أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) هداية موصلة إلى الاهتداء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) تباطأتم ، وقرئ «تثاقلتم» على الأصل و (اثَّاقَلْتُمْ) على الاستفهام للتوبيخ. (إِلَى الْأَرْضِ) متعلق به كأنه ضمن معنى الإخلاد والميل فعدى بإلى ، وكان ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وغرورها. (مِنَ الْآخِرَةِ) بدل الآخرة ونعيمها. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) فما التمتع بها. (فِي الْآخِرَةِ) في جنب الآخرة. (إِلَّا قَلِيلٌ) مستحقر.

(إِلَّا تَنْفِرُوا) إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه. (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو. (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) ويستبدل بكم آخرين مطيعين كأهل اليمن وأبناء فارس. (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر. وقيل الضمير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ولا تضروه فإن الله سبحانه وتعالى وعد له بالعصمة والنصر ووعده حق. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مددكما قال.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠)

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) أي إن لم تنصره فسينصره الله كما نصره. (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ) ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج. وقرئ «ثاني اثنين» بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال. (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا. (إِذْ يَقُولُ) بدل ثان أو ظرف لثاني. (لِصاحِبِهِ) وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بالعصمة والمعونة. روي (أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه). وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أمنته التي تسكن عندها القلوب. (عَلَيْهِ) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا. (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله (نَصَرَهُ اللهُ). (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) يعني الشرك أو دعوة الكفر. (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص

٨١

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، أو بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر. وقرأ يعقوب (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالنصب عطفا على كلمة (الَّذِينَ) ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن (كَلِمَةُ اللهِ) عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في أمره وتدبيره.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤١)

(انْفِرُوا خِفافاً) لنشاطكم له. (وَثِقالاً) عنه لمشقته عليكم ، أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانا ومشاة ، أو خفافا وثقالا من السلاح ، أو صحاحا ومراضا ولذلك لما قال ابن أم مكتوم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعلي أن أنفر قال «نعم». حتى نزل (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ). (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير علمتم أنه خير ، أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار الله تعالى به صدق فبادروا إليه.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣)

(لَوْ كانَ عَرَضاً) أي لو كان ما دعوا إليه نفعا دنيويا. (قَرِيباً) سهل المأخذ. (وَسَفَراً قاصِداً) متوسطا. (لَاتَّبَعُوكَ) لوافقوك. (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة التي تقطع بمشقة. وقرئ بكسر العين والشين. (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين. (لَوِ اسْتَطَعْنا) يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن. وقرئ «لو استطعنا» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ). (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابي القسم والشرط ، وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه. (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بإيقاعها في العذاب ، وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) كناية لا عن خطئه في الإذن فإن العفو من روادفه. (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كني عنه بالعفو ومعاتبة عليه ، والمعنى لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتلوا بأكاذيب وهلا توقفت. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في الاعتذار. (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) فيه. قيل إنما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئين لم يؤمر بهما ، أخذه للفداء وإذنه للمنافقين فعاتبه الله عليهما.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(٤٥)

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من عادة المؤمنون : أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فإن الخلص منهم يبادرون إليه ولا يتوقفون على الإذن فيه فضلا أن يستأذنوك في التخلف عنه ، أو أن يستأذنوك في التخلف كراهة أن يجاهدوا. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه. (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في التخلف. (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تخصيص الإيمان بالله عزوجل

٨٢

واليوم الآخر في الموضعين للإشعار بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه الإيمان وعدم الإيمان بهما. (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) يتحيرون.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ)(٤٦)

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ) للخروج. (عُدَّةً) أهبة وقرئ «عده» بحذف التاء عند الإضافة كقوله :

إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا

وأخلفوك عدّا الأمر الّذي وعدوا

و «عده» بكسر العين بالإضافة و «عدة» بغيرها. (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) استدرك عن مفهوم قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) كأنه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره انبعاثهم أي نهوضهم للخروج. (فَثَبَّطَهُمْ) فحبسهم بالجبن والكسل. (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم ، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو إذن الرسول عليه‌السلام لهم والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم.

