الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

ويعتقد العلماء (أنه مع مرور الزمن ستحرق الشمس وقودها بسرعة أكبر ، بسبب الانكماش المستمر للنجوم من فئتها وتعاظم حرارتها الداخلية ، وبالتالي تسريع التفاعلات النووية ، لذلك لا يقدّر لها العيش أكثر من خمسة مليارات سنة أخرى ، فعند ما تتعاظم الإشعاعات تسخن الشمس لدرجة تبدأ معها مياه البحار بالغليان ، ويقدر أن الشمس في طورها الأخير ستمر بحالة العملاق الأحمر ، ولكن عندها قد تكون الحياة قد زالت عن الأرض منذ زمن طويل ، عند ما ينفذ الوقود نهائيا تعود الشمس وتنكمش على نفسها بشكل نجم صغير جدا «قزم أبيض» ، بعد ذلك تموت نهائيا بانطفاء كامل) (١).

وأجواء الموت التي ستخيم على (المجموعة الشمسية حتى فيما بعد كوكبنا الأرضي ، وموت الشمس ذاتها ، هي بلا شك أحداث بالغة الدرامية بالمقاييس الإنسانية ، أما على الصعيد الكوني فلا ترتدي تلك الأحداث أية أهمية خاصة ، ليس فقط لأن الشمس نجم من آلاف ملايين النجوم في المجرة ، ووجوده أو موته لن ينقص أو يزيد في محتويات تلك الحجرة في المجرة ، بل لأن موت الشمس ذاتها على الرغم من كل شيء ، هو موت هادئ ، وهو أشبه بالشمعة المحترقة إلى جانب التفجيرات النووية ، وذلك بالمقارنة مع موت النجوم الأخرى ... وإذا تابعنا حياة نجم من هذا الصنف نجد أنه يحرق وقوده النووي المركزي ، ويستنفذه بسرعة خلال عدة ملايين من السنين فقط ، ويتحول من ثم إلى عملاق أحمر ، وبدلا من أن يتبع بعد ذلك مسلكا متدرجا في تحوله إلى قزم أبيض لا يعاني خلاله من أي اضطراب إلا فيما ندر ، نجده يحرر طاقة ثقالية هائلة عبر انهياره الهادف لبدء دورات جديدة من الاحتراق النووي ، الذي ينتهي بتكوين الفحم في باطنه ... وعند ما يسود الفحم في نواة النجم تتقلص الطبقات الداخلية للنجم بعد ذلك ، بينما تتمدد طبقاته الخارجية متحولة إلى غلاف جوي رقيق ودافعة بتيارات من المادة عبر الفضاء ، يصبح النجم مرة أخرى عملاقا أحمر ، ولكنه يبقى حتى تلك المرحلة قادرا على تجديد نفسه والدخول في دورات جديدة من تفاعلات الاندماج النووي لتصنيع عناصر متدرجة في الثقل ، عبر أطوار

__________________

(١) المنظومة الشمسية ، سمير عازار ، بيروت ، دار النهار ، ١٩٩١ ، ص : ٣٤ ، وانظر : هل نحن وحدنا في هذا الكون ، محمد عبده يماني ، المنامة ، بيت القرآن ، الطبعة الأولى ، ١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٦ ، ص : ٦١.

٢٤١

متتابعة من النبض والانهيار ، حتى تتحول النواة برمتها إلى الحديد ، وإذ ذاك تتوقف كل نشاطات النجم ، ولا يبقى من خيار أمام النواة بعد ذلك إلا التبرد والانهيار) (١).

الإعجاز :

رأينا أسبقية القرآن الكريم في تدوين وتقرير موت الشمس ، لكن من المدهش حقا أن يأتي العلماء الفلكيون ، وخاصة الغربيون منهم الذين لا يؤمنون بهذا القرآن العظيم ، يقرروا نفس النتيجة لا من حيث موت الشمس فحسب ، بل في الكيفية التي ستئول إليها الشمس عند الموت.

لقد قال الفلكيون كما سبق : إن الشمس في نهايتها ستتحول إلى عملاق أحمر ، ولم يكتفوا بهذا بل زادوا على ذلك بأن قالوا : ستعود الشمس وتنكمش على نفسها بشكل نجم صغير جدا ، وبعد ذلك تموت نهائيا بانطفاء كامل ...

وهذا هو المعنى الدقيق للتكوير ، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) لأن تكوير الشمس يعني انكماشها على نفسها وانطفاء لهيبها ، فلا إله إلا الله ما أعظم هذا القرآن وما أدق بيانه ، حقائق علمية يتوصل إليها العلماء بعد أبحاث مضنية وسهر ليالي ، نجد القرآن المعجز عبّر عنها بكلمة واحدة.

