الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

مروان وحيد شعبان

الإعجاز القرآني في ضوء الإكتشافات العلمي الحديث

المؤلف:

مروان وحيد شعبان


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 9953-85-052-6
الصفحات: ٤٤٤

ومشاكلة بعض أجزائه بعضا ، وحسن ائتلاف أنواعها ، والتئام أقسامها ، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى ، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ، ووعد ووعيد ، وإثبات ونبوة ، وتوحيد وتفريد ، وترغيب وترهيب ، إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلل فصوله) (١).

ثم يذيّل القاضي عياض عرضه لهذه الأوجه بخاتمة ينبه فيها إلى أن كل ما سرده هنا إنما هو من خواص القرآن وفضائله ، والقول الفصل هو ما حصره في الأوجه الأربعة التي سبق وأن قررها ، يقول في ذلك : (وهذا كله وكثير مما ذكرنا ، أنه ذكر في إعجاز القرآن ، إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب بلاغته ، فلا يجب أن يعد فنّا منفردا في إعجازه ، إلا في باب تفصيل فنون البلاغة وكذلك كثيرا مما قدمنا ذكره عنهم يعد في خواصه وفضائله ، لا إعجازه) (٢).

يتّضح لنا من خلال عرض رأي القاضي عياض رحمه‌الله في أوجه إعجاز القرآن أنه لم يأت بجديد وإنما أجمل ما ذكره الإمام الباقلاني في كتابه «إعجاز القرآن» مع إضافات يسيرة جاء بها كقوله : جمع القرآن علوما ومعارف لم يجمعها كتاب قبله على إيجازه وغيرها ...

ثم إننا نجد الوجه الثاني «نظم القرآن العجيب» هو الذي دار حوله أكثر العلماء الذين تناولوا قضية إعجاز القرآن ، وما انطوى عليه من أسرار ، لأن نظم القرآن كان متفردا وبديعا ، بحيث لم يقع العرب على مثله من قبله أبدا ، بخلاف الوجه الأول الذي كان محطة نقاش وخلاف بين العلماء ، هل يعتبرونه وجها من أوجه إعجاز القرآن ، أم أنه دليل من دلائل الإعجاز؟.

ومما يلاحظ على القاضي عياض أنه قد حصر أوجه إعجاز القرآن في الأربعة المذكورة ، وألحقها بوجوه قالها الأئمة من قبله ولم يعتبرها هو أوجها إنما اعتبرها من خواص القرآن ، من هذه الملحقات التي لا نوافقه على أنها ملحقة إلحاقا ، وليس وجها من أوجه الإعجاز قوله : ومنها ، أي من وجوه الإعجاز الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه ، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته ، لقوة حاله ... والحق أن هذا

__________________

(١) الشفا ، للقاضي عياض ، ١ / ٣٨٩.

(٢) الشفا ، للقاضي عياض ، ١ / ٣٩٦.

١٠١

الوجه يعتبر من أهم وأدق أوجه إعجاز القرآن ، لأن الروعة التي تلحق قلوب سامعيه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته ، هي أساس الإعجاز التي قامت وستبقى قائمة في القرآن إلى يوم الدين.

ولقد أورد المصنفون في علوم القرآن أقوالا لعلماء هذه الأمة في إعجاز القرآن ، لا مجال لسردها وإنما نكتفي بما قد أورده ونقله السيوطي في الإتقان عن علماء الأمة يقول : (... اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصواب ، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره ، فقال قوم : هو الإيجاز مع البلاغة ، وقال آخرون : هو البيان والفصاحة ، وقال آخرون : هو الرصف والنظم ، وقال آخرون : هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر ، مع كون حروفه في كلامهم ، ومعانيه في خطابهم ، وألفاظه من جنس كلماتهم ، وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم ، وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم ، حتى إن من اقتصر على معانيه وغيّر حروفه أذهب رونقه ، ومن اقتصر على حروفه وغيّر معانيه أبطل فائدته ، فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه ، وقال آخرون : هو كون قارئه لا يكل ، وسامعه لا يمل ، وإن تكررت عليه تلاوته وقال آخرون : هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية ، وقال آخرون هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع ، وقال آخرون هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ويشقّ حصرها) (١).

الرأي المختار في تحديد أوجه إعجاز القرآن

يتبيّن من خلال ما عرض من أقوال العلماء في أوجه إعجاز القرآن ، أن سبب اختلافهم في تحديد أوجه الإعجاز ، هو عدم وجود ضابط أو تعريف لمعنى الوجه في القرآن ، ومرد ذلك إلى أن القرآن حمّال لأوجه كثيرة ، وأن هذه الأوجه منها ما هو ظاهر للعيان في كل عصر من العصور كأسلوب البيان في القرآن ، ومنها ما قد يكتشفه ويقع عليه الناس مع مرور الزمن ، وتعاقب الأجيال كالإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، ثم إن التباين في صفاء النفس ، وارتقائها في مدارج الكمال ، ومن ثم تفاعلها مع كلام الله والعيش في ظلال القرآن ، والكشف عن وجوهه وأسراره ، يعتبر من أهم الدوافع التي تجعل صاحبها يحظى بالتعرف على وجوه جديدة في كتاب الله.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي ، ٢ / ٣٢٢.

