الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

المبحث الرابع

أدلة الفريقين

أولا ـ من أدلة المؤيدين للتفسير العلمي :

استدل المؤيدون للتفسير العلمي بأدلة كثيرة نذكر منها :

١ ـ الاستدلال بظاهر عموم بعض الآيات :

كبيانه تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) وقوله سبحانه وتعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٣) وقوله سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤) ، وغير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكر والتدبر في خلق الله عز شأنه.

٢ ـ الاستدلال بظاهر عموم بعض الأحاديث والآثار :

كحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنها ستكون فتنة» فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا يزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٩٨.

(٣) سورة ق ، الآية : ٦.

(٤) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

١٤١

الرشد فآمنا به ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور» (١).

٣ ـ (وقالوا : إن الله سبحانه وتعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وكيفية الضياء والظلام ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى ، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالهم جائزا لما ملأ الله كتابه منها.

٤ ـ أن العلم الحديث قد يكون ضروريا لفهم بعض المعاني القرآنية ، وليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهما دقيقا متوقفا على تقدم بعض العلوم ، فتكون الحقيقة العلمية من قواعد الترجيح في التفسير إذا كان للآية أكثر من معنى ، فيتعين أن يؤخذ بالمعنى الذي تؤيده الحقائق العلمية.

٥ ـ تحقق فوائد كثيرة ومنافع كبيرة من التفسير العلمي منها :

أ ـ إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم بإثبات التوافق بين حقائق القرآن الكريم وحقائق العلم.

ب ـ استمالة غير المسلمين إلى الإسلام وإقناعهم به ببيان إعجاز القرآن العلمي ، وإقامة الحجة عليهم بذلك.

ج ـ امتلاء النفوس إيمانا بعظمة الله عزوجل وعظيم سلطانه وقدرته ، بعد الوقوف على أسرار الكون التي كشفها القرآن) (٢).

ثانيا ـ من أدلة المعارضين للتفسير العلمي

(واستدل المعارضون للتفسير العلمي بأدلة منها :

١ ـ أن للتفسير شروطا وقيودا قررها العلماء ينبغي الالتزام بها ، فلا يكون تفسير القرآن مباحا لكل من حصّل علما من العلوم وغابت عنه علوم أخرى لا بد منها للمفسر ، ومن ذلك عدم تحميل ألفاظ القرآن معان وإطلاقات لم توضع لها ولم تستعمل فيها.

__________________

(١) رواه الترمذي ، ٥ / ١٧٢ ، رقم : (٢٩٠٦) ، وقال : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وإسناده مجهول ، ورواه الدارمي ، ٢ / ٥٢٦ رقم : (٣٣٣١).

(٢) انظر : دراسات في علوم القرآن الكريم ، فهد بن عبد الرحمن الرومي ، ص ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، وانظر :

التفسير العلمي للقرآن ، أحمد عمر أبو حجر ، ص ١٠٣.

١٤٢

٢ ـ أن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد وليس بكتاب تفصيل لمسائل العلوم ونظرياته ودقائق الاكتشافات والمعارف ، ومن طلب ذلك من القرآن فقد أساء فهم طبيعة هذا القرآن ووظيفته.

٣ ـ أن التفسير العلمي مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعارضين ، لأن عملية التوفيق تفترض غالبا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان ولا عداء ، أو يظن أنهما متلاقيان ولا لقاء.

٤ ـ أن تناول القرآن بهذا المنهج يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة ، فيتعجّل تلمّس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلا غير مشروع.

٥ ـ أن ما يكشف من علوم إنما هو نظريات وفروض قابلة دائما للتغير والتبديل والتعديل والنقض والإضافة ، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب ومن ثم فلا يصح أن تعلّق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية) (١).

هذه هي أدلة المؤيّدين والمعارضين ، ومن خلال ما ثار بين الفريقين من مدّ وجزر ، وأخذ ورد ، ونفي وإثبات ، يتّضح لنا أن الجميع يريد أن يثبت أن القرآن الكريم هو كلام الله المنزّه عن النقص والتناقض ، وأنه منزل من عند الله سبحانه وتعالى ...

الترجيح :

بعد التأمل في وجهة نظر الفريقين والوقوف على ما أوجزنا من أدلتهم ، يمكن لنا أن نخلص إلى نتيجة فنقول : دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لا تقتصر على الجانب البلاغي والبياني منه فهو تحدّى العرب إبان نزوله وهم أصحاب الفصاحة وفرسان البلاغة ، وطالبهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وفشلوا ... والقرآن خاطب الإنسانية جمعاء لأنه منزّل عليها كلها على اختلاف الألسنة واللغات ، وأمرها بإعلان الدينونة والولاء له ، ولذلك كان لزاما أن نبرز جوانب الإعجاز في القرآن لكل البشر ، ونوضح لهم أسرار القرآن في الكون والحياة ، ولكي يتحقق ذلك فإننا نرى أن الله قد وضع في القرآن آيات علمية كونية يتضح الإعجاز فيها في كل عصر من العصور ...

