الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

إن توجّه الدعاة بهذه البضاعة النضرة المتألقة يعني فتحا وانتصارا ، وإن كل داعية متسلح بهذه العلوم هو خير من الأسلحة الثقيلة وأقوى من الصواريخ والدبابات ، وعرضنا لهذه الحقائق نبتغي من ورائه هداية الناس خاصة أولئك الذين توغّلوا في المادة فنسوا الله والدار الآخرة ، وهدايتهم تعني إحياءهم وبث روح الإيمان في قلوبهم وعقولهم ، فالإسلام هو دين الحياة.

ثالثا ـ ضوابط التفسير العلمي للقرآن

وضع العلماء قيودا وضوابط لتفسير القرآن على أساس العلوم العصرية وهي :

١ ـ الاعتماد في تفسيرنا العلمي على الحقائق لا الفرضيات :

البعد في تفسيرنا عن الفرضيات والتخمين والنظريات ، لأن الفرضيات هي آراء يحاول أصحابها من الباحثين تفسير ظاهرة شاهدوها في مجال الطبيعيات والكونيات وفي شتّى الميادين وكما هو معلوم أن أي فرض علمي قابل للصحة والبطلان أو التعديل ، والحكم في ذلك هو التجربة والواقع وإذا ما انتقل الفرض إلى حيز النظرية فإنه لا يزال كذلك قابلا للأخذ والرد ، لكن عند ما يرقى إلى مستوى الحقيقة العلمية وصعيد اليقين الجازم يومذاك يكون تفسيرا قويا لآيات القرآن الكريم ، ونحن لا نجيز تفسير الآيات بالنظريات والفرضيات ، بل الدعامة العلمية التي ننهض عليها هي تفسير القرآن بحقائق العلم القطعية ، وذلك توصيدا لباب الشك والريب هنا ، فكم من نظرية ذاع صيتها وراجت بين الناس ثم أهيل عليها التراب فيما بعد وطويت في صفحات الزمن المنسي وأصبحت من الوهميات.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي : (أن نستخدم من نتائج العلوم ما استقر عند أهله ، وغدا حقيقة علمية يرجع إليها ، ويعوّل عليها ، ولا نعوّل على الفرضيات والنظريات التي لم تثبت دعائمها حتى لا نعرض فهمنا للقرآن للتقلب مع هذه الفرضيات ، فليكن اعتمادنا على الحقائق المقررة ، ولا يقال : إن العلم ليس فيه حقائق ثابتة إلى الأبد ، فكم من قضايا علمية كانت يوما ما بل ظلت قرونا وقرونا حقائق مقدسة ، ثم ذهبت قدسيتها العلمية ، وأثبت التطور العلمي عكسها ، وهذا صحيح ومعروف ، ولكن حسبنا الثبات النسبي للحقائق ، فهذا هو الذي في مقدورنا بوصفنا بشرا ، وقد قيل في تعريف التفسير هو : بيان المراد من كلام الله بقدر الطاقة البشرية) (١).

__________________

(١) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، يوسف القرضاوي ، ص ٣٨٢.

١٦١

٢ ـ عدم التعارض بين الحقيقة العلمية والقرآن.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا تعارض بين نصوص القرآن والحقائق العلمية ، فإنه من المستحيل أن يتعارض نص قرآني قطعي الدلالة مع حقيقة علمية ، لأن القرآن حق ، والحقيقة العلمية حق وكلاهما مصدرهما واحد وهو الحق تبارك وتعالى القائل : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).

(ويستحيل التصادم بين الحقائق القرآنية وبين الحقائق العلمية لأنهما من مشكاة واحدة ، وينبغي أن يكون من المسلّمات في أذهاننا أن الحقائق القرآنية المتعلقة بأيّ جانب من جوانب الكون أو الإنسان والحيوان والنبات إذا كانت قطعية الدلالة لا يمكن أن تصادمها حقيقة علمية توصل الجهد البشري إليها بناء على جهود المختصين خلال التاريخ الحضاري للبشرية) (٢).

(إن الحقيقة العلمية إن لم يكن في القرآن ما يؤيدها فليس فيه قطعا ما يعارضها ، نعم قد يكون هناك خلاف بين القرآن وبين بعض النظريات العلمية التي لم تبحث ولم تدرس بعد دراسة كاملة وعلى ذلك فمن أراد أن يفهم من القرآن مبدءا علميا فعليه أن يتخصص في ذلك العلم ويدرسه دراسة كاملة مستوفية ، ثم بعد ذلك يأتي للقرآن فيجده قد سبق البحث الحديث والحقائق العلمية وأتى بالحقائق الرائعة التي لا تقبل شكا ولا جدلا ، لأنه تنزيل الذي يعلم السر في السموات والأرض سبحانه) (٣).

٣ ـ التمكن من علوم اللغة العربية وعلوم الآلة.

بحيث يكون تفسيرنا للآيات القرآنية خاضعا لدلالات اللغة العربية وقواعدها ، وعلم الصرف وأصول الاشتقاق ، بالإضافة إلى علم البلاغة وأصول الفقه.

(وأن يكون الباحث ملتزما بالمعاني اللغوية في اللغة العربية للآيات التي يريد إيضاح إشاراتها العلمية ، لأن القرآن عربي ، كما أنه ينبغي أن يراعي التأليف بين الآيات وتناسبها ومؤاخاتها ، فيربط بينها لتكون وحدة موضوعية متكاملة) (٤).

__________________

(١) سورة الملك ، الآية : ١٤.

(٢) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص ١٥٥.

(٣) التفسير العلمي للقرآن ، أحمد عمر أبو حجر ، ص ١١٩.

(٤) أصول التفسير وقواعده ، خالد عبد الرحمن العك ، ص ٢٢٤.