١٠٢

وسأحاول بعون الله أن أصوغ تعريفا لمعنى الوجه القرآني المعجز ، وذلك من مجموع ما قرأت وأجلت النظر في كتب علماء البلاغة والبيان والتفسير وعلوم القرآن ، ومن خلال ما قد استقرّ في ذهني من تصور للأبعاد والمسالك التي سلكها علماء المسلمين ، وهم يحاولون تقرير وجوه القرآن وكذلك من خلال المرتكزات والقواعد التي نهضوا عليها وهم يشيّدون صرح هذه الوجوه الشامخة بأدلة وبراهين تثبت ما ذهبوا إليه من جهة ، وتدحض شبهات المعاندين من جهة أخرى.

فالوجه القرآني المعجز هو : كل صفة في أسلوب القرآن أو لفظه أو معناه قد ندت عن قدرة البشر ، فعجزوا عن الإتيان بمثلها.

والذي أعنيه بهذا التعريف ، أن الصفة القرآنية الواحدة قد ينضوي تحت إطارها مجموعة من إعجازات القرآن التي أعلن البشر عجزهم عن مجاراتها ، وهذه المجموعة يربطها رابط واحد مشترك يجعلها تندرج تحت هذه الصفة العامة ، ليصدق عليها اسم وجه القرآن المعجز ...

ولكي أوضح ما أردته من هذا التعريف أضرب مثالا على ذلك : الأخبار الغيبية التي وردت في القرآن الكريم ، سواء ما كان منها ماضيا أو مستقبليا ، فإن هذه الأخبار كلها يربطها رابط واحد ألا وهو «الغيب» وبناء على ذلك فإنها تكون وجها واحدا ، لا وجهين كما قسمهما كثير من العلماء القدامى والمعاصرين ، فجعلوا الغيب الماضي وجها ، والغيب المستقبلي وجها آخر ، والحق أن الغيب بمجمله يعتبر وجها واحدا ، لأنه يشترك في وحدة الموضوع ، وذات المقصود ، ومجموع ما أخبر عنه القرآن من أخبار غيبية ، في الماضي والحاضر والمستقبل نعتبرها وجها واحدا ، لأنها تندرج كلها تحت صفة واحدة ألا وهي «الإخبار بالمغيبات» ولم أجد فيما وقفت عليه من مصادر ومراجع للعلماء القدامى الذين أفاضوا الحديث عن إعجاز القرآن ووجوهه ولو تعريفا واحدا لمعنى الوجه ، إذ بالتعريف يتسنّى لنا أن نحدد الضوابط والقيود للقضية المطروحة ...

وبناء على هذا فإننا نستطيع الآن أن نثبت وجوه إعجاز القرآن كحد وسط بين الذين أكثروا وأسهبوا في ذكر الوجه ، حتى خرجوا عن معنى الوجه القرآني إلى غيره ، وبين الذين أقلوا في ذكر الوجوه حتى أغفلوا أهمها وأبرزها ... وهي كما يلي :

١٠٣

١) الأسلوب البياني في القرآن.

٢) الإخبار عن الغيب في القرآن.

٣) الإعجاز التشريعي الشامل في القرآن.

٤) الإعجاز العلمي في القرآن.

٥) التأثير النفسي في القرآن.

وهذه أدق وجوه إعجاز القرآن ، وهي تعتبر حدا وسطا بين الفريقين ، وقبل ذلك فإنها تقوم على مرتكزات وضوابط التعريف الذي أثبتناه آنفا ، وقد مر معنا في ثنايا البحث وغضونه شرحا واضحا وأمثلة كثيرة لكل وجه من هذه الوجوه ... علاوة على المؤلفات الكثيرة التي أفردها العلماء لهذه الأوجه ما عدا الوجه العلمي الذي سنسهب الحديث عنه في التطبيقات المعاصرة من هذه الرسالة إن شاء الله تعالى ، ولكن هل هو محل اتفاق أي الإعجاز العلمي في القرآن بين العلماء؟ ومن من العلماء قد أقره وما هي أدلته؟ ومن من العلماء رده ، وما هي أدلته؟ وما هو الرأي الراجح في هذه المسألة؟ هذا ما سيدرس في الفصل القادم بعون الله تبارك وتعالى.

١٠٤

الفصل الثالث

الإعجاز العلمي

بين المؤيدين والمعارضين

تمهيد.

المبحث الأول : أبرز المؤيدين من العلماء القدامى لإعجاز القرآن الكريم.

المبحث الثاني : أبرز المؤيدين من العلماء المعاصرين لإعجاز القرآن الكريم.

المبحث الثالث : أبرز المعارضين من العلماء القدامى والمعاصرين لإعجاز القرآن الكريم.

المبحث الرابع : أدلة الفريقين مع الترجيح في مسألة إعجاز القرآن الكريم.

