أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء ، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ، ويأسا من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعا من الله تعالى خارقا للعادة فيزدادوا إيمانا وشكرا. (وَلكِنْ) جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد. (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه.

وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه أو متعلق بقوله مفعولا والمعنى: ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة ، أو من هذا حاله في علم الله وقضائه.

وقرئ «ليهلك» بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من حيي بفك الإدغام للحمل على المستقبل. (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه ، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ بقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) لجبنتم. (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار. (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) الضميران مفعولا يرى و (قَلِيلاً) حال من الثاني ، وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة ، تثبيتا لهم وتصديقا لرؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وقللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترؤوا عليهم ولا يستعدوا لهم ، ثم كثرهم حتى يرونهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم ، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد ، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشروط.

(لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) كرره لاختلاف الفعل المعلل به ، أو لأن المراد بالأمر ثمة الاكتفاء على الوجه المحكي وها هنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا

٦١

اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٤٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء مما غلب في القتال. (فَاثْبُتُوا) للقائهم. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا) باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد. (فَتَفْشَلُوا) جواب النهي. وقيل عطف عليه ولذلك قرئ : «وتذهب ريحكم» بالجزم ، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها. وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور». (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالكلاءة والنصرة.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(٤٧)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير. (بَطَراً) فخرا وأشرا. (وَرِئاءَ النَّاسِ) ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدرا ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح ، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين ، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) معطوف على بطرا إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولا له لكن على تأويل المصدر. (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيجازيكم عليه.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤٨)

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) مقدر باذكر. (أَعْمالَهُمْ) في معاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرها بأن وسوس إليهم. (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) مقالة نفسانية والمعنى : أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين ، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك : لا ضاربا زيدا عندنا. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي تلاقى الفريقان. (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم. (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة ، وقيل : لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإحنة وكاد ذلك يثنيهم ،. فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحرث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال : والله ما

٦٢

شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) إني أخافه أن يصيبني مكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله ، والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر. (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفا.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٩)

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) والذين لم يطمئنوا إلى الإيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة. وقيل هم المشركون. وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين. (غَرَّ هؤُلاءِ) يعنون المؤمنين. (دِينُهُمْ) حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) جواب لهم. (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يذل من استجار به وإن قل (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٥١)

(وَلَوْ تَرى) ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضيا عكس إن. (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ببدر ، وإذ ظرف ترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ ، والملائكة فاعل يتوفى ويدل عليه قراءة ابن عامر بالتاء ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله عزوجل وهو مبتدأ خبره (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) والجملة حال من الذين كفروا ، واستغني فيه بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على الضميرين. (وَأَدْبارَهُمْ) ظهورهم أو أستاههم ، ولعل المراد تعميم الضرب أي يضربون ما أقبل منهم وما أدبر. (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) عطف على يضربون بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة. وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها ، وجواب (لَوْ) محذوف لتقطيع الأمر وتهويله.

(ذلِكَ) الضرب والعذاب. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) بسبب ما كسبت من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على «ما» للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم. فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ)(٥٤)

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون وهو عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه أي داموا عليه. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل آل فرعون. (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) تفسير لدأبهم. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) كما أخذ هؤلاء. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يغلبه في دفعه شيء.

٦٣

(ذلِكَ) إشارة إلى ما حل بهم. (بِأَنَّ اللهَ) بسبب أن الله. (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) مبدلا إياها بالنقمة. (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعاداة الرسول عليه‌السلام ومن تبعه منهم ، والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد المبعث ، وليس السبب عدم تغيير الله ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جري عادته على تغييره متى يغيروا حالهم ، وأصل يك يكون فحذفت الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقولون. (عَلِيمٌ) بما يفعلون.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) وبيان ما أخذ به آل فرعون. وقيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ به والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم. (وَكُلٌ) من الفرق المكذبة ، أو من غرقى القبط وقتلى قريش. (كانُوا ظالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ)(٥٦)

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أصروا على الكفر ورسخوا فيه. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فلا يتوقع منهم إيمان ، ولعله إخبار عن قوم مطبوعين على الكفر بأنهم لا يؤمنون ، والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف ، وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص ، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا : نسينا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم. ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو المحاربة. (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) سبة الغدر ومغبته ، أو لا يتقون الله فيه أو نصره للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ)(٥٨)

