الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

الفصل الأوّل

مفهوم المعجزة

تمهيد.

المبحث الأول : تعريف المعجزة لغة واصطلاحا.

المبحث الثاني : الفرق بين معجزة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزات الأنبياء السابقين.

المبحث الثالث : مراحل التحدي بالقرآن الكريم.

المبحث الرابع : عجز المشركين واعترافهم بعظمة القرآن الكريم.

٢١
٢٢

تمهيد

إن المدقق في كتاب الله المجيد ، والمتتبع لآيات الذكر الحكيم ، لن يقف على لفظة المعجزة أبدا وكذلك الأمر ذاته في السنة المطهرة ، وفي أقوال الصحابة الكرام ، غير أن القرآن الكريم استعمل ألفاظا أخرى تدل على مفهوم المعجزة ، وذلك في سياق إثبات نبوة الأنبياء عليهم‌السلام ، فمن تلك الألفاظ التي استعملها القرآن الكريم لغرض إثبات صدق الرسل لفظة : البينة ، الآية ، البرهان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في ثنايا قصص الأنبياء أو في معرض إقامة الحجة والبرهان في شتى المجالات.

يقول ابن تيمية (١) : (والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد كثيرة متنوعة وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء ، ويسميها من يسميها من النظار معجزات ، وتسمى دلائل النبوة وأعلام النبوة ، وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب والسنة وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان) (٢).

(وإنما ظهر مصطلح المعجزة ، في وقت متأخر بعض الشيء ، عند ما دونت العلوم ، ومنها علوم العقائد في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية الثالث) (٣).

__________________

(١) ابن تيمية : الشيخ الإمام الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع ، شيخ الإسلام ، أحمد بن المفتي شهاب الدين عبد الحليم ابن الإمام الحراني ، أحد الأعلام ، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة ، عني بالحديث ، وخرّج ، وانتقى ، وبرع في الرجال ، وعلل الحديث ، وفقهه ، وفي علوم الإسلام ، وعلم الكلام وغير ذلك ، مات في العشرين من ذي القعدة ، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. طبقات الحفاظ ، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٣ ه‍ ، ١ / ٥٢٠.

(٢) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، الرياض ، دار العاصمة ، الطبعة الأولى ، ١٤١٤ ه‍ ، تحقيق علي حسن ناصر وآخرون ، ٥ / ٤١٢ ، وانظر :

النبوات ، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، القاهرة ، المطبعة السلفية ، د. ت ، ١ / ٣.

(٣) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص ، ١٣.

٢٣

وسوف يذكر في هذا الفصل إن شاء الله تعريف المعجزة في اللغة والاصطلاح ، وبيان الفرق بين معجزة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من الأنبياء ، ثم يعرج للحديث عن إعجاز القرآن وتحديه للعرب والناس جميعا ويوضح عجز العالم عن مجاراة هذا الكتاب العظيم ، وشهادتهم في ذلك.

٢٤

المبحث الأول

تعريف المعجزة

المعجزة لغة : تحدث علماء اللغة عن الفعل : عجز ، ومضارعه : يعجز ، والمصدر منه : إعجاز ، فعند ابن منظور (العجز : نقيض الحزم ، عجز عن الأمر يعجز وعجز عجزا فيهما ، وعجز فلان رأي فلان إذا نسبه إلى خلاف الحزم ، كأنه نسبه إلى العجز ، والعجز : الضعف) (١).

وفي معجم مقاييس اللغة : (عجز عن الشيء يعجز عجزا ، فهو عاجز ، أي ضعيف ، وقولهم : إن العجز نقيض الحزم فمن هذا ، لأنه يضعف رأيه ويقولون : المرء يعجز لا محالة ، ويقال : أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه ولن يعجز الله تعالى شيء ، أي لا يعجز الله تعالى عنه متى شاء ، وفي القرآن :

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (٢) (٣) ، ويشير الفيروزآبادي إلى أن معنى العجز هو التثبيط فيقول : (التعجيز : التثبيط ، والنسبة إلى العجز ، ومعجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أعجز به الخصم عند التحدي) (٤).

وفي «تاج العروس» : (العجوز ، بالضم كعقود : الضعف وعدم القدرة ، وفي المفردات للراغب والبصائر وغيرهما ، العجز : أصله التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر أي مؤخره كما ذكر الدبر ، وصار في العرف اسما للقصور عن فعل الشيء

__________________

(١) لسان العرب ، محمد بن مكرم بن منظور ، بيروت ، دار صادر ، الطبعة الأولى ، د. ت ، ٥ / ٣٦٩.

(٢) سورة الجن ، الآية : ١٢.

(٣) معجم مقاييس اللغة ، لأبي الحسين أحمد بن فارس ، بيروت ، دار الجيل ، تحقيق ، عبد السلام هارون ، د. ت ، ٤ / ٢٣٢.