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٤٧)

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ) بخروجهم شيئا. (إِلَّا خَبالاً) فسادا وشرا ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ، ولأجل هذا التوهم جعل الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغا. (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب ، أو الهزيمة والتخذيل من وضع البعير وضعا إذا أسرع. (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم ، والجملة حال من الضمير في «أوضعوا». (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم ، أو نمامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)(٤٩)

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) تشتيت أمرك وتفريق أصحابك. (مِنْ قَبْلُ) يعني يوم أحد فطن ابن أبي وأصحابه كما تخلفوا عن تبوك بعد ما خرجوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع انصرفوا يوم أحد. (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) ودبروا لك المكايد والحيل ودوروا الآراء في إبطال أمرك. (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) بالنصر والتأييد الإلهي. (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) وعلا دينه. (وَهُمْ كارِهُونَ) أي على رغم منهم ، والآيتان لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على تخلفهم وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة اعتذارهم تداركا لما فوت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمبادرة إلى الإذن ولذلك عوتب عليه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في القعود. (وَلا تَفْتِنِّي) ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي ، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم لم يأذن ، أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي. أو في الفتنة لنساء الروم لما روي : أن جد بن قيس قال : قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر

٨٣

ولكني أعينك بمالي فاتركني. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) جامعا لهم يوم القيامة ، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ(٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٥١)

(إِنْ تُصِبْكَ) في بعض غزواتك. (حَسَنَةٌ) ظفر وغنيمة. (تَسُؤْهُمْ) لفرط حسدهم. (وَإِنْ تُصِبْكَ) في بعضها. (مُصِيبَةٌ) كسر أو شدة كما أصاب يوم أحد. (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في التخلف. (وَيَتَوَلَّوْا) عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم له ، أو عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَهُمْ فَرِحُونَ) مسرورون.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) إلا ما اختصنا بإثباته وإيجابه من النصرة ، أو الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم. وقرئ «هل يصيبنا» و «هل يصيبنا» وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به. وقيل من الصوب. (هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولي أمورنا. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ)(٥٣)

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) تنتظرون بنا. (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب : النصرة والشهادة. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) أيضا إحدى السوأيين (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقارعة من السماء. (أَوْ بِأَيْدِينا) أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر. (فَتَرَبَّصُوا) ما هو عاقبتنا (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ما هو عاقبتكم.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أمر في معنى الخبر ، أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعا أو كرها. وفائدته المبالغة في تساوي الإنفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم. وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي. ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وأن لا يثابوا عليه وقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٥٥)

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم. وقرأ حمزة والكسائي «أن يقبل» بالياء لأن تأنيث النفقات غير حقيقي. وقرئ «يقبل» على أن الفعل لله. (وَلا

٨٤

يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلين. (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم. وأصل الزهوق الخروج بصعوبة.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)(٥٧)

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) إنهم لمن جملة المسلمين. (وَما هُمْ مِنْكُمْ) لكفر قلوبهم. (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) حصنا يلجئون إليه (أَوْ مَغاراتٍ) غيرانا. (أَوْ مُدَّخَلاً) نفقا ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب (مُدَّخَلاً) من مدخل. وقرئ «مدخلا» أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم و «متدخلا» و «مندخلا» من تدخل واندخل (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) لأقبلوا نحوه. (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح. وقرئ «يجمزون» ومنه الجمازة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) يعيبك. وقرأ يعقوب (يَلْمِزُكَ) بالضم وابن كثير «يلامزك». (فِي الصَّدَقاتِ) في قسمها. (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل. وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال : اعدل يا رسول الله فقال : «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل». و (إِذا) للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة ، وذكر الله للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره. (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كفانا فضله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) صدقة أو غنيمة أخرى. (وَرَسُولُهُ) فيؤتينا أكثر مما آتانا. (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في أن يغنينا من فضله ، والآية بأسرها في حيز الشرط ، والجواب محذوف تقديره خيرا لهم. ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم. والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره. والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه

٨٥

قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر. وقيل بالعكس لقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ). (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الساعين في تحصيلها وجمعها. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك. وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة. وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط. (وَفِي الرِّقابِ) وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم. وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى. والعدول عن اللام إلى (فِي) للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب. وقيل للإيذان بأنهم أحق بها. (وَالْغارِمِينَ) والمديونين لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ، أو لإصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها» (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وللصرف في الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح. وقيل وفي بناء القناطر والمصانع. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع عن ماله. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في (لِلْفُقَراءِ). وقرئ بالرفع على تلك فريضة. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يضع الأشياء في مواضعها ، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا ، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما‌الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦١)

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عينا لذلك ، أو اشتق له فعل من أذن أذنا إذا استمع كأنف وشلل. روي أنهم قالوا محمد أذن سامعة نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول. (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ، ثم فسر ذلك بقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) يصدق به لما قام عنده من الأدلة. (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ويصدقهم لما علم من خلوصهم ، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان. (وَرَحْمَةٌ) أي وهو رحمة. (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سره ، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما عليكم. وقرأ حمزة (وَرَحْمَةٌ) بالجر عطفا على (خَيْرٍ). وقرئ بالنصب على أنها علة فعل دل عليه (أُذُنُ خَيْرٍ) أي يأذن لكم رحمة. وقرأ نافع (أُذُنٌ) بالتخفيف فيهما. وقرئ «أذن خير» على أن (خَيْرٍ) صفة له أو خبر ثان (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بإيذائه.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣)

٨٦

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) على معاذيرهم فيما قالوا أو تخلفوا. (لِيُرْضُوكُمْ) لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين. (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق ، وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين أو لأن الكلام في إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرضائه ، أو لأن التقدير والله أحق أن يرضوه والرسول كذلك. (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) صدقا.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ) أن الشأن وقرئ بالتاء. (مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يشاقق مفاعلة من الحد. (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) على حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد ويحتمل أن يكون معطوفا على أنه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك ، وقرئ «فإن» بالكسر. (ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) يعني الهلاك الدائم.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ(٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)(٦٥)

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) على المؤمنين. (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) وتهتك عليهم أستارهم ، ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقروء ومحتج به عليهم ، وذلك يدل على ترددهم أيضا في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء. وقيل إنه خبر في معنى الأمر. وقيل كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء لقوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) مبرز أو مظهر. (ما تَحْذَرُونَ) أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم ، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) روي : أن ركب المنافقين مروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات ، فأخبر الله تعالى به نبيه فدعاهم فقال : «قلتم كذا وكذا» فقالوا لا والله ما كنا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر. (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به ، وإلزاما للحجة عليهم ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٦٦)

(لا تَعْتَذِرُوا) لا تشتغلوا باعتذارتكم فإنها معلومة الكذب. (قَدْ كَفَرْتُمْ) قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطعن فيه. (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) بعد إظهاركم الإيمان. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) لتوبتهم وإخلاصهم ، أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء. تعذّب طائفة بأنّهم كانوا مجرمين مصرين على النفاق أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء. وقرأ عاصم بالنون فيهما. وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله «وإن تعف» بالتاء والبناء على المفعول ذهابا إلى المعنى كأنه قال : إن ترحم طائفة.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٦٨)

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء

٨٧

الواحد. وقيل إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) وتقرير لقولهم (وَما هُمْ مِنْكُمْ) وما بعده كالدليل عليه ، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وهو قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) بالكفر والمعاصي. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) عن الإيمان والطاعة. (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن المبار ، وقبض اليد كناية عن الشح. (نَسُوا اللهَ) أغفلوا ذكر الله وتركوا طاعته. (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من لطفه وفضله. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) مقدرين الخلود. (هِيَ حَسْبُهُمْ) عقابا وجزاء وفيه دليل على عظم عذابها. (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته وأهانهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) لا ينقطع والمراد به ما وعدوه أو ما يقاسونه من تعب النفاق.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٩)