__________________

(١) دراسات في علوم القرآن الكريم ، فهد الرومي ، ص : ٢٩٣.

١٤٣

وخلال عرضنا لنواحي الإعجاز في القرآن الكريم ، ننبه إلى أن عملنا هذا لا يهدف إلى إبراز الحقائق العلمية الكونية ، ومن ثمّ للتدليل بها على إثبات مصداقية القرآن الكريم ، وأنه تنزيل الحكيم العليم ، فكتاب الله لا يدلل بشيء في الوجود على صحته ، لأن كل حرف فيه ناطق على أنه منزل من لدن حكيم خبير ، إنما سيكون عملنا شرحا وتفصيلا لآيات القرآن الكريم ، فكما أن المفسرين القدامى فسروا القرآن على ضوء اللغة ، أو ما أثر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الكرام والتابعين ، فكذلك نحن نفسر الآيات العلمية بما يتناسب معها وينسجم مع منطوقها أعني الكشوفات العلمية ، وهذا المنهج لا يلوي أعناق الآيات ويخضعها لحقائق العلم ، ولا يحمّل النص القرآني ما لا يحتمل ، وبالمقابل فإنه لا يحاول إقحام المعارف الكونية إقحاما قسريا لشرح آية من كتاب الله ، معاذ الله ، لا هذا ولا ذاك ، إنما يعتمد هذا المنهج على وضوح الحقيقة العلمية وثباتها وعند ما نقول : «ثباتها» أي إنها غير قابلة للتغيير أو التبديل ، آنذاك نعرض من القرآن ما قد قرره في هذا الصدد وأثبته فتظهر المعجزة ، من ذلك : حداثة الكون وخلقه ، إنها حقيقة علمية غير قابلة للتبديل ، فلم يعد هناك بعد الكشوفات العلمية أحد يقول بأزلية الكون ، إن حداثة الكون أصبحت حقيقة واضحة قطعية ، آنذاك وقبل ذلك ندلل على هذه الحقيقة بآيات القرآن الكريم التي يتحدث فيها الخالق على خلق الكون من العدم وإيجاده ، ومن ذلك دوران الأرض ، وانشقاق القمر ، وارتباط وجود الماء بالجبال الشامخات ... الخ ، فكل هذه وغيرها كثير ، حقائق ارتقت إلى مستوى القطعية والثبات.

وأيضا فإن مما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن القرآن الكريم كتاب هداية ونور ، وليس كتاب علوم كونية ، فالله سبحانه وتعالى جعل الهداية التامة والحق المبين بين دفّتي القرآن الكريم الذي أنزله ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، ومن جور العباد إلى عدل الإسلام ، ومن وهدة الفجور ومستنقعات المعاصي إلى اليقين والهدى ، قال تعالى (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ١.

١٤٤

الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (١) وقال الله تبارك وتعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٢) فالله سبحانه وتعالى جعل القرآن الكريم نورا للقلوب وحياة للنفوس وضبطا للسلوك ودستورا للمجتمعات ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (٣).

ومنهج الهداية الربانية في القرآن الكريم تبرز عند ما تتناول آياته المباركة نفس الإنسان بالتربية والتهذيب والتقويم والإصلاح ، وهذه الآيات التي تتحدث عن الوعد والوعيد والجنة والنار والدنيا والآخرة ، وتلك التي تتحدث عن أخبار الأمم الغابرة ، التي سادت ثم بادت بعد حين من الزمن ، وأخرى تتحدّث عن قصة وجود الإنسان فوق رحب هذه الأرض وكيف أنه لا محالة صائر إلى الزوال والفناء ، وتلك التي تنظّم حياة الفرد وتقوم سلوكه وتضبط معاملاته بضوابط الشرع وأحكامه البينات ... ومنها ما فيه حديث عن ارتباط الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم والأسس التي ينبغي أن تسير وفقها الأمة الإسلامية في معاملاتها مع غيرها ... وهكذا فإننا نجد أن القرآن الكريم حافل بموضوعات شتّى ومتعددة كلها تصب في النهاية في بوتقة واحدة ألا وهي هداية الإنسان إلى الحق المبين.