(٤) القاموس المحيط ، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ، بيروت ، دار الفكر ، ١٩٩٥ ، ص ، ٤٦٤.

٢٥

وهو ضد القدرة ، وفي حديث عمر : لا تلثّوا بدار معجزة ، أي لا تقيموا ببلدة تعجزون فيها عن الاكتساب والتعيش) (١).

المعجزة اصطلاحا :

رأينا أن مدلول كلمة : عجز ، أعطانا عدة معاني ، وإن تباينت بعض الشيء تبعا لاشتقاقاتها إلا أنها تدل بمجملها على الضعف ، وهذا المصطلح مفتقر إلى قرينة تدل على معناه عند ما يرد في سياق الكلام ذلك لأنه مبهم إذا ما جرد عن القرائن ، ويتضح هذا الذي نقول عند ما نطلق كلمة العجز على شخص ، فنقول على سبيل المثال : زيد من الناس أصابه عجز ، فما هو هذا العجز يا ترى؟ هل عجز في جسده ، وما هو نوعه وصفته ، أم أنه عجز مالي ، أم أنه عجز في الإدراك والتفكير وكذلك الأمر إذا أطلق هذا اللفظ في شتى جوانب الحياة ، غير أن علماء الكلام إذا أطلقوا مصطلح «المعجزة» فإنهم يعنون به المعنى الاصطلاحي الذي نثبته هنا ، يقول السيوطي : (المعجزة ، أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، سالم من المعارضة ، يظهره الله على يد رسله) (٢).

وهكذا عرّف المعجزة ابن خلدون في مقدمته ، حيث يقول : (إن المعجزات هي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة ، وليست من جنس مقدور العباد ، وإنما تقع في غير محل قدرتهم) (٣).

ومن خلال استعراض تعريف المعجزة ، يمكن لنا أن نتبين شروطها ، وسترد هذه الشروط كما ذكرها الإيجي (٤) في المواقف بشكل موجز :

__________________

(١) تاج العروس من جواهر القاموس ، محب الدين السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي ، بيروت ، دار الفكر ، تحقيق : علي شيري ١٤١٤ ه‍ ، ٨ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ، جلال الدين السيوطي ، بيروت ، عالم الكتاب ، د. ت ، ٢ / ١١٦.

(٣) المقدمة ، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ، بيروت ـ صيدا ، المكتبة العصرية ، تحقيق ، درويش جويدي ، ١٤٢٢ ه‍ ، ص ، ٩٠.

(٤) ت ٧٥٦ ه‍ ، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار قاضي قضاة الشرق وشيخ العلماء بتلك البلاد العلامة عضد الدين الإيجي الشيرازي شارح مختصر ابن الحاجب الشرح المشهور وغير ذلك من المؤلفات المشهورة في العلوم الكلامية والعقلية ، كان إماما في علوم متعددة محققا مدققا ذا تصانيف مشهورة منها شرح المختصر لابن الحاجب ، والمواقف ، والجواهر ، وغيرها في علم الكلام ، مولده بإيج بعد سنة ثمان وسبعمائة. انظر : طبقات الشافعية ، لأبي بكر أحمد بن محمد ابن عمر ، بيروت ، عالم الكتاب تحقيق ، الحافظ عبد العليم خان ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٧ ه‍ ، ٣ / ٢٧ ، بتصرف.

٢٦

الشرط الأول : أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه من المتروك ، وإنما اشترط ذلك لأن التصديق من الله تعالى لا يحصل بما ليس من قبله ، وقولنا : أو ما يقوم مقامه ليتناول التعريف مثل ما إذا قال : معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون عليه ففعل وعجزوا ، فإنه معجز دال على صدقه ، ومعنى المتروك ، أي عدم الفعل ، كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه‌السلام.

الثاني : أن يكون المعجز خارقا للعادة ، إذ لا إعجاز دونه ، فإن المعجز ينزل من الله منزلة التصديق بالقول ، وما لا يكون خارقا للعادة بل معتادا ، كطلوع الشمس في كل يوم ، وبدوّ الأزهار في كل ربيع ، فإنه لا يدل على الصدق لمساواة غيره إياه في ذلك.

الثالث : أن يتعذر معارضته ، فإن ذلك حقيقة الإعجاز.

الرابع : أن يكون ظاهرا على يد مدعي النبوة.

الخامس : أن يكون موافقا للدعوى ، فلو قال : معجزتي أن أحي ميتا ففعل خارقا آخر كنتق الجبل مثلا لم يدل على صدقه.

السادس : أن لا يكون ما دعاه وأظهره من المعجزة مكذبا له فلو قال : معجزتي أن ينطق هذا الضب فقال : إنه كاذب ، لم يعلم به صدقه بل ازداد اعتقاد كذبه.

