الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

وأما قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) ، ففي هاتين الآيتين برهان قوي على دوران الأرض حول نفسها ذلك لأن (الأرض لو كانت غير متحركة لسكن الظل ولم يتغير طولا أو قصرا ، وهذا الدوران رحمة من عند الله ولولاه لظلت الشمس مسلطة على نصف الأرض ، بينما يظل النصف الآخر ليلا دائما مما يؤدي إلى هلاك البشر من شدة الحر أو البرد ، كما تشير الآية إلى دور ضوء الشمس كمؤشر للظل نظرا لاختلاف نفاذية الضوء خلال الأوساط المادية المختلفة ، ولاختلاف الموقع الظاهري للشمس خلال النهار ، بسبب دوران الأرض حول نفسها بمعدل يؤدي إلى نسخ الظل تدريجيا ، بمقدار متناسب مع مرور الزمن وليس دفعة واحدة ، وهذا هو المقصود بقوله تعالى : (قَبْضاً يَسِيراً) وبهذا يتّضح كيفية مد الظل وارتباطه بدوران الأرض ، ولو شاء الله لجعل الظل ساكنا بإيقاف دوران الأرض حول نفسها أو بجعلها تدور حول محورها بنفس معدل دورانها حول الشمس ، أي يجعل اليوم يساوي سنة أرضية ، وهذه أمور لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى) (١).

الحقائق العلمية :

أفاضت كتب الفلك وكتب وموسوعات الجغرافيا ، الحديث عن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس ، وأسهبوا عما تنتجه هذه الدورات من تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة وغير ذلك ، وسنقف عند بعض ما قاله العلماء المختصون في هذا الشأن.

(الفصول الأربعة سخّرت من حركة الأرض أمام الشمس مع ميل المحور لمنفعة الإنسان حتى يتمكن من القيام بمهمة الخلافة في الأرض ، فالأرض تقطع أثناء دورتها حول الشمس مرة كل سنة «٣٦٥ يوما» مسافة ٩٦٠٠ مليون ك. م ، وهذه الحركة هي السبب في حدوث ظاهرة الفصول الأربعة ويلاحظ أن هذا المدار بيضوي الشكل وبذلك يتغير متوسط بعد الأرض عن الشمس البالغ ٦ ، ١٤٦ مليون ك. م بمقدار ٠٠٠ ، ٩٩١ ، ٤ ك. م على مدار السنة ، ومعنى هذا تغير في زاوية سقوط الأشعة الشمسية على مناطق الأرض بعدا مختلفا منها على مدار السنة ، حين سلكوها هذا المدار البيضوي الشكل حول الشمس ، وهذا هو سبب حدوث الفصول الأربعة) (٢).

__________________

(١) الكون والإعجاز العلمي للقرآن ، منصور حسب النبي ، ص ١٥٤.

(٢) المنهج الإيماني للدراسات الكونية ، عبد العليم خضر ، ص ٢٩١.

٢٦١

وهناك نوعان من الحركات للأرض (حركة ظاهرية وحركة حقيقية ، الحركة الحقيقية هي مدار الأجرام في أفلاكها في دورات موقوتة منتظمة ، والحركة الظاهرية ما نشاهده من حركات نسبية بين الأجرام على القبة السماوية بالنسبة لبعضها البعض ، والدورة اليومية المحورية ، حيث تدور الأرض حول محورها دورة واحدة خلال فترة زمنية قدرها ٢٣ ساعة و ٥٦ دقيقة ، و ٤ ثوان أمام النجم البعيد وينتج عن هذه الدورة ما يسمى باليوم النجمي ، بينما تتم الأرض دورتها حول الشمس خلال ٢٤ ساعة ، وهو ما يسمى باليوم الشمسي ، ومن أهم نتائج الدورة المحورية لكوكب الأرض تعاقب الليل والنهار ، وأما الدورة الانتقالية ، فتدور الأرض حول الشمس بمدار إهليلجي ، تحتل الشمس إحدى بؤرتيه بسرعة مدارية قدرها ٧٩ ، ٢٩ كم / ث ، ويميل محور الأرض على مستوى دورانها حول الشمس بزاوية ثابتة مقدارها ٤ ـ ٢٣ ، وتتم الأرض دورتها خلال فترة زمنية قدّرها العلماء ٣٦٥ يوما و ٦ ساعات و ٩ دقائق و ٤٥ ، ٩ ثانية ، وينتج عن هذه الدورة تعاقب الفصول الأربعة ، حيث يبقى محورها متجها نحو النجم القطبي خلال تلك الدورة) (١).

وفي كتاب «العالم الذي نقطنه» : (الأرض وحدها هي التي تتم دورة كاملة على ذاتها بيوم واحد فتكشف عن القبة السماوية قليلا فقليلا ، وتمر أمام الشمس التي تنيرنا ومن ثم تعيدنا إلى الليل وعند ما تغمر الشمس السماء بنيرانها طيلة النهار ، فإنها تحجب عنا رؤية النجوم التي تكمل مع ذلك دورتها) (٢).

وفي «موسوعة الجيولوجيا» تعرف الأرض بأنها دائمة الحركة : (الأرض هي عبارة عن كوكب دائم الحركة ، فلو استطعنا أن نعود مليون سنة إلى الوراء أو أكثر ، لوجدنا أن سطح الأرض مختلف تماما عما هو عليه اليوم ، ولوجدنا أنه كان للقارات أشكال مختلفة أو أنها تقع في مواقع مختلفة عما هي عليه الآن) (٣).