١٠٥
١٠٦

تمهيد

القرآن الكريم كتاب هداية ونور ، أنزله الله سبحانه وتعالى ليخرج الناس من

الظلمات إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن الفرقة والشقاق إلى الوحدة والإخاء ، قال تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١). وهذه الهداية القرآنية عامة وشاملة لكل مناحي الحياة والكون والإنسان ، ذلك أن الله أودع في القرآن من الركائز الإيمانية والثوابت اليقينية ما يحقق اتزان الإنسان ، واستقرار نفسيته وسعادتها وأودع فيه من الشرائع والتوجيهات ما يكفل صلاح المجتمع الإنساني وانضباطه ، وسريان أسباب المودة والرحمة فيه ، وأودع فيه من الأخلاقيات والآداب العامة ما يكفل استمرار الترابط البشري في أعلى أصعدة الإخاء والمحبة والوئام ، كما أنه أودع فيه من المعارف والحقائق الكونية العلمية التي أخذت شوطا كبيرا فيه ما يكفل خلق جوّ نزيه خلال سعي الإنسان لاكتشاف أسرار الكون والبحث عن غوامضه وخفاياه ، لتذليلها وتسخيرها له.

إذن ، هداية القرآن متعددة الأبعاد ، كثيرة الجوانب ، وما ينبغي أن تقصر على جانب دون آخر إلا أن الجانب الأخير الذي ذكر وهو الحقائق العلمية في القرآن ، كان ميدانا للأخذ والرد بين العلماء عبر مرور الأزمان وكرّ الأيام ، فقد طرح التساؤل التالي : هل النصوص القرآنية قد اشتملت على العلوم والمعارف كلها ، أي على علوم الطبيعة ، والفلك ، وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) وعلوم الحياة (البيولوجيا) وعلم الطب والتشريح ، وعلم الوظائف (الفسيولوجيا) ، والرياضيات ... أم أن القرآن كتاب هداية ونور ، جاء ليعزز الإيمان في النفوس ، وليربط الخلق بالخالق وشرعه ، ولا علاقة له بهذه المعارف؟.

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ١.

١٠٧

اختلف العلماء إزاء هذه القضية قديما وحديثا إلى طائفتين ، الأولى : ترى أن العلوم والمعارف قد أخذت مساحة كبيرة من القرآن ، وخاصة عند ما يلفت القرآن نظرنا للحديث عن السماء والأرض والجبال والبحار والأنهار والإنسان والنجوم والطيور ... وعلى هذا فإن هناك تطابقا بين الثوابت العلمية التي وصل إليها علماء العصر ، وبين الآيات القرآنية ، غير أن بعضهم بالغ حتى جعل من القرآن الكريم موسوعة علمية تشتمل حتى على المخترعات والمكتشفات بأنواعها.

والثانية : ترى أن القرآن الكريم كتاب هداية ونور ، وما المعارف العلمية إلا نتيجة من نتاج العقل البشري ، ولا صلة لها بالقرآن.

وسوف تعرض بعون الله تعالى أبرز هذه الآراء من العلماء القدامى والمعاصرين ، سواء من ذهب إلى صحة التفسير العلمي للقرآن الكريم ، أو من عارض تفسير القرآن على أساس العلم ، وبعد استعراض آراء كل طائفة ، ستساق أدلة كل منها على حدة ، ثم يعقد مبحث ختامي لهذا الفصل يثبت فيه الرأي الذي نميل ونطمئن إليه ، مع بعض المناقشة والاستدراكات.

١٠٨

المبحث الأول

أبرز المؤيّدين من العلماء القدامى

أبرز من تبنّى فكرة التفسير العلمي للقرآن أبو حامد الغزالي ، وفخر الدين الرازي ،

والزركشي والسيوطي ، وسنستعرض آراء كل من هؤلاء الأئمة في هذه القضية على حدة.

أولا ـ الإمام أبو حامد الغزالي (١) :

(الكاتبون في هذا الموضوع يذهبون إلى أن الإمام أبا حامد الغزالي المتوفّى سنة ٥٠٥ ه‍ كان إلى عهده أكثر من استوفى هذا القول وأيده ، وعمل على ترويجه في الأوساط العلمية الإسلامية مما يدل على أن هذه الفكرة كانت موجودة قبل الغزالي منذ أن ترجمت العلوم المختلفة إلى اللغة العربية ودونت العلوم المختلفة ، بل إننا نستطيع أن نقول : إن بذورها كانت موجودة في عصر صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد استدل هؤلاء العلماء بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن ، ولكنها كانت في بدايتها) (٢).