السابع : أن لا يكون المعجز متقدما على الدعوى بل مقارنا لها ، لأن المعجز تصديق من الله ورسوله فلا يتصور أن يأتي التصديق قبل دعوى النبوة (١).

وتجدر الإشارة إلى أهم صفات المعجزة في القرآن الكريم ، حيث إنها من لدن الحق عزوجل والله سبحانه وتعالى يؤيد بها رسله لتكون آية على صدق دعواهم ، وبرهانا ساطعا على أن ما أتوا به هو من عند الله ، ودورهم هو التبليغ والبيان ، فلا يملك رسول من الرسل قدرة على إيجاد المعجزة من تلقاء نفسه ، ولا يستطيع خرق ناموس من نواميس الحياة بقوة ذاتية تصدر من كيانه إلا بأمر الله ومشيئته ، وهذا المعنى نطق به كتاب الله تعالى في غير ما موضع ، من ذلك على سبيل المثال ، قول الله تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه‌السلام : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ، لعلي بن محمد الجرجاني ، القاهرة ، منشورات الشريف الرضي ، الطبعة الثانية ، ١٣٧٣ ه‍ ، ٨ / ٢٢٣ وما بعدها بتصرف.

٢٧

وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

وفي هذا الصدد يقول الحق عزوجل : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٢).

ويؤكد الحق عزوجل على نفي طاقة النبي وعجزه عن أن يأتي بمعجزة من عنده وإن كان أشرف الخلق وأكرمهم على الحق ، إلا أن ذلك الشرف لا يتعد طوق البشر ليصل إلى درجة الخلق أو الخرق ، وإلى هذا يشير بيان الله بقوله (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣).

يعلق الشيخ رشيد رضا (٤) على هذه الآية فيقول : (... وإن كان شأنك معهم أنه كبر عليك إعراضهم عن الإيمان وعن الآيات القرآنية والعقلية الدالة عليه ، وظننت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ، ويكشف شبهتهم ، فيعتصمون بعروة الإيمان عن بينة ملزمة وبرهان ، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقا كائنا في الأرض ، أو معناه تطلبه في الأرض فتذهب في أعماقها ، أو سلما في جو السماء ترقى عليه إلى ما فوقها فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك منهما ، فأت بما يدخل في طوع قدرتك من ذلك. أي وليس ذلك في قدرة البشر وإن كان رسولا ، لأن الرسالة لا تخرج الرسول عن طور البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة والاستطاعة ، فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر ولا يقدر عليه إلا الخالق تعالى) (٥).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٤٩.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٣٨.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٣٥.

(٤) ١٢٨٢ ـ ١٣٥٤ ه‍ ١٨٦٥ ـ ١٩٣٥ ه‍ ، محمد رشيد بن علي رضا القلموني ، من العلماء بالحديث والأدب والتفسير ، صاحب مجلة المنار وأحد رجال الإصلاح الإسلامي ، ولد ونشأ في القلمون «من أعمال طرابلس الشام» وأنشأ في مصر مدرسة الدعوة والإرشاد توفي في مصر ، من مؤلفاته : تفسير المنار ، والوحي المحمدي ، والخلافة ، وغيرها. انظر : الأعلام ، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ، خير الدين الزركلي ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة السادسة ، ١٩٨٤ ، ٦ / ١٢٦ ، بتصرف.

(٥) تفسير المنار ، محمد رشيد رضا ، بيروت ، دار الفكر ، الطبعة الثالثة ، د. ت ، ٧ / ٣٨٢.

٢٨

المبحث الثاني

الفرق بين معجزة النبي

ومعجزات الأنبياء السابقين عليهم‌السلام

أولا : معجزات الأنبياء عليهم‌السلام

من القضايا البدهية في تاريخ الأديان وسير الأنبياء والمرسلين ، أن الحق تبارك وتعالى جعل لكل نبي من الأنبياء آية أو معجزة تدل على صدق دعواه ، وتفتح هذه المعجزة باب التحدي للقوم المرسل إليهم ، لتبرز لهم وجوه الإعجاز التي لم يسبق لهم وأن تعاهدوها في سالف حياتهم أو حاضرهم.

ومن كمال الحكمة أن تكون تلك المعجزة منسجمة وملائمة لما نبغ فيه القوم وشاع في أوساطهم ، في مختلف المجالات وشتّى مرافق الحياة ، والباعث على هذه الملائمة تعزيز إدراك كنه المعجزة وطبيعتها ، والكشف عن خواصها وحقيقتها ، ليتسنّى للقوم المرسل إليهم معرفة وجه الحق من الباطل ، ولن يتمكنوا من اتخاذ موقف حيال هذه الدعوى التي عرضت عليهم إلا بعد معرفتها فإذا ما تجلت لهم واتضحت ، استطاعوا يوم ذاك أن يصدروا الحكم عليها سلبا أو إيجابا لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما هو معلوم.

