الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

السبب الذي جعل العلماء ينصرفون عن تفسير قسمي «الآلاء والأخلاق» من القرآن تفسيرا علميا هو أنهم : (كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم ، فيكفرون فيقتلون ، وهذه مسألة إعجاز القرآن وهي أهم مسألة في الدين ، لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث ، واقتصروا على ما قاله بعض السلف قولا مجملا من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته ، وأخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون ، مع أنه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات ، لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله سبحانه وتعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١) برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان) (٢).

ثم يبدأ بسرد طائفة من الآيات القرآنية ، ويحللها ويفسرها تفسيرا علميا فيقول : (ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة ، تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا ، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا ، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن ، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه ، وذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير ، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٣) وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤) وحققوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي والقرآن يقول : (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (٥) وحقّقوا أن القمر منشق من الأرض ، والقرآن يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٦) ... وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٧) وكشفوا

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٥٩.

(٢) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، عبد الرحمن الكواكبي ، بيروت ، دار النفائس ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٤ ، ص ٤٧.

(٣) سورة فصلت الآية : ١١.

(٤) سورة يس ، الآية : ٤٠.

(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠.

(٦) سورة القمر ، الآية : ١.

(٧) سورة الطلاق ، الآية : ١٢.

١٢١

وجود الميكروب وتأثيره كالجدري وغيره من المرض والقرآن يقول (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (١) أي متتابعة مجتمعة ، (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (٢) أي من طين المستنقعات اليابس إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية ، وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضى أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون ، تجديدا لإعجازه ما دام الزمان) (٣).

(وإذا كان لنا من تعليق على قوله فإننا نقول : إنه قد تأثر بهذا اللون من التفسير تأثّرا كبيرا حتى وصل به الأمر إلى حد الإفراط والمغالاة ، وبسبب ذلك صار يتلمس لكل نظرية نصا من القرآن مدعيا أن هذا وجه من وجوه صدقه ودلائل إعجازه العلمي بعد أن اقتصر علماء السلف على حد قوله على أن فصاحته وبلاغته هي سبب إعجازه ، فانظر إلى استدلاله على أن القمر منشق من الأرض بقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فإن هذا المعنى المزعوم لا تدل عليه أي من الآيتين ، وهو معنى بعيد كل البعد عن معناهما ، بالإضافة إلى أنه قد يستدل ببعض آية تاركا ما قبلها وما بعده) (٤). هذان من أبرز من تناول تفسير القرآن بمغالاة ، وهناك غيرهما كثير مثل عبد العزيز إسماعيل في كتابه «الإسلام والطب الحديث» وعبد الرزاق نوفل في عدة كتب له ، ومن أخطر وأجرأ من تعسف في هذا الصدد هو طنطاوي جوهري في تفسيره «الجواهر» الذي جاء في خمسة وعشرين جزءا ، والذي يتحدث فيه : (لقد وضعت في هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق وعجائب الكون وأثبت فيه غرائب العلوم ، وعجائب الخلق ، مما يشوق المسلمين والمسلمات إلى الوقوف على حقائق معاني الآيات البينات في الحيوان والنبات والأرض والسموات ولتعلمنّ أيها الفطن أن هذا التفسير نفحة ربانية ، وإشارة قدسية ، وبشارة رمزية ، وأمرت به بطريق الإلهام ، وأيقنت أن له شأنا سيعرفه الخلق ، وسيكون من أهم أسباب رقيّ المستضعفين في الأرض) (٥).

يقول فيه الدكتور حسين الذهبي : (ونجده يضع لنا في تفسيره كثيرا من صور النباتات

__________________

(١) سورة الفيل ، الآية : ٣.

(٢) سورة الفيل ، الآية : ٤.

(٣) انظر : طبائع الاستبداد ، للكواكبي ، ص ٤٨ ـ ٤٩.

(٤) التفسير العلمي للقرآن ، أحمد عمر أبو حجر ، ص ١٩٢.

(٥) الجواهر في تفسير القرآن الكريم ، طنطاوي جوهري ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الرابعة ، ١٤١٢ ه‍ / ١٩٩١ ، ١ / ٣.

١٢٢

والحيوانات ومناظر الطبيعة ، وتجارب العلوم ، بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول ، توضيحا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس ، ولقد أفرط في ذلك ، وجاز حد المجاز.

ومما يؤخذ عليه : أنه قد يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون في جمهوريته أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم ، وهو حين ينقلها يبدي رضاه عنها وتصديقه بها في حين أنها تخالف في ظاهرها ما عليه أصحابه السلفيون والأشاعرة.

هذا ، وإنا نجد المؤلف يفسر آيات القرآن تفسيرا يقوم على نظريات علمية حديثة غير مستقرة في ذاتها ، ولم تمض فترة التثبت منها ، وهذا ضرب من التكلف ارتكبه المؤلف ، إن لم يكن يذهب بغرض القرآن أحيانا ، فلا أقل من أن يذهب بروائه وبهائه) (١).