__________________

(١) ت ٥٠٥ ه‍ ، حجة الإسلام وزين الأنام ، أبي حامد محمد بن محمد الغزالي ، ولد بطوس سنة خمسين وأربعمائة ، وارتحل إلى إمام الحرمين بنيسابور فلازمه حتى صار أنظر أهل زمانه ، وكان الإمام يحبه باطنا لما يصدر عنه من سرعة العبارة ، وقوة الطبع ، وابتدأ بالتصانيف ، وكان محط رجال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء ، ورجع إلى دمشق وأقام بها عشرة سنين بمنارة الجامع وصنف بها كتبا منها الإحياء ، ثم سار إلى القدس والإسكندرية ، ثم عاد إلى وطنه طوس فأقبل على التصنيف والعبادة والملازمة للتلاوة ونشر العلم وكانت وفاته بطوس. انظر : طبقات الفقهاء ، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ، بيروت ، دار القلم ، تحقيق ، الشيخ خليل الميس د. ت ١ / ٢٤٨ ، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب ، عبد الحي بن أحمد ابن العماد الحنبلي الدمشقي ، بيروت ، دار الكتب العلمية د. ت ٢ / ٣٨٣ ، بتصرف.

(٢) التفسير العلمي للقرآن ، أحمد عمر أبو حجر ، دمشق ، دار قتيبة ، الطبعة الأولى ، ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ ، ص : ١٤٦.

١٠٩

إلا أن الإمام الغزالي يعتبر أول من أثار هذا الموضوع ، وطرحه في الأوساط ، ولذلك نجده قد عقد في كتابه الشهير «إحياء علوم الدين» بابا في آداب تلاوة القرآن وعنونه «في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل» والذي قال فيه : (الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعا لأرباب الفهم ، قال علي رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن ، فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم؟ وقال : إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا ، ثم يسوق أثرا عن ابن مسعود فيقول : وقال ابن مسعود رضي الله عنه : من أراد علم الأوّلين والآخرين فليتدبر القرآن وذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر ، ثم يقول : وبالجملة ، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عزوجل وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن ، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك ، بل كل ما أشكل فيه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ، ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها ، فكيف يفي بذلك ترجمة ظاهره وتفسيره؟) (١).

وفي كتابه «جواهر القرآن» والذي ألفه بعد الإحياء نرى الإمام الغزالي عاد إلى نفس الموضوع ليتوسع فيه ، وقد ذكر في الفصل الأول أن القرآن هو البحر المحيط وينطوي على أصناف الجواهر والنفائس يقول : (أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط ، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها؟) (٢).

وفي الفصل الرابع من نفس الكتاب والذي عنونه بكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها عن الأقسام العشرة المذكورة ، نجده قد قسّم علوم القرآن إلى قسمين :

القسم الأول : علم الصّدف ، واعتبر الصدف أول ما يظهر ، ثم يقف بعض الواصلين إلى الصدف على الصدف ، وبعضهم يفتق الصدف ويطالع الدرّ ، فكذلك صدف جواهر القرآن ... وقد جعل منه علوم اللغة والنحو والقراءات ، وعلم مخارج

__________________

(١) إحياء علوم الدين ، الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن الغزالي الطوسي ، بيروت ، دار الفكر ، ١٩٩٥ ، ١ / ٢٧٢.

(٢) جواهر القرآن ، الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن الغزالي الطوسي ، بيروت ، دار إحياء علوم الدين ، تحقيق ، محمد رشيد رضا القباني ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٩٦ ، ص : ٢٣.

١١٠

الحروف ، وعلم التفسير الظاهر ، ثم رتّبها على أساس القريب والبعيد من القشر واللب.

القسم الثاني : علم اللباب ، وهو يتضمّن معرفة قصص القرآن ، وما يتعلق بالأنبياء ، وما يتعلق بالجاحدين والأعداء ، وعلم الكلام ، وعلم الفقه وأصوله ، والعلم بالله واليوم الآخر ، والعلم بالصراط المستقيم ...) (١).

ثم يعنون الفصل الخامس انشعاب سائر العلوم من القرآن فيقول : (ولعلك تقول إن العلوم وراء هذه كثيرة ، كعلم الطب ، والنجوم ، وهيئة العالم ، وهيئة بدن الحيوان ، وتشريح أعضائه ، وعلم السحر والطلسمات وغير ذلك ، فاعلم أنا إنما أشرنا إلى العلوم الدينية التي لا بد من وجود أصلها في العالم حتى يتيسّر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه ... ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى ، وهو بحر الأفعال وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له ، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد ، فمن أفعال الله تعالى ، وهو بحر الأفعال مثلا الشفاء والمرض ، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٢) ، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ، ومعرفة الشفاء وأسبابه ، ومن أفعاله تبارك وتعالى تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان ، وقد قال الله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٣) وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ... (٤) ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما ، وولوج الليل في النهار ، وكيفية تكور أحدهما على الآخر ، إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض ، وهو علم برأسه ، ولا يعرف كمال معنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص : ٣٥.

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ٨٠.

(٣) سورة الرحمن ، الآية : ٥.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٥.