١٦٢

٤ ـ عدم حصر دلالة الآية على الحقيقة الواحدة.

العالم الذي زوده الله بالعلوم الشرعية أو الكونية ، مهما ارتقى في سلم المعرفة والاستنباط فينبغي أن يعلم أن هناك حدودا ينبغي أن يقف عندها ، وأن الإحاطة بمراد كلام الله بشكل مطلق أمر محال فالباحث في هذا الميدان يحاول توأمة الحقيقة العلمية القاطعة بالآية القرآنية بوجه من الوجوه المترجمة ولا يكون جازما بأن مراد الله هذا الذي وصل إليه.

(وعند إحاطتنا بالدلالات اللغوية الحقيقية والمجازية واستعمالات العرب لها ، إن وجدنا أن حقيقة علمية تؤيد إحدى هذه الدلالات ، لا بأس عندئذ أن نرجح الدلالة التي أيدتها الحقيقة العلمية على أن لا نحكم بالبطلان والفساد على الدلالات الأخرى للكلمة من جهة ، وأن لا نحصر معنى الآية على الدلالة التي رجّحناها من جهة أخرى ، فقد تكون الحقيقة العلمية التي رجحنا على ضوئها هذه الدلالة إحدى وجوه دلالات الآية ، وظلالها ممتدة إلى حقائق أخرى لم نتمكن من التوصل إليها حسب ثقافة عصرنا ، إلا أن العلمي والحضاري كفيل أن يميط اللثام لنا عن جوانب أخرى ، فمثلا قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (١) كان إلى ما يقرب من مائة سنة ينظر إلى دلالة تسوية البنان نظرة تختلف عن نظرتنا لها الآن بعد معرفة قضية البصمات ، إلا أننا لا نبطل كلام السلف في معنى الآية ، فالآية تدل على ما قالوه وما فهموه ... وإن كان فهمنا الآن لدلالة الآية على ضوء معطيات العلم الحديث أعمق وأدل ، وكذلك فإن شعورنا في صنعة كلام الخالق سبحانه وتعالى وحكمته سليم وصحيح ، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نقول : إن معنى الآية هو هذا فحسب ، وليس بعد فهمنا لها فهم آخر ، بل قد يكشف لنا المستقبل عن أسرار إلهية في البنان فوق ما تصورناه ووصلت إليه مداركنا العصرية ، وتبقى الآية الكريمة مجال بحث الباحثين ، واستنباط المفكرين ، وبصمة إعجاز على جبين العصور) (٢).

٥ ـ أهمية التخصص العلمي :

من الأهمية بمكان أن يكون المتحدث في قضايا الإعجاز من أهل الاختصاص ، بحيث يكون متمكّنا من العلوم الشرعية واللغوية ، وكذلك متمكنا بأساسيات وأبجدية

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ٤.

(٢) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ١٥٤ ـ ١٥٥.

١٦٣

العلوم الكونية والطبيعية التي يفسر بها النصوص القرآنية ، أو يكون معتمدا فيما يطرحه على مختصين في كلا الميدانين ، لكي لا يقع في الزلل والتأرجح ، وبسبب عدم الالتزام بهذا القيد فإن كثيرا ممن كتب وتحدث في قضايا الإعجاز قد تعسف في تفسيره للنص القرآني ، مما أدى للخروج عن مدلول النص ومعناه ، كما أنه يأتي بالحقيقة العلمية لكن بشكل معكوس لأنه غير مختص في هذا المجال ، مما دفع كثيرا من العلماء أن ينادوا بمنع هذا النمط من التفسير.

٦ ـ القرآن الكريم كتاب هداية ونور.

وأيضا فإن مما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم كتاب هداية ونور ، وليس كتاب علوم كونية فحسب فالحق سبحانه وتعالى جعل الهداية التامة والحق المبين بين دفّتي القرآن الكريم الذي أنزله ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن وهدة الفجور ومستنقعات المعاصي إلى اليقين والهدى ، قال تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٢) فالله عزوجل جعل القرآن الكريم نورا للقلوب وحياة للنفوس وضبطا للسلوك ودستورا للمجتمعات ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (٣).

ومنهج الهداية الربانية في القرآن الكريم تبرز عند ما تتناول آياته المباركة نفس الإنسان بالتربية والتهذيب والتقويم والإصلاح ، وهذه الآيات التي تتحدّث عن الوعد والوعيد والجنة والنار والدنيا والآخرة ، وتلك التي تتحدّث عن أخبار الأمم الغابرة ، التي سادت ثم بادت بعد حين من الزمن ، وأخرى تتحدث عن قصة وجود الإنسان فوق رحب هذه الأرض وكيف أنه لا محالة صائر إلى الزوال والفناء ، وتلك التي تنظم حياة الفرد وتقوم سلوكه وتضبط معاملاته بضوابط الشرع وأحكامه البينات ... ومنها ما فيه حديث عن ارتباط الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم والأسس التي ينبغي أن تسير وفقها

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ١.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٩.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٢٤.

١٦٤

الأمة الإسلامية في معاملاتها مع غيرها ... وهكذا فإننا نجد أن القرآن الكريم حافل بموضوعات شتى ومتعدّدة ، كلها تصب في النهاية في بوتقة واحدة ألا وهي هداية الإنسان إلى الحق المبين ، لكن مع هذه الهداية في العقيدة والتشريع والخلق والسلوك ، نجد أن في القرآن الكريم صنفا آخر من أصناف الهداية ، ألا وهو وجود آيات كونية وحقائق علمية وضعها الحق جل جلاله في صفحات كتابه المجيد لتكون مؤشرا على عظمة الخالق ولتكون دليلا على أن هذا القرآن هو وحي السماء إلى الأرض وبذلك يزداد المؤمن إيمانا ، ويتنبه غير المسلم إلى حقائقه العلمية التي سبقت ركاب العلم وأساطين المعرفة ، فيخضع لسلطانها وينقاد لصدقها فيعلن ولائه لله سبحانه وتعالى ، فالقرآن إذا ليس كتاب فلك ولا كتاب طب أو (جيولوجيا) ... لا ، إنما هو كتاب هداية ونور ، وما الحقائق العلمية والاشارات الكونية إلا سبيلا من سبل الهداية ، ومدخلا واسعا لرحاب الحق ورياض الإيمان.