__________________

(١) النجم الغريب مولد الشمس وموتها ، جون غريبين ، ترجمة : فائز فوق العادة ، دمشق ، دار الشيخ ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٨ ، ص : ٩٠.

٢٤٢

الفصل السادس

الإعجاز القرآني في الأرض

تمهيد.

المبحث الأول : كروية الأرض.

المبحث الثاني : دوران الأرض.

المبحث الثالث : جاذبية الأرض.

المبحث الرابع : الغلاف الجوي ومنافذه للأرض.

٢٤٣
٢٤٤

تمهيد

الأرض هي الكوكب الثالث من مجموعتنا الشمسية ، وفوق رحبها أوجدنا الله سبحانه وتعالى إلى حين معلوم ، ومنها خلقنا سبحانه وفيها يعيدنا ومنها يخرجنا يوم القيامة تارة أخرى ، إلى دار الحساب وموطن الثواب والعقاب ، ولقد بثّ الحق سبحانه في الأرض دلائل وآيات تنبّه الإنسان إن هو ضلّ عن طريق الحق ، وتنكّب مسلك الإيمان ، على وحدانية الله وإفراده في الخلق والأمر ، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (١).

وعطاء هذه الآيات مستمر لا ينقطع ، وهذا العطاء يرفد العقل البشري في كل زمان حسب طاقته في استيعاب الحقائق التي تكشفت للإنسان ، فأصبح بمقدوره أن يهضمها ويتفاعل معها ، وبالتالي ينتقل إدراكه لهذه الحقائق من عالم الذهن النظري التجريدي ، إلى إشراقات اليقين الذي استقر في قلبه وشاهده في الواقع.

وهذه الآيات التي ذكرتها الآية الكريمة آنفا والتي تغذي عقل المؤمن وقلبه باليقين ، سيتحدث إن شاء الله عن طرف منها ، قد أماط اللثام عنه العلم الحديث ، وأشار إليه كتاب الله المعجز ، وسيتمحور هذا البحث للحديث عن كروية الأرض ، تلك المسألة التي دار حولها نقاش طويل عبر الأزمنة والأحقاب ، حتى توصل العلماء إلى اليقين الجازم بكرويتها ، إلا أن القرآن الكريم حسم القضية منذ نزوله على قلب الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشار إلى كرويتها ، كما سيتطرق للحديث عن دوران الكرة الأرضية وكيف أن الحق أشار في القرآن الكريم أن الأرض تدور ، ثم توصلت دراسات العلماء لهذه الحقيقة ، وكذلك سيركّز على قضية الجاذبية الأرضية ، هذا القانون الرباني الذي يلف العالم بأسره من كبيره إلى صغيره ، نجد أن الحق تبارك وتعالى أثبته في صفحات قرآنه المجيد ثم جاء العلماء فكشفوا عنه وقرروه ، ثم يعرج للحديث عن الغلاف الجوي للكرة الأرضية وإشارات القرآن لمسألة المنافذ في الغلاف الجوي ، هذه المسألة التي أصبح لها أهمية كبيرة في وقتنا الحاضر.

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٢٠.

٢٤٥

المبحث الأول

كروية الأرض

يقول الله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (١).

ويقول جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).

ويقول سبحانه : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣).

إن من نافلة القول أن يشار هاهنا ، إلى أن القرآن الكريم بلغ من الإعجاز في شتى وجوهه درجة لا يمكن أن يصل إليها طوق أحد من الخلق أبدا ، وتتجلى هذه الحقيقة في شتّى أصعدة الحياة وكذلك هنا ، فلو أن القرآن الكريم إبان نزوله صرح تصريحا قاطعا بكروية الأرض فقال : (والأرض كوّرناها) لأحدث ذلك نزاعا وشقاقا شديدين في المجتمع المسلم الوليد آنذاك ، لأن مدارك الناس وقدراتهم العقلية لا يمكن أن تستوعب مسألة كهذه ، لأنهم ينظرون فيرون الأرض أمامهم ممدودة مبسوطة ساكنة لا تتحرك ، فكيف لهم أن يذعنوا لهذا الخبر ويعتقدوا بكروية الأرض ، بل لربما أدى ذلك لارتداد بعضهم عن الهدى والإيمان ، فلذلك كان من الحكمة الربانية ، والإعجاز البياني المتألق أن يشير الحق إلى كروية الأرض إشارة ، ويضمّن النصوص القرآنية قضية تكوير الأرض من ناحية المعنى وليس صراحة وقطعا ، فإذا ما تقدم العلم واتضحت غوامض الكون ، وتبين للناس كروية الأرض من خلال الأقمار الصناعية وغيرها ، عندها نجد في

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٥.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٣.

(٣) سورة النازعات ، الآية : ٣٠.