القسم الثاني : المثبتون من العلماء المعاصرين باعتدال

أولا ـ وحيد الدين خان (٢) :

وسوف نقف مع كتابه «الإسلام يتحدى» والذي قدم له الدكتور عبد الصبور شاهين.

عقد وحيد الدين خان في كتابه المذكور مبحثا بعنوان : القرآن والكشوف الحديثة ، تحدّث فيه عن قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، ووضع بعض الضوابط لهذا النمط من التفسير ، والتي تدل على اعتدال الرجل واتزانه إزاء هذه القضية ، ثم ساق طائفة من الآيات القرآنية وفسّرها بناء على معطيات الحقائق العلمية ، وبمنهج دقيق لا إفراط فيه ولا مغالاة.

وها هو ذا يبين أهم قيد من القيود التي يرتكز عليها هذا التفسير فيقول : (إن مطابقة كلمات القرآن وألفاظه للكشوف العلمية الحديثة مبنية على أن العلم الحديث قد استطاع الكشف عن أسرار الواقعة موضوع البحث ، فتوفرت لدينا مواد نافعة لتفسير الإشارات

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، محمد حسن الذهبي ، القاهرة ، دار الكتب الحديثة ، الطبعة الأولى ، ١٣٨١ ه‍ ، ١٩٦١ ، ٣ / ١٨٤.

(٢) من كبار علماء الهند ومفكّريها في العصر الحديث ، ومن الذين يتولون قضية الإسلام أمام الزحف الفكري المعادي ، له عدة مؤلفات منها ، الإسلام يتحدى ، والدين. انظر : مقدمة الدكتور عبد الصبور شاهين لكتاب الإسلام يتحدى.

١٢٣

القرآنية في ذلك الموضوع ، ولو أن دراسة المستقبل في موضوع ما تبطل واقعة من وقائع العلم الحديث كليا أو جزئيا فليس هذا بضائر مطلقا صدق القرآن ، بل معناه أن المفسر أخطأ في محاولته لتفسير إشارة مجملة في القرآن ، وإنني لعلى يقين راسخ بأن الكشوف المقبلة سوف تكون أكثر إيضاحا لإشارات القرآن ، وأكثر بيانا لمعانيه الكامنة) (١).

ويبدأ بضرب بعض الأمثلة على إعجاز القرآن ، وسبقه في تسجيل الحقائق العلمية التي وصل إليها علماء العصر ، لكن بعد جهد جهيد ، وعمل مضن ومستمر كلفهم أموالا طائلة فضلا عن سهر الليالي الطويل ، فيقول :

(١ ـ ذكر القرآن الكريم قانونا خاصا بالماء في سورتين هما الفرقان والرحمن ، وجاء في السورة الأولى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) (٢) وأما الآية التي وردت في السورة الأخرى فهي تقول : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠)) (٣).

إن الظاهرة الطبيعية التي يذكرها القرآن في هذه الآيات معروفة عند الإنسان منذ أقدم العصور وهي أنه إذا ما التقى نهران في ممر مائي واحد ، فماء أحدهما لا يدخل أي لا يذوب في الآخر ، وهناك على سبيل المثال ، نهران يسيران في «تشاتغام» بباكستان الشرقية إلى مدينة «أركان» في «بورما» ويمكن مشاهدة النهرين ، مستقلا أحدهما عن الآخر ، ويبدو أن خيطا يمر بينهما حدا فاصلا ، والماء عذب في جانب وملح في جانب آخر ، وهذا هو شأن الأنهار القريبة من السواحل ، فماء البحر يدخل ماء النهر عند حدوث المد البحري ولكنهما لا يختلطان ، ويبقى الماء عذبا تحت الماء الأجاج ، وهكذا شاهدت عند ملتقى نهري «الكنج والجامونا» في مدينة «الله آباد» فهما رغم التقائهما لم تختلط مياههما ويبدو أن خيطا فاصلا يميز أحدهما عن الآخر ...

إن هذه الظاهرة كانت معروفة لدى الإنسان القديم ... ولكنا لم نكشف قانونها إلا منذ بضع عشرات من السنين ، فقد أكدت المشاهدات والتجارب أن هناك قانونا ضابطا للأشياء السائلة ، يسمى بقانون المط السطحي (surface tension) وهو يفصل بين

__________________

(١) الإسلام يتحدى ، وحيد الدين خان ، القاهرة ، دار البحوث العلمية ، ترجمة ، ظفر الإسلام خان ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٣ ه‍ / ١٩٧٣ ، ص : ١٤١.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٥٣.

(٣) سورة الرحمن ، الآيتان ١٩ ، ٢٠.