ويقول مجموعة من البحاث في علم (الجيولوجيا) : (يولد دوران الأرض على

__________________

(١) آفاق فلكية ، فوزية الرويح ، ٧٥.

(٢) العالم الذي نقطنه ، رينيه غوير ، ترجمة ، خليل الفريجات ، دمشق ، منشورات وزارة الثقافة ، ١٩٨١ ، ص : ١٦.

(٣) الأرض ، مقدمة للجيولوجيا الطبيعية ، تاربون لوتجنز ، ترجمة ، عمر سليمان حمودة وآخرون ، مطبعة مالطا ، مالطا ، ١٩٨٤ ، ص : ٣٧.

٢٦٢

محورها قوة مركزية طاردة هي عند خط الاستواء أقوى منها في أي مكان آخر ، فيسبب ذلك انتفاخا بسيطا عند خط الاستواء ، وتسطح عند القطبين وهذا ما يجعل قطر الأرض عند خط الاستواء أطول مما هو عليه بين القطبين) (١).

وتجدر الإشارة إلى أن كلا من «كوبرنيكوس» (٢) ، و «جوهانس كيبلر» (٣) ، و «جاليليو جاليلي» (٤) كان لهم الفضل في التحقق من دوران الأرض بشكل علمي.

الإعجاز :

سبحان الذي خلق فسوّى وقدر فهدى ، إنها آيات الله الناطقة بالحقائق العلمية الناصعة ، فكروية الأرض ودورانها وحركتها ، حقائق قرآنية أثبتها القرآن قبل دهر سحيق مضى ، وفي هذا الزمان كشف عنها الإنسان الضعيف ، فقررها «كيبلر» في قانونه الأول الذي يتحدث فيه عن دوران الكواكب والأرض حول الشمس ، و «نيوتن» في حديثه عن قانون الجاذبية ، ومن بعدهما أثبتوا ذلك كذلك ، قوانينهم هذه كلها ما هي إلا توضيح وتفسير لبعض الآيات القرآنية.

__________________

(١) بهجة المعرفة ، موسوعة علمية مصورة ، الأرض ، ليبيا ، الشركة العامة للنشر ، ١٩٨٣ ، ص : ٥١.

(٢) كوبر نيكوس ، ١٤٧٣ ـ ١٥٤٣ ، فلكي بولندي من أصل ألماني ، درس الطب واللاهوت والرياضيات ، وضع مبادئ النظام الشمسي ودوران الأرض حول الشمس ، كما قال ببعد النجوم عن أرضنا بعدا سحيقا ، فساهمت نظريته في شرح كيفية تعاقب الفصول وبيان أزمنة الاعتدال الشمسي. انظر : موسوعة الكون والفضاء والأرض ، موريس شربل ورشيد فرحات ، ص : ١٠٨.

(٣) جوهانس كيبلر ١٥٧١ ـ ١٦٣٠ ، عالم ومكتشف ألماني ، اهتم بعلم الفلك وعلم البصريات الهندسي ، وقد وضع القانون المعروف باسمه ، والذي يتناول حركة الكواكب حول الشمس.

المصدر نفسه ، ص : ١٠٨.

(٤) جاليليو جاليلي ١٥٦٤ ـ ١٦٤٢ ، عالم إيطالي من فلورنسا ، درس في جامعة بيزا ، أيد نظرية كوبر نيكوس القائلة بدوران الأرض حول الشمس ، مما جعله في حرم كنسي أظلم حياته ، لكن إنجازاته في المنفى حول دراسة الآليات والقوى المتحركة ، وتطبيقه التحليل الرياضي على المعضلات الطبيعية كانت استكمالا للثورة التي بدأت مع كوبر نيكوس. المصدر نفسه ، ص : ١٠٨.

٢٦٣

المبحث الثالث

جاذبية الأرض

قال تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) (١).

وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) (٢).

وقال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧)) (٣).

يبرز الله سبحانه تعالى في هذه الآيات طرفا من الآلاء والنعم التي قد أرفدها علينا ونعمنا بها ، ومن بين هذه النعم التي يشير إليها القرآن الكريم نعمة الجاذبية ، الجاذبية الأرضية التي من شأنها أن تقر الأشياء على الأرض ، ويكون هذا الاستقرار مناسبا ومنسجما مع حجم هذه الأجسام التي تقلها الأرض ، وبذلك تتحقق الحياة عليها ، وتثبت توابعها وتكون ملازمة لها دائما في دورانها حول نفسها وحول أمّها الشمس.

فقانون الجاذبية قانون عام شامل يعمل في الكون كله ، حيث إن الكائنات كلها تتجاذب وإن لم نر نحن القوة الرابطة بين المتجاذبين ، إلا أننا تعرفنا عليها من نتيجة أثر الجسم الكبير في الصغير ، ورأينا فيما مضى كيف أن الشمس تجذب منظومتها كلها ، والأرض كذلك تجذب كل من عليها بما في ذلك القمر ، والغلاف الجوي خاضع لقانون الجاذبية ولو لا الجاذبية لفرّ ولتلاشت الأحياء ، وهكذا فإن هذا القانون عام وشامل ، وسيحدثنا عنه العلماء وعن هذه القضايا التي أومأنا إليها ، غير أن هذا القانون

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٦١.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٦٤.