١١١

ما شاءَ رَكَّبَكَ) (١) لا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا ، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها ، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها ، وهي من علوم الأولين والآخرين ، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين وكذلك لا يعرف كمال معنى قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢) ، من لم يعلم التسوية والنفخ والروح ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق ، وربما لا يفهمونها أن سمعوها من العالم بها ، ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال ، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها ، وقد أشرنا إليه حيث ذكرنا أن من جملة معرفة الله تعالى معرفة أفعاله فتلك الجملة تشتمل على هذه التفاصيل ، وكذلك كل قسم أجملناه ، لو شعب لا نشعب إلى تفاصيل كثيرة ، فتفكّر في القرآن ، والتمس غرائبه ، لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين ، وجملة أوائله وإنما التفكّر فيه للتوصل من جملته إلى تفصيله ، وهو البحر الذي لا شاطئ له) (٣).

ويلاحظ أن هذا المنهج الذي سلكه ورسم أطره الإمام الغزالي ، إنما هو منهج دقيق وصحيح ، ذلك أن من يريد أن يفسر القرآن على أساس العلوم الكونية يجب أن يكون جامعا لأصول العلوم الشرعية واللغة العربية على اختلاف مناحيها ، بجانب إلمامه بالعلوم الطبيعية والكونية والتطبيقية ... فمن جمع بين هذه العلوم يستطيع أن يوضح إشراقات الهداية الربانية في القرآن الكريم ، وبذلك يكون قد أدخل أداة أخرى لعلوم الكونية إلى دائرة الأدوات العلمية ، والتي تتمثّل بالعلوم الشرعية أصولا وفروعا وعلوم اللغة العربية وفروعها ، وعلوم الآلة ، لفهم مقاصد النصوص القرآنية.

ثانيا ـ فخر الدين الرازي (٤) :

ثم جاء بعد الغزالي الإمام الرازي ، ليقيم موازنة ومقارنة بين ما انتشر في وسطه من

__________________

(١) سورة الانفطار ، الآيات ٦ ـ ٨.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ٢٩.

(٣) انظر : جواهر القرآن ، للغزالي ، ص ٤٤.

(٤) ت ٦٠٦ ه‍ ، محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي ، العلامة سلطان المتكلمين في زمانه فخر الدين أبو عبد الله القرشي البكري التيمي الطبرستاني الأصل ثم الرازي ، المفسّر المتكلم إمام وقته في العلوم العقلية وأحد الأئمة في علوم الشريعة ، صاحب المصنّفات المشهورة والفضائل الغزيرة المذكورة ، ولد في رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة وقيل سنة ثلاث ، ـ

١١٢

علوم ومعارف وثقافة ، سواء كانت وافدة ومترجمة عن الأمم الأخرى أو من تأليف المسلمين ، وبيّن النصوص القرآنية ، والمحور الذي يدور حوله الإمام الرازي من وراء تفسيره للقرآن على أساس العلم إنما هو ترسيخ فكرة التوحيد ، وتقوية دعائم الكمال النفسي والإيمان بالله تعالى ، فكان تفسيره «مفاتيح الغيب» فيّاضا بالاستطرادات العلمية الكونية.

وها هو ذا الإمام الرازي يرد على من اعترض عليه بسبب إكثاره من القضايا الكونية والعلمية في تفسيره فيقول : (وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال : إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم ، وذلك على خلاف المعتاد؟ فيقال لهذا المسكين : إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته ، وتقريره من وجوه : الأول : أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وكيفية أحوال الضياء والظلام ، وأحوال الشمس والقمر والنجوم ، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى ، فلو لم يكن البحث عنها ، والتأمل في أحوالها جائزا لما ملأ الله كتابه منها ، والثاني : أنه تعالى قال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (١) فهو تعالى حثّ على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها ، والثالث : أنه تعالى قال : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢) فبيّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس ، ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣)

__________________

أتقن علوما كثيرة وبرز فيها وتقدّم وساد ، وقصده الطلبة من سائر البلاد ، من مؤلفاته : مفاتيح الغيب ، وكتاب المحصول ، والمنتخب ، ونهاية المعقول ، وكانت وفاته بهراة يوم عيد الفطر.

انظر : طبقات الشافعية ، للشيرازي ، ٢ / ٦٦ ، وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي ، ٣ / ٢٢ ، والبداية والنهاية إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء ، بيروت ، مكتبة المعارف ، د. ت ، ١٣ / ٥٥ ، والعبر في خبر من غبر ، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي ، الكويت ، مطبعة حكومة الكويت ، تحقيق صلاح الدين المنجد ، الطبعة الثانية ، ١٩٤٨ ، ٤ / ٢٨٥ ، بتصرف.

(١) سورة ق ، الآية : ٥.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٥٧.

(٣) سورة الذاريات ، الآية : ٢١.

١١٣

فما كان أعلى شأنا وأعظم برهانا منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب ، والرابع : أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (١) ولو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل) (٢).