٢٤٦

معاني النصوص القرآنية ما يدل على هذه الحقيقة العلمية ، فنحن تحققنا من كروية الأرض بسبب التقنية العلمية المستجدة ، وهم فهموا المعنى العام للآيات القرآنية ، وبوقوفنا على فهم المفسرين للنصوص الكريمة ، يظهر لنا أنهم أدركوا كروية الأرض من حيث المعنى.

ففي «أنوار التنزيل» : (خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، يغشى كل واحد منهما الآخر ، كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس ، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو يجعله كارا عليه كرورا متتابعا تتابع أكوار العمامة) (١).

وعند القرطبي : (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، أي يلقى هذا على هذا ، وهذا على هذا ، وهذا على معنى التكوير في اللغة ، وهو طرح الشيء بعضه على بعض ، يقال : كور المتاع أي بعضه على بعض ، ومنه كور العمامة ، وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية قال : ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل ، وهو معنى قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (٢) وقيل : تكوير الليل على النهار ، تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته) (٣).

وفي تفسير «الجواهر الحسان» : (أي يعيد من هذا على هذا ، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض ، فكان الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره ، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه) (٤).

وفي «أضواء البيان» : (والتّكوير هو التدوير ومنه قيل : كار العمامة وكورها ، ولهذا يقال للأفلاك كروية الشكل ، لأن أصل الكرة ، كورة تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، وقال : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٥) وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون

__________________

(١) أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٥ / ٥٨ ، وانظر : معاني القرآن ، للنحاس ، ٦ / ١٥١.

(٢) سورة فاطر ، الآية : ١٣.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١٥ / ٢٣٤.

(٤) الجواهر الحسان ، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ، بيروت ، مؤسسة الأعلمي ، د. ت ، ٤ / ٤٨.

(٥) سورة الملك ، الآية : ٣.

٢٤٧

المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما ، فإنه يتفاوت لأن زواياه مخالفة لقوائمه ، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ، ليس بعضه مخالفا لبعض ... ولا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة ، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين ، أحدهما في الشمال ، والآخر في ناحية الجنوب ، ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركتها ومقادير أجزائها ، إلى أن تتوسط السماء ، ثم تنحدر على ذلك الترتيب ، فكأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا ، وهذا محل القصد بالذات ، وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة ، وفكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء ، كالنقطة في الدائرة ، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء ، على قدر واحد ، فيدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد ، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء) (١).

وأما قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) ، فيقول ابن كثير : (أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض) (٢).

ونفس المعنى في تفسير «الوجيز» : (وهو الذي مد الأرض ، بسطها ووسعها ، وجعل فيها رواسي أوتدها بالجبال ...) (٣).

وصاحب تفسير «روح المعاني» يدلل على كروية الأرض ، ويزيل الإشكال الذي قد يخطر بالبال حول كونها كروية وكونها ممدودة فيقول : (وأنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر ، فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ، ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كرى حسا ، ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد ، فقد

__________________

(١) أضواء البيان ، للشنقيطي ، ٩ / ٥٥١.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٢ / ٥٠١ ، وانظر : مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد ، محمد ابن عمر نووي الجاوي ، تحقيق ، محمد أمين الضناوي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٧ ، ١ / ٥٧٨.

(٣) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، للواحدي ، ١ / ٥٦٥ ، وانظر : مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ، بيروت ، دار النفائس ، د. ت ، ٢ / ٢٠٩.

٢٤٨

يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر ، وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك ، وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا الله تعالى ، نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح ، وهكذا كل دائرة عظيمة ، وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كروية) (١).

وفي تفسير «إرشاد العقل السليم» : (أي في تعاقبهما في وجه الأرض ، وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات السموات وسكون الأرض ، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده ، باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة ، أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشماليّ أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها ، وأما في أنفسها فإن كروية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأماكن ليلا وفي مقابله نهارا ، وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك) (٢).

ونجد الأمر ذاته في تفسير «التحرير والتنوير» مع زيادة تأكيد يقول : (والليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعمّ مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس ، فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي ، تقلّص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية ، فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلّا شعاع الشمس ، ويكون تقلص النور مدرجا من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ، ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب ، وكلّما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى ، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجا ، وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية ، وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة وبضوء بعض النجوم استنارة

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ١٣ / ٩٠.

(٢) إرشاد العقل السليم ، لأبي السعود ، ٢ / ١٢٧.

٢٤٩

ضعيفة لا تكاد تعتبر ، فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر) (١).

وأما قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فقد بسطنا الحديث عن هذه الآية في مراحل خلق الكون سابقا ، ولكن نأخذ تفسيرا واحدا لها : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (أي بسطها ، والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا ، إذا بسطته ، ويقال لعش النعامة أدحيّ ، لأنه مبسوط على وجه الأرض) (٢).