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) فإما تصادفنهم وتظفرن بهم ، (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب. وقرئ «فشرذ» بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر و (مَنْ خَلْفَهُمْ) ، والمعنى واحد فإنه إذا شرد من وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) لعل المشردين يتعظون.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) معاهدين. (خِيانَةً) نقض عهد بأمارات تلوح لك. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح إليهم عهدهم. (عَلى سَواءٍ) على عدل وطريق قصد في العداوة ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون خيانة منك ، أو على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد وهو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأول أي ثابتا على طريق سوي أو منه أو من المنبوذ إليهم أو منهما على غيره ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)(٥٩)

ولا تحسبن خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) مفعولاه وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص

٦٤

بالياء على أن الفاعل ضمير أحد أو (مَنْ خَلْفَهُمْ) ، أو (الَّذِينَ كَفَرُوا) والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار ، أو على تقدير أن (سَبَقُوا) وهو ضعيف لأن أن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على إيقاع الفعل على (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) بالفتح على قراءة ابن عامر وأن (لا) صلة و (سَبَقُوا) حال بمعنى سابقين أي مفلتين ، والأظهر أنه تعليل للنهي أي : لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا. عن إدراكهم وكذا إن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف ، ولعل الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو ، وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦١)

(وَأَعِدُّوا) أيها المؤمنون (لَهُمْ) لناقضي العهد أو الكفار. (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) من كل ما يتقوى به في الحرب. وعن عقبة بن عامر سمعته عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر «ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا» ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أقواه. (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ، أو جمع ربيط كفصيل وفصال. وقرئ «ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة. (تُرْهِبُونَ بِهِ) تخوفون به ، وعن يعقوب (تُرْهِبُونَ) بالتشديد والضمير ل (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أو للإعداد. (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) يعني كفار مكة. (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) من غيرهم من الكفرة. قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس. (لا تَعْلَمُونَهُمُ) لا تعرفونهم بأعيانهم. (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يعرفهم. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بتضييع العمل أو نقص الثواب.

(وَإِنْ جَنَحُوا) مالوا ومنه الجناح. وقد يعدى باللام وإلى. (لِلسَّلْمِ) للصلح أو الاستسلام. وقرأ أبو بكر بالكسر. (فَاجْنَحْ لَها) وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها فيه. قال :

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

وقرئ «فاجنح» بالضم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تخف من إبطانهم خداعا فيه ، فإن الله يعصمك من مكرهم ويحيقه. بهم. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم. (الْعَلِيمُ) بنياتهم. والآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣)

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) فإن محسبك الله وكافيك قال جرير :

إنّي وجدت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا حرّ الثياب وتشبعوا

(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) جميعا.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء ، والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة ، وهذا من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيانه : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي تناهى عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض

٦٥

من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح. (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة ، فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء. (إِنَّهُ عَزِيزٌ) تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده. (حَكِيمٌ) يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده ، وقيل الآية في الأوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها ساداتهم ، فأنساهم الله ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصارا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٦٤)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) كافيك. (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إما في محل النصب على المفعول معه كقوله :

إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد

أو الجر عطفا على المكني عند الكوفيين ، أو الرفع عطفا على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنون. والآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر ، وقيل أسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت. ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في إسلامه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٦٦)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) بالغ في حثهم عليه ، وأصله الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي على الموت وقرئ «حرص» من الحرص. (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة ، والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله وتأييده. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «تكن» بالتاء في الآيتين ووافقهم البصريان في وإن تكن منكم مائة. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) بسبب أنهم جهلة بالله واليوم الآخر لا يثبتون ثياب المؤمنين رجاء الثواب وعوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا ولا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان.