والحق أن الإمام الرازي قد توسع في ذكر القضايا العلمية في تفسيره ، حتى يخرجك في بعض الأحيان عن مقاصد النص القرآني الذي يبحثه بسبب إسهابه في ذكر المسائل الكونية والعلمية ، ومع غزارة علم هذا الإمام ، والثروة العلمية الهائلة التي تركها لنا في تفسيره ، والتي لا يستغني عنها أي باحث في علوم القرآن وفهم دقائقه ومعانيه ، فإن عددا ليس بالقليل من المسائل العلمية والكونية التي أوردها في تفسيره قد أصبحت اليوم بعد الثورة العلمية غير دقيقة ، لأنه إنما استقاها مما جدّ من ثقافة علمية في عصره وبيئته التي عاش فيها ، وعلى كل حال فإن الإمام الرازي يعتبر من أول من طبق هذا الاتجاه عمليا ، بعد ما أورده الغزالي في «إحيائه» بشكل نظري.

ولسنا بحاجة لإيراد أمثلة من تفسيره تدلنا على التطبيق العملي الذي قام به الرازي من تفسير النصوص القرآنية على أساس العلم ، فتفسيره فياض بذلك ، ولسوف نستشهد بآرائه وفهمه للنصوص القرآنية في الجانب التطبيقي من هذه الرسالة بعونه تعالى.

ثالثا ـ الإمام الزركشي (٣) :

ثم يأتي الإمام الزركشي في كتابه «البرهان في علوم القرآن» ليقرّر إمكانية استخراج كل شيء من القرآن الكريم.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩١.

(٢) انظر : التفسير الكبير ، محمد فخر الدين الرازي ، بيروت ، دار الفكر ، ١٩٩٣ ، ١٤ / ٢٧٨.

(٣) ت ٧٩٤ ه‍ ، محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الموصلي الشافعي بدر الدين ، ولد في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، وألّف تصانيف كثيرة في عدّة فنون ، وهو عالم في الحديث والتفسير ، ومن مصنّفاته شرح البخاري ، والتنقيح على البخاري ، وشرح التنبيه والبرهان في علوم القرآن ، وتخريج أحاديث الرافعي. انظر : طبقات المفسرين ، للأدنةوي ، ١ / ٣٠٢ وانظر ، كشف الظنون للقسطنطيني ١ / ٢٤٠ ، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ، أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، تحقيق ، عبد الوارث محمد علي ، الطبعة الأولى ، ١٤١٨ ه‍ ١٩٩٧ ، ١ / ١٢٤ ، بتصرف.

١١٤

ونراه يستدل على ذلك عند ما عقد فصلا في كتابه المذكور وعنونه في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم ، وينقل فيه أقوال بعض الصحابة في ذلك ، كما يسوق آراء الإمام الغزالي من كتابه «الإحياء» مدللا بكل ذلك على ما ذهب إليه.

يقول : (كتاب الله بحره عميق وفهمه دقيق ، لا يصل إلى فهمة إلا من تبحر في العلوم ، وعامل الله بتقواه في السر والعلانية ، وأجله عند مواقف الشبهات ، واللطائف والحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع وهو شهيد ، فالعبارات للعموم وهي للسمع ، والإشارات للخصوص وهي للعقل ، واللطائف للأولياء وهي المشاهد ، والحقائق للأنبياء وهي الاستسلام ، وللكل وصف ظاهر وباطن ، وحد ومطلع فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد أحكام الحلال والحرام ، والمطلع أي الإشراق من الوعد والوعيد ، فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة وظهر له حال المعاينة ...

ثم يقول : وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته ، وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله ، فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا ، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع ، لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ، والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة ، ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أو لا ، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر ، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب ، فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم ، وما لا بد فيها من استماع كثير ...) (١).

ومما يلاحظ على الإمام الزركشي أنه أوغل في تحميل النصوص القرآنية بجزئيات المسائل الحسابية والفلكية ، مما أخرج نصوص القرآن عن مقاصدها الأساسية التي هي هداية البشر ، والقرآن ذكر أسس وقواعد العلوم وأشار إليها إشارات ، لكنه لم يكن موسوعة علمية تتضمن جزئيات العلوم وفروعه.

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن ، للزركشي ، ٢ / ١٥٣.

١١٥

رابعا ـ الإمام السيوطي (١) :

ثم جاء الإمام جلال الدين السيوطي ليؤكد في كتابيه «الإتقان في علوم القرآن» و «معترك الأقران» ما ذهب إليه من قبله من العلماء ، بأن القرآن يحتوي على علم الأولين والآخرين ، ونراه يسوق طائفة من الآيات والأحاديث والآثار وأقوال العلماء ليدلل على ما ذهب إليه.

فمن الآيات قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٢) وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٣).

ومن الأحاديث ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : (سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنها ستكون فتنة» فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور) (٤).

ومن الآثار : (ما روي عن ابن مسعود أنه قال : من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين ، وعن الحسن قال : أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها

__________________

(١) ٨٤٩ ـ ٩١١ ه‍ ، ١٤٤٥ ـ ١٥٠٥ ، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري السيوطي ، إمام وحافظ ومؤرخ وأديب ، كان من الأغنياء والأمراء نشأ في القاهرة يتيما ، مات والده وعمره خمس سنوات ، له نحو ٦٠٠ مصنف منها : الإتقان في علوم القرآن ، والأرج في الفرج ، والأشباه والنظائر ، وغيرها. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٣ / ٣٠١ ، بتصرف ، وكشف الظنون ، للقسطنطيني ، ١ / ٧٥ ، بتصرف.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٨٩.