١٦٥

المبحث الثاني

مولد الكون ونشأته بين القرآن والعلم

الآيات التي تتحدّث عن خلق الكون ، وما بث في تضاعيفه من مكونات ومخلوقات كثيرة جدا كما أن هناك عددا ليس بالقليل من هذه الآيات تسترعي انتباه الناس ، وتدعوهم إلى التفكير والتأمل في خلق السموات والأرض ، والدافع الحقيقي لهذا التأمل هو التعرف على عظم هذه المخلوقات وأسرار خلقها ، وعجائب تكوينها ، وبالتالي الوقوف على عظمة الخالق ، وروعة إبداعه في صنعه وخلقه يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١) وبقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) ويقول تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (٣).

هذه الآيات وغيرها تأمرنا أن نستخدم مدركاتنا ، ووسائل الإدراك والنظر التي هي امتداد لمدركاتنا ، وما منحنا الله من مستجدات تقنية وعلمية لنتعرف على قضية الخلق ، ومراحل الخلق وكيف بدأ الخلق وما تنطوي عليه السموات والأرض من عجائب الخلق والتدبير ، والسبيل الأوحد إلى ذلك هو ما أشار إليه الحق (قُلِ انْظُرُوا) فبالنظر والتأمل والاستدلال يتوصل الإنسان للكشف عن حقائق الخلق.

وما أجمل هذا الحث القرآني على دراسة الأرض ومكوناتها لنتعرف من خلال ذلك على بداية الخلق وعلى النشأة الأولى للكون (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) ، وهذا لا يتنافى أبدا مع

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ١٩.

(٢) سورة العنكبوت ، الآية : ٢٠.

(٣) سورة يونس ، الآية : ١٠١.

(٤) سورة العنكبوت ، الآية : ٢٠.

١٦٦

قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (١) لأن الحق هنا يقرر ضعفهم وتفرده في الخلق والإيجاد ، ولكنه لا ينفي أبدا أن يفتش الإنسان عن المفردات العلمية والكونية ليعلم ماهية بداية الخلق والتكوين.

ولقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون والمراحل التى مر بها عرضا بيانيا دقيقا ، يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح وجلاء دون لبس أو غموض ، وسوف نستعرض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن كل مرحلة ، ونزيّلها بفهم علماء التفسير واللغة ، ثم نحدّد معطياتها ، لنرى مدى التوافق الدقيق بينها وبين ما وصل إليه علماء الفلك والكون في عصرنا الحاضر.

مراحل الخلق

أولا ـ مرحلة الرتق والفتق

يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٢).

الآية هنا تسترعي انتباه العباد ، وتخلق فيهم الباعث الذي يولد في كينونتهم ، ويثير في ساحة الإدراك والتفكير لديهم حب الاستطلاع والرغبة في البحث والتنقيب عن سرّ انتقال هذا الكون العظيم من دنيا الفناء وعالم اللاشيء ، إلى طور التخلق فالقرار ثم الحياة ، ثم إن انبلاج هذا الكون من تلافيف العدم إلى حيّز الوجود وميدان الإدراك ، ليتطلّب من البشر أن يسخّروا ما أوتوا من قوة عقلية وعلمية ومادية ، في سبيل التعرف على خلق هذا الكون ، والوقوف عند المادة الأم التي تشكل الكون منها بأسره.

والآية تشير إلى أن السموات والأرض ، أي الكون وما بثّ في أرجائه من نجوم ومجرات وكواكب وشموس وأقمار كان شيئا واحدا ، كان مادة واحدة ، كتلة واحدة ثم انشطرت هذه المادة وفتقت وتفجرت ، فانفصلت السموات عن الأرض ، وتباعدت أجزاؤها وأصبحت عالما عظيما مترامي الأطراف ، بعيد المدى ، واسع الرحاب ، وقوله سبحانه وتعالى : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) تعبير دقيق ومشهد رائع ، يأخذ بالألباب

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٥١.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠.

١٦٧

والعواطف والأحاسيس ، لأنه يصور لنا المشهد الأول ، واللقطة الأولى من الكون ساعة الانفصال.

وبجولة سريعة في كتب المفسرين ، يتكامل التصور الدقيق حول هذه المرحلة من خلال شرحهم لهذه الآية الكريمة ومعطياتها.

ففي «جامع البيان» : (يقول تعالى ذكره : أولم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم فيروا بها ، ويعلموا أن السموات والأرض كانتا رتقا ، يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين يقال منه : رتق فلان الفتق إذا شدّه ، فهو يرتقه رتقا ورتوقا ، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء ، ووحد الرّتق ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله تعالى : (كانَتَا) لأنه مصدر ، مثل قول الزّور والصوم والفطر ، وقوله : (وَجَعَلْنا) يقول : فصدعناهما وفرجناهما ، ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله تعالى السموات والأرض بالرتق ، وكيف كان الرتق ، وبأيّ معنى فتق؟ قال ابن عباس : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض ...

وكان الحسن وقتادة يقولان : كانتا جميعا ففصل الله بينهما بهذا الهواء ، وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة ، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها فجعلها سبع أرضين) (١).

وفي تفسير «القرطبي» : (وقال : (رَتْقاً) ولم يقل رتقين ، لأنه مصدر ، والمعنى كانتا ذواتي رتق ... والرتق السد ضد الفتق ، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم ، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج ، قال ابن عباس وغيره : يعني أنها كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء ، وكذلك قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها ، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا) (٢).