ويمكن لنا أن نأخذ بعض المفردات الواردة في هذه الآيات القرآنية ، لنرى أبعادها اللغوية والتي تساعدنا على الإلمام بالمعنى المراد ، ونأخذ معنى : كور ، ومدّ ، ودحى.

ففي «مختار الصحاح» : (كار العمامة على رأسه أي لاثها ، وكل دور كور ، والكور بالضم الرحل بأداته والجمع أكوار وكيران ... وتكوير المتاع ، جمعه وشده ، وتكوير العمامة ، كورها وتكوير الليل على النهار تغشيته إياه ، وقيل : زيادته في هذا من ذاك) (٣).

وفي «لسان العرب» : (الكور ، لوث العمامة ، يعني إدارتها على الرأس ، وقد كورتها تكويرا ، وكل دارة من العمامة كور وكل دور كور ، وتكوير العمامة ، كورها وكار العمامة على الرأس يكورها كورا ، لاثها عليه وأدارها) (٤).

وفي «المغرب في ترتيب المعرب» : (وكار العمامة وكورها ، أدارها على رأسه ، وهذه العمامة عشرة أكوار وعشرون كورا) (٥).

وأما المد ، فمعناه البسط : (مد الأرض يمدها مدا ، بسطها وسواها ، وفي التنزيل العزيز : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (٦).

__________________

(١) التحرير والتنوير ، محمد الطاهر ابن عاشور ، بيروت ، مؤسسة التاريخ ، الطبعة الأولى ، ١٢٤٠ ه‍ / ٢٠٠٠ ، ٢ / ٧٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١٩ / ٢٠٣.

(٣) مختار الصحاح ، أبو بكر الرازي ، ١ / ٢٤٢.

(٤) لسان العرب ، لابن منظور ، ٥ / ١٥٦.

(٥) المغرب في ترتيب المعرب ، ناصر الدين بن علي المطرز ، تحقيق ، محمد فاخوري وعبد المجيد مختار ، حلب ، مكتبة أسامة بن زيد ، الطبعة الأولى ، ١٩٧٩ ، ٢ / ٢٣٥.

(٦) لسان العرب ، لابن منظور ، ٣ / ٣٩٧.

٢٥٠

وأما الدحو ، فيعني كذلك البسط : (دحا الأرض يدحوها ، بسطها ... والأدحوّة : مبيض النعام في الرمل ، ومدحى النعام ، موضع بيضها) (١).

وأما الطحو : (فالطحو كالدحو ، وهو بسط الشيء والذهاب به ، قال تعالى : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٢)) (٣).

وفي «لسان العرب» : (طحاه طحوا وطحوا ، بسطه ، وطحى الشيء يطحيه طحيا ، بسطه أيضا والطحو كالدحو وهو البسط ، والطاحي المنبسط) (٤).

وفي «معجم البلدان» : (طحا بالفتح والكسر ، الطحو والدحو بمعنى وهو البسط وفيه لغتان طحا يطحو ويطحى ، ومنه قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٥).

هذا عرض موجز للنصوص القرآنية ، ولآراء المفسرين ، وما ورد في المعاجم حول الكلمات القرآنية التي تشير إلى كروية الأرض ، ولنا أن نتساءل الآن لما ذا استخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة يكوّر ، ولم يقل يبسط الليل والنهار ما دامت الأرض منبسطة ظاهريا ، أو يغير الليل والنهار ، أو أي لفظ آخر؟ والجواب هو (إنك لو جئت بشيء ولففته حول كرة فتقول : أنك كورت هذا الشيء وحيث إن الغلاف الجوي للأرض يحيط بالأرض ، وحيث إن ضوء النهار ينشأ بالتشتت على ذرات وجسيمات هذا الغلاف ، فإن النهار والليل متكوران على الأرض ، وبهذا فإن الآية الكريمة تشير إلى كروية الأرض بدليل كروية غلافها الجوي بنهاره وليله ، وكذلك تشير إلى عملية التبادل بين النهار والليل نتيجة دوران الأرض حول نفسها ، وأن النهار والليل موجدان في نفس الوقت حول الكرة الأرضية ، فنصف الأرض المواجه للشمس يكون نهارا والنصف الآخر يكون ليلا ، ولن يسبق أحدهما الآخر ، فعند ما تدور الأرض حول نفسها يصبح النهار ليلا ويصبح الليل نهارا) (٦) ، وهكذا يتعاقبان كما في قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٧).

__________________

(١) المصدر نفسه ، ١٤ / ٢٥١.

(٢) سورة الشمس ، الآية : ٦.

(٣) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص ٥١٧.

(٤) لسان العرب ، لابن منظور ، ١٥ / ٤.