(٤) رواه الترمذي ، ٥ / ١٧٢ ، رقم : (٢٩٠٦) ، وقال : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وإسناده مجهول ، وورد في سنن الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، الطبعة الأولى ، ١٤٠٧ ه‍ ، تحقيق ، خالد العلي ٢ / ٥٢٦ ، رقم : (٣٣٣١).

١١٦

أربعة منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ، وقال الإمام الشافعي : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن ... وقال أيضا : جميع ما حكم به النبي فهو مما فهمه من القرآن ... وعن ابن سراقة أنه حكى في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال : ما شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله فقيل له : فأين ذكر الخانات فيه ، فقال : في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (١) فهي الخانات ، وقال ابن الفضل المرسي في تفسيره : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم بها ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى ، ثم ورث ذلك عنه معظم سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ، وقال ابن سراقة : من بعض وجوه إعجاز القرآن ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب والجمع والقسمة والضرب والموافقة والتأليف والمناسبة والتنصيف والمضاعفة ، ليعلم بذلك أهل العلم بالحساب أنه صادق في قوله ، وأن القرآن ليس من عنده ، إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ، ولا تلقى الحساب وأهل الهندسة.

ثم يعقب على ما أورده من أقوال العلماء فيقول : وأنا أقول قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السالفة ...) (٢).

هذه آراء أشهر العلماء القدامى الذين أيّدوا تفسير القرآن على أساس العلم ، وسننتقل في المبحث القادم إلى أبرز من تناوله من العلماء المعاصرين ودافع عنه.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٢٩.

(٢) انظر : الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي ، ٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

١١٧

المبحث الثاني

أبرز المؤيدين من العلماء المعاصرين

قبل الشروع في التعرف على أبرز العلماء المعاصرين وعلى رأيهم في هذا الصدد ، يلفت الانتباه إلى أن الهدف الأساسي الذي يسعى المؤيدون للتفسير العلمي لتحقيقه إنما هو : استنباط بعض المعاني الجديدة من الآيات القرآنية على أساس العلوم الكونية ، لكن ضمن إطار النص القرآني ، ودون جرّ الآيات القرآنية إلى النظريات بشكل تعسفي ، أو تحميل النص القرآني ما لا يحتمل ، فإذا كان الأمر كذلك فإننا وجدنا في العصر الحديث من يحاول تفسير النصوص القرآنية تفسيرا تعسفيا قد أخرجها عن مدلولاتها اللغوية ومعانيها الشرعية ، فإذا ما سمع بنظرية علمية أسرع ليجد لها من كتاب الله ما يؤكدها ولا ضير إن ثنى أعناق الآيات وطوعها لهذه النظرية ، أو أنه أقحم هذه النظرية إقحاما قسريا في نصوص القرآن ...

ومن هنا سيعرض في هذا المبحث لطائفتين من أقوال العلماء ، الطائفة الأولى : وهم العلماء المثبتون لقضية الإعجاز ولكن بمغالاة ومنهم : محمد عبده ، عبد الرحمن الكواكبي ، طنطاوي جوهري ، والطائفة الثانية : وهم العلماء المثبتون لقضية الإعجاز ولكن باعتدال ومنهم : مصطفى صادق الرافعي وحيد الدين خان ، محمد جمال الدين الفندي ، مصطفى المراغي ، وسنبدأ بالحديث عن القسم الأول وهم المغالون.

أولا ـ الإمام محمد عبده (١) :

يعتبر الشيخ محمد عبده من رواد هذا الاتجاه في تفسير القرآن في العصر الحديث ،

__________________

(١) ١٢٦٦ ـ ١٣٢٣ ه‍ ، ١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ ، محمد عبده بن حسن خير الله من آل التركماني ، مفتي الديار المصرية ، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام ، ولد في شنرا من قرى الغربية في مصر ، تعلم بالأزهر وتصوف وتفلسف ، أصدر مع صديقه جمال الدين الأفغاني جريدة العروة الوثقى ، ثم تولى منصب القضاء في مصر عام ١٨٨٨ ، ثم مفتيا للديار المصرية عام ١٣١٧ ه‍ ، واستمر إلى أن توفي بالإسكندرية ودفن في القاهرة ، له تفسير القرآن الكريم ، ورسالة التوحيد ، والفلسفة والتصوف ، وغيرها. انظر : الأعلام ، لخير الدين الزركلي ٦ / ٢٥٢ بتصرف.