(٣) سورة المرسلات ، الآيات ٢٥ ـ ٢٧.

٢٦٤

الذي اكتشفه «نيوتن» (١) وأماط اللثام عنه ، قد قرره الحق تبارك وتعالى في كثير من آيات القرآن المجيد ، ولسوف نقف الآن عند ما قاله المفسرون واللغويون حول هذه النصوص القرآنية.

يقول ابن كثير : (يقول تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم ، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة ، بل جعلها من فضله ورحمته مهادا بساطا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك) (٢).

وعند الطبري يقول رحمه‌الله : (الله الذي له الألوهية خالصة أيها الناس ، الّذي جعل لكم الأرض التي أنتم على ظهرها سكان قرارا تستقرون عليها ، وتسكنون فوقها ، والسّماء بناء ، بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم ، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم) (٣).

وفي «التفسير الكبير» يقول الرازي : (كونها قرارا وذلك لوجوه ، الأول : أنه دحاها وسواها للاستقرار ، الثاني : أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة ، فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه ، وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه ، الثالث : أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور ، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها ، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات ، الرابع : أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل ، بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ، ولو لا ذلك لما اختلفت الفصول ، ولما حصلت المنافع) (٤).

__________________

(١) إسحاق نيوتن ، ١٦٤٢ ـ ١٧٢٧ ، فلكي بريطاني ، اكتشف قانون الجاذبية ووضع لها ثلاثة قوانين ، كان لها أثر كبير في دراسة علم الفلك ، والتنبيه إلى اهتزاز حركة الكواكب وعدم انتظامها ، كما اكتشف طريقة الحصول على طبيعة الأجسام المضيئة عن طريق تحليل الضوء إلى طيف بواسطة الموشور الزجاجي. انظر : الأطلس الفلكي ، محمد عصام الميداني ، ص ٨٧ ، وانظر : الأوائل ، علي جمعة الخويلد ، بيروت ، الدار العربية للعلوم ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٨ ، ص ١٣٨.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٦ / ١٨٣.

(٣) جامع البيان ، للطبري ، ٢٤ / ٥٢.

(٤) التفسير الكبير ، للفخر الرازي ، ٢٤ / ٥٦٦.

٢٦٥

وفي «روح المعاني» : (أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب ، بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم ، فقرارا بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة) (١).

وأما قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) ، (فالكفات اسم جنس أو اسم آلة ، لما يكفت أي يضم ويجمع ، من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع) (٢).

(وإنما معنى الكلام ، ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم ، تكفت أحياءكم في المساكن والمنازل ، فتضمهم فيها وتجمعهم ، وأمواتكم في بطونها في القبور ، فيدفنون فيها ، وجائز أن يكون عني بقوله : (كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) تكفت أذاهم في حال حياتهم ، وجيفهم بعد مماتهم) (٣).

ولو رجعنا إلى معنى : (قَراراً) في اللغة لوجدناها تعطينا معنى الثبات والاستقرار ، يقول ابن منظور : (قرارا ، بطون الأرض قرارها ، لأن الماء يستقر فيها ، ويقال : القرار ، مستقر الماء في الروضة وقراره ومستقرّه ، تناهى وثبت) (٤).

ونجد في «مفردات ألفاظ القرآن» : (قرّ في مكانه يقرّ قرارا ، إذا ثبت ثبوتا جامدا ، وأصله من القرّ ... قال تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) (٥).

وأما معنى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) ، (فالكفات ، الموضع الذي يضمّ فيه الشيء ويقبض ، والكفت ، القبض والجمع) (٦).

(أي تجمع الناس أحياءهم وأمواتهم ، وقيل : معناه تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوانات والنبات ، والأموات التي هي الجمادات من الأرض والماء وغير ذلك) (٧).

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٠ / ١٦ ، وانظر : التفسير الواضح ، محمد محمود حجازي ، القاهرة ، مطبعة الاستقلال ، الطبعة السادسة ١٩٦٩ ، ٢٩ / ٨٠٣.

(٢) المصدر نفسه ، ٢٥ / ٢٨.

(٣) جامع البيان ، للطبري ، ٢٩ / ٢٢٥.

(٤) لسان العرب ، ابن منظور ، ١١ / ١٢٤.

(٥) مفردات ألفاظ القرآن ، الراغب الأصفهاني ، ص ٦٦٢.

(٦) لسان العرب ، ابن منظور ، ١٢ / ١١٧.

(٧) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص ٧١٤.

٢٦٦

إذن ، يتضح من معطيات ما سبق أن (قَراراً) و (كِفاتاً) كلمتان تدلان على الضمّ والجمع وهذا هو المعنى العلمي الدقيق للجاذبية ، إذ الجاذبية من شأنها أن تضم وتجمع إليها ما أحاط بها من أجسام ...

فأيّ تعبير أدق من تعبير القرآن الكريم ، وهو يصف حال الكرة الأرضية وهي تسير في فلكها الذي رسم لها من قبل الخالق العظيم ، وفي آن واحد تضم المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى عليها ضمّا قد حشي بالرحمة والحنان والعطف ، وكأنها أمّ رءوم بأبنائها ، فلا تؤذيهم حال دورانها حول نفسها والشمس ، ولا تقذف بهم في دوّامة التيه والفوضى ، بل إنها تقلّهم بين حناياها وتكفتهم بذراعيها بعامل الجاذبية الذي أشار الله إليه بقوله : (قَراراً) و (كِفاتاً).