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أنتم مثل الذين ، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم. (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من ملاذ الدنيا ، واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فإنه ما قدر لصاحبه. (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم. (وَخُضْتُمْ) ودخلتم في الباطل. (كَالَّذِي خاضُوا) كالذين خاضوا ، أو كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي خاضوه. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين. (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا الدنيا والآخرة.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٧٠)

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ) أغرقوا بالطوفان. (وَعادٍ) أهلكوا بالريح. (وَثَمُودَ) أهلكوا بالرجفة. (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) أهلك نمروذ ببعوض وأهلك أصحابه. (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة. (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجيل ، وقيل قريات المكذبين المتمردين وائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر. (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) يعني الكل. (بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يك من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٧١)

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر الأمور. (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على كل شيء لا يمتنع

٨٨

عليه ما يريده. (حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٧٢)

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث أنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر. (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة وخلود. وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك. ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع ، أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا. (ذلِكَ) أي الرضوان أو جميع ما تقدم. (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٧٤)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف. (وَالْمُنافِقِينَ) بإلزام الحجة وإقامة الحدود. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في ذلك ولا تحابهم. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقا لنحن شر من الحمير ، فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته. (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام. (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من فتك الرسول ، وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا ، أو إخراجه وإخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما نَقَمُوا) وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم. (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش ، فلما قدمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى. والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل. (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في (يَكُ)

٨٩

للتوب. (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) بالإصرار على النفاق. (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بالقتل والنار. (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فينجيهم من العذاب.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٧٦)

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) نزلت في ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع الله أن يرزقني مالا فقال عليه الصلاة والسلام : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال : يا ويح ثعلبة ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت ، فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها ، ثم جاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي الله تعالى عنه.

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) منعوا حق الله منه. (وَتَوَلَّوْا) عن طاعة الله. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم عادتهم الإعراض عنها.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(٧٨)

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) أي فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم ، ويجوز أن يكون الضمير للبخل والمعنى فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم. (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) يلقون الله بالموت أو يلقون عملهم أي جزاءه وهو يوم القيامة (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح. (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن للكذب مستقبح من الوجهين أو المقال مطلقا وقرئ «يكذّبون» بالتشديد.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء على الالتفات. (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) ما أسروه في أنفسهم من النفاق أو العزم على الإخلاف. (وَنَجْواهُمْ) وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن ، أو تسمية الزكاة جزية. (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فلا يخفى عليه ذلك.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٩)

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم. وقرئ «يلمزون» بالضم. (الْمُطَّوِّعِينَ) المتطوعين. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حث على الصدقة ، فجاء عبد الرحمن ابن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم ، وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع

٩٠

تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع ، فأمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات. فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) إلا طاقتهم. وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه. (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) يستهزئون بهم. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على كفرهم.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٨٠)

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص عليه بقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ، ففعل عليه الصلاة والسلام فنزلت ، فقال عليه الصلاة والسلام : لأزيدن على السبعين فنزلت : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه ، فبين له أن المراد به التكثير دون التحديد ، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنّه العدد بأسره. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) المتمردين في كفرهم ، وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر والإرشاد إلى الحق ، والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع ولا يهتدي ، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره وهو عدم يأسه من إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة ، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٢)

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) بقعودهم عن الغزو خلفه يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم ، ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال. (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إيثارا للدعة والخفض على طاعة الله ، وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج. (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطا. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) وقد آثرتموها بهذه المخالفة. (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أن مآبهم إليها ، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب ، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم والمراد من القلة العدم.

٩١

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)(٨٣)

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين ، أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلا. (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) إلى غزوة أخرى بعد تبوك (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) إخبار في معنى النهي للمبالغة. (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تعليل له وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) هي الخرجة إلى غزوة تبوك. (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان. وقرئ مع «الخلفين» على قصر (الْخالِفِينَ).