١١٨

بل من الذين أصدروا فتوى بجواز تفسير نصوص القرآن بمستجدات العصر وما يتمخض عنه من اكتشافات وابتكارات ، وإذا ما رجعنا إلى أفكار الشيخ محمد عبده فلسوف نجد المنهج العلمي التطبيقي الذي سلكه في تحليل آيات القرآن واضحا في تفسيره لجزء «عم» وقد طبع في كتاب منهجي لطلاب المدارس في المراحل المتوسطة ، ومع غزارة علمه ومكانته العلمية المرموقة إلا أنه لم يترك خلفه سوى تفسير جزء عم ، وتفسير واسع لسورة العصر ، وبعض المقالات الإسلامية ، ونحن إذ نعرض طرفا من تفسيره في جزء عم ، فإننا نجد التجاوز الواضح ، بل المغالاة وهو يفسر بعض الآيات الكريمة بما استجد في عصره من علوم ومعارف.

فها هو ذا يفسر قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (١) فيقول : (أما تسجير البحار فهو أن يفجر الزلزال ما بينها حتى تختلط وتعود بحرا واحدا ، وهو بمعنى الملء فإن كل واحد منها يمتلئ حتى يفيض ويختلط بالآخر ، وتسجير البحار على هذا المعنى لازم لما سبقه من تقطع أوصال الأرض ، وانفصال الجبال ويدل على رجحان هذا التأويل ظاهر قوله تعالى في سورة الانفطار (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٢) وقد يكون تسجيرها إضرامها ، فإن ما في بطن الأرض من النار إذ ذاك يظهر بتشققها وتمزق طبقاتها العليا ، أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا ، ولا يبقى في البحار إلا النار) (٣).

وفي تفسير قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (٤) يقول : (انشقاق السماء ... هو فساد تركيبها واختلال نظامها عند ما يريد الله خراب هذا العالم الذي نحن فيه ، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العلم ، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من الآخر فيتجاذبا فيتصادما ، فيضطرب نظام الشمس بأسره ، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام! يظهر في مواضع متفرقة من الجوّ والفضاء الواسع ، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره) (٥).

(وقد انتقده بعض العلماء في هذا التفسير لخراب العالم ، لأن الكون أعظم من أن يختل نظامه بمجرد ضرب كوكب في آخر من المجموعة الشمسية ، فما أكثر

__________________

(١) سورة التكوير ، الآية : ٦.

(٢) سورة الانفطار ، الآية : ٣.

(٣) تفسير جزء عمّ ، محمد عبده ، بيروت ، دار الهلال ، ١٩٨٥ ، ص ٣٠.

(٤) سورة الانشقاق ، الآية : ١.

(٥) تفسير جزء عمّ ، محمد عبده ، ص ٣٥.

١١٩

المجموعات الشمسية التي تتجاوز الأرقام الحسابية التي عرفها البشر! وما أصغر أفكار البشر في شأن مستقبل العالم خرابا أو عمارا فمثل ذلك يجب تفويض الأمر فيه إلى الله تعالى فهو علام الغيوب) (١).

وعند ما يفسر سورة الفيل نجد تجاوزا وتعسفا شديدين في تفسير هذه السورة ، يقول :

(وفي اليوم الثاني فشا في جند الحبش داء الجدري والحصبة ، قال عكرمة : هو أول جدري ظهر في بلاد العرب وقال يعقوب بن عتبة : أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام ، ثم يقول : وهذا ما اتفقت عليه الروايات ويصح الاعتقاد به ، وقد بيّنت لنا هذه السورة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح ، فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ... وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه بالميكروب لا يخرج عنها ، هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة ، وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته) (٢).

لا أدري من الذي سوّغ للإمام رحمه‌الله أن يقحم الميكروب في تفسير السورة مكان الطير الأبابيل ، وما أظن أن في اللغة العربية ومترادفاتها ما يسوّغ أن نطلق على لفظة الطير بالميكروب ، أو بالجدري أو بالحصبة ... ثم إن حماس الشيخ قد دفعه ليجزم قائلا : هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة ، وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته ، وهذا كما هو واضح تحميل للنص القرآني ما لا يحتمل وما لا يطيق أبدا ، وقد أكثر العلماء في الرد عليه ، وأرى أن المسألة من البطلان بحيث لا تستأهل تضييع الوقت في الرد على مثل هذه التعسفات.

ثانيا ـ عبد الرحمن الكواكبي (٣) :

عند ما يتحدث الكواكبي عن القرآن يصفه بأنه : شمس العلوم وكنز الحكم ، ويعلل

__________________

(١) التفسير العلمي للقرآن ، أحمد عمر أبو حجر ، ص ١٧٣.

(٢) تفسير جزء عمّ ، محمد عبده ، ص ١٦٢.

(٣) ١٢٦٥ ـ ١٣٢٠ ه‍ ، ١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ ، عبد الرحمن الكواكبي من الكتاب والأدباء ومن رجال الإصلاح ، تعلم في حلب ، وأنشأ فيها جريدة الشهباء فأقفلتها الحكومة ، وجريدة الاعتدال فعطلت ، وأسندت إليه مناصب عديدة ، ثم ضيق عليه أعداء الإصلاح فسعوا به فسجن ، توفي في مصر وله من المؤلفات : أم القرى ، وطبائع الاستبداد. انظر : الأعلام ، للزركلي ، ٣ / ٢٨٩ بتصرف.

١٢٠