(٥) معجم البلدان ، ياقوت الحموي ، ٤ / ٢٢.

(٦) الكون والإعجاز العلمي في القرآن ، منصور حسب النبي ، ص ١٥٠.

(٧) سورة يس ، الآية : ٤٠.

٢٥١

ويمكن لنا أن نستخلص من معطيات الآيات القرآنية ما يلي :

١ ـ الآيات القرآنية تضمنت معنى كروية الأرض ، ولكن عن طريق الإشارة والمعنى دون التصريح.

٢ ـ الكلمات التي يدور بحثنا حولها وهي «كوّر ، ودحى ، وطحى ، ومدّ» تدل على كروية الأرض من خلال المد والانبساط ، لأن الإنسان أينما كان يرى الأرض أمامه مبسوطة وممدودة ، في أي قارة من القارات ، وفي أي دولة من الدول نرى الأرض ممدودة ، ولا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان شكل الأرض كرويا ، إذ لو كانت الأرض على شكل مضلع أو مثلث أو مسدس أو غيرها من الأشكال لوصل الإنسان يقينا إلى حدود وحافة للأرض ، وبما أننا لا نصل إلى حافة للأرض ، فالوضع الأكيد للأرض الذي نراه مبسوطا أمامنا هو الشكل الكروي ، وفي هذا دليل قاطع على كروية الأرض من خلال الكلمات القرآنية.

إذن من هنا يفسّر الإشكال عند البعض حول هذه الحقيقة العلمية القرآنية الرائعة ، التي سبقت العلم في إثبات كروية الأرض ، هذا الإشكال الذي لربما يطوف في ساحة الإدراك الذهني لدى واحد منا فيتساءل قائلا : إذا كان القرآن الكريم قد أثبت كروية الأرض بصريح قوله تعالى : (ويكوّر) ثم جاء العلم فكشف عن هذه الحقيقة وأثبتها ، إذن ، ما معنى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) (١) وقوله سبحانه : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) (٢)؟ ألا يدل قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) على انبساط الأرض وهو في نفس الوقت يدل على كروية الأرض؟.

وعند ما يقرأ الإنسان المؤمن الآية الكريمة : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٣) ، يدهش عند كلمة عميق!.

(إن كلمة عميق هذه تشهد بعظمة القرآن الكريم وهي من الإعجاز العلمي فيه فلو كانت الأرض مستوية مسطحة لقال القرآن : «يأتين من كل فج بعيد» تفيد المسافة بين شيئين على مستوى واحد ... ولكن الأرض كروية فالقادمون إلى مكة المكرمة يأتون

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٣.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ١٩.

(٣) سورة الحج ، الآية : ٢٧.

٢٥٢

من بقاع عميقة بالنسبة لها ، وذلك بحسب انحناء الأرض الكروي لذا جاءت (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (١).

الحقائق العلمية :

سبق وأن أشرنا أن كروية الأرض أصبحت من الحقائق العلمية القطعية ، والتي لا يمكن أن يستريب بها أحد من الناس أبدا ، ذلك لأنها قد صورت عبر الأقمار الصناعية وشاهدها الناس ورأوها رأي عين ، ولكن لا حرج إن أوردنا بعضا من أبحاث العلماء التي تحتوي على طائفة من الأدلة العلمية التي تثبت كروية الأرض.

ففي «موسوعة الكون والفضاء والأرض» : (اعتقد الأقدمون بأن الأرض مسطحة ، رغم أن كثيرا من الشعوب القديمة عرفت كرويتها ، وحاولت إثباتها بأدلة علمية مثل شعوب بلاد ما بين النهرين ، ثم اليونان وبعدهم العرب ، لكن كروية الأرض لم تثبت بالشكل العلمي القاطع إلا بعد القرن الخامس عشر الميلادي ... فقد أصبحت كرويتها أكيدة ولا مجال للشك فيها ، إذ يكفي أن رواد الفضاء رأوها بأم أعينهم وزودونا بالصور والمعلومات الثابتة عن هذه الناحية ، إذا شكل الأرض كروي مفلطح عند القطبين مع انتفاخ عند خط الاستواء ، وذلك نتيجة لقياس قطري ومحيطي الأرض) (٢).

(وفي يوم ٢٢ ديسمبر ١٩٦٨ ، أظهرت شاشات الإذاعات المرئية صورا تركت أثارا عميقة في نفوس المشاهدين ، حيث كانت سفينة الفضاء (أبولو ٨) في طريقها نحو القمر ، وآلات تصويرها موجهة نحو الأرض ، لقد ظهر كوكبنا الأرضي على جميع شاشات الأجهزة العاملة ، كما يبدو من بعيد تبعا لكبر حجمه ، وكما شاهده الناس بمظهره الجديد ، دائرة مضيئة مرتسمة في نهاية الظلمة كان يبدو كالنجم ، وقد وصلت فيما بعد الصور التي التقطت بواسطة الأجهزة والآلات ، والتي عملت على إبراز الحقيقة المظهرية ذات الوضوح العظيم ، وبذلك أمكن تحويل الدائرة الأرضية ، وظروف هيكلها السماوي إلى حقيقة نابضة ، بعد ما عاشت تغلفها التأكيدات العائدة لآلاف السنين) (٣).