لكن مع هذه الهداية في العقيدة والتشريع والخلق والسلوك ، نجد أن في القرآن الكريم صنفا آخر من أصناف الهداية ، ألا وهو وجود آيات كونية وحقائق علمية وضعها الحق عزوجل في صفحات كتابه المجيد لتكون مؤشرا على عظمة الخالق ولتكون دليلا على أن هذا القرآن هو وحي السماء إلى الأرض وبذلك يزداد المؤمن إيمانا ، ويتنبه غير المسلم إلى حقائقه العلمية التي سبقت ركاب العلم وأساطين المعرفة ، فيخضع لسلطانها وينقاد لصدقها فيعلن ولائه لله سبحانه وتعالى ، فالقرآن إذا ليس كتاب فلك ولا كتاب طب أو جيولوجيا ... لا ، إنما هو كتاب هداية ونور ، وما الحقائق العلمية في القرآن والإشارات الكونية ، إلا سبيلا من سبل الهداية ، ومدخلا واسعا لرحاب الحق ورياض الإيمان.

ومن أهم ما ينبغي أن يسترعي انتباهنا ونحن ندعو إلى الله في هذا الميدان ، أن

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٩.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٨٩.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٢٤.

١٤٥

التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن الكريم ، إنما يخضع لتلك الضوابط والقيود التي نصّ عليها المفسرون وستذكر فيما بعد.

وأعجب في هذا الصدد لمن يحاول إنكار قضية الإعجاز في القرآن أو السنة ويريد أن يحصر الإسلام في قضايا التشريع والمعاملات والخلق ...

وخلال التوصيف نقول لمثل هؤلاء الأحباب المخلصين : ثمة آيات كثيرة في كتاب الله نجانب الصواب إن لم نفسرها على أساس العلم ، فعلى سبيل المثال ، كيف لنا أن نفسّر قول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (١).

لما ذا نرفض أن تفسّر هذه الآية طبق الواقع المناخي الذي يحدثنا بل وقد صوره لنا علماء المناخ وأرونا الجبال السائرة في كبد السماء «جبال البرد» وصوّروا لنا السحب الركامية وطبقاتها.

وكيف لنا أن نفسّر قول الله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٢).

لقد أثبت العلم صور الأمواج السطحية والأمواج الداخلية واقتران هذه الأمواج بالبحار التي تلبّدت سماؤها بالغيوم الكثيفة ... لما ذا لا نفسر هذه الآية بالمعطيات العلمية التي ارتقت إلى مستوى القطعية والمشاهدة والرؤيا؟! وهكذا في سائر الآيات الكونية التي اتضحت حقائقها العلمية.

ويلفت النظر إلى أن الذين عارضوا تفسير القرآن على أساس العلم ، لو سألنا أحدهم أو لو رجعنا إلى تفاسيرهم ونظرنا فيها كيف يفسرون الآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون والحياة والإنسان؟ لمعرفة ذلك نفتح تفسير «في ظلال القرآن» لشهيد الإسلام سيد قطب رحمه‌الله ، فمما هو معلوم أن سيد قطب من المعارضين لقضية الإعجاز العلمي كما مر معنا ، فلقد سلك منهجا في التفسير حاول فيه التحفظ والابتعاد عن الإعجاز

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٣.

(٢) سورة النور ، الآية : ٤٠.

١٤٦

العلمي في القرآن ، لكننا نجده عند ما يفسر قول الله تعالى : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) (١) نجده يقول ما نصه : (وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي ، ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم ، وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين ، وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) فسبحان العليم الخبير) (٢).

وكم وبخ محمد رشيد رضا ، ـ كما رأينا ـ الذين يؤيّدون الإعجاز العلمي ، ولو رجعنا إلى تفسيره فلسوف نجده مولعا بتفسير الآيات تفسيرا علميا!.

ففي بيان الحق سبحانه تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣) يقول :

١ ـ إن المادة التي خلقت منها السموات والأرض كانت دخانا ، أي مثل الدخان.

٢ ـ إن هذه المادة الدخانية كانت واحدة فتق الله رتقها ، أي فصل بعضها من بعض ، فخلق منها هذه الأرض والسموات السبع العلى.

٣ ـ إن خلق الأرض كان في يومين ، وتكون اليابسة والجبال الرواسي فيهما ، ومصادر القوت ، وهي أنواع النبات والحيوان في يومين آخرين تتمة أربعة أيام.

٤ ـ إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء.

فيعلم من هذا أن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شيء مباشرة ، أو غير مباشرة ، وإن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية ، وإن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ، ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها ، وإن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهي النبات والحيوان ، فهذه أزمنة الأطوار من الخلق قد تكون متداخلة وأما السماء العامة ، وهي

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية : ١٤.

(٢) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ٤ / ٢٤٥٩.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٥٤.

١٤٧

العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض فقد سوى أجرامها من مادتها الدخانية في يومين أي : زمنين كالزمنين اللذين خلق منهما جرم الأرض.