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٨٥)

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) روي : (أن عبد الله بن أبيّ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه ، فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه) فنزلت. وقيل صلى عليه ثم نزلت ، وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلا بالكرم ولأنه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر ، والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر ولذلك رتب النهي على قوله : (ماتَ أَبَداً) يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحي. (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة. (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) تعليل للنهي أو لتأبيد الموت.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد والنفوس مغتبطة عليها. ويجوز أن تكون هذه في طريق غير الأول.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)(٨٧)

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها. (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) بأن آمنوا بالله ويجوز أن تكون أن المفسرة. (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) ذوو الفضل والسعة. (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) الذين قعدوا لعذر.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مع النساء جمع خالفة وقد يقال الخالفة للذي لا خير فيه. (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في التخلف عنه من الشقاوة.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٨٩)

٩٢

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم. (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة. وقيل الحور لقوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) وهي جمع خيرة تخفيف خيرة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالمطالب.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) بيان لما لهم من الخيرات الأخروية.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٠)

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) يعني أسدا وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا ومواشينا. والمعذر إما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له ، أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ، ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما. وقرأ يعقوب (الْمُعَذِّرُونَ) من أعذر إذا اجتهد في العذر. وقرئ «المعذّرون» بتشديد العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين ، وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره (عَذابٌ أَلِيمٌ) بالقتل والنار.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)(٩٢)

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) كالهرمى والزمنى. (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة. (حَرَجٌ) إثم في التأخر. (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بالإيمان والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي الناصح ، أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل وإنما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لهم أو للمسيء فكيف للمحسن.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) عطف على (الضُّعَفاءِ) أو على (الْمُحْسِنِينَ) ، وهم البكاؤون سبعة من الأنصار : معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك ، فقال عليه‌السلام : «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون. وقيل هم بنو مقرن : معقل وسويد والنعمان. وقيل أبو موسى وأصحابه. (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) حال من الكاف في (أَتَوْكَ) بإضمار قد. (تَوَلَّوْا) جواب إذا. (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ) تسيل. (مِنَ الدَّمْعِ) أي دمعا فإن من

٩٣

للبيان وهي مع المجرور في محل النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا. (حَزَناً) نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. (أَلَّا يَجِدُوا) لئلا يجدوا متعلق ب (حَزَناً) أو ب (تَفِيضُ). (ما يُنْفِقُونَ) في مغزاهم.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٤)

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالمعاتبة. (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) واجدون الأهبة. (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف إيثارا للدعة. (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) حتى غفلوا عن وخامة العاقبة. (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مغبته.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) في التخلف. (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من هذه السفرة. (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) بالمعاذير الكاذبة لأنه : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدقكم لأنه : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد. (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالتوبيخ والعقاب عليه.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٩٦)

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا تعاتبوهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) ولا توبخوهم. (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) لا ينفع فيهم التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فهو علة لإعراض وترك المعاتبة. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) من تمام التعليل وكأنه قال : إنهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة ، أو تعليل ثان والمعنى : أن النار كفتهم عتابا فلا تتكلفوا عتابهم.

(جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون علة.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه ، وإن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله فلا يهتك سترهم ولا ينزل الهوان بهم ، والمقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض وعدم الالتفات نحوهم.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٩٨)

٩٤

(الْأَعْرابُ) أهل البدو. (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة. (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا) وأحق بأن لا يعلموا. (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) من الشرائع فرائضها وسنتها. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر. (حَكِيمٌ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ) يعدّ (ما يُنْفِقُ) يصرفه في سبيل الله ويتصدق به. (مَغْرَماً) غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه قربة عند الله ولا يرجو عليه ثوابا وإنما ينفق رياء أو تقية. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الإنفاق. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم ، والدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور وسمي به عقبة الزمان ، و (السَّوْءِ) بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (السَّوْءِ) هنا. وفي الفتح بضم السين. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقولون عند الانفاق. (عَلِيمٌ) بما يضمرون.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٩)

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) سبب (قُرُباتٍ) وهي ثاني مفعولي (يَتَّخِذُ) ، و (عِنْدَ اللهِ) صفتها أو ظرف ل (يَتَّخِذُ). (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) وسبب صلواته لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم صل على آل أبي أوفى» ، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره. (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش (قُرْبَةٌ) بضم الراء. (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لتقريره. وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٠٠)