__________________

(١) الإنسان بين العلم والدين ، شوقي أبو خليل ، بيروت / دمشق ، دار الفكر ، الطبعة الرابعة ، ١٤٢٠ ه‍ / ١٩٩٩ ، ص ١١٤.

(٢) موسوعة الكون والفضاء والأرض ، موريس شربل ورشيد فرحات ، ص ١٠٦.

(٣) الأجرام السماوية ، غيدو روجيري ، ترجمة عبد اللطيف أبو عرقوب ، ص ٧ ـ ٨.

٢٥٣

(ثم أخذت الأدلة والبراهين ، التي تثبت كروية الأرض تتعدد ومنها :

أولا : إننا عند ما نكون في مرفإ ، فإننا أول ما نشاهده من السفن القادمة من عباب البحر نحو ذلك المرفأ أعلاها ، ومع تزايد اقترابها منا نرى القسم الأوسط منها ، ثم نراها بكاملها ، وعند إقلاع البواخر من ذلك المرفأ فإن أول ما يغيب عن عيوننا بعد ابتعادها الأقسام السفلى منها ، ثم وسطها وعند ابتعادها كثيرا يختفي أعلاها.

ثانيا : رؤية ظل الأرض على شكل دائرة ، على صفحة البدر صيف الكسوف (١).

ثالثا : اختفاء بعض كوكبات السماء كلما اتجهنا جنوبا أو شمالا على سطح الأرض ، وظهور كوكبات جديدة لم نكن نراها بسبب تحدب سطح الأرض.

رابعا : استدارة الأفق من حولنا عند ما نكون في عرض البحر ، أو في صحراء أو في بادية مترامية الأطراف.

خامسا : اختلاف التوقيت الزمني بين بلدان العالم الذي يكشفه لنا المذياع أو الاتصال الهاتفي وكيف أنه عند ما يكون الوقت لدينا نهارا ، يكون في نفس اللحظة في دولة أخرى ليلا ، ولو كانت الأرض منبسطة لغمرت كلها بالنور دفعة واحدة عند شروق الشمس فعمّها النور ، ولغمرت كلها بالظلمة دفعة واحدة بعد غياب الشمس فعمّها الليل.

سادسا : وأنه إذا قدر لنا أن نرتفع في الجو حتى علو ٣٠ ألف كلم ، لاستطعنا أن نرى الأرض عندها دفعة واحدة ، بشكلها الكروي ، علما بأن بلوغ هذا الارتفاع لا تحققه لنا إلا المركبات الفضائية التي يمتطيها رواد الفضاء اليوم) (٢).

الإعجاز :

ولا أرى حاجة في إيراد المزيد من الأدلة العلمية على كروية الأرضية ، لأن العلماء والذين قد اخترقوا أجواء السماء بسفنهم الفضائية ، قد صوروا الأرض واتضحت كرويتها لكل ذي لب.

تلك هي الحقيقة التي أثبتها العلم ، وكشفتها سفن الفضاء وقررها كتاب الله قبل أكثر من أربعة عشر قرنا ، فهل بعد هذه الحقائق العلمية الساطعة يقال بأن القرآن من تأليف

__________________

(١) تعني كسوف الشمس الذي يقع في فصل الصيف.

(٢) انظر : الأرض ، إبراهيم حلمي غوري ، بيروت ، دار الشرق العربي ، د. ت ، ص ٥٠ ـ ٥١.

٢٥٤

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! هل كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتلك أقمارا صناعية أو أجهزة تصوير ضخمة ليرى كروية الأرض ، ثم يعرضها على الناس أو يثبتها في القرآن الكريم؟ ، إنه كلام السماء ووحي السماء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

صورة تظهر كروية الأرض كما صوّرتها رحلة أبولو ١٧ ، في عام ١٩٧٢ ،

وتظهر فيها شبه الجزيرة العربية وقارة افريقيا.

٢٥٥

المبحث الثاني

حركة الأرض ودورانها

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (١). وقال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢).

وقال جل جلاله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١٦) (٣).

وقال سبحانه وتعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٤).

وقال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) (٥).