ثم يقول : هذا التفصيل الذي يؤخذ من مجموع الآيات يتفق مع المختار عند علماء الكون في هذا العصر ، من أن المادة التي خلقت منها هذه الأجرام السماوية ، وهذه الأرض كانت كالدخان ويسمونها «السديم» (١) وكانت مادة واحدة رتقا ، ثم انفصل بعضها عن بعض ، ويصورون ذلك تصويرا مستنبطا مما عرفوا من سنن الخلق ، إذا صح كان بيانا لما أجمل في الآيات ، وإذا لم يصح كله أو بعضه لم يكن ناقصا لشيء منها ، فهم يقولون : إن تلك المادة السديمية كانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة ، وأنها قد تجمع بعضها ، وانجذب إلى بعض ، بمقتضى سنة الجاذبية العامة ، فكان منها كرة عظيمة تدور على محور نفسها ، وأن شدة الحركة أحدثت فيها اشتعالا فكانت ضياء ، أي نورا ذا حرارة ، وهذه الكرة الأولى من عالمنا هي التي نسميها الشمس ، ويقولون أيضا : إن الكواكب الدراري التابعة لهذه الشمس فيما نشاهد من نظام عالمنا هذا قد انفتقت من رتقها ، وانفصلت من جرمها وصارت تدور على محاورها مثلها ، ومنها أرضنا هذه فقد كانت مشتعلة مثلها ... وبعد استطراد في ذكر المسائل العلمية يختم كلامه قائلا : كل ذلك تفصيل لخلق العوالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم لم يكن منه شيء جزافا ، وقد أرشد الكتاب الحكيم إلى هذه الحقائق العامة الثابتة في نفسها وإن لم يثبت كل ما قالوه من فروعها ومسائلها) (٢).

إذا ، يتحتّم على الإنسان عند تفسيره لآية كونية أن يفسرها حسب ما يقتضيه حالها ، والجو القرآني الذي سيقت فيه ، وإلا فسيكون تفسيرها بعيدا عن هدفها ومقصدها ...

إن هذه اللغة ، لغة العلم هي الرابط المشترك بين الناس جميعا ، فلا يستطيع أحد أن ينكرها ، ومن أجل تحقيق أهداف الدعوة ونجاحها كان لا بد أن نسلك منهج العلم في زمن العلم ، ونخاطب الناس باللغة التي يفهمون واللهجة التي يعرفون ...

__________________

(١) السدم ، nebulak ، وهي عبارة عن لطع مضيئة منتشرة في عدة أماكن من رقعة السماء على شكل سحب ، غازية التكوين. انظر : الموسوعة الفلكية ، زينب منصور ، عمان ، الأهلية للنشر ، الطبعة الأولى ، ٢٠٠١ ، ص ٢١ ، وانظر : المحيط الكوني وأسراره ، نجيب زبيب ، بيروت ، دار الأمير ، الطبعة الأولى ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤ ، ص ٤١١.

(٢) تفسير المنار ، رشيد رضا ، ٨ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

١٤٨

وإلى هنا نأتي إلى نهاية الحديث عن الإعجاز القرآني في دراسته التاريخية ، ولسوف تكون الفصول القادمة مركزة على التطبيقات المعاصرة للإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

١٤٩
١٥٠

الفصل الرابع

الإعجاز القرآني

في علم الفلك

تمهيد.

المبحث الأول : بين الإسلام والعلم.

المبحث الثاني : مولد الكون ونشأته بين العلم والقرآن.

المبحث الثالث : تمدّد الكون وتوسعه بين العلم والقرآن.

المبحث الرابع : نهاية الكون وفناؤه بين العلم والقرآن.

١٥١
١٥٢

تمهيد

من أجلّ ما أقرّ به القاصي والداني ، أن الإسلام دين يحترم العلم ويدعو إليه ، بل يفرض على معتنقيه أن يتزوّدوا من العلوم النافعة التي تؤهلهم للكشف عن أسرار الكون والحياة ، والاستفادة من خيرات الأرض وما حوت ، وذلك بدراسة العلوم الكونية ، فضلا عن العلوم الشرعية التي تنور لهم سبل حياتهم الدنيوية والأخروية ، ولذلك كان لزاما على أبناء الأمة أن يعرضوا الإسلام بصورته المضيئة التي تؤكد على وجود مؤشرات قرآنية واضحة ، تنسجم مع حقائق العلم القطعية التي يكتشفها العلماء ، حتى يتبين للجميع أن ديننا يدعم مواكبة المستجدات ويؤكدها ، طبعا بشروط وضوابط سترد في ثنايا هذا الفصل.