ولا غرابة أن يؤيد النبي بأكثر من معجزة ، بل إن في ذلك ترسيخا لصدق مدعيها وتأكيدا على وجوب الخضوع لسلطانها والانقياد لمستلزماتها.

(فموسى عليه‌السلام قد حمل إلى بني إسرائيل عصا كانت تتفجّر منها المعجزات ... يلقي بها من يده فتنقلب حية تسعى ، ويضرب بها البحر فينفلق عن طريق يبس بين جبال عالية من الماء ... ويضرب بها وجه الحجر فيتفجر منه الماء ، وتسيل العيون ... ثم كان معه إلى جانب تلك العصا ومعجزاتها معجزة أخرى هي يده ، يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء ... ثم من معجزاته كذلك سوق آيات النقمة والبلاء على

٢٩

فرعون وقومه) (١). (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٢).

وكذلك عيسى عليه‌السلام كانت معجزاته متنوعة ، كما قال الحق عزوجل : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣).

وقد تقرن المعجزة بتنزل الوحي من أول مرة ، من غير سابق علم أو معرفة أو سؤال وهذا ما جرى لكليم الله موسى عليه‌السلام كما أخبر القرآن بذلك ، قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢)) (٤).

ويؤيد الرسول بالمعجزة بعد دعوة قومه إلى الهدى والإيمان ، فيكذبونه ويعرضون عن دعوته وتعاليم السماء ، ثم يطلبون منه المعجزة الدالة على صدقه فيعطاها ، وهذا ما جرى لمعظم الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام.

قال تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ

__________________

(١) الإعجاز في دراسات السابقين ، عبد الكريم الخطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥ ، ص ٨٩ ، وانظر : دلائل الإعجاز في علم المعاني ، للإمام البلاغي عبد القاهر الجرجاني ، بيروت ـ صيدا ، المكتبة العصرية ، تحقيق ، ياسين الأيوبي ، الطبعة الأولى ، ١٤٢١ ه‍ / ٢٠٠٠ ، ص ، ٤٣٣.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٣٣.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٤٩.

(٤) سورة القصص ، الآيات ٢٩ ـ ٣٢.

٣٠

أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)) (١).

وهكذا مع سائر الأنبياء ... وكيفما كان الحال ، فإن المعجزة عطية من الله تعالى لرسوله يختارها له في الكيفية التي يشاؤها ولمن يريدها.

إذا علمنا هذا ، فإننا من خلال عرض واستقراء معجزات الأنبياء السابقين يتضح أن معجزاتهم على نوعين :

النوع الأول : حسية ، وقد أيد جميع رسل الله بها.

النوع الثاني : كتب وصحف منزلة ، إلا أن هذه الصحف وتلك الكتب منها ما قد اندثر في غياهب الزمان ، وانحجب عنا فأصبح أثرا بعد عين ، كصحف إبراهيم والزبور وغيره ، ومنها ما قد تسرب إليه التبديل والتحريف ولم يسلم منه إلا القليل ، كالتوراة والإنجيل.

وهذه المعجزات كما علمنا كانت منسجمة مع البيئة والمحيط الذي ظهرت فيه ، ومتناسبة مع المستوى العقلي والعلمي والاجتماعي لدى القوم الذين خوطبوا بها ، إلا أن تلك المعجزات المادية كانت حياتها مرتبطة بحياة أصحابها من الأنبياء ، فلما رحل الأنبياء إلى دار القرار ، ذهب وجه الإعجاز لتلك البينات من حيز الواقع المشاهد والمرئي ، ولم يبق منها إلا النقول والأخبار عبر وحي الله تعالى تقريرا وتحقيقا ، وعبر التاريخ رواية.

والشواهد كثيرة في كتاب الله تعالى على ما ذكرنا ... (فالأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية ، فمعجزة صالح عليه‌السلام كانت ناقة غريبة المنشأ والمولد بين نوق أهل البادية) (٢).

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآيات ٦٥ ـ ٧٠.

(٢) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ص ٢٢ ، وانظر : فكرة إعجاز القرآن ، نعيم الحمصي ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ ، ص : ١٣.

٣١

قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦)) (١).

ومن الملاحظ أن معجزة صالح كانت من جنس ما شاع في أرجاء الجزيرة العربية من تربية الأنعام ورعيها ، فلو أن صالحا أتاهم بمعجزة غريبة عنهم كعصا موسى مثلا ، أو كإحياء الموتى لاستهجنها القوم واستنكروها ولقالوا بلسان واحد : نحن أمة لا نعرف سحرا ولا طبا ، ولو كان لدينا علم بأعمال السحرة وأساليبهم لدحضنا ما جئت به وأبطلنا معجزتك.