تشير هذه الآيات القرآنية إلى أن الكون وما رصّع في سماءه من نجوم ، وما بثّ في آفاقه الواسعة والقاصية من مجرات وشموس وكواكب ... كلها تتحرك وتسبح في ملكوت الله ، لا كما ظن القدامى أن الأرض جامدة لا حراك يعتريها فقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ) صريح الدلالة على حركة ودوران النجوم والكواكب في أفلاكها وسبلها المنظمة الدقيقة ، لأن السبح هو المرّ السريع في الماء أو الهواء ، ثم إنه استعير لمر النجوم في الفلك نحو : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والتنوين في (كُلِ) كما هو معلوم عند علماء اللغة هو تنوين عوض عن كلمة ، والتقدير : كل جسم أو جرم في فلك السماء

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآيتان ٤٥ ، ٤٦.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٣.

(٣) سورة التكوير ، الآيتان ١٥ ، ١٦.

(٤) سورة النمل ، الآية : ٨٨.

(٥) سورة الزمر ، الآية : ٥.

٢٥٦

يسبح ويتحرك حركة دائبة مستمرة ، ونظرة في تفاسير العلماء حول هذه الآيات لنرى الاستنباطات أو الفهم الذي استلهموه منها.

يقول الإمام الرازي : (إذا كان (كُلِ) بمعنى كل واحد منهم ، والمذكور الشمس والقمر فكيف قال : (يُسَبِّحُونَ)؟ نقول الجواب عنه من وجوه أحدها : ما بينا أن قوله : (كُلِ) للعموم ، فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار ، ثانيها : أن لفظ : (كُلِ) يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا غير مثنى ولا مجموع ، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا ، وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى ، ثالثها : لمّا قال : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) والمراد ما في الليل من الكواكب قال : (يُسَبِّحُونَ) ، والمسألة الثالثة : الفلك ما ذا؟ نقول : الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة ، لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها ... ولكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر ، فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى ، حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه ، فلكل كوكب فلك ، ثم إن أهل الهيئة قالوا : كل فلك هو جسم كرة ، وذلك غير لازم ، بل اللازم أن نقول : لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته ، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه ، وأرباب الهيئة أنكروا ذلك وقالوا : لا تجوز الحركة على هذا الوجه ، لأن الكوكب له جرم فإذا شق السماء وتحرك فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم ، كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم ، بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه ، لكن الخلاء محال والسماء لا تقبل الشق والالتئام) (١).

وفي «روح المعاني» : (جعل الله تعالى السموات ساكنة ، وخلق فيها سبحانه نجوما ، وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص ، وجعلها عاقلة سامعة مطيعة ، وأوحى في كل سماء أمرها ، ثم أنه عزوجل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السموات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق ، وهو قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٢) فسميت تلك الطرق أفلاكا ، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب ، وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها ، فتخرق الهواء

__________________

(١) التفسير الكبير ، فخر الدين الرازي ، ٢٦ / ٢٨٥.

(٢) سورة الذاريات ، الآية : ٧.

٢٥٧

المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم ، فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماويّة ، فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة ، قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير ، وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة ، وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة من السماء ، تعينها أجرام الكواكب لإضاءتها) (١).

وفي تفسير «التحرير والتنوير» : (وقد جمعت الآية استدلالا وامتنانا ، فهي دليل على عظم قدرة الخالق ، وهي أيضا تذكير بنعمه ، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمّة لما يدل عليه حصول الظلمة من دقة نظام دوران الأرض حول الشمس ، ومن دقة نظام خلق الشمس ، ولما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس ...) (٢).

ويقول سيد قطب رحمه‌الله : (والخنس الجوار الكنس ، هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي ، والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء ، وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى ، فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب ، وهناك إيماء شعوري بالجمال في حركتها ، في اختفائها وفي ظهورها ، في تواريها وفي سفورها ، في جريانها وفي عودتها) (٣).

وأما قوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (حال من ضمير الجبال في تحسبها ، أو في جامدة أي تراها رأي العين ساكنة ، والحال أنّها تمرّ مرّ السّحاب التي تسيرها الرّياح سيرا حثيثا ، وذلك أنّ الأجرام العظام إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تتبين حركتها) (٤).

(أي وترى الجبال رأي العين ساكنة ، والحال أنها تمر في الجو مرّ السحاب التي

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٣ / ٣١ ، وانظر : بحر العلوم ، للسمرقندي ، ٣ / ١٢٠.

(٢) التحرير والتنوير ، لابن عاشور ، ١٩ / ٦٧.

(٣) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ٦ / ٣٨٤١.

(٤) إرشاد العقل السليم ، لأبي السعود ، ٦ / ٢٩٣ ، وانظر : أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٤ / ٢٧٩.

٢٥٨

تسيرها الرياح سيرا حثيثا ، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق ، إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها) (١).