١٢٤

السائلين ، لأن تجاذب الجزئيات يختلف من سائل إلى آخر ، ولذا يحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله ، وقد استفاد العلم الحديث كثيرا من هذا القانون ، الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) وملاحظة هذا البرزخ لم تخف عن أعين القدماء ، كما لم تتعارض مع المشاهدة الحديثة.

ونستطيع بكل ثقة أن نقول إن المراد من البرزخ إنما هو المط أو التمدد السطحي الذي يوجد في الماءين والذي يفصل أحدهما عن الآخر) (١).

ثم يستعرض عددا من الأمثلة في عدة جوانب من العلوم مقارنا ذلك مع ما ورد في كتاب الله تعالى ، بدقة وموضوعية ، ثم يقول : (لسنا نملك أمام هذا التوافق المدهش بين ما ورد في الماضي البعيد وما اكتشف بالأمس القريب ، إلا أن نؤمن بأن هذا الكلام صادر عن موجود يحيط علمه بالماضي والحال والمستقبل على السواء) (٢).

ثانيا ـ الدكتور محمد جمال الدين الفندي (٣) :

يعرض الدكتور الفندي قضية الإعجاز العلمي في القرآن لكن بتحفظ وتثبت دون مغالاة أو تجاوز ويقف عند حدود النص ومدلولاته اللغوية والشرعية ، ويعتمد المنهج الدقيق الصحيح ، وهو : تفسير القرآن على أساس الحقائق العلمية الثابتة لا النظريات المتغيرة المتبدلة ، ويسوق مجموعة من الأمثلة التي تثبت إعجاز القرآن الكريم ، يقول : (وسوف نوضح كيف تمشّى العلم مع القرآن الكريم منذ نزل وتلك قاعدة عامة طالما كانت التعليقات العلمية أو التفسيرات مبنية على حقائق سليمة علمية وقاصرة على الحقائق بعيدا عن النظريات المتطورة ، ومن غير أن نكلف الآيات ما لا طاقة لها به من مجاز أو كناية) (٤).

__________________

(١) انظر : الإسلام يتحدى ، وحيد الدين خان ، ص : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) المصدر نفسه ، ص : ١٥١.

(٣) رئيس قسم الفلك وأستاذ الطبيعة الجوية بكلية العلوم في جامعة القاهرة ، كما أنه عضو في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر ، له العديد من المؤلفات العلمية والدينية منها : قصة الكون ، والصعود إلى المريخ ، والإسلام وقوانين الوجود. عن مقدمة دار النشر لهذا الكتاب ، الهيئة المصرية العامة للكتب.

(٤) الإسلام وقوانين الوجود ، محمد جمال الدين الفندي ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتب ، ١٩٨٢ ، ص : ٥٥.

١٢٥

ويبدأ بعرض أمثلة يوضح فيها سبق القرآن في تسجيل بعض قواعد العلوم وإعجازه في ذلك ومن هذه الأمثلة التي ذكرها تعقيبه على قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (١).

فيقول : (قال الأقدمون في ظل ما كان متوفرا لديهم من حقائق العلم أن (لَواقِحَ) هنا إنما تشير إلى تلقيح الرياح لبعض النباتات لكي تثمر أو يوجد الثمر ، وهذه حقيقة قائمة لم تتغير لأن الرياح كانت ولا زالت وسوف تستمر في تلقيح بعض النباتات لتوجد الثمر ، وفي ظل الآفاق الواسعة التي فتحها أمامنا عصر العلم اتضح للعلماء وثبت لديهم أن الرياح هي التي تثير السحاب وتكونه ، مصدقا لبيانه تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٢) والقرآن الكريم هو أول كتاب على الإطلاق قرر تلك الحقيقة العلمية ، وفي ظل تلك القضايا العلمية الهامة يستمر القرآن الكريم فيفرق بين السحاب الذي يمطر والسحاب الذي لا يمطر معلنا في إعجاز علمي أخّاذ أن نزول المطر إنما يتم عن طريق تلقيح الرياح للسحاب ، (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) ولقد ثبت علميا أن السحب لكي تمطر يجب أن تستمر الرياح وتدأب على تلقيحها أو إمدادها بجسيمات عناصر المطر وهي بخار الماء ونوى التكاثف وبخار الماء عبارة عن جزئيات منفصلة من الماء ، تحملها الرياح من أسطح البحار والمحيطات وتصعد بها إلى مناطق إثارة السحب لكي تتجمع من جديد على جسيمات صغيرة أخرى تذروها الرياح وتعرف باسم «نوى التكاثف».

وهذا التفسير الجديد إنما يربط بين أجزاء الآية الكريمة ويجعلها واضحة المعنى ، حيث تكون الفاء في قوله : (فَأَنْزَلْنا) هي فاء السببية ، أي نجم عن هذا التلقيح إخصاب السحاب ، ومن ثم نزول الماء العذب وهو المطر) (٣).