وفي «الجلالين» (كانتا رتقا ، سدّا بمعنى مسدودة : (فَفَتَقْناهُما) جعلنا السماء سبعا

__________________

(١) جامع البيان ، للطبري ، ١٧ / ١٣.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، محمد بن فرح القرطبي ، تحقيق ، أحمد عبد العليم البردوني ، القاهرة ، دار الشعب ، الطبعة الثانية ، ١٣٧٢ ه‍ ١١ / ٢٨٢ ، وانظر : تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ٥ / ٦٩٢.

١٦٨

والأرض سبعا وفتق السماء أن كانت لا تمطر فأمطرت ، وفتق الأرض أن كانت لا تنبت فأنبتت) (١).

وفي «أضواء البيان» عدة أقوال منها : (الأول : أن معنى : (رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي كانت السموات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ، ففتقها الله وفصل بين السموات والأرض ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأقر الأرض في مكانها ، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى.

القول الثاني : أن السموات السبع كانت رتقا ، أي متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات ، كل اثنتين منها بينهما فصل ، والأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها ، وجعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض) (٢).

ونجد نفس المعاني في تفسير «البيضاوي» : (كانَتا رَتْقاً) ذات رتق أو مرتوقتين ، وهو الضم والالتحام ، أي كانتا شيئا واحدا وحقيقة متحدة ، (فَفَتَقْناهُما) التنويع والتمييز ، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم ، وقيل (كانَتَا) بحيث لا فرجة بينهما ففرج) (٣).

وقال الرازي : (الرتق في اللغة : السد ، يقال ارتتق الشيء فارتتق ، والفتق : الفصل بين الشيئين الملتصقين ، والرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق ... وعن ابن عباس رضي الله عنه أن المعنى كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ، ففصل الله بينهما ، ورفع السماء إلى حيث هي وأقرّ الأرض) (٤).

يقول صاحب «الكشاف» : (أي كانتا رتقا ، ومعنى ذلك أن السماء كانت لاصقة

__________________

(١) تفسير الجلالين ، محمد بن أحمد بن محمد المحلي وجلال الدين السيوطي ، القاهرة ، دار الحديث ، الطبعة الأولى ، د. ت ، ص ٤٢٩.

(٢) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ، بيروت ، عالم الكتاب ، د. ت ، ٤ / ١٠٢.

(٣) أنوار التنزيل ، عبد الله بن عمر البيضاوي ، تحقيق ، عبد القادر عرفات ، بيروت ، دار الفكر ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٦ ، ٤ / ٩٠.

(٤) التفسير الكبير ، للرازي ، ١١ / ١٦٣.

١٦٩

بالأرض لا فضاء بينهما ، أو كانت في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، وأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل) (١).

ولتوخّي الدقة وزيادة الضبط نفتح المعاجم اللغوية للتعرف على معاني بعض الكلمات القرآنية من حيث أصلها اللغوي واشتقاقاتها ، ليصبح وجه الاستدلال بها منسجما مع المقارنة الكونية للآية القرآنية.

يقول ابن منظور : (كانَتا رَتْقاً) (والرتق ضد الفتق ، والرتق إلحام الفتق وإصلاحه) (٢).

وفي «القاموس المحيط» : (الرتق ضد الفتق ، ارتتق التأم السموات متلاصقات وكذلك الأرض لا فرج بينها ففتقها الله وفرّج بينها ... فإن قلت : متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما أنه وارد) (٣).

ولربما يخطر في البال هاهنا سؤال فيقول صاحبه : ما هي المادة التي تكونت الكتلة الكونية الأولى التي تم رتقها وفتقها؟

هذا السؤال قد حيّر علماء الفلك والمتخصصين في الفيزياء الكونية ، فراحوا ينسجون تصورات نظرية حول هذه المادة وطبيعتها إلى أن اتفقوا على أن أصل المادة عبارة عن سدم ، لكننا نجد القرآن الكريم قد أجاب على هذا السؤال بكل وضوح ، وأشار إلى أن المادة الكونية الأولى للكون إنما هي من «الدخان» كما قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٤) فالمادة التي تشكل منها كوننا العظيم إنما هي من الدخان.

ولنا أن نستخلص مما سبق ، ومن خلال التصور القرآني عن المرحلة الأولى لخلق الكون ما يلي :

١ ـ أن السموات والأرض في لحظة الخلق الأولى وبداية النشأة ، كانتا كتلة واحدة متلاصقة ثم انفصلت وتوزعت.

٢ ـ طبيعة هذه المادة التي تشكل الكون منها إنما هي الدخان.

__________________

(١) الكشاف ، محمود بن عمر الزمخشري ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى ، ١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٧ ، ٢ / ٥٧٠.

(٢) لسان العرب ، ابن منظور ، ٥ / ١٣٢.

(٣) القاموس المحيط ، الفيروزآبادي ، ٣ / ٢٤٣.

(٤) سورة فصلت ، الآية : ١١.

١٧٠

ثانيا ـ مرحلة خلق السموات والأرض

قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)) (١).

كان الحديث في الآية الأولى عن طبيعة المادة الكونية الأولى وماهيتها ، وكيف أنها كانت كتلة واحدة ثم انفصلت ، أما هنا فالآية تتحدث عن أطوار خلق السموات والأرض ، والمراحل التي اعترتها بعد عملية انفصال المادة الأولى.