ويعلّق الإمام الرازي على آية الظل في سورة الفرقان فيقول : (وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض ، ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلا عليه ، وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرّك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما ، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر ، وكما أن المهتدي يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه ، فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلا عليها ، وأما قوله تعالى : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيرا يسيرا إلى غاية نقصاناتها ، فسمى إزالة الأظلال قبضا لها ، أو يكون المراد من قبضها يسيرا قبضها عند قيام الساعة وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال ، فهذا هو التأويل المخلص) (٢).

وفي «بدائع التفسير» : (أخبر تعالى أنه بسط الظل ومدّه ، وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك ، إما بسكون المظهر له والدليل عليه ، وإما بسبب آخر ، ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا ... وفي الآية وجه آخر وهو أنه سبحانه وتعالى مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ، ودحى الأرض تحتها ، فألقت القبة ظلها عليها ، فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال ، ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل) (٣).

هذه الآيات توضح أن جميع الكواكب سيارة متحركة ، ومن ضمن هذه الكواكب كوكبنا الأرض ، وهو بالتالي متحرك سابح في الفضاء مع إخوانه الكواكب في

__________________

(١) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٠ / ٤٣ ، وانظر : تفسير القرآن ، لأبي مظفر السمعاني ، تحقيق ، ياسر ابن إبراهيم وغنيم بن عباس غنيم ، الرياض ، دار الوطن ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٧ ، ٤ / ١١٧.

(٢) التفسير الكبير ، للفخر الرازي ، ٢٤ / ٤٧٤ ، وانظر : تفسير القرآن الكريم ، محمد علي الدرة ، دمشق ، دار الحكمة ، ١٩٨٢ ، ١٠ / ٣٦.

(٣) بدائع التفسير ، ابن قيم الجوزية ، تحقيق ، يسرى السيد أحمد ، الرياض ، دار ابن الجوزي ، الطبعة الأولى ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٣ ، ٣ / ٢٩٦.

٢٥٩

المجموعة الشمسية التي هي جزء من مجرتنا درب التبانة ، وهذا الذي وقف عليه المفسرون من دوران الأرض وحركتها ، إنما هو نابع عن فهم معاني النصوص القرآنية ودلالاتها اللغوية ، ولنا أن نستخلص من معطيات الآيات ما يلي :

أولا : تشير الآيات القرآنية إلى حركة الأرض ودورانها ، لأن تعاقب الليل والنهار من أبرز الأدلة على دوران الأرض حول نفسها.

ثانيا : وصف الحق الجبال بأنها تمر مر السحاب ، وهذا لا يكون إلا إذا كان شأن الأرض كذلك لأن الجبال تبع للأرض ، فهذا دليل على سرعة الأرض الهائلة في دورانها.

وهذه الآية الكريمة : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) تكاد تكون صريحة في دلالتها على حركة الأرض حول الشمس ، وليس من المستغرب أن يغيب هذا المعنى العلمي على أصحاب العلم والفضل من المفسرين القدامى ، لأنهم ما عاشوا عصر الثورة العلمية والتقنية العجيبة التي نعيشها اليوم ، فراحوا يخضعون دلالات هذه الآية العلمية وعطاءاتها الإعجازية لعوالم القيامة ومشاهد النكبة والهلع التي ستخيم على الكون ، فجعلوا هذه الآية من نصيب يوم القيامة وأهوالها وأحداثها الجسام ، التي ستنسف خلالها الجبال وتتوارى عن عالم المشاهدة بل والحياة.

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يرى أن خطاب الله لرسوله ولكل تال لكتاب الله ، يستثير بواعث التفكير والتأمل في كينونتنا ، ويخلق في ساحة العقل ومواطن الإدراك البشري ، دوافع التمحيص لكشف أسرار هذه الآية ، ألا ترى في نهاية الآية كيف أنه يسترعي انتباهنا ويحفّز ملكاتنا العقلية إلى التدقيق والتأمل في صنعه المتقن المحكم في خلقه ، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا : انظروا إلى الجبال من حولكم وأمعنوا في تصميمها الدقيق فستظنون أنها جاثمة جامدة لا تتحرك ، إلا أن الحقيقة غير ذلك ، فهي تمرّ مرّ السحاب ، وهذا من بديع صنع الله وإتقانه في ربط قوانين الحياة ونواميس الكون بعضها مع بعض ، ليتكامل تنسيق الكون ، ويتألق جماله البديع فالجبال التي يظنها الإنسان ثابتة هي في الواقع متحركة ، لأنها محمولة وراسية على الأرض ، والأرض تتحرك وتدور حول الشمس كذلكم الجبال وكل ما حوته الأرض يتحرك معها بحكم الجاذبية.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٨٨.

٢٦٠