٢ ـ وعند ما يفسر قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤) يقول : (قال الأقدمون : إن هذه الآية الكريمة تشير إلى حقيقة ما لدى الخالق من عظيم القدرة

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٤٨.

(٣) انظر : الإسلام وقوانين الوجود ، محمد جمال الفندي ، ص : ٥٦.

(٤) سورة الذاريات ، الآية : ٤٧.

١٢٦

واتساع الملك رغم ما أودعه في الكون الفسيح من ألوان المادة وأجرام السماء ، أي أن كلمة «موسعون» إنما تشير إلى اليسر والغنى ... وبتقدم آلات الرصد عرفت المجرات ، وأقرب المجرات إلينا مجرة «المرأة المسلسلة» وهي تبعد عن مجرتنا بنحو ٧٠٠ ألف سنة ضوئية (١) ، وما زالت أبعاد الكون تتسع حتى عرف الناس اليوم أن هناك نجوما هي في الواقع مجرات ، تبدو لفرط بعدها عنا على هيئة نقط مضيئة هي أشباه النجوم وتبعد عنا بنحو ١٢ ألف مليون سنة ضوئية!.

إننا مرة أخرى نسلم بحقيقة المعنى الأول لكلمة «موسعون» كما أننا نسلم بصحة التفسير الحديث الذي سقناه ، حيث إنه فعلا اتسعت أبعاد الكون المرئي أمام البشر اتساعا يكاد لا يصدقه العقل بتقدم آلات الرصد والتتبع ، على أن هناك معنى آخر يشير إلى حقيقة أن الكون يتمدد ، أي تزداد أبعاده بمرور الزمن وهذه إحدى نتائج حسابات النسبية ، إلا أن الآية الكريمة إنما تضم هذه التفسيرات والحقائق العلمية السليمة كلها ، ورأينا إذا كيف ساير ركب العلم ما أثاره القرآن الكريم من قضايا العلم العامة ...) (٢).

ثالثا ـ الشيخ أحمد مصطفى المراغي :

يعلن الشيخ المراغي في مقدمة تفسيره عن المنهج الذي سلكه في تفسير القرآن الكريم ، ويدقق على أهمية تلاقح المعرفة ، بحيث يستند المفسر لكتاب الله في قضايا العلم على المختصين في العلوم الكونية والطبيعية ، ليكون لكلامه وزن وثقل ومصداقية ، وأن يواكب العلوم العصرية ومستجداتها ولا يركن إلى ما قيل في قضايا العلم قبل قرون ...

يقول المراغي في مقدمة تفسيره : (وقد سلكنا في الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات في مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها ، فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي ، والفلكي العارف ، والمؤرخ الثبت ، والحكيم البصير ليدلي كل برأيه فيما تمهر فيه ، لنعلم ما أثبته العلم وأنتجه الفكر ، فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب الله ، فرجل الدين حامل لوائها عليه أن يسأل العلم دائما يستبصر بما ثبت لديه ، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن قعدت به همته

__________________

(١) السنة الضوئية : (light year) المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة. موجز في تاريخ الزمان ، ستيفن هوكنغ ، ص : ٢٠٨.

(٢) انظر : الإسلام وقوانين الوجود ، محمد جمال الفندي ، ص : ٥٨ ـ ٥٩.

١٢٧

إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا وازداد بعدا عن الحقيقة ، وتضاءل أمام نفسه وأمام قارئي بحوثه ومؤلفاته) (١).

وإذا ما أردنا أن نتبين التطبيق العملي لهذا المنهج فلنستعرض بعض الأمثلة التي أوردها في تفسيره وكيف وازن بين آيات القرآن الكريم وبين مستجدات العلم.

ففي تفسيره لقول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)) (٢).

يقول المراغي : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لتثبت عليها الأقدام ، ويتقلب عليها الحيوان ، وينفع الناس بخيراتها وزرعها وضرعها ... ولا شك أن الأرض لعظم سطحها هي في رأي العين كذلك ، وهذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك ، ولم يبق لديهم فيها ريب ...

ثم يقول : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ) أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا أو أنثى حين تكونها ، فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر والزرع لا يولدان الثمر والحب إلا من اثنين ذكر وأنثى ، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث في شجرة واحدة كأغلب الأشجار ، وقد يكون عضو التذكير في شجرة وعضو التأنيث في شجرة أخرى كالنخل ، ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن ، وإما أن يكون كل منهما في زهرة كالقرع مثلا) (٣).

وفي بيانه تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)) (٤) يقول : (أي والشمس تجري حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمي ، فقد ثبت أن لها حركة رحوية حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية ، وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده ... ثم يقول : وعلماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم ، فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه ، بل لا بد له من حامل يحمله وهو الذي يدور به وكيف يسبح ما لا حرية له ، ولا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره؟ هكذا كان الرأي عندهم ، ولكن رأي

__________________

(١) تفسير المراغي ، أحمد مصطفى المراغي ، ١ / ١٨.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٣.