وهذا موسى عليه‌السلام فلقد اشتهر أهل مصر بالسحر وأفانين السحرة ، ومن هنا كان لزاما أن يؤيد موسى بمعجزة من نوع ما تعارف عليه قومه ليقيم الحجة عليهم ويثبت صدق ما ادعاه ، ومن أبرز معجزاته : العصا واليد ، قال تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢)) (٢).

(فلو أن موسى عليه‌السلام ذهب إلى فرعون وقومه بمعجزة لغوية كمعجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن وقرأها عليهم ، لقالوا له : إن ما جئتنا به كلام عادي ، ليس فيه إعجاز ، ولا يدل على صدقك ولو كنا نعرف العربية أو نتقنها كالعرب ، لأتيناك بكلام أبلغ من الكلام الذي جئتنا به ولما أفلحت معهم معجزته البلاغية ، وما ذاك إلا لأنهم لا يعرفون العربية ، ولو عرفوها لكانت معرفتهم لها معرفة بسيطة لا تمكنهم من الوقوف على وجه الإعجاز في القرآن ، ولذلك كان لا بد من معجزة تتناسب مع معارفهم وعلومهم) (٣).

(وبعد موسى عليه‌السلام انتشرت الفلسفة الأيونية ، وهي أساس الفلسفة اليونانية فيما بعد وكانت تقوم على الأخذ بالأسباب والمسببات ، وتولد العلة من المعلول في انتظام قائم لا يتخلف فجاءت معجزات أنبياء بني إسرائيل في هذا العصر خارقة للأسباب

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيات ١٥٣ ـ ١٥٦.

(٢) سورة طه ، الآيات ١٧ ـ ٢٢.

(٣) المعجزة القرآنية ، محمد حسن هيتو ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٩ ه‍ / ١٩٨٩ ، ص : ٢٣.

٣٢

والمسببات ، لتثبت أن الكون كله بإرادة مختار ، لا يفعل إلا ما يريد ولا يصدر عنه بغير إرادته الثابتة شيء) (١).

وإننا نلحظ هذا المعنى من تعليم الله تعالى نبيه سليمان عليه‌السلام منطق الطير والحيوانات الأخرى كالنمل مثلا ، قال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩) (٢).

وتسخير الريح له ، قال سبحانه : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) (٣).

وفي عصر عيسى عليه‌السلام نبغ قومه وبرعوا بالطب ، فكانت المعجزات التي أجراها الحق تبارك وتعالى على يده من جنس ما اشتهر به القوم ، ولقد كانت حياة عيسى عليه‌السلام حافلة بالمعجزات الربانية بدءا من حمله وحتى رفعه إلى السماء.

فلقد جرت سنة الله في خلقه أن يكون الوالدان سببا في إنجاب المولود ، فجاءت ولادة عيسى عليه‌السلام معجزة خارقة لتلك السنن المعتادة ، وفي ذلك يقول مولانا تبارك وتعالى :

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤٨) (٤).

وعند الولادة سطّر القرآن الكريم معجزة نطقه في المهد بالحكمة وفصيح البيان ، وكانت كلماته عليه‌السلام معجزة في نطقه ، وإلجاما لأفواه الذين أرادوا أن ينالوا من أمه

__________________

(١) المعجزة الكبرى ، محمد أبو زهرة ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، د. ت ، ص : ٤٣٧.

(٢) سورة النمل ، الآيات : ١٦ ـ ١٩.

(٣) سورة سبأ ، الآية : ١٢.

(٤) سورة آل عمران ، الآيات : ٤٥ ـ ٤٨.

٣٣

العذراء عليها‌السلام قال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢)) (١).

ومن معجزاته التي أجراها الله على يديه كذلك ، ما ذكر الحق بقوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٢).

وهكذا نرى أن معجزات الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسّلام كانت منسجمة مع ما نبغ فيه قومهم ، لتثبت الحجة عليهم ويقوم البرهان على صدق دعوى الرسل ، ولكن كما أشرنا سابقا أن هذه المعجزات كانت محصورة في زمن محدد ومرتبطة بوجود أصحابها من الرسل ، وبعد التحاقهم بالرفيق الأعلى ، غدت معجزاتهم تاريخا يذكر للعظة والعبرة.

ثانيا : معجزات نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أيّد الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزات حسية مدركة ، وبالمعجزة الخالدة القرآن الكريم ، وستذكر لمحة سريعة عن المعجزات الحسية ، ليركز بعدها على المعجزة الخالدة.

المعجزات الحسية :

بين معجزة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزات الأنبياء السابقين ، قاسم مشترك من جهة المعجزات الحسية فلقد أيّد الحق عزوجل رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزات حسية ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنّة المطهرة ، من ذلك نبع الماء من بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكثير

__________________

(١) سورة مريم ، الآيات ٢٧ ـ ٣٢.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٠.