فما أرحمك يا خالقنا وما أعظم لطفك وحنانك بنا ، فالأرض تدور وتجري بسرعة كبيرة ونحن نعيش بين تضاعيفها وننعم بأرزاقها وظلالها الوارف ، ولا يصيبنا أيّ أذىً ولا نشعر بأيّ خوف أو قلق ، فسبحان الذي خلق كلّ شيء بقدر ، ثم إن قوة الجاذبية لا تقتصر على كوكب الأرض وما حوى ، بل إنها تلف الأجرام وحتى المجرات السماوية بأسرها ، ذلك أن الجزر النجمية الضخمة العظيمة في الكون ، مهما كانت متباعدة إلا أنها متماسكة فيما بينها بسبب قوة الجاذبية التي تربط أجرامها ببعض ، وتمنعها من التفكك والتناثر ، كما مرّ فيما مضى ، وكيف أن قوة الجاذبية على عظمها لا يمكن أن ترى أبدا ، ولقد أشار ربنا سبحانه وتعالى إلى الجاذبية الكونية ، وأن السماء مبنية بناء دقيقا ومتماسكا على أعمدة غير مرئية ، ولنتأمل في هذا قول الله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١) ، كما أن الحق عزوجل أمرنا أن نجيل النظر في السماء ، لنرى كيف بنيت وكيف رفعت ، وفي هذا يقول ربنا جل جلاله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٢) وقوله سبحانه : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (٣) ، وقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤).

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية : ١٠.

(٢) سورة ق ، الآية : ٦.

(٣) سورة الغاشية ، الآية : ١٨.

(٤) سورة الحج ، الآية : ٦٥.

٢٦٧

هذه الآيات تشير بكل وضوح إلى أن هناك أعمدة منتشرة في السماء ، وأن السماء بنيت عليها إلا أن هذه الأعمدة لا ترى ، وهذه الأعمدة هي قوة الجاذبية التي لا تخضع للرؤية كما سنرى بعد قليل من أقوال العلماء.

يقول القرطبي : (لها عمد ولكنا لا نراه ، قال ابن عباس : لها عمد على جبل قاف ويمكن أن يقال على هذا القول : العمد قدرته التي يمسك بها السموات والأرض وهي غير مرثية لنا) (١).

وفي «التفسير الشامل» : (خلق السموات العلى على غاية ما يكون عليه الاتساع والامتداد والفخامة ، وعلى أكمل ما يكون عليه الاتساق والتوازن والانتظام ، خلائق كبيرة وكثيرة ، وأجرام هائلة مبثوثة في أجواء الفضاء ، يضمها نظام دقيق ومنضبط لا يعرف الخلل أو العشوائية أو الفوضى تلك هي السموات الشامخات الكبريات ، قد رفع الله بناءها ، وجعلها منسجمة رفيعة لا تستند إلى ما يمسكهن من الأعمدة المنظورة ، ولكن الله قدر لها من النظام الكوني الوثيق ما يكفل لها تمام الدوران والحركة والاستمرار) (٢).

الحقائق العلمية :

حقيقة الجاذبية التي قررها القرآن ، وأنزل الآيات التي تتحدث عنها على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كشف عنها روّاد العلم بعد عصور طويلة فحدثونا عنها ، ويرجع الفضل في اكتشاف قانون الجاذبية إلى (إسحاق نيوتن) ، والذي يعرف الجاذبية فيقول : (إن جميع الأجسام والأجرام في هذا الكون تجذب بعضها البعض ، بقوة يتوقف مقدارها على كمية الكتلتين المتجاذبتين ، وعلى بعد المسافة بينهما وتزداد القوة ، أي تتناسب طرديا مع مقدار حاصل ضرب الكتلتين ، وتقل ، أي تتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينهما ، ويمكن أن نقول ببساطة : إن القوة تزداد مع مقدار الكتلتين وتقل كلما بعد المسافة بينهما ، والقانون أو الناموس الحاكم في حالة التفاحة والأرض هو :

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ٩ / ٢١٨ ، وانظر : زاد المسير ، لابن الجوزي ، ٤ / ٣٠٢ ، وانظر : معالم التنزيل ، للبغوي ، ٣ / ٦ وانظر : حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير الإمام البيضاوي ، تحقيق ، محمد شاهين ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٩ ، ٥ / ٩٠.

(٢) التفسير الشامل ، أمير عبد العزيز ، القاهرة ، دار السلام ، الطبعة الأولى ، ١٤٢٠ ه‍ / ٢٠٠٠ ، ٣ / ١٧٧٨.

٢٦٨

قوة الجاذبية الأرضية ثابت x كتلة الأرض x كتلة التفاحة / مربع المسافة

والثابت هو : ثابت الجذب الكوني ، وأما المسافة ، فهي المسافة بين مركز أو وسط التفاحة ومركز الأرض ، ويسري القانون على جميع الكائنات والأشياء فوق الأرض ، بل على جميع الأجرام الكونية فهناك قوة جذب بين الشمس والتسعة كواكب السيارة التي تدور حولها بما في ذلك كوكب الأرض والكواكب تجذب بعضها البعض ، والأرض والقمر يتجاذبان) (١).