كما ستتناول مباحث هذا الفصل الحديث عن تضافر أبحاث علماء الفلك ودراساتهم ، حول نشأة الكون ومولده ، وحول توسعه ونهايته ، وما أفرزته هذه الدراسات من المؤلفات سواء في القديم أو في الحديث ، ولسنا بصدد استعراض الأفكار التي كانت سائدة لدى الأقوام الغابرة ونظرتهم للكون والحياة ، وما شاع بينهم من أساطير حول الكون وما حوى ، وتشخيص ذلك من خلال مقاييس العلم وموازينه ، ولا بتفنيد ظاهرة التنجيم التي قد امتدّ سلطانها يومذاك على تلك الشعوب وخاصة الوثنية منها ، التي كانت تدين بالولاء والخضوع للكواكب والنجوم ، وتربط عقيدتها ومصيرها ارتباطا وثيقا بالأجرام السماوية ... كذلك لن نتعرض إلى المجهود القيّم الذي بذله علماء الفلك في العصور الوسطى دراسة أو نقدا وتعقيبا ، إنما سنحاول الخوض في علوم الفلك المعاصرة التي تطوّرت تطورا هائلا حتى فاقت معداتها ووسائلها والاهتمام بها كل ميادين الحياة ومرافق العلم.

ولنبدأ الحديث عن مولد الكون ومنشئه من خلال الآيات القرآنية الكثيرة ، التي تضافرت ألفاظها ومعانيها لترسم لنا الصورة الكونية الأولى ، ثم نصغي إلى أقوال

١٥٣

المفسرين حول هذه الآيات ، وإلى دلالات الكلمات القرآنية وأبعادها من خلال المعاجم ، ومن ثم نرى ما ذا يطالعنا أصحاب العلوم الفلكية البحتة عن المادة الأولى التي تشكل منها كوننا الواسع الرحيب؟ وما ذا يحدثنا من امتدت أروقة علومهم في آفاق السماء الشاسعة ، وعلى التحديد أولئك الذين يكتشفون أسرار الكون ، وتتكشف لهم حقائقه يوما بعد يوم؟ كما سيبين هذا الفصل موضوع انتشار الكون وتوسعه ، وعن نهايته وفنائه بين معطيات القرآن وحقائق العلم ، ثم نقف على التوفيق والربط بين الإشارة القرآنية التي أصّلت الحقيقة المدروسة وسجلتها في صفحات القرآن الكريم ، لتكون بذلك سابقة لأساطين العلم والمعرفة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.

إن القراءة الدقيقة في كتب علماء الفلك هؤلاء تظهر كيف تحدثنا أقلامهم ، وتخط في صفحات كتبهم عظمة الله في خلقه وكونه ، والدقة البالغة في انسجام الكون وتناسق أجرامه ، والنظام الباهر الذي سطع إماضه ، وتألّق في ملكوت الله ، بعد جولة في صفحات القرآن الكريم.

١٥٤

المبحث الأول

بين الإسلام والعلم

ويتناول في هذا المبحث ثلاثة قضايا وهي :

أولا ـ الإسلام دين العلم

إن مما تميز به الإسلام عن غيره من الشرائع السماوية ، أنه توج رسالته بالعلم ، وأول كلمة نزلت من السماء إلى الأرض وعلى قلب النبي الكريم محمد بن عبد الله هي كلمة (اقْرَأْ) (١) ، فكانت تاجا وضعه الحق تبارك وتعالى فوق رأس هذه الأمة ، فكان الإسلام بهذا مفرق الطريق ، أو مفصلا في تاريخ الإنسانية ، لظاهرة العلم التي برزت فيه وحركة النشاط الفكري التي دفعت المجتمع البشري الذي نزل فيه الإسلام إلى الأمام فضلا عن مزاياه الأخرى المتعددة.

والمعيار الدقيق لكمال الإنسان أو نقصانه ، بيّنه الحق عزوجل بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، وأولى القرآن الكريم العلم وأهله مكانة سامية بقوله : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٣).

غير أن الحق تبارك وتعالى وضع تصورا دقيقا وأساسا واضحا ينهض عليه العلم وتشاد عليه ركائزه ، وأول هذه الركائز ، التدبر في معرفة العلم الذي ستأخذه وذلك عند ما قال (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٤) والاقتفاء هو التتبع و (ما) من أدوات الشمول والعموم ، أي عموم ما لم تعلم حقيقته وتدرك كنهه وتتبصر فيه الغث من السمين لا تتبعه ، وما ذلك إلا لأن

__________________

(١) سورة العلق ، الآية : ١.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٩.

(٣) سورة المجادلة ، الآية : ١١.

(٤) سورة الإسراء ، الآية : ٣٦.

