبت ومثل هذه النباتات يقال لها : (tumble weeds) ومن هذه النباتات ، كف مريم وهو نبات صحراوي يحمل أفرعا تحمل الثمار ، وفي الجو الجاف تنحني الأفرع نحو الداخل ويتكور النبات كالكرة ، التي تحملها الرياح إلى مسافات بعيدة ، وإذا ما وصلت الكرة إلى منطقة رطبة تستقيم الأفرع وفي نفس الوقت تتفتح الثمار وتنتشر البذور) (٢).

وإلى هذا المعنى أشار الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (٣).

الإعجاز :

لقد قرر القرآن الكريم أن الرياح من أبرز مهماتها أنها تلقح السحب ، وتثير الغيوم لتنزل الأمطار وتنهمر المياه ، ولم يكن أحد من الناس يعرف هذه الحقيقة قبل عصرنا هذا ، عصر الكشوفات العلمية وما ذكره المفسرون من تلقيح الرياح للسحب ، ليس بسبب تقنية علمية اعتمدوا عليها ، إنما هو استمداد من كلام الله المعجز ، الذي آمنوا بما جاء فيه ، والذي تتجدد حقائقه على مرّ الأيام وكرّ العصور ، والذي يسجل الحقائق العلمية ، ثم يكتشفها الناس لتكون لهم آية ومعجزة.

__________________

(١) مشهد الرياح وتصريفها ، عبد الكريم بن حسن العثمان ، ص : ١١٦ ، وما بعدها.

(٢) النباتات الزهرية ، شكري إبراهيم سعد ، ص : ١٧٠.

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٤٥.

٣١٩

المبحث الثاني

تكوين السحب وأنواعها بين القرآن والعلم

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) (١).

وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٢).

تعرض هاتان الآيتان الكريمتان التسلسل الواضح في عملية تكوين السحاب وإثارته ، ثم تصاعده عن طريق الهواء المتحرك (الرِّياحِ) إلى السماء ، ثم نشره في جو المعمورة ، حسب تقدير العليم الخبير جل جلاله ومن ثم توزيعه على خلقه ليستبشروا بنعمته تعالى ورحمته ، كما أنها تشير إلى نوع من أنواع السحب ، ألا وهو السحب البساطية ، وبنظرة في تفاسير العلماء يزداد الأمر وضوحا وجلاء.

يقول الإمام الرازي : (بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة ، أما القدرة فظاهرة ، فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر ، وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار ، وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب ، ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلا ومنه ما يكون منقطعا ، ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة ، وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة ، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة) (٣).

وفي تفسير «بحر العلوم» : (قال الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) يعني

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٥٧.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٤٨.

(٣) التفسير الكبير ، للرازي ، ٢٥ / ١١١.

٣٢٠