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو الذين أسلموا قبل الهجرة. (وَالْأَنْصارِ) أهل بيعة العقبة الأولى. وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة صعب بن عمير. وقرئ بالرفع عطفا على (وَالسَّابِقُونَ). (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) اللاحقون بالسابقين من القبيلتين ، أو من اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم. (وَرَضُوا عَنْهُ) بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» كما في سائر المواضع. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)(١٠١)

٩٥

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أي وممن حول بلدتكم يعني المدينة. (مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها. (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على (مِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أو خبر لمحذوف صفته. (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) ونظيره في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قوله :

أنّا ابن جلّا وطلّاع الثنايا

وعلى الأول صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ لبيان تمرنهم وتمهرهم في النفاق. (لا تَعْلَمُهُمْ) لا تعرفهم بأعيانهم وهو تقرير لمهارتهم فيه وتنوقهم في تحامي مواقع التهم إلى حد أخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك وصدق فراستك. (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ونطلع على أسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) بالفضيحة والقتل أو بأحدهما وعذاب القبر ، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) إلى عذاب النار.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٠٢)

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة ، وهم طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال : وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم. (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيئ هو التخلف وموافقة أهل النفاق ، والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم : بعت الشاء شاة ودرهما. أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر. (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ). (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) روي : أنهم لما أطلقوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا فتصدق بها وطهرنا فقال : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت. (تُطَهِّرُهُمْ) من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله. وقرئ «تطهرهم» من أطهره بمعنى طهره و «تطهرهم» بالجزم جوابا للأمر. (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم. (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم ، وجمعها لتعدد المدعو لهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد. (وَاللهُ سَمِيعٌ) باعترافهم. (عَلِيمٌ) بندامتهم.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم ، أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما. (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) إذا صحت وتعديته ب (عَنْ) لتضمنه معنى التجاوز. (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

٩٦

(وَقُلِ اعْمَلُوا) ما شئتم. (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) فإنه لا يخفى عليه خيرا كان أو شرا. (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبين لكم. (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بالموت. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه.

(وَآخَرُونَ) من المتخلفين. (مُرْجَوْنَ) مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص (مُرْجَوْنَ) بالواو وهما لغتان. (لِأَمْرِ اللهِ) في شأنهم. (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن أصروا على النفاق. (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن تابوا والترديد للعباد ، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم. (حَكِيمٌ) فيما يفعل بهم. وقرئ «والله غفور رحيم» ، والمراد بهؤلاء كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم وفوضوا أمرهم إلى الله فرحمهم‌الله تعالى.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١٠٧)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) ، أو مبتدأ خبره محذوف أي وفيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص. وقرأ نافع وابن عامر بغير الواو (ضِراراً) مضارة للمؤمنين. وروي : (أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجدا على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا قد بنينا مسجدا لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت ، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة). (وَكُفْراً) وتقوية للكفر الذي يضمرونه. (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) يريد الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء. (وَإِرْصاداً) ترقبا. (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يعني الراهب فإنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومات بقنسرين وحيدا ، وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام. و (مِنْ قَبْلُ) متعلق ب (حارَبَ) أو ب (اتَّخَذُوا) أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف ، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيه فقال : أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل كرر عليه. فنزلت (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرادة الحسنى وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)(١٠٨)

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) للصلاة. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) يعني مسجد قباء أسسه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة ، أو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقول أبي سعيد رضي الله عنه : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة». (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله :

لمن الدّيار بقنة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

٩٧

(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أولى بأن تصلي فيه. (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى ، وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه. قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة والسلام : «أمؤمنون أنتم»؟ فسكتوا .. فأعادها فقال عمر : إنهم مؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : «أترضون بالقضاء»؟ قالوا : نعم. قال عليه الصلاة والسلام : «أتصبرون على البلاء»؟ قالوا : نعم ، قال : «أتشكرون في الرخاء»؟ قالوا : نعم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم مؤمنون ورب الكعبة». فجلس ثم قال : «يا معشر الأنصار إن الله عزوجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط»؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠٩)