١٥٥

الأدوات التي تتحصّل من خلالها على العلوم والمعارف ستسأل عنها يوم القيامة ، كما قال تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ومنهج القرآن متفرد في هذا الصدد ، لأنه يحث الناس على اقتفاء العلم النافع وهجر ما لا ينفع ، ومن هنا كان يقول النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» (١).

وإذا كان الأمر كذلك ، فإن الحق عزوجل لا يقبل إيمان عبد قد اكتسبه بوسيلة المحاكاة والتقليد للآباء والأجداد ، دون إدراك حقيقة الإيمان الذي ينبع من معين العلم والعقل والطاقة المبصرة النيرة والولاء المطلق لرسالة الإسلام ، قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (٢).

بل إن القرآن قد جعل الإيمان ثمرة من ثمرات العلم الحق ، لأن الأصل في الطريق إلى الله وإلى الإيمان هو العلم ، قال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٣) فالعلم قد تقدم على التوحيد ، لأن صاحب العلم الحق يقوده علمه إلى مراتع الإيمان ورياض التوحيد ، أما العلم الذي يجعل صاحبه خاضعا لنزوات الحمأ المسنون لديه ، وعقله تبعا لعصبياته وأهوائه ، فإنه يوم القيامة من النادمين الذين يقرون ويعترفون أن بعدهم عن الإيمان في الدنيا ما كان إلا لأنهم ما عقلوا سر الحياة وما أدركوا قصة وجودهم في الكون ، وبالتالي غابت عنهم حقيقة العبودية لله عزوجل ، فأصبحوا أشبه ما يكونوا بالمجانين وفي ذلك يحكي القرآن عن هؤلاء فيقول سبحانه : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٤) نعم لو أنهم سمعوا الهدى وانقادوا لمستلزماته ، وأعملوا عقولهم وفكروا فيها لما تخبّطوا في أوحال الشرك ودياجير الظلام.

يقول ابن القيم : (إن كل ما سوى الله مفتقر إلى العلم ، ولا قوام له بدونه ، فإن الوجود وجودان وجود الخلق ووجود الأمر.

والخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته ، فكل ما ضمّه الوجود من خلقه وأمره

__________________

(١) رواه مسلم ، ٤ / ٢٠٨٨ ، رقم : (٢٧٢٢) ، ورواه الحاكم في المستدرك ، ١ / ١٨٥ ، رقم :

(٣٥٤).

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٧٠.

(٣) سورة محمد ، الآية : ١٩.

(٤) سورة الملك ، الآية : ١٠.

١٥٦

صادر عن علمه وحكمته ، فما قامت السموات والأرض وما بينهما إلا بالعلم ، ولا بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا بالعلم ، ولا عبد الله وحده وحمد وأثني عليه ومجّد إلا بالعلم ، ولا عرف الحلال من الحرام إلا بالعلم ، ولا عرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم) (١).

ومن دأب القرآن الكريم أنه يربي المسلم وينبه كل الناس على دوام التفكير ، والتبصر في هذه المكونات التي زجّ الإنسان في داخلها ، فإذا ما حدّق الإنسان البصر وأجال النظر في هذه المخلوقات ورأى الإبداع في خلقها ، والدقة في تناسقها ، والتساوق في ارتباطها ، فإنه بلا أدنى شك سينطق بلسان حاله ومقاله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢).

ولما انقاد الرعيل الأول سلفنا الصالح لمقتضيات هذه الآيات ، حفزهم إيمانهم بالله للعلم والتعليم والعمل بما يتعلمون ، ولذلك تجد في تاريخ الإسلام المجيد قد برز كبار العلماء في الكونيات والطبيعة من علماء المسلمين والفقهاء ، وقدم هؤلاء للإنسانية العلوم النافعة في الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك ... والعالم في الغرب والشرق يعترف بفضلهم وما قدموه كان سببا في نهضة الغرب وحضارته.

(وقد أثبت التقدم الفكري الحديث أن القرآن الكريم كتاب دعا إلى العلم دعوته إلى الدين ، وأنه دعا صراحة إلى دراسة مختلف العلوم ، وأنه حوى أصول هذه الدراسات في مختلف قطاعات العلم ويبلغ عدد الآيات العلمية في القرآن الكريم ما يقرب على ٧٥٠ آية تشمل مختلف العلوم) (٣).