وهذه الآية الكريمة تقرر حقيقة كونية ثابتة وقطعية الدلالة وهي ، أن الأرض بعد عملية فتق الرتق خلقت أولا ، ثم تمّ تشكيل السماء وبناؤها من الدخان ، وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، ولقد وقع في الخطأ والخلط من حاول أن يقدم مرحلة خلق السموات على الأرض ، بسبب رغبة شديدة دفعته إلى توأمة هذا النص القرآني مع التخمينات النظرية التي تحدث عنها بعض الفلكيين ، من أن السموات خلقت قبل الأرض ، وهذا الكلام لا يستند إلى دليل لا من النصوص القرآنية ولا من المعطيات العلمية الثابتة ، وهذا ما سيوضح بعد إلقاء نظرة حول هذه الآية في كتب التفاسير.

ففي «أنوار التنزيل» : ((قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) في مقدار يومين ، أو نوبتين ، وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون ، ولعل المراد من (الْأَرْضِ) ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها (فِي يَوْمَيْنِ) أنه خلق لها أصلا مشتركا ، ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا ، (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قصد نحوها من قولهم : استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره ، والظاهر أن ثم تفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها : (وَهِيَ دُخانٌ) أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة ، أو : (أَتَيْنا) في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة ، أو الإخبار أو إتيان

__________________

(١) سورة فصلت ، الآيات ٩ ـ ١١.

١٧١

السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة ، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما) (١).

وفي «روح المعاني» : (الكلام على التقديم والتأخير والأصل (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) إلخ ، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) إلخ ، وهو أبعد عن القيل والقال ، إلا أنه خلاف الظاهر ، أو كوّنا وأحدثا على وجه معين وفي وقت مقدّر لكل منكما ، فالمراد إتيان ذاتهما وإيجادهما ، فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم ، ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير ، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادئ معايشهم قبل خلقهم ما يحملهم على الإيمان ، ويزجرهم عن الكفر والطغيان ، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل : فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا وأحدثا ، وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا ، وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور) (٢).

وفي «بحر العلوم» : (ثم استأنف فقال : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) ومن قرأ بالنصب يعني قدرها سواء صار نصبا على المصدر ، ومعناه : استوت استواء (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي صعد أمره إلى السماء ، وهو قول الله : (كُنْ) ويقال : عمد إلى خلق السماء (وَهِيَ دُخانٌ) يعني بخار الماء كهيئة الدخان ، وذلك أنه لما خلق العرش ، لم يكن تحت العرش شيء سوى الماء كما قال تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ثم ألقى الحرارة على الماء حتى ظهر منه البخار ، فارتفع بخاره كهيئة الدخان ، فارتفع البخار ، وألقى الريح الزبد على الماء ، فزيد الماء ، فخلق الأرض من الزبد ، وخلق السماء من الدخان) (٣).

__________________

(١) أنوار التنزيل ، للبيضاوي ، ٥ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ، وانظر : جامع البيان ، للطبري ، ٢٤ / ٢٦.

(٢) روح المعاني ، للآلوسي ، ٢٤ / ١١٧ ـ ١١٨ ، وانظر : الدر المنثور ، للسيوطي ، ٧ / ٣١٣.

(٣) بحر العلوم ، نصر بن محمد السمرقندي ، تحقيق ، محمود مطرجي ، بيروت ، دار الفكر العربي ، ١٩٩٧ ، ٣ / ٢١٧ ، وانظر : الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ١٥ / ٣٤٢ ، وانظر : أضواء البيان ، للشنقيطي ، ٧ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

١٧٢

وفي «مختار الصحاح» : (الدخان : دخان النار معروف وجمعه دواخن ، كعثان وعواثن ، على غير قياس ، ودخنت النار ارتفع دخانها ، وبابه قطع وخضع ، وادخنت مثله ، ودخنت النار إذا فسدت بإلقاء الحطب عليها حتى هاج دخانها ، ودخن الطبيخ إذا تدخنت القدر ، والدخن الجاورس والدخنة كالذريرة تدخن بها البيوت) (١).

وفي «مفردات ألفاظ القرآن» نجد أن الدخان هو : (المستصحب للهيب ، قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي هي مثل الدخان ، إشارة إلى أنه لا تماسك لها ، ودخنت النار تدخن كثر دخانها ، والدخنة منه ، لكن تعورف فيما يتبخر به من الطيب) (٢).

ويستخلص من معطيات النص القرآني ما يلي :

١ ـ تم خلق الأرض بعد فتقها من الكتلة الدخانية في يومين (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ).

٢ ـ تم تسوية السموات السبع في يومين كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وذلك بعد فتقها والانفجار والانفصال الذي اعتراها بعد ما كانت دخانا ، قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ).

٣ ـ تمّ تدبير الأرض وتهيئتها وتسخيرها لتعيش عليها المخلوقات في يومين (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي الجبال التي تساعد على توازن واستقرار الأرض (وَبارَكَ فِيها) أي زاد فيها الخير والزرع والماء وغير ذلك (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) من أرزاق وأسباب المعيشة.

وينبه إلى أن المقصود بالأيام هنا هي المراحل والحقب الزمنية ، وليست الأيام المعروفة لدينا كما أشار إلى ذلك كثير من المفسرين كما سبق ، ولأن الزمن شيء نسبي كما هو معلوم ، فيوم الأرض ليس كيوم الشمس وليس كيوم المجرة وهكذا ...

ثالثا ـ مرحلة دحو الأرض

قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠)) (٣).

__________________

(١) مختار الصحاح ، للجوهري ، ١ / ٨٤.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، تحقيق ، صفوان داودي ، دمشق ، دار القلم ، الطبعة الثانية ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٧ ، ص : ٣١٠.

(٣) سورة النازعات ، الآيات ٢٧ ـ ٣٠.