(٣) تفسير المراغي ، أحمد مصطفى المراغي ، ٣١ / ٦٦.

(٤) سورة يس ، الآية : ٣٨.

١٢٨

علماء الفلك المحدثين : أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير فهي إذا كأنها سمك في بحر لجي ... ثم يعقب قائلا : فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت ما دل على صحته الكشف الحديث ، ودحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان والهند والصين) (١).

بعد هذه الجولة السريعة في صفحات كتب المثبتين لقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، من العلماء القدامى والمعاصرين ، ننتقل في المبحث الآتي لنتعرف على أبرز المعارضين لتفسير القرآن على أساس العلم من العلماء القدامى والمعاصرين.

__________________

(١) تفسير المراغي ، أحمد مصطفى المراغي ، ٢٣ / ١٠ ـ ١١.

١٢٩

المبحث الثالث

أبرز المعارضين من العلماء القدامى والمعاصرين

إذا كان قد وجد من العلماء القدامى من دعا وتبنى قضية التفسير العلمي للقرآن ، فإن من العلماء القدامى من قد عارض هذا الاتجاه ورده ، وعلى رأس هؤلاء العالم الأصولي الكبير ، والذي أخذ كتابه «الموافقات» شهرة كبيرة في أوساط العلماء منذ قرون ، إنه الإمام الشاطبي.

أولا ـ المعارضون من العلماء القدامى :

الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي (١) :

عرض الإمام الشاطبي في كتابه «الموافقات» لأمية الرسول ، وأمية هذه الأمة ، وساق أدلة على أمية هذه الأمة من القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وبما أننا أمة أمية فإن الشريعة التي نزلت فينا أمية كذلك؟ على هذا الأساس كان منطلق رده لقضية التفسير العلمي للقرآن.

يقول الإمام الشاطبي : (ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد :

١ ـ منها : أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدّ ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين : من علوم الطبيعيات ، والتعاليم والمنطق ، وعلم الحروف ، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها ، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح ، وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا

__________________

(١) ... ـ ٧٩٠ ه‍ ... ١٣٨٨ ، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي ، أصولي حافظ ، كان من أئمة المالكية ، من مؤلفاته ، أصول النحو ، والاعتصام بالسنة ، والاتفاق في علم الاشتقاق ، والموافقات في أصول الشريعة ، وغيرها. انظر : الأعلام للزركلي ، ١ / ٧٥ ، بتصرف.

١٣٠

أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى ، سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة ، وما يلي ذلك ، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر ، لبلغنا منه ما يدلّنا على أصل المسألة ؛ إلا أن ذلك لم يكن ، فدل على أنه غير موجود عندهم ، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا نعم ، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب ، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه ، والاستنارة بنوره ، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا) (١).

ثم يشرع الشاطبي رحمة الله بذكر أدلة المجيزين لقضية الإعجاز ويردها ، فيقول : (وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) وقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٣) ونحو ذلك ، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب وبما نقل عن الناس فيها ، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.

فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد ، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) اللوح المحفوظ ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.

وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا ، كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب ، حسبما ذكره أصحاب السير ، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى ، وغير ذلك.

وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ، ولم يدّعه أحد ممن تقدم ، فلا دليل فيها على ما ادّعوا وما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت ، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه ، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة ، فبه يوصل إلى علم ما أودع من

__________________

(١) الموافقات في أصول الشريعة ، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي ، بيروت ، دار المعرفة ، الطبعة الرابعة ، ١٤٢٠ ه‍ / ١٩٩٩ ، ٢ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) سورة النحل ، الآية : ٩٨.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

١٣١

الأحكام الشرعية ، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضلّ عن فهمه ، وتقوّل على الله ورسوله فيه ، والله أعلم ، وبه التوفيق) (١).

(ومنطق الشاطبي هنا منطق قوي ، وأدلته لا مطعن فيها ، إلا ما كان من اعتماده على أمية الشريعة ، بناء على أمية الأمة ، ذلك أن أمية الأمة ليست أمرا مطلوبا ولا مرغوبا فيه ، بل بعث الله رسوله في الأميين ليخرجهم من الأمية إلى باحة العلم والنور كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) فهذه مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الأميين : التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة ، ولا أعجب أن كانت الآيات الأولى من الوحي تنبئ بذلك (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (٣) فالأمية ممدوحة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها أدل على الإعجاز ، وليست ممدوحة في حق الأمة ، وعلى الأمة أن تتحرر منها لتتعلم وتتفقه وتنظر في ملكوت السموات والأرض ...) (٤).