(دين كهذا يكرم العلم ويحض على التعلم ويدعو إلى معرفة الخالق عن طريق معرفة مخلوقاته كيف وجدت وكيف نشأت ، لهو الصراط السوي حيث لا لبس ولا غموض بل دراسة وتعلم وبحث وتفكير ... ثم يقول : ومنه يتضح أن الدين الإسلامي والعلم توأمان ، وأن الدين لا يقف عقبة في سبيل العلم بل يدعو إليه ويعتمد عليه ، ويشجع على

__________________

(١) فضل العلم والعلماء ، لابن قيم الجوزية ، جمع وترتيب صالح الشامي ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الأولى ، ١٤٢٢ ه‍ / ٢٠٠١ ص ٣٥.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٩١.

(٣) القرآن الكريم أضواء على الشرق والغرب ، محمد قبيسي ، بيروت ، مؤسسة الرحاب الحديثة ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٦ ، ص ١٤٦.

١٥٧

البحث ، ويرغب في التعلم ، بل ويجعل العلم هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله سبحانه وتعالى ، والوقوف على عظمته وقدرته) (١).

ثم إن جمال الإسلام يكمن في أنه حث على العلم الذي ينفع البشرية ، بغض النظر عن المعتقدات والأديان ، وهذه الحقيقة التي نفتخر بها ، قد ذابت عند الغربيين واضمحلت ، ذلك أن ما توصلوا إليه من طغيان مادي وعلم طبيعي أردى في كثير من الأحيان بالبشرية إلى الخراب ، فقد اخترع لهم علمهم القنابل النووية والراجمات والطائرات القاصفة والمدرعات والدبابات ، فكانت أداة للتدمير والتشريد والتقتيل وسفك الدماء البريئة ، وهدم البنيان ، فأصبح الطفل يقتل وهو رضيع في حضن أمه والعجوز يذبح وأعين أولاده ترمقه ، ومدن بأكملها تشطب معالمها من ساحة الوجود؟!.

ثانيا ـ الإعجاز العلمي سبيل من سبل الدعوة

إن سبل الدعوة إلى الله متعددة ومتنوعة ، وسبب هذا التعدد أن لكل مقام مقالا ينسجم معه ويتوافق مع الجو الذي يجب أن تحقق فيه الدعوة أهدافها.

ويظهر هذا الذي نقول من خلال المناهج التي سلكها الدعاة من رسل وغيرهم ، عند ما قاموا بإعلان دعوة الحق ودحض الباطل والضلال ، ولقد سجّلها القرآن الكريم في صفحاته لتكون الأسوة التي تحتذى ، والقدوة التي يسير وفق برنامجها كل من باع نفسه لله ولدين الله.

ولقد أيّد الحق تبارك وتعالى الرسل والأنبياء بالدلائل والبيانات التي تثبت صدق دعوتهم وأنهم مبعوثون من عند الله ، كما أن هذه البيانات تنسجم مع البيئة والمحيط الذي ظهرت فيه ، وهي تتناسب مع المستوى العقلي والعلمي لدى القوم الذين خوطبوا بها ، قال الله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) (٢) ، فبينة موسى كانت من جنس ما قد انتشر في قومه ألا وهو السحر ، وبينة عيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، وذلك لأن الطب كان من أبرز ما اشتهر به قوم عيسى عليه‌السلام ، فأثبت موسى صدق رسالته بمعجزته العصا ، لما أبطل عمل السحرة ، وأثبت عيسى صدق رسالته لمّا أحيا

__________________

(١) هذا خلق الله ، عبد الحليم كامل ، القاهرة ، المكتبة الأكاديمية ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٤ ، ص ١٥ ،

(٢) سورة الحديد ، الآية : ٢٥.

١٥٨

الموتى بإذن الله ، وهذا ما عجز عنه قومه ، إلا أن تلك المعجزات المادية كانت حياتها مرتبطة بحياة أصحابها من الأنبياء ، فلما رحل الأنبياء إلى دار القرار ، ذهب وجه الإعجاز لتلك البينات من حيز الواقع المشاهد والمرئي ، ولم يبق منها إلا النقول والأخبار عبر كتب السماء.

ويأذن الخالق جل جلاله بظهور المعجزة الخالدة القرآن الكريم ، المعجزة المتجددة عبر الزمان ، فلكل جيل من الأجيال نصيب وافر منها ، ومهما تطورت العلوم المادية وتجددت الاكتشافات العصرية ، فإن إعجاز القرآن الكريم مواكب لهذه المستجدات ، مبين أنه قد تحدث عن بعض حقائقها وقت نزوله ولم يكن أحد قد أدركها بعد.

(ونظرا لكون عصرنا الحاضر هو عصر العلم و (التكنولوجيا) ، وأن لغة العصر الحالي هي لغة العلم ، ولكون القرآن الكريم هو كتاب هداية للناس كافة ، وليس مقتصرا على العرب فقط أو الناطقين باللغة العربية الذين يفهمون إعجازه اللغوي والبلاغي ، فأصبح من اللازم على المسلمين إظهار أوجه إعجازه المتعددة الأخرى ، وخاصة البرهان العلمي الذي أصبح أكثر وضوحا في الوقت الحاضر نتيجة التقدم الحاصل في العلم و «التكنولوجيا») (١).