١٧٣

هذه هي المرحلة الثالثة من مراحل الخلق حسب تصوير القرآن لذلك ، فالمرحلة الأولى كانت مرحلة تفجير الكتلة الدخانية «الرتق والفتق» والمرحلة الثانية كانت مرحلة خلق الأرض لكنها غير مدحوة ، وتسوية السموات وتشكيلها ، ثم جاءت المرحلة الثالثة التي هي مرحلة دحي الأرض.

لكن قد يستشكل أحدنا أو يجول في خاطره سؤال مفاده ، أيهما خلق أولا السموات أم الأرض؟ ففي الآية السابقة عرفنا بنص قرآني واضح وصريح أن الأرض خلقت قبل السماء (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)) (١) وهنا نجد أن الحق يخبرنا أن الأرض خلقت بعد السماء (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بعد خلق السموات ، فكيف يكون ذلك؟.

إن الجواب على هذا السؤال أو الاستشكال سهل للغاية ، وقد عرض هذا السؤال على ابن عباس رضي الله عنه وأجاب عليه ، كما ورد في صحيح البخاري : (قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ... قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فذكر خلق السماء قبل الأرض ، ثم قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ...) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ... فقال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله تعالى : (دَحاها) وقوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلق السموات في يومين ... فلا يختلفن عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله عزوجل) (٢).

وعلى هذا النسق سار المفسرون ، ففي إرشاد العقل السليم : (فهي وما في سورة البقرة من قوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى

__________________

(١) سورة فصلت ، الآيات ٩ ـ ١١.

(٢) رواه البخاري ، باب التفسير ، رقم : (٤٥٣٧) ، ٤ / ١٨١٥.

١٧٤

السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (١) تدلان على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها ، وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ، وقد روي أن العرش العظيم كان قبل خلق السموات والأرض على الماء ، ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان ، فأما الزبد فبقي على وجه الماء ، فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها أرضين ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السموات ، ... وقيل إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السموات ، لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر عنه لقوله سبحانه وتعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ولما روي عن الحسن رحمه‌الله ، من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها ، وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) وليس المراد بنظمها مع السماء في سلك الآمر بالإتيان إنشاءها وإحداثها بل إنشاء دحوها وجعلها على وجه خاص يليق بها من شكل معين ووصف مخصوص ، كأنه قيل : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه ، ائتي يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتي يا سماء مقبّبة سقفا لهم) (٢).

وعند الطبري : (عن ابن عباس ، قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣).

وعند ابن كثير : (أن الأرض خلقت قبل خلق السماء ، ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء ، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل) (٤).

وفي تفسير القرطبي : (أن الله تعالى خلق أوّلا دخان السماء ثم خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسوّاها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، ومما يدل على أن الدخان خلق أوّلا قبل الأرض ما روي عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٩.

(٢) إرشاد العقل السليم ، لأبي السعود ، ٨ / ٥ ـ ٧.

(٣) جامع البيان ، للطبري ، ٣٠ / ٤٦.

(٤) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، ٨ / ٣١٧.

١٧٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسمّاه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين) (١).

(فالكلمتان «دحاها ـ طحاها» تدلان على معنى البسط ، دحا الأرض يدحوها ، بسطها ، قال شمّر : فأنشدتني أعرابية : الحمد لله الذي أطاقا بنى السماء فوقنا طباقا ثم دحا الأرض فما أضاقا والأدحوّة ، مبيض النعام في الرمل ... ومدحى النعام ، موضع بيضها) (٢).

هذه هي مراحل الخلق حسب معطيات القرآن الكريم ودلائله ، ولا شك أن هذا التفصيل لمراحل خلق الكون عسير على العلم بل من المستحيل أن يصل إليه ، لأنه من المغيبات التي لا تخضع لمدركات الإنسان ، لكن يمكن للعلم أن يصل إلى حقائق كونية ثابتة عن أصل الكون والخلق ، لكنها مجملة وليست مفصلة بهذه الدقة القرآنية العجيبة ، والدليل على ذلك أنهم حقا توصلوا إلى حقائق علمية تدل على أصل الكون ومنشئه.

والعودة لملف علم الفلك ، والنظر في أقوال علماء الكون ، تظهر أن ما توصلوا إليه من حقائق كونية علمية ثابتة بعد جهد جهيد من الدراسة والبحث ، هي ذاتها التي أشار إليها القرآن الكريم بوضوح القول وصريح العبارة ، وأن ما كشفوا عنه اليوم هو الذي سبقهم إليه كتاب الله تعالى وسطّر ملامحه وأطره في صفحاته قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.

الكون الذي يحوي في ثناياه النجوم والكواكب والمجرات ، وما يتبعها من غازات ومعادن وصخور وتراب وحيوانات ونباتات وإنسان ، وغير ذلك من المخلوقات الأخرى ، كان مثار اهتمام لدى الإنسان عبر مرور الأحقاب ، سواء كان هذا الاهتمام مبنيا على الخرافة والوهم ، كما عند بعض الناس في القدم ، والذين اعتقدوا بأزلية الكون ، وربطوا تصوراتهم العقائدية بأجسام عدة من الكون كالشمس والشجر

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١ / ٢٥٠.

(٢) لسان العرب ، لابن منظور ، ٤ / ٣٠٣ ، وانظر : مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الأصفهاني ، ص : ٥١٧.

١٧٦

والنار ... وجعلوها آلهة لهم ، أو كان مرتكزا على الدراسات الصحيحة التي تعتمد على الرصد والحسابات الفلكية والرياضية.

وإذا ما طوينا صفحة الخيال أو الخرافة التي كانت سائدة ومسيطرة على عقل الإنسان في معظم الحضارات القديمة ، واتجهنا إلى التعرف على الدراسات الحديثة التي شهدها الإنسان في بداية القرن العشرين ، فإننا نجد تطورا هائلا في مجال الفلك بسبب الاكتشافات الكبيرة لأسرار الكون ، عبر المراصد الضخمة ، ومن خلال النظريات العلمية الجديدة.