وفي موسوعة «بهجة المعرفة» : (الجاذبية هي التجاذب بين جسمين ، وتتوقف قوتها على كتلتي الجسمين وعلى المسافة بينهما ، تتوقف إذن قوة مجال الجاذبية الأرضية على كتلة الأرض ، الجاذبية سبب جميع عوامل التعرية الرئيسية تقريبا ، فالمطر المتساقط تحت تأثير الجاذبية وكذلك التيارات والأنهار) (٢).

والجاذبية العامة (قانون كوني موجود في طبيعة الأشياء كلها ، ويعمل في صمت في الأرض والسماء ، ولقد كان «لنيوتن» الفضل في اكتشاف قانون الجاذبية ولقد قال «نيوتن» نفسه : إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس ، وهي تشد ، أي تجذب مادة أخرى دون أي رباط بينها وتعمل الجاذبية في كل الأشياء كبيرها وصغيرها ، فالكل يتجاذب وإن لم يظهر إلّا أثر الكبير في الصغير ، فالشمس تجذب الأرض ، والأرض تجذب القمر ، بل وتجذب كل شيء قريب منها بقوة نشعر بها جميعا وأنت نفسك سجين الجاذبية ، لأنك لا تستطيع أن ترتفع عن الأرض لأنها تجذبك إليها وأنت أيضا تجذب الأرض لك ، ولكن شتان ما بين كتلتك وكتلة الأرض ، ورغم هذا الجذب فإنك تستطيع التحرك على الأرض نظرا لضئلة قوة الجذب بينك وبين الأرض ... والطائر عند ما يموت يقع على الأرض ، ورفع الحجر عن الأرض يتطلب مجهودا والصعود على الجبل أشق من النزول منه بسبب الجاذبية ، ومن فضل الله علينا أن الجاذبية الأرضية قد احتفظت لنا بغلاف جوي يحيط بأرضنا ولو لا هذه الجاذبية لهرب الهواء وانعدمت الحياة على كوكبنا) (٣).

__________________

(١) المجموعة الشمسية ومجال الجاذبية الكونية ، أمين محمد كعورة ، ص ١٥ ـ ١٦.

(٢) بهجة المعرفة ، الأرض ، ص ٥٠ ، وانظر : دائرة معارف القرن الواحد والعشرين ، القوى الفيزيائية ، بيروت ، دار الكتاب اللبناني ، د. ت ٣ / ٢٤.

(٣) الكون والإعجاز العلمي في القرآن ، منصور حسب النبي ، ص ٦١.

٢٦٩

إذا يمكن القول : إن جاذبية الأرض هي التي (تقدم لنا نقط الاستهداء فيما نقوم به من أعمال المساحة والهندسة ، فإذا ربطنا جسما ثقيل الوزن بسلك ليّن تحمله نقطة ثابتة ، نجد أن ليونة السلك تدفع به في اتجاه الخط الذي يتبعه الجسم مدفوعا إليه نحو الأرض بقوة الجاذبية ، وهو ما يستعمله البنّاءون للتأكد من استقامة البناء ، ويسمى الفادم ، كما أنه يجسد خطوط جاذبية الأرض ، وهذه الجاذبية التي تدفع الأجسام للسقوط نحو سطح الأرض ، ليست قوة خاصة بل هي حالة خاصة من حالات الجاذبية العامة ، والجاذبية التي يمارسها جسمان تخضع لمبدأ الجاذبية المعروف وهو : أن الأجسام تتجاذب بالنسبة إلى مقدار مادة كل منها ، وبمقدار معاكس لمربع أبعادها ، ولما كان كوكب الأرض كروي الشكل تقريبا ، وهو خاضع لقانون الجاذبية ، وتفوق مواده مواد الأجسام المحيطة به ، فإن الجسم الذي يخضع لجاذبية الأرض يندفع نحو سطحها باتجاه مركزها الوسطي ، وهو ما يمكن مشاهدته في كل حين تأكيدا لصحة مبدأ الجاذبية المذكورة آنفا المسيطر على تحركات الفضاء) (١).

الإعجاز :

رأينا كيف أن قانون الجاذبية يشمل الكون بأسره ، ويعمل بخفاء ولطف لتعود منافعه على الخلائق كلها ، فسبحان الذي بحكمته رتب قوانين الحياة على هذا النسق ، ويسرها كلها للإنسان وسجلها آيات معجزة في قرآنه ببيان واضح قبل أن يكتشفها العلماء ، ليظل الإنسان شاكرا ومعترفا بفضل ذي الجلال والإنعام.

__________________

(١) الأرض في رحاب الكون ، يمنى زهار ، بيروت ، دار الآفاق ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٩ ه‍ / ١٩٨٨ ، ص ٦٢.

٢٧٠

المبحث الرابع

الغلاف الجوي ومنافذه للأرض

قال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (١).

وقال سبحانه وتعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)) (٢).

في الآية الأولى وصف الحق تبارك وتعالى السماء بأنها بمثابة السقف للأرض ، وتتجلّى قمة البلاغة القرآنية ، والإعجاز العلمي عند ما زاد هذا الوصف للسقف بأنه محفوظ ، وهذا هو شأن الغلاف الجوي للأرض (atmosphere) فلقد جعله الله سقفا محيطا وحاميا للأرض من كل أسباب الهلاك والخراب كما سيأتي ، وفي الآية الثانية إعجاز علمي رائع ، حيث أوضح ربنا أن للسماء أبوابا ومنافذ يمكن أن ينفذ من خلالها البشر ، والطريق إليها ليس مستقيما إنما فيه انحناءات وتعرجات للخروج من إطار الأرض وجاذبيتها ، وهناك تختل موازين الرؤيا البصرية ... ولنبدأ مع المفسرين لنرى فهمهم لهاتين الآيتين.