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بنيان دينه. (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) على قاعدة محكمة هي التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة. (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها. (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) فأدى به لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار ، وإنما وضع شفا الجرف وهو ما جرفه الوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس ، ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى رضوان الله ومقتضياته التي الجنة أدناها ، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة. وقرأ نافع وابن عامر (أُسِّسَ) على البناء للمفعول. وقرئ «أساس بنيانه» و «أسس بنيانه» على الإضافة و «أسس» و «آساس» بالفتح والمد و «إساس» بالكسر وثلاثتها جمع أس ، و «تقوى» بالتنوين على أن الألف للإلحاق لا للتأنيث كتترى ، وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر (جُرُفٍ) بالتخفيف. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول وليس بجمع ولذلك قد تدخله التاء ووصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله : (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي شكا ونفاقا ، والمعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك ثم لما هدمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قطعا بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك والإضمار وهو في غاية المبالغة والاستثناء. من أعم الأزمنة. وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار. وقيل التقطع بالتوبة ندما وأسفا. وقرأ يعقوب «إلى» بحرف الانتهاء و (تَقَطَّعَ) بمعنى تتقطع وهو قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. وقرئ «يقطع» بالياء و «تقطع» بالتخفيف و «تقطع قلوبهم» على خطاب الرسول ، أو كل مخاطب ولو قطعت ولو قطعت على البناء للفاعل والمفعول. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بنياتهم. (حَكِيمٌ) فيما أمر بهدم بنيانهم.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ

٩٨

فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١)

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تمثيل لإثابة الله إياهم الجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله. (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) استئناف ببيان ما لأجله الشراء. وقيل يقاتلون في معنى الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل. (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكد لما دل عليه الشراء فإنه في معنى الوعد. (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا. (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا به غاية الفرح فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٢)

(التَّائِبُونَ) رفع على المدح أي هم التائبون ، والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أو خبره ما بعده أي

التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرئ بالياء نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين. (الْعابِدُونَ) الذين عبدوا الله مخلصين له الدين. (الْحامِدُونَ) لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء. (السَّائِحُونَ) الصائمون لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سياحة أمتي الصوم» شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على حفايا الملك والملكوت ، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في الصلاة. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان والطاعة. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصي ، والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال : الجامعون بين الوصفين ، وفي قوله تعالى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها. وقيل إنه للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ، ووضع (الْمُؤْمِنِينَ) موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(١١٤)

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة : «قل كلمة أحاج لك بها عند الله» فأبى فقال عليه الصلاة والسلام : «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه» فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال : «إني استأذنت رب في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين». (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر ، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه الكافر فقال :

٩٩

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) وعدها إبراهيم أباه بقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لأطلبن مغفرتك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب ما قبله ، ويدل عليه قراءة من قرأ «أباه» ، أو «وعدها إبراهيم أبوه» وهي الوعد بالإيمان (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) بأن مات على الكفر ، أو أوحي إليه بأنه لن يؤمن (تَبَرَّأَ مِنْهُ) قطع استغفاره. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه. (حَلِيمٌ) صبور على الأذى ، والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع شكاسته عليه.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١١٦)

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي ليسميهم ضلّالا ويؤاخذهم مؤاخذتهم (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) للإسلام. (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) حتى يبين لهم حظر ما يجب اتقاؤه ، وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع. وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك ، وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم أمرهم في الحالين.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبرؤ عنهم رأسا ، بين لهم أن الله مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه ، ليتوجهوا بشراشرهم إليه ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١١٧)

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده. (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا الفظ. من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه‌السلام وفي (كادَ) ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في (مِنْهُمْ). وقرأ حمزة وحفص (يَزِيغُ) بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي. وقرئ «من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم» يعني المتخلفين. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم. (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ

١٠٠