وقبل الشروع في عرض وبيان آراء العلماء حول مولد الكون ونشأته ، ينبه إلى أن هناك العديد من النظريات التي أعلنت حول أصل الكون ، إلا أن معظمها خفت صوتها وغيّبت ، عند ما ظهرت أحدث نظرية حول مولد الكون والتي تدعى بالانفجار العظيم (big bang) بل والتي أجمع على صحتها جمهور علماء الفلك ، مما دفع بعض الفلكيين إلى القول بأنها حقيقة قطعية كما سيأتي.

وبوسعنا الآن أن نستعرض طائفة من دراسات الفلكيين حول الانفجار الكوني العظيم ، لنرى مدى التوافق بين ما أثبتوه ، وبين الحقائق القرآنية التي سبق وأن قرر من خلالها الحق نشأة الكون.

الحقائق العلمية :

(توصل عالم الفلك البلجيكي «جورج إدوارد لوميتر» (١) إلى نتيجة الانفجار العظيم ، وأعلنها في عام ١٩٢٧ ، وقد افترض في مستهل الأمر أن المادة الكونية كانت كلها مضغوطة في حجم ضئيل للغاية أسماه البيضة الكونية ، ثم تعرض ذلك الجسم لتمدد مفاجئ سريع وما زال يتمدد ، ولما طرح «هبل» (٢) قانونه في عام ١٩٢٩ ، وشرح

__________________

(١) جورج إدوارد لوميتر ، ١٨٩٤ ـ ١٩٦٦ ، كاهن بلجيكي كان رائدا في علم الرياضيات ، عمل أستاذا في جامعة لوفان ، أهم أبحاثه التي أدت إلى نظرية الضربة الكونية الكبرى عن تكوين الكون ، ظهرت في عام ١٩٢٧ ، خدم في الجيش البلجيكي ، وربح ميدالية الحرب وقتها. انظر : موسوعة غينيس في علم الفلك ، باتريك موور ، ترجمة ، مركز التعريب والبرمجة ، بيروت ، الدار العربية للعلوم ، الطبعة الأولى ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤ ، ص : ٢٨٤.

(٢) أدويل هبل ، ١٨٨٩ ـ ١٩٥٣ ، فلكي أمريكي معاصر ، قام برصد ملايين النجوم من مرصد جبل بالومار ، وقام بتصنيفها في مجموعات ، أعلن أن الكون أكبر مما يتصور العلم آنذاك. الأطلس الفلكي ، عصام الميداني ، دمشق ، دار دمشق ، ١٩٩٦ ، ص : ٨٨.

١٧٧

المشاهدات التى استند إليها ، بدا واضحا أن ذلك يجسد تماما ما ينبغي أن يكون من شأن كون في حالة تمدد ، وكون كل المجرات تبتعد عنا بمعدل أسرع كلما كانت أكثر بعدا ، أمر ليس له أي دلالة خاصة تتعلق بنا وبمجرتنا ، فما دام الكون في حالة تمدد فهذا يعني أن كل مجراته تتباعد عن بعضها ، وقد التقط الفيزيائي «جورج جاموف» (١) فكرة البيضة الكونية وعممها ثم أطلق على عملية التمدد الأولى اسم (الانفجار العظيم) ، وما زال ذلك الاسم مستخدما حتى الآن ويشير «جاموف» إلى أن الإشعاعات التي صاحبت الانفجار العظيم ، لا بد أن يكون لها الآثار حتى الآن ما يمكن رصده من أي اتجاه على هيئة موجات (ميكروويف) ضعيفة ، لها من المواصفات ما يمكن تقديره حسابيا ، وبهذا الاكتشاف انتهى علماء الفلك إلى الاقتناع بوجود الانفجار العظيم ، ومن المتفق عليه الآن أن الكون قد بدأ بجسم ضئيل انفجر منذ خمسة عشر بليون سنة ، وما زال تحديد عمر الكون على وجه الدقة قيد البحث ، ولكنه يصعب أن يقل عن عشرة بلايين سنة ، ولن يزيد على الأرجح على عشرين بليون سنة) (٢).

وهذا ما أكّده كثير من علماء الكون (يدرس علماء الكون الزمن الغابر باستقراء خارجي للشروط السائدة في الكون حاليا ، بمعنى أنهم يستعملون قوانين الفيزياء لاستنباط الكيفية التي كان الكون عليها حين نشأته وبداية تكوينه ، فلقد تبين أن الكون كان في بدايته حارا وكثيفا ، وكان غازيا وكانت مادته وإشعاعه ممتزجين معا امتزاجا يختلف فيه تماما عما نعرفه عنهما من حيث تميزهما الواضح عن بعضهما ، ويعود سبب الامتزاج إلى أنه في غاز ذي درجة حرارة مرتفعة يحمل الإشعاع طاقة هائلة ، الأمر الذي يوفر إمكان تحوله إلى مادة ، وهكذا فالإشعاع والمادة في بداية نشأة الكون سلكا سلوكا لا يكاد يميّز أحدهما عن الآخر ... وهم يعتقدون أن درجة حرارته كانت عالية جدا مما أدى إلى الانفجار العظيم) (٣).

__________________

(١) جورج جاموف ، ١٩٠٤ ـ ١٩٦٨ ، الأمريكي الروسي الأصل ، مؤسس نظرية الانفجار الكبير لنشوء الكون ، وصاحب المصطلح الذي أصبح الآن من أكثر الفرضيات إثارة للجدل في تاريخ العلم ، وتنبأ بوفرة عنصر الهيليوم ، وبانتشار الأشعة الباردة. انظر : مفكرون من عصرنا ، سامي خشبة ، القاهرة ، المكتبة الأكاديمية ، الطبعة الأولى ، ١٤٢٢ ه‍ / ٢٠٠١ ، ص : ٣١١.