٣٤

الطعام القليل ، وحنين الجذع ، وانشقاق القمر وغيرها ، ولنوجز العرض في الحديث عن هذه المعجزات.

١ ـ نبع الماء :

روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : (رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضوء ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده في ذلك الإناء ، وأمر الناس يتوضئوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم) (١).

وفي رواية ، قال قتادة : (قلت لأنس : كم كنتم قال : ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة) (٢).

وروى البخاري في صحيحه كذلك من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : (عطش الناس يوم الحديبية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يديه ركوة فتوضأ ، جهش الناس نحوه ، فقال : «ما لكم»؟ قالوا : ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك ، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون ، فشربنا وتوضأنا ، قلت : كم كنتم؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، إنا كنا خمس عشرة مائة) (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ، محمد بن إسماعيل البخاري ، بيروت ، دار اليمامة ، تحقيق ، د. مصطفى البغا ، الطبعة الثالثة ، ١٤٠٧ / ١٩٨٧ ، باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة ، رقم (١٦٧) ، ١ / ٧٤ ، وصحيح مسلم ، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، تحقيق ، محمد فؤاد عبد الباقي ، د. ت ، رواه في الفضائل ، باب معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقم (٢٢٧٩) ، ٤ / ١٧٨٣ ، وسنن الترمذي ، محمد بن عيسى الترمذي السلمي ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، تحقيق ، أحمد شاكر وآخرون ، د. ت ، رواه في المناقب رقم : (٣٦٣١) ، ٥ / ٥٩٦ ، وموطأ مالك ، مالك بن أنس الأصبحي ، القاهرة ، دار إحياء التراث العربي ، تحقيق ، محمد فؤاد عبد الباقي ، د. ت رقم (٦٢) ، ١ / ٣٢ ، ومسند الشافعي ، محمد بن إدريس الشافعي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، د. ت ، ١ / ٥١ ، وسنن البيهقي الكبرى أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي ، مكة المكرمة ، دار الباز ، تحقيق ، محمد عبد القادر عطا ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٤ ، رقم (٨٧٨) ١ / ١٩٣.

(٢) رواه البخاري ، في المناقب ، باب علامات النبوة ، رقم (٣٣٧٩) ، ٣ / ١٣٠٩.

(٣) رواه البخاري ، في المناقب ، باب علامات النبوة ، رقم (٣٣٨٠) ، ٣ / ١٣١٠ ، ومسند أحمد ، أحمد ابن حنبل الشيباني ، القاهرة ، مؤسسة قرطبة ، د. ت ، في مسند جابر بن عبد الله ، رقم (١٤٥٦٢) ، ٣ / ٣٢٩ ، وصحيح ابن حبان ، محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي ، ـ

٣٥

ونحن نلحظ أن هذه المعجزة العظيمة أقامت الدليل القاطع على صدق نبوة محمد ابن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لأنها خرقت قوانين البشر ، وما اعتادوا عليه في حياتهم ، وأظهرت لهم وجه الإعجاز العظيم ، فالماء تراه الأعين كيف ينبع ويفور من بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيدي الصحابة الكرام تغترف منه وتتوضّأ والناس شربوا منه حتى ارتووا وانطفأ لهيب ظمأهم.

يقول القاضي عياض : (ومثل هذا في هذه المواطن الحافلة والجموع الكثيرة ، لا تتطرق التهمة إلى المحدث به ، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه لما جبلت النفوس عليه من ذلك ، ولأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل ، فهؤلاء قد رووا هذا ، وأشاعوه ونسبوا حضور الجمّاء الغفير له ، ولم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوا وشاهدوه ، فصار كتصديق جميعهم له) (١).

٢ ـ تكثير الطعام :

(عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثين ومائة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل مع أحد منكم طعام»؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه ، فعجن ، ثم جاء رجل مشرك ، مشعان طويل ، بغنم يسوقها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بيعا أم عطية» أو قال : «أم هبة» قال : لا بل بيع ، فاشترى منه شاة ، فصنعت ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ، ما في الثلاثين والمائة إلا قد حز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له حزة من سواد بطنها ، إن كان شاهدا أعطاها إياه ، وإن كان غائبا خبأ له ، فجعل منها قصعتين ، فأكلوا أجمعون وشبعنا ، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير) (٢).

__________________

ـ بيروت ، مؤسسة الرسالة ، تحقيق ، شعيب الأرناءوط ، الطبعة الثانية ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٣ رقم :

(٦٥٤١) ، ١٤ / ٤٧٩ ، وصحيح ابن خزيمة ، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، تحقيق ، محمد مصطفى الأعظمي ، ١٣٩٠ ه‍ رقم : (١٢٤) ١ / ٦٥.

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، تحقيق ، علي محمد البجاوي ، د. ت ، ١ / ٤٠٥.