ثانيا ـ المعارضون من العلماء المعاصرين

١ ـ الشيخ محمود شلتوت (٥) :

لم يخرج شيخ الأزهر محمود شلتوت عن الأطر التي رسمها الشاطبي لمعارضته ، فها هو ذا يعلن معارضته الواضحة لتفسير القرآن على أساس العلم في مقدمة تفسيره فيقول : (وأما الناحية الثانية : فإن طائفة أخرى فهي طائفة المثقفين الذين أخذوا بواف من العلم الحديث ، وتلقنوا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية وغيرها ،

__________________

(١) الموافقات ، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي ، ٢ / ٣٩٠.

(٢) سورة الجمعة ، الآية : ٢.

(٣) سورة العلق ، الآية : ١.

(٤) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ، يوسف القرضاوي ، القاهرة ، دار الشروق ، الطبعة الأولى ، ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٩ ، ص ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٥) ١٣١٠ ـ ١٣٨٣ ه‍ ، ١٨٩٣ ـ ١٩٦٣ ، محمود شلتوت ، فقيه ومفسر ولد في منية بني منصور في البحيرة ، وتخرج بالأزهر عام ١٩١٨ وكان داعية إصلاح نير الفكر ، ومن أعضاء كبار العلماء ، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية ، ثم تعين شيخا للأزهر عام ١٩٥٨ ، إلى وفاته ، له ٢٦ مؤلفا مطبوعا منها : التفسير ، وحكم الشريعة ، والقرآن والمرأة ، وغيرها. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٧ / ١٧٣ ، بتصرف.

١٣٢

أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ، ويفسّرون آيات القرآن على مقتضاها ، نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١) فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحا جديدا ، ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة ، وطبّقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن ، ويرفعون من شأن الإسلام ، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.

نظروا في القرآن على هذا الأساس ، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن ، وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن ، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله ، فإذا مرت آية فيها ذكر للمطر أو وصف للسحاب أو حديث عن الرعد أو البرق تهللوا واستبشروا وقالوا : هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين ، ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب وكيف ينشأ وكيف تسوقه الرياح ، وإذا رأوا القرآن يذكر الجبال أو يتحدث عن النبات أو الحيوان وما خلق الله من شيء قالوا : هذا حديث القرآن عن علوم الطبيعة وأسرار الطبيعة ، وإذا رأوه يتحدث عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم ، قالوا : هذا حديث يثبت لعلماء الهيئة والفلكيين أن القرآن كتاب علمي دقيق ...) (٢).

وبعد استعراضه بعض الآيات التي فسّرت تفسيرا علميا يقول : (إن هؤلاء في عصرنا الحديث لمن بقايا قوم سافلين فكّروا مثل هذا التفكير ، ولكن على حسب ما كانت توحي به إليهم أحوال زمانهم فحاولوا أن يخضعوا القرآن لما كان عندهم من نظريات علمية أو فلسفية أو سياسية) (٣).

ثم يبين جوانب الخطأ في هذا الاتجاه فيقول : (هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك ، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

(٢) تفسير القرآن الكريم ، محمود شلتوت ، القاهرة ، دار الشروق ، الطبعة السادسة ، ١٣٩٤ ه‍ / ١٩٧٤ ، ص ١١.

(٣) المصدر نفسه ، ص : ١١.

١٣٣

وهي خاطئة : من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.

وهي خاطئة : لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان ، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير ، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات.

فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة ، لعرضناه للتقلب معها ، وتحمل تبعات الخطأ فيها ، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه.

فلندع للقرآن عظمته وجلاله ، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته ، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارات إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ...) (١).

٢ ـ سيد قطب (٢) :

موقف سيد قطب رحمه‌الله تعالى هو نفس موقف الشاطبي وشلتوت ، ولندع لقلمه البليغ أن يعرب عما يعتقده في هذا المجال ، وسوف نقتبس رأيه من تفسيره «الظلال» عند تعليقه على آية الأهلة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣).

يقول : (القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية ، ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم ، محمود شلتوت ، ص : ١٢.

(٢) ١٣٢٤ ـ ١٣٨٧ ه‍ ، ١٩٠٦ ـ ١٩٦٦ ، الشهيد سيد بن قطب بن إبراهيم ، مفكر إسلامي مصري من مواليد قرية «موشا» في أسيوط ، تخرج بكلية دار العلوم بالقاهرة ، وعمل في جريدة الأهرام ، وكتب في مجلتي الرسالة والثقافة ، أوفد في بعثة لدراسة برامج التعليم في أمريكا ، ثم انضم إلى الإخوان المسلمين ، فترأس قسم نشر الدعوة وتولى تحرير جريدتهم ، وسجن معهم ، فعكف على تأليف الكتب ونشرها وهو في سجنه إلى أن صدر الأمر بإعدامه فأعدم ، كتبه كثيرة ومطبوعة منها ، النقد الأدبي ، والعدالة الاجتماعية في الإسلام ، والتصوير الفني في القرآن ، وفي ظلال القرآن ، وغيرها. انظر : الأعلام ، للزركلي ٣ / ١٤٨ ، بتصرف.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٩.