(٢) الشموس المتفجرة ، إسحاق عظيموف ، ترجمة السيد عطا ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٩٤ ، ص : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) مقدمة في علم الفلك ، توماس آرني ، ترجمة ، د. أحمد الحصري ، دمشق ، دار طلاس ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٨ ، ص : ٧٠٢.

١٧٨

ويؤكد هذا المعنى العالم «جون فايفر» (١) فيقول : (لقد كانت الظلمات السائدة حينذاك نقطة بداية لا نقطة نهاية ، عند ما تكونت فيها سحابة لا تشبه سحب اليوم أبدا ، فقد بدأت المادة تتجمّع بالغريزة كما تتجمع قطعان الأغنام ، وهكذا بدأت كثافة السحابة تزداد ، وبدأت الظلمة تنقشع ويبدو فيها بصيص من النور ، ولقد كان هذا النور بداية تكون النجوم) (٢).

رسم يبين عملية الانفجار العظيم وتوسع الكون وهذا ما أثبته العلماء في أوائل القرن العشرين وذكره القرآن الكريم منذ ألف وأربعمائة عام بأن السماء والأرض كانتا رتقا ففتقناهما.

(وفي اللحظات الأولى للكون عند ما كانت الكثافات هائلة ، ودرجات الحرارة

__________________

(١) جون فايفر أحد أئمة كتاب العلوم ، وقد كرس نفسه أساسا لتقديم صورة عامة دقيقة عن نتائج البحث العلمي ، وكان المحرر العلمي والطبي لمجلة «نيوزويك» والمدير العلمي لإذاعة وتلفزيون كولومبيا ، له عدة مؤلفات منها : العلم في حياتك ، والعقل البشري ، والكون الصغير.

انظر : مقدمة المترجم ، ص : ٢.

(٢) بداية الكون ، جون فايفر ، ترجمة ، د. محمد الشحات ، القاهرة ، مؤسسة سجل العرب ، ١٩٧٥ ، ص : ٩.

١٧٩

عالية ، لا بد من أن الكون كان معتما ، فلم تكن (فوتونات) (١) أشعة تستطيع التحرك إلا لمسافة قصيرة جدا ، وبعدها ترتطم إما بجسيم أو (بفوتون) آخر ، ولكن عند ما أخذ الكون بالاتساع أخذت الأطوال الموجية (للفوتونات) في الكرة النارية الأولية بدورها بالاستطالة شيئا فشيئا ، وازدياد الأطوال الموجية يعني انخفاض الطاقة التي يحملها كل (فوتون) ، وبانخفاض الطاقة المحمولة في كل (فوتون) بدأت درجة حرارة الكرة النارية بالهبوط وابتدأ الكون بعدها بالبرودة ... وقد لعبت (الإلكترونات) (٢) الحرة المنطلقة حول الكرة النارية ، عند ما كان الكون في بدايته ساخنا ، دورا مهما في الإبقاء على عتمة الكون ، فقد كانت (الإلكترونات) الحرة تستطيع بسهولة وكفاءة تشتيت (الفوتونات) ، إذ لم يكن لأي (فوتون) المجال للتحرك بعيدا ، إذ كان ولا بد أن يرتطم (بالإلكترونات) السائبة) (٣).

ويقول صاحب كتاب «قصة الكون» : (إن الكون قد بدأ على شكل كتلة ساخنة جدا من المادة ، ولم يكن شبيها كليا بالمادة كما نعتقد ، بل كانت توجد فيه على الأقل كتلة من الجسيمات الذرية الأولية مزدحمة مع بعضها ، وقد قدر أن قطر هذه المادة لم يكن يتعدى بضع ملايين من الأميال ، أي أنه كان من الممكن أن يوضع في مدار الأرض حول الشمس ، ولا بد أن كثافة هذه المادة كانت مائة مليون طن لكل سنتيمتر مكعب ،

__________________

(١) الفوتون : photon ، عبارة عن كمية الطاقة الضوئية المرئية أو غير المرئية ، ويمتلك الفوتون طاقة وكمية حركة ، ويتمتع بكتلة تساوي طاقته مقسومة على مربع سرعة الضوء ، غير أنه ليس له كتلة سكون ، فهو دائم الحركة بسرعة تساوي سرعة الضوء ، وهو جسيم ليس له أي شحنة كهربائية.

انظر : الموسوعة الفلكية ، خليل بدوي ، عمّان ، عالم الثقافة ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٩ ، ص ٨٤.

(٢) الإلكترون : nortcele ، مشتق من الكلمة اليونانية ، nortktron ، والتى تعني الكهرمان ، وهو جسيم ذو شحنة كهربائية سالبة يدور حول نواة الذرة ، توجد الإلكترونات في الحالة الاعتيادية في مدراتها الرئيسية المستقرة في الذرات ، وبما أن عدد الإلكترونات يساوي عدد البروتونات في ذرة ما ، فإن شحنة الذرة تساوي صفرا. انظر : موسوعة الكويت العلمية للكيمياء ، الكويت ، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٦ ، ١ / ٣٢٥ ، و ١ / ٦٢٦.

(٣) المجرات والكوازرات ، وليام كاوفمان ، ترجمة ، عبد الكريم السامرائي ، بغداد ، دار الشئون الثقافية العامة ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٩ ، ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، وانظر : الانفجار الكبير ، أميد شمشك ، ترجمة ، أورخان محمد علي ، عمّان ، دار البشير ، الطبعة الأولى ، ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٨ ص ٢٧ ، وانظر : الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون ، ستيفن ونبرغ ، ترجمة ، وائل الأتاسي ، دمشق ، منشورات وزارة الثقافة ١٩٨٦ ص : ٨١.

١٨٠