(٢) رواه البخاري ، في الهبة ، باب قبول الهدية من المشركين ، رقم (٢٤٧٤) ، ٢ / ٩٢٣ ، ورواه مسلم ، في الأشربة ، باب إكرام الضيف رقم (٢٠٥٦) ، ٣ / ١٦٢٦ ، والآحاد والمثاني ، أحمد ابن عمرو بن الضحاك الشيباني ، الرياض ، دار الراية ، تحقيق ، باسم فيصل الجوابرة الطبعة الأولى ، ١٤١١ ه‍ ، رقم (٦٥٦) ، ١ / ٤٧٢.

٣٦

(وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم لقد سمعت صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعيفا ، أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء؟ قالت : نعم فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فذهبت به ، فوجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أأرسلك أبو طلحة»؟ فقلت : نعم ، قال : «بطعام»؟ قلت : نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن معه : «قوموا» فانطلق وانطلقت بين أيديهم ، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم ، قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم؟ فقالت : الله ورسوله أعلم ، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقبل رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو طلحة معه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلمي يا أم سليم ما عندك» فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففتّ ، وعصرت أم سليم عكّة فأدمته ، ثم قال رسول الله فيه ما شاء أن يقول ، ثم قال : «ائذن لعشرة» ، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : «ائذن لعشرة» فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : «ائذن لعشرة» فأكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا) (١).

وهناك غير هاتين الروايتين في السنن الصحيحة تدل بمجملها على تكثير الطعام القليل بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه من دلائل نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلا فهل يعقل عادة أن كسارة خبز من شعير ، تكفي لسبعين رجل أشداء أقوياء ، ويأكلون حتى يشبعوا ويزيد؟.

٣ ـ حنين الجذع :

حديث حنين الجذع حديث مشهور معروف ، وقد أخرجه أهل الصحيح ورواه عدد من الصحابة الكرام ...

من ذلك ما رواه البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : (كان المسجد

__________________

(١) رواه البخاري ، في الأطعمة ، باب من أكل حتى شبع ، رقم (٦٣١٠) ، ٦ / ٢٤٦١ ، ومسلم في الأشربة ، باب استحباب الاجتماع على الطعام ، رقم (٢٠٤٠) ، ٣ / ١٦١٢ ، مسند عبد بن الحميد ، عبد بن حميد بن نصر الكسي ، القاهرة ، مكتبة السنة ، تحقيق ، صبحي السامرائي ومحمود الصعيدي ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨ ، رقم (١٢٣٨) ، ١ / ٣٧١ ، والمعجم الكبير ، للإمام سليمان بن أحمد الطبراني ، الموصل ، مكتبة العلوم والحكم ، تحقيق ، حمدي السلفي ، الطبعة الثانية ، د. ت ، رقم (٢٧٦) ، ٢٥ / ١٠٧.

٣٧

مسقوفا على جذوع من نخل ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر وكان عليه ، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار ، حتى جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضع يده عليها فسكنت) (١).

ورواية أخرى لجابر بن عبد الله (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار ، أو رجل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا نجعل لك منبرا؟ قال : «إن شئتم» فجعلوا له منبرا فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر ، فصاحت النخلة صياح الصبي ، ثم نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضمه إليه يئن أنين الصبي ، الذي يسكن ، قال : «كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها» (٢).

قال صاحب «فتح الباري» معقبا : (... وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان ، وفيه تأييد لقول من يحمل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) على ظاهره ، وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي ، عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال : ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : أعطى عيسى إحياء الموتى ، قال : أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته ، فهل أكبر من ذلك) (٣).

٤ ـ انشقاق القمر :

معجزة انشقاق القمر من أعظم معجزاته الحسية صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي خلّدها القرآن الكريم وثبتت في الصحاح ، وهي مكرمة إلهية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ينشقّ القمر لأحد من قبله من أنبياء الله ومرسليه ، وقد رآها الناس رأي العين ، وشاهدوا انفلاق القمر إلى فلقتين في كبد السماء ، وسألوا أهل البوادي والقوافل الرّحالة عن ذلك فما أنكر منهم أحد ، إلا من ركب رأسه ، وآثر الجحود السافر على دلائل الحق وبراهين الهدى.

__________________

(١) رواه البخاري ، في المناقب ، باب علامات النبوة ، رقم (٣٣٩١) ، ٣ / ١٣١٤ ، ورواه أحمد ، رقم (١٤١٥١) ، ٣ / ٢٩٣ ، وسنن الدارمي ، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، تحقيق ، خالد العلي ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٧ ه‍ رقم (١٥٦٢) ١ / ٤٤٢.