١٣٤

العلوم ، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم ، إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله ، إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية ، وإن وظيفته أن ينشئ تصورا عاما للوجود وارتباطه بخالقه ، ولوضع الإنسان في هذا الوجود ، وارتباطه بربه ، وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته ، ومن بينها طاقته العقلية التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة ، وإطلاق المجال لها لتعمل بالبحث العلمي في الحدود المتاحة للإنسان وبالتجريب والتطبيق ، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال ، إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته ، تصوره واعتقاده ومشاعره ومفهوماته وسلوكه وأعماله وروابطه وعلاقاته ، أما العلوم المادية والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته ، بما أنها أساس خلافته في الأرض وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه ، والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له ، ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه وتناسق تكوينه ، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه ، وهو أي «الإنسان» أحد أجزائه ، ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته ، ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي ... وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها ، كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه ، إن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها ، لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها ، والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان ، والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره ، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه ، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط ، يتركه القرآن يبحث ويجرب ويخطئ ويصيب في مجال العلم والبحث والتجريب ، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه وطبيعة التناسق بين

١٣٥

أجزائه ، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته ولا حتى بما يسميه حقائق علمية مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره ، إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة ، أما ما يصل إليه البحث الإنساني أيا كانت الأدوات المتاحة له فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة ، وهي مقيدة بحدود تجاربه ، وظروف هذه التجارب وأدواتها ، فمن الخطأ المنهجي بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته ، أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية ، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى علمية ، ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية ، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره ، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه ، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها ، فهذه كلها ليست حقائق علمية حتى بالقياس الإنساني ، وإنما هي نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية إلى أن يظهر فرض آخر يفسّر قدرا أكبر من الظواهر أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق ، ومن ثم فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة ؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب بظهور أداة كشف جديدة أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية ، ليست مطلقة كما أسلفنا تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم.

الأولى هي : الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس ، وكل ما يصل إليه غير نهائي ، ولا مطلق ، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته ، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.

والثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته ، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة ، تعالج بناء الإنسان بناء يتفق بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي ، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله ، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ويستخدم بعض نواميسه في خلافته ، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب

١٣٦

والتطبيق وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة.

والثالثة هي : التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر وكل يوم يجد فيها جديد ، وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا ...) (١).

٣ ـ محمد عبد العظيم الزرقاني (٢) :

عقد الشيخ الزرقاني في كتابه القيّم «مناهل العرفان في علوم القرآن» بابا بعنوان : موقف القرآن من العلوم الكونية ، وفيه يعلن معارضته للتفسير العلمي للقرآن الكريم ، يقول : (موقف القرآن من العلوم الكونية ... ومعنى هذا أن القرآن روعيت فيه بالنسبة إلى العلوم الكونية اعتبارات خمسة لا يصدر مثلها عن مخلوق ، فضلا عن رجل أمي نشأ في الأميين وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أولها : أنه لم يجعل تلك العلوم الكونية من موضوعه ، وذلك لأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء وفي تفاصيلها من الدقة والخفاء ما يعلو على أفهام العامة ، ثم إن أمرها بعد ذلك هين بإزاء ما يقصده القرآن من إنقاذ الإنسانية العاثرة وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فالقرآن كما أسلفنا في المبحث الأول كتاب هداية وإعجاز ، وعلى هذا فلا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز حتى إذا ذكر فيه شيء من الكونيات فإنما ذلك للهداية ودلالة الخلق على الخالق ، ولا يقصد القرآن مطلقا من ذكر هذه الكونيات أن يشرح حقيقة علمية في الهيئة والفلك أو الطبيعة والكيمياء ، ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية أو نظرية هندسية ، ولا أن يزيد في علم الطب بابا ولا في علم التشريح فصلا ، ولا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض إلى غير ذلك ...

__________________

(١) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، القاهرة ، دار الشروق ، الطبعة الخامسة والعشرون ، ١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٦ ، ١ / ١٨٠ ـ ١٨٢.

(٢) ... ـ ١٣٦٧ ه‍ ... ـ ١٩٤٨ ه‍ ، محمد عبد العظيم الزرقاني ، من علماء الأزهر بمصر ، تخرج بكلية أصول الدين ، وعمل بها مدرسا لعلوم القرآن والحديث ، وتوفي بالقاهرة ، من أشهر كتبه ، مناهل العرفان في علوم القرآن. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٦ / ٢١٠ ، بتصرف.