ففي «أنوار التنزيل» : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن الوقوع بقدرته أو الفساد والإخلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته ، أو استراق السمع بالشهب ، (وَهُمْ عَنْ آياتِها) عن أحوالها الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهي حكمته ، التي يحس ببعضها ويبحث عن بعضها في علمي الطبيعة والهيئة (مُعْرِضُونَ) غير متفكرين) (٣).

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة الحجر ، الآيتان ١٤ ـ ١٥.

(٣) أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٤ / ٩٠ ، وانظر : فتح البيان في مقاصد القرآن ، صديق بن حسن القنوجي ، صيدا ، المكتبة العصرية ١٩٩٢ ، ٨ / ٣٢٣.

٢٧١

وعند القرطبي : (قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض) (١).

وعند الطبري : (أي ، سقفا مرفوعا ، وموجا مكفوفا) (٢).

ويقول الرازي : (فيها مسألتان ، المسألة الأولى : سمى السماء سقفا لأنها للأرض كالسقف للبيت ، المسألة الثانية : في المحفوظ قولان ، أحدهما ، أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف) (٣).

وأما بالنسبة للآية الثانية ، ففي «إرشاد العقل السليم» : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المقترحين المعاندين (باباً مِنَ السَّماءِ) أي بابا ما ، لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل ، ويسرنا لهم الرّقيّ والصعود إليه (فَظَلُّوا فِيهِ) في ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) بآلة أو بغيرها ، ويرون ما فيها من العجائب عيانا كما يفيده الظلول ، أو فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونه عيانا مستوضحين طول نهارهم (لَقالُوا) لفرط عنادهم وغلوّهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي سدّت من الإحساس من السكر ، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة) (٤).

وفي «بحر العلوم» : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي فصاروا يصعدون فيه وينزلون ، يعني : الملائكة ، ويراهم المشركون ، وهم أهل مكة (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) يقول : أخذت وغشيت أبصارنا (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أي ، ولقالوا : سحرنا فلا نبصر ، و (سُكِّرَتْ) بالتشديد أي ، غشّيت ، ومنه يقال : سكّر النهر إذا سدّ ، ومنه يقال : سكر الشراب وهو الغطاء على العقل ، ومن قرأ (سُكِّرَتْ) بالتخفيف يعنى ، سحرت يعني ، إنهم لا يعتبرون به كما لم يعتبروا بانشقاق القمر حين رأوه معاينة) (٥).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١١ / ٢٨٢.

(٢) جامع البيان ، للطبري ، ١٧ / ١٦.

(٣) التفسير الكبير ، للرازي ، ٢٢ / ١٤٢.

(٤) إرشاد العقل السليم ، لأبي السعود ، ٣ / ٦٥ ، وانظر : تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٤ / ٤٥٣.

(٥) بحر العلوم ، للسمرقندي ، ٢ / ٢٦١ ، وانظر : تفسير القرآن ، لعز الدين بن عبد السلام الدمشقي ، بيروت ، دار ابن حزم ، الطبعة الأولى ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٦ ، ٢ / ١٧١.

٢٧٢

يمكن لنا أن نستخلص من معطيات ما سلف ما يلي :

أولا : أن الله سبحانه وتعالى جعل للكرة الأرضية سقفا يحيط بها ، ويكون سببا في حمايتها من كل سوء ، وحافظا لها من كل مكروه.

ثانيا : أن هذا الغلاف الجوي للأرض قد جعل الله فيه أبوابا ومنافذ يتسنى للإنسان أن يعبرها ويخرج من محيط الأرض ، ولقد أكد الحق تبارك وتعالى وجود أبواب للسماء في العديد من الآيات القرآنية من ذلك قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (١) وقوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٢).

ثالثا : منافذ الغلاف الجوي للأرض ، الطريق إليها ليست مستقيمة إنما هي طرق مستوعرة متعرجة.

ولقد وصف ربنا سبحانه السماء بأنها ذات طرق ، قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٣) أي إن في السماء طرقا كثيرة ، (ولكل طريق أبواب عدة ، ولم ينفذ علماء الفلك من الغلاف الجوي الأرضي ويسبروا شيئا من أقطار السموات والأرض ، إلا من خلال الأبواب والطرائق الموجودة في الغلاف الجوي للأرض والفضاء الخارجي ، فكل مركبة فضائية يجب أن تنطلق في زاوية معينة وفي مسار معين كي تستطيع النفاذ من نطاق جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي ، وهناك آلاف الأدمغة الألكترونية التي تصحح سير المركبة كلما ضلت عن مسارها ، كما أن على المركبات الفضائية خلال عودتها إلى الأرض من الفضاء الخارجي ، الدخول والسلوك من فتحات وطرائق معينة في الغلاف الجوي الأرضي وإلا بقيت في الفضاء الخارجي أو احترقت قبل وصولها إلى الأرض) (٤).

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة القمر ، الآية : ١١.

(٣) سورة الذاريات ، الآية : ٧.

(٤) من علم الفلك القرآني ، عدنان الشريف ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة الثالثة ، ١٩٩٧ ، ص : ١٣٢.