(٢) رواه البخاري ، في المناقب ، باب علامات النبوة ، رقم (٣٣٩٢) ، ٣ / ١٣١٤ ، والبيهقي في سننه ، رقم (٥٤٨٧) ، ٣ / ١٩٥.

(٣) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، القاهرة ، دار الريان ، تعليق ، محمد فؤاد عبد الباقي ، الطبعة الثانية ، ١٩٨٨ م ، ٨ / ٥٠٤.

٣٨

ويثبت القرآن هذه المعجزة في سورة من كتابه العزيز ، سماها سورة «القمر» وكان مطلع استهلالها قول الحق : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١).

روى الطبري بسنده في تفسيره ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : (نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة ، فحضر أبيّ ، وحضرت معه ، فخطبنا حذيفة فقال ألا إن الله يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد أذنت بفراق وإن اليوم مضمار وغدا السباق ...) (٢).

يقول الحافظ ابن كثير : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قد كان هذا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة ، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال خمس قد مضين ، الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر ، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان إحدى معجزاته الباهرات) (٣).

وكما ذكر الحافظ ابن كثير بأن الأحاديث في هذه المعجزة ثابتة وكثيرة ، ومنها ما ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عبد الله رضي الله عنه قال : (انشق القمر ونحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمنى فقال : اشهدوا ، وذهبت فرقة نحو الجبل) (٤).

قال الخطابي كما ورد في «فتح الباري» : (انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء ، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع ، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة ، فلذلك صار البرهان به أظهر) (٥).

ثم إن حادثة انشقاق القمر على الرغم من استفاضة الأخبار حولها ، وتخليد القرآن لها وكفى بالقرآن شاهدا على وقوعها ، وما نقل في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرغم

__________________

(١) سورة القمر ، الآية : ١.

(٢) جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، بيروت ، دار الفكر ، ١٤٠٥ ه‍ ، ١٢ / ٥١.

(٣) تفسير القرآن العظيم ، إسماعيل بن عمر بن كثير ، بيروت ، دار الفكر ، ١٤٠١ ه‍ ، ٤ / ٤٢٧.

(٤) رواه البخاري ، في فضائل الصحابة ، باب انشقاق القمر ، رقم (٣٦٥٦) ، ٣ / ١٤٠٤ ، وأحمد في مسنده ، رقم (٤٣٥٧) ، ١ / ٤٥٦.

(٥) فتح الباري ، لابن حجر ، ٩ / ٤١.

٣٩

من هذا كله ، فإن العلم يأتي اليوم ليثبت وقوعها ، وذلك عند ما وطأ رواد الفضاء القمر ودرسوا خصائصه وظروفه بكل أنواعها ، وكان مما انكشف لهم معجزة انشقاق القمر وسيأتي الحديث عن هذه القضية خلال عرضنا للصور التطبيقية حول الإعجاز العلمي في مبحث القمر إن شاء الله تعالى.

وبعد هذا العرض الموجز لطائفة من معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحسية ، هناك معجزات أخرى كثيرة وردت في الصحاح يمكن الرجوع إليها والاستزادة والاستفادة من أخبارها ، ومن أبرزها معجزة الإسراء والمعراج وغيرها ... ويلفت الانتباه هنا إلى قضية لها بالغ الأهمية في هذا الصدد ألا وهي أن المعجزات التي ذكرنا ، منها ما قد جرت مجرى إثبات وإظهار صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعواه ودون معارضة أو تحد ، ومنها ما قد تحدى الله به القوم ، وفي كلتا الحالتين دليل ساطع على أن الله تبارك وتعالى قد أجرى على يد رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزات كانت خارقة لنواميس الكون وما اعتاده البشر في حياتهم ، وفي نفس الوقت هي دليل على أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من عند الله تبارك وتعالى ... وفي هذا يقول ابن حجر : (... وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وانشقاق القمر ونطق الجماد ، فمنه ما وقع التحدي به ، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خوارق العادات شيء كثير) (١).

ثم إن هذه المعجزات الحسية التي وردت إن وقع بها التحدي للقوم الذين كذبوا النبي كانت معجزة ، لأنه يشترط في المعجزة وكما مرّ معنا التحدي ، وإن لم يقع بها التحدي ، كتكثير الطعام ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذه تدخل في نطاق دلائل وعلامات النبوة ، لأنه لا تحدي أي هي مما يعجز القوم عن الإتيان به ، فمن من البشر ينبع الماء من بين أصابعه عند ما يشاء؟

وهذا ما أوضحه ابن حجر في مستهل حديثه عن علامات النبوة فقال : (العلامات جمع علامة وعبر بها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعم من المعجزة والكرامة والفرق بينهما أن المعجزة أخص ولأنه يشترط فيها أن يتحدى النبي من يكذبه بأن

__________________

(١) المصدر نفسه ، ٧ / ٤٧٢.

٤٠