كما أن (تقديم الخطوط العريضة لشريعة الحياة من أجل الإنسان ، وما ينضحان به أحيانا من بوارق من الإعجاز العلمي الباهر المتجدّد تجدد الحضارة والإنسان هي عطايا من اللطيف الخبير لتطمئن به نفوس المؤمنين ولترعوى نفوس المشككين ، وليتراجع عن غيّهم السادرون ، وليتقاصر غرور المفتونين بنتائج العلم الحديث ... فالإعجاز القرآني بكل أنواعه ، ولا سيما العلمي منه ، بوابة كبيرة مشرعة الأبواب لكل من يبصر الطريق العلمي القرآني لولوج تلك الأبواب) (٢).

إننا دخلنا في القرن الواحد والعشرين ، ونحن أمام إرث علمي هائل قد خلّفه لنا القرن الراحل فلقد ترك لنا ثروة علمية أو ثورة علمية عجيبة مدهشة ، فهلّا جعلنا تدريس

__________________

(١) العلوم في القرآن ، محمد جميل الحبال ومقداد الجواري ، بيروت ، دار النفائس ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ / ١٩٩٨ ، ص ١٦.

(٢) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، سليمان الطراونة ، عمان ، دار الفرقان ، الطبعة الأولى ، ١٤٢١ ه‍ / ٢٠٠٠ ، ص ١٢١.

١٥٩

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم سبيلا من سبل الدعوة إلى الله ، لا بل من أهم ما ينبغي أن يدرّس ويركز عليه.

إن الآيات الكونية والعلمية في القرآن الكريم تنادينا وتستنهض هممنا وتقول لنا : يا أتباع محمد أنا المعجزة المادية العلمية في عصر المادة ، فلئن كان أجدادكم العرب وهم أصحاب الفصاحة وفرسان البلاغة قد ذهلوا عند سماعهم القرآن الكريم لما انطوى عليه من بلاغة وبيان ودقة ، فخضعوا لسلطانه واستسلم أكثرهم لأوامره ، فمتى يا مسلمون تبينون الجانب الكوني والعلمي في آيات القرآن؟.

فإلى كل داع إلى الله ، وإلى كل داعية إلى الحق المبين ، أن تكون دعوته قائمة على دعائم وركائز العلم والمعرفة ، وأن يبرز الحقائق العلمية التي قد سجلها القرآن وسبق أصحاب العلوم الذين يدعون أنهم هم أول من اكتشفها وتحدث عنها ، عساهم أن ينصاعوا إلى الحق والإيمان.

إن المسئولية تقع على عاتق كل مسلم دون استثناء ، وأخص منهم العلماء والحكام ، الذين ملكوا زمام أمور المسلمين ، وأقول لهم : يا قادتنا إن أصحاب الباطل يروّجون لباطلهم في الليل والنهار وكبار رؤساء الدول الغربية يدعمون حملات التنصير والاستشراق دعما باهظا لترويج بضاعة الصليبيين وأباطيل الماسونيين ... فهلّا قمتم يا حكام العرب والمسلمين بتجهيز الدعاة إلى الله وإلى الحق ، لعرض أوجه الإعجاز العلمي في القرآن على أساطين العلوم في الغرب ، وأن تعلنوا للغرب أن الإسلام ليس دين إرهاب وسفك للدماء ، إنما هو دين العلم ، دين متابعة التكشفات العلمية والمستجدات العصرية لتقيموا الحجة وتثبتوا المعجزة؟

إذا كان أصحاب الباطل يدعون لباطلهم ، فلما ذا نستحي من دعوتنا إلى الحق؟.

إذا كانت وسائل الإعلام غربا قد شوّهت صورة الإسلام ، وأقنعت أبناءها هناك أن المسلمين ما تخلفوا إلا بالإسلام ، لأنه دين الحرب والتقتيل والدمار ، فأصبح الغربيون يعرضون عن الإسلام إعراض المشمئز الكاره له ، فلما ذا لا نقوم بتصحيح هذه الأفكار المغلوطة ، ونبين لهم وجه الحق والصواب؟ إذا كنا نحن ضعفاء بمقومات حياتنا المادية ، وبصناعاتنا وإنتاجاتنا المحلية ، وكنا شعبا مستهلكا لما يصدره لنا الغرب في شتى جوانب الحياة ، فإننا بحمد الله أقوياء في عقيدتنا ، أقوياء في علومنا ومعارفنا لكن هل من مبلّغ؟.

١٦٠