٢٧٣

الحقائق العلمية :

لقد قرر ربنا تبارك وتعالى أنه أحاط الأرض بسقف يحفظها من كل سوء ، وهذه الحقيقة القرآنية أثبتها العلم الحديث وقرر أن للأرض غلافا جويا يحيط بها ، وله من المنافع والفوائد الشيء الكثير.

ففي موسوعة «عالم المعرفة» : (الغلاف الجوي : هو مزيج من الغازات ، ويتألف بالدرجة الأولى من (النيتروجين) ٧٨ خ و (الأوكسجين) ٢١ خ وكمية قليلة من (الأرغون) ، وبعض (ثاني أكسيد الكربون) ، وقد يحتوي أيضا على بعض من بخار الماء ، أما الهواء الجاف فلا يحتوي على بخار مياه ، كما يحتوي الغلاف الجوي على ثلاث طبقات أساسية.

الطبقة السفلى : وهي (التروبوسفيرtroposphere).

والطبقة الوسطى : وهي (الستراتوسفيرstratosphere) وتتراوح سماكة طبقة (التروبوسفير) ما بين ١٨ ، ٨ كلم والغيوم تطفو فيها ، وكثير من الطائرات تطير في أسفل (الستراتوسفير) فوق الغيوم.

أما الطبقة الثالثة الموجودة فوق (الستراتوسفير) فتدعى الغلاف (الأيّوني) ، وهي مهمة للناس لأنها تعكس الموجات اللاسلكية إلى الأرض ما يسمح للموجات بالدوران حول سطح الأرض المقوس) (١).

وحتى يتجسّد الإعجاز في قوله تعالى : (سَقْفاً مَحْفُوظاً) نورد بعض فوائد الغلاف الجوي للأرض لنرى كيف جعله الحق سبحانه حافظا لها.

(هذا الغلاف الجوي يعدّل ويلطف مستويات الحرارة القصوى من ساخنة أو باردة ، فيعمل كسقف دفيئة ، ويقلل من تغيرات مستوى الحرارة بين الليل والنهار ، أو بين الصيف والشتاء ، عند النهار تسخن الشمس سطح الأرض وتنقل هذه الحرارة إلى الجو ، حيث تخزن وتقي من البرد الشديد عند ما تغيب الشمس ، وبالعكس يقي الغلاف الجوي عند النهار من الحرارة الشديدة بامتصاصه قسما من أشعة الشمس ، ويقي الجو سطح الأرض من قصف النيازك ، إذ يقدر أن الأرض تتلقى كل يوم ما يقارب المائة

__________________

(١) موسوعة عالم المعرفة ، الأرض ، نوبليس ، ص : ٣٤٦.

٢٧٤

رسم يوضح طبقات الغلاف الغازي للأرض

٢٧٥

ألف مليون نيزك من مختلف الأحجام ، إنما لا تدرك سطحها لأنها تحترق في الجو بسبب الحرارة التي يولدها احتكاك النيزك بالغلاف الجوي) (١).

كذلك لو قدّر الله سبحانه وتعالى انعدام الغلاف الجوي للأرض لانعدمت (الحياة على سطحها ليس فقط لعدم وجود الأكسجين اللازم للتنفس ، ولكن لسقوط النيازك بكميات هائلة ، وبكتل كبيرة تهشم رءوس الأحياء ، وتنهي بذلك على جميع صور الحياة على سطح الكرة الأرضية ، هذا بخلاف امتصاص الجو العلوي للأشعة الضارة بل القاتلة للأحياء ، مثل الأشعة فوق البنفسجية (ultraviolet rays) والذي نود أن ننوه إليه أنه بدون الغلاف الجوي لا ينتقل الصوت من مكان إلى آخر ويكون بذلك قد فقدت الأحياء التي منحها الله حاسة السمع) (٢).

كما تتغير الغازات في الغلاف الغازي للكرة الأرضية (مع ازدياد الارتفاع في ذلك الغلاف حيث تأخذ الغازات الثقيلة بالاضمحلال شيئا فشيئا لتحلّ محلها غازات خفيفة ، فبدءا من سطح الأرض وحتى ارتفاع ١١٠ كيلومترات تكون السيادة لجزئيات (الآزوت) ، أي (النيتروجين) ولجزئيات (الأوكسجين) ، وبعد ارتفاع ١١٠ كيلومترات ، وحتى ارتفاع ١٦٠ كيلومترا تسود جزئيات (الأوزون) ، (الأوكسجين الثقيل والأوكسجين) ، وبين ارتفاع ٩٦٠ كيلومتر ، وحتى ارتفاع ٢٤٠٠ كيلومتر تسود ذرات (الهليوم) ، وبين ارتفاع ٢٤٠٠ كيلومتر ، وحتى ارتفاع ٩٦٠٠ كيلومتر تسود جزئيات (الهيدروجين) ، وبين ارتفاع ٩٦٠٠ كيلومتر ، وحتى ارتفاع ٦٥٠٠٠ كيلومتر تسود جزئيات شديدة التخلخل والخفة ، ويتصل أعلى هذه الطبقة مع الفضاء الخارجي المسمى فضاء ما بين الكواكب حيث تسود غازات شديدة التخلخل ، لدرجة تقرب من الفراغ) (٣).