١٣٧

ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسّعوا في علوم القرآن ومعارفه ، فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون ، وهم في ذلك مخطئون ومسرفون ، وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلا ، ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ، ويحمل كتاب الله على ما ليس من وظيفته ... إن وظيفته في هداية العالم أسمى وظيفة في الوجود ، ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة ، وما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية؟ أليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم ويخترب وينتحر؟ ثم أليست العلوم الكونية هي التي ترمي الناس في هذه الأيام بالمنايا وتقذفهم بالحمم وتظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة من مدافع رشاشة ودبابات فتاكة وطائرات أزازة وقنابل مهلكة وغازات محرقة ومدمرات في البر والبحر وفي الهواء والماء؟ وما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى الله ووحي السماء بالأنياب والمخالب للوحوش الضارية والسباع الواغلة في أديم الغبراء.

ثانيها : أن القرآن دعا إلى هذه العلوم ما دعا إليه من البحث والنظر والانتفاع بما في الكون من نعم وعبر ، قال الله سبحانه وتعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، وقال جل شأنه : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).

ثالثها : أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى ومقهورة لمراده ، ونفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة وهي مألوهة وزعموها ذات تأثير وسلطان بينما هي خاضعة لقدرة الله وسلطانه ...

رابعها : أن القرآن حين يعرض لآية كونية في معرضة من معارض الهداية ، يتحدّث عنها حديث المحيط بعلوم الكون ، الخبير بأسرار السموات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية في البر والبحر ولا في النجوم والكواكب ولا في السحاب والماء ولا في الإنسان والحيوان والنبات والجماد ، وذلك هو الذي بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية وأوقع من أوقع منهم في الإسراف ، واعتبار هذه العلوم من علوم القرآن.

خامسها : أن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية ، أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال في سمت واحد ، بحيث يمر النظم القرآني الكريم على

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ١٠١.

(٢) سورة الجاثية ، الآية : ١٣.

١٣٨

سامعيه في كل جيل وقبيل فإذا هو واضح فيما سبق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله ، ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه ودقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب ومسائل وعلوم وفنون ...) (١).

ثم يعقب قائلا : (ولا أحب أن نتوسع في هذا ، فبين أيدينا أمثلة كثيرة ومؤلفات جمة تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن أو بتفسير القرآن وشرحه بعلوم الكون وأحداثها ، فيما أعلم كتاب تحت الطبع الآن ألفه شاب فاضل مثقف وسماه بين القرآن والعلم وضمنه شتيتا من الأبحاث المختلفة في الاجتماع وعلم النفس وعلم الوارثة والزراعة والتغذية وفيما وراء الطبيعة ، مما لا يتسع المقام لذكره ، ومما لا نرى حاجة إليه خصوصا بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد ، وأن أبحاثا كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين إثبات ونفي ، فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم ، وما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر ، وما أثبته المؤرخون قديما ينفيه المؤرخون حديثا ، وما أنكره الماديون وأسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه ويسرفون في إثباته باسم العلم أيضا ، إلى غير ذلك مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ، ومما جعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم ... ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة ، بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر وأخفى ، ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم ، ولكنه يهفو إلى العلم ويدعو إليه ويقيم بناءه عليه ، فأثبتوا العلم أولا ووفروا له الثقة وحققوه ثم اطلبوه في القرآن ، فإنكم لا شك يومئذ واجدوه ، وليس من الحكمة ولا الإنصاف في شيء أن نحاكم المعارف العليا إلى المعارف الدنيا ، ولا أن نحبس القرآن في هذا القفص الضيق الذي انحبست فيه طائفة مخدوعة من البشر ، بل الواجب أن نتحرّر من أغلال هذه المادة المظلمة ، وأن نطير في سماوات القرآن حيث نستشرف المعارف النورانية المطلقة ، والحقائق الإلهية المشرقة ...) (٢).

٤ ـ محمد رشيد رضا :

يعتبر محمد رشيد رضا الناطق العام ، والمدافع الأول عن أفكار شيخه محمد عبده ،

__________________

(١) مناهل العرفان في علوم القرآن ، للزرقاني ، ٢ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) مناهل العرفان في علوم القرآن ، عبد العظيم الزرقاني ، ٢ / ٢٥٩.

١٣٩

لكننا نجده هنا يخالفه ويأخذ بالملامة على الذين يفسرون القرآن بالعلم ، ففي مقدمة تفسيره يقول :

(كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما يكتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية ، والهداية السامية ، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو ، ونكت المعاني ومصطلحات البيان ، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين ، وتخريجات الأصوليين ، واستنباطات الفقهاء المقلدين ، وتأويلات المتصوفين ، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض ، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات ، وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات ، وقد زاد الفخر الرازي ، صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية ، وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها ، وقلده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة ، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة ، كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن) (١).

هذا هو رأي المعارضين للإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، وسوف يتحدث المبحث القادم بعون الله عن أدلة الفريقين مع ذكر الترجيح.

__________________

(١) تفسير المنار ، رشيد رضا ، ١ / ٧.

١٤٠