وعلى هذا فإننا نشعر بالاختناق التدريجي (كلما ارتفعنا عن سطح البحر إلى عنان السماء وذلك بسبب نقص الضغط الجوي ونقص (الأوكسجين) ، ولقد ثبت فعلا أن الإنسان يمكن أن يختنق عند ما يرتفع إلى ١٠ كيلومترات ، إذا لم يكن محاطا بغرفة أو

__________________

(١) المنظومة الشمسية ، سمير عازار ، ص : ٦٢.

(٢) المجموعة الشمسية واحتمالات الحياة عليها ، زين العابدين متولي ، القاهرة ، مركز جامعة القاهرة ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٧ ص : ٤٢.

(٣) الأرض ، إبراهيم حلمي غوري ، ص : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٧٦

حلة مكيفة الضغط والهواء ، كما أن الدم يندفع من مسام أجسامنا لو خف الضغط عليها ، ولهذا يستخدم رواد الفضاء بدلة مكيفة الضغط وأنبوبة (أكسجين) للتنفس) (١).

وتغيرات الغلاف الجوي هذه ، والشعور بالاختناق كلما ارتفعنا إلى السماء ، بسبب نقص الضغط الجوي ونقص (الأوكسجين) ، حقيقة صرح بها كتاب الله تعالى قبل أكثر من أربعة عشر قرنا ، يقول مولانا عزوجل : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢).

ونحن نلحظ تشبيه القرآن الدقيق للذي يصعد في السماء ، كيف يكون صدره ضيقا حرجا بسبب هذا الصعود.

كما أن الحق قد أشار إلى ترقي الإنسان في طبقات السماء فقال الله سبحانه تعالى :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١)) (٣).

حقا ، لقد ركب الإنسان طبقا عن طبق ...

(ففي ٢١ يوليو عام ١٩٦٩ تمت رحلة سفينة الفضاء (أبوللو ١١) الأمريكية والتي حملت الرواد «نيل أرمسترنج» و «ألدرين» و «كولنينر» إلى القمر حيث هبط «آرمسترنج» و «ألدرين» على سطح القمر لأول مرة في تاريخ البشرية بواسطة المركبة القمرية ، بينما ظل «كولنينر» ينتظرهما في مركبة أخرى تدعى (كولومبيا) كانت تدور حول القمر ، حتى التحمت بهما المركبة القمرية بعد أداء مهمتها على سطح القمر وعادوا جميعا سالمين إلى الأرض ، وقد ركبوا فعلا طبقا عن طبق.

ولقد تتابعت رحلات (أبوللو ١٢) ، ١٤ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧ ، وانتهت في عام ١٩٧٢ ، أليس هذا أيضا طبقا عن طبق في سبيل الوصول إلى القمر) (٤).

ولقد أشار القرآن الكريم إلى غزو الفضاء ، وأن الثقلين الإنس والجن إن ترقّوا في

__________________

(١) الكون ، منصور حسب النبي ، ص : ١٨١.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١٢٥.

(٣) سورة الانشقاق ، الآيات ١٦ ـ ٢١.

(٤) الكون ، منصور حسب النبي ، ص : ٢٣٠.

٢٧٧

مدارج العلم واخترعوا الوسائل التقنية المتطورة ، فإنهم سينفذون من أقطار السموات والأرض وسيغزون الفضاء ويركبون أطباقا ... ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوسائل التقنية بقوله : (بِسُلْطانٍ) أي العلم ، ولقد استطاع الإنسان في عصرنا أن يصنع المركبات الفضائية التي توصله إلى القمر ، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد ـ أي القمر ـ بل سيتعداه إلى المريخ وغيره.

قال تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (١).

الإعجاز :

رأينا منافع الغلاف الغازي الذي يعتبر درعا متينا ، وسياجا قد حصّن الأرض من العناصر الأجنبية التي لو لا وجود هذا الغلاف ، لأحرقت الأرض ولأضرمت نيرانا كثيرة بين جنباتها وانتهت عليها الحياة ، كما رأينا الدور الفعّال لهذا الغلاف ، في المحافظة على موقع الأرض بالنسبة للشمس مقارنة مع الكواكب الأخرى ، وهذا يساعد في إيصال حرارة الشمس إلى الأرض بدرجة معتدلة تنسجم وتتوافق مع الكائنات الحية كالإنسان والحيوان والنبات فسبحان من قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (٢).

نعم سبحان من أحاط الكرة الأرضية بهذا الغلاف الغازي ، وكأنه سقف فوقنا ليحفظنا من العوامل المدمرة كالشهب والنيازك.

وكذلك فقد أشار القرآن الكريم إلى منافذ هذا الغلاف الغازي ، فقال تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)) (٣).

والإعجاز القرآني في قوله تعالى : (باباً) وروّاد الفضاء كما مرّ معنا عند ما تقلع مركباتهم الفضائية في السماء ، فإنها تحلّق ضمن خطوط مرسومة لها قبل إقلاعها وعند وصولها إلى الغلاف الغازي ، فإنه ليس بمقدورها الخروج منه إلا عبر هذه الأبواب ، والتي اصطلح على تسميتها علماء الفلك بمنافذ الغلاف الجوي.

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٣٣.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٢.

(٣) سورة الحجر ، الآيتان ١٤ ، ١٥.

٢٧٨

مكوك فضائي ينطلق ليخترق منافذ الغلاف الجوي للأرض

وذلك بفضل التطور العلمي والتكنولوجي ، وصدق الله العظيم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (١).

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٣٣.

٢٧٩
٢٨٠