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ، وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم ، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن. وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها ، وفيه لغتان الفتح وهو قراءة عاصم وحمزة والضم وهو قراءة الباقين. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٧)

(ما كانَ لِنَبِيٍ) وقرئ «للنبي» على العهد. (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) وقرأ البصريان بالتاء. (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله ، من أثخنه المرض إذا

٦٦

أثقله وأصله الثخانة ، وقرئ «يثخن» بالتشديد للمبالغة. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) حطامها بأخذكم الفداء. (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل ثواب الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه. وقرئ بجر (الْآخِرَةَ) على إضمار المضاف كقوله :

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقد باللّيل نارا

(وَاللهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه. (حَكِيمٌ) يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها ، كما أمر بالإثخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين. روي أنه عليه‌السلام أتي يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء ، مكني من فلان ـ لنسيب له ـ ومكن عليا وحمزة من أخويهما فلنضرب أعناقهم ، فلم يهو ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثلك يا عمر مثل نوح قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فخير أصحابه فأخذوا الفداء ، فنزلت فدخل عمر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : «يا رسول الله أخبرني فإن أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال : أبك على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، لشجرة قريبة». والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٦٩)

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ ، وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوما بما لم يصرح لهم بالنهي عنه ، أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم. (لَمَسَّكُمْ) لنالكم. (فِيما أَخَذْتُمْ) من الفداء. (عَذابٌ عَظِيمٌ) روي أنه عليه‌السلام قال : «لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ». وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الفدية فإنها من جملة الغنائم. وقيل أمسكوا عن الغنائم فنزلت. والفاء للتسبب والسبب محذوف تقديره : أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة. (حَلالاً) حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا ، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على الأولين ولذلك وصفه بقوله : (طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفته. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) غفر لكم ذنبكم (رَحِيمٌ) أباح لكم ما أخذتم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٧١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) وقرأ أبو عمرو «من الأسارى». (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) إيمانا وإخلاصا. (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء. روي (أنها نزلت في العباس رضي الله عنه

٦٧

كلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال : يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال : أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم ، فقال العباس : وما يدريك ، قال : أخبرني به ربي تعالى ، قال : فأشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، قال العباس فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم) يعني الموعود بقوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَإِنْ يُرِيدُوا) يعني الأسرى. (خِيانَتَكَ) نقض ما عاهدوك. (فَقَدْ خانُوا اللهَ) بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعقل. (مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر فان أعادوا الخيانة فسيمكنك منهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)(٧٣)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) هم المهاجرون هاجروا أوطانهم حبا لله ولرسوله. (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج. (وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بمباشرة القتال. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم. (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أو بالنصرة والمظاهرة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي من توليهم في الميراث ، وقرأ حمزة (وَلايَتِهِمْ) بالكسر تشبيها لها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة كأنه بتوليه صاحبه يزاول عملا. (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين. (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) عهد فإنه لا ينقض عهدهم لنصرهم عليهم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في الميراث أو المؤازرة ، وهو بمفهومه يدل على منع التوارث أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين. (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم لبعض حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار. (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) تحصل فتنة فيها عظيمة ، وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر. (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) في الدين وقرئ «كثير».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧٥)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة والجهاد

٦٨

وبذل المال ونصرة الحق ، ووعد لهم الموعد الكريم فقال. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا تبعة له ولا منة فيه ، ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم ويتسم بسمتهم فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في التوارث من الأجانب. (فِي كِتابِ اللهِ) في حكمه ، أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث ذوي الأرحام. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من المواريث والحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة ، أولا واعتبار القرابة ثانيا. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة ، وشاهد أنه بريء من النفاق ، وأعطي عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة ، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته».

٦٩

(٩) سورة براءة

مدنية وقيل إلا آيتين من قوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي آخر ما نزل ولها أسماء أخر ، «التوبة» و «المقشقشة» و «البحوث» و «المبعثرة» و «المنقرة» و «المثيرة» و «الحافرة» و «المخزية» و «الفاضحة» و «المنكلة» و «المشردة» و «المدمدمة» و «سورة العذاب» لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه ، والبحث عن حال المنافقين وإثارتها ، والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم.

وأيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون ، وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله أمان. وقيل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها ، وتوفي ولم يبين موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها. وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطوال أو سورتان تركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم الله.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ)(٢)

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي هذه براءة ، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره واصلة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، ويجوز أن تكون (بَراءَةٌ) مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة ، والمعنى : أن الله ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها ، وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناسا منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاؤوا فقال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال. وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما روي (أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور قال مأمور ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، فقالوا بما ذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده). ولعل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤدي عني إلا رجل مني» ليس على العموم ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته ، بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل

٧٠

منها ، ويدل عليه أنه في بعض الروايات «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي». (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه وإن أمهلكم. (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) أي إعلام فعال بمعنى الإفعال كالأمان والعطاء ، ورفعه كرفع (بَراءَةٌ) على الوجهين. (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، ولأن الإعلام كان فيه ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر» وقيل يوم عرفة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحج عرفة». ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال ، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب ، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. (أَنَّ اللهَ) أي بأن الله. (بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من عهودهم. (وَرَسُولِهِ) عطف على المستكن في (بَرِيءٌ) ، أو على محل (أَنَ) واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول ، وقرئ بالنصب عطفا على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه ، فإن قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين. (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر والغدر. (فَهُوَ) فالتوب (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء. (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا في الدنيا. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في الآخرة.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين ، أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم. (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط. (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) من أعدائكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(٦)

(فَإِذَا انْسَلَخَ) انقضى ، وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة. (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها. وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الناكثين. (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حل أو حرم. (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم ، والأخيذ الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام. (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد ، وانتصابه على الظرف. (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك بالإيمان. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) تصديقا لتوبتهم وإيمانهم.

٧١

(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك ، وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المأمور بالتعرض لهم. (اسْتَجارَكَ) استأمنك وطلب منك جوارك. (فَأَجِرْهُ) فأمنه. (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر. (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) موضع أمنه إن لم يسلم ، وأحد رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل. (ذلِكَ) الأمن أو الأمر. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧)

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة صدورهم ، أو لأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه ، وخبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة لل (عَهْدٌ) أو ظرف له أو ل (يَكُونُ) ، و (يْفَ) على الأخيرين حال من ال (عَهْدٌ) و (لِلْمُشْرِكِينَ) إن لم يكن خبرا فتبيين. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هم المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي : ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء وهو كقوله (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) سبق بيانه.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)(٨)

(كَيْفَ) تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله :

وخبرتماني أنّما الموت بالقرى

فكيف وهاتا هضبة وقليب

أي فكيف مات. (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم. (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) لا يراعوا فيكم. (إِلًّا) حلفا وقيل قرابة قال حسان :

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رألّ النّعام

وقيل ربوبية ولعله اشتق للحلف من الأل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، ثم استعير للقرابة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف ، ثم للربوبية والتربية. وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع. وقيل إنه عبري بمعنى الإله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل. (وَلا ذِمَّةً) عهدا أو حقا يعاب على إغفاله. (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر ، ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال ، واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم والحالية تنافيه (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ما تتفوه به أفواههم. (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم ، وتخصيص الأكثر لما في بعض

٧٢

الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)(١٠)

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) استبدلوا بالقرآن. (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) دينه الموصل إليه ، أو سبيل بيته بحصر الحجاج والعمار ، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصد. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) عملهم هذا أو ما دل عليه قوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) فهو تفسير لا تكرير. وقيل الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود ، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) في الشرارة.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(١٢)

(فَإِنْ تابُوا) عن الكفر. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان أو الوفاء بالعهود. (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل. وقيل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن. (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا ، وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده ، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يمينا وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى ؛ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام ، وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على الإخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله. (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق ب «بقاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣)

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً) تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار فأفادت المبالغة في الفعل. (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) التي حلفوها مع الرسول عليه‌السلام والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر على خزاعة. (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مر ذكره في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا). وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالمعاداة والمقاتلة لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي

٧٣

به ، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم. (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فقاتلوا أعداءه ولا تتركوا أمره. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)

(قاتِلُوهُمْ) أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه والتوعد عليه. (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم والتمكن من قتلهم وإذلالهم. (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني بني خزاعة. وقيل بطونا من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أبشروا فإن الفرج قريب».

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) لما لقوا منهم وقد أوفى الله بما وعدهم والآية من المعجزات. (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضا ، وقرئ «ويتوب» بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما كان وما سيكون. (حَكِيمٌ) لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٦)

(أَمْ حَسِبْتُمْ) خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال. وقيل للمنافقين و (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان. (أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم ، نفى العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) عطف على (جاهَدُوا) داخل في الصلة. (مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. وما في (لَمَّا) من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ).

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ)(١٧)

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) ما صح لهم. (أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد. (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) بإظهار الشرك وتكذيب الرسول ، وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره. روي (أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى عنه في القول فقال : ما بالكم تذكرون «مساوينا» وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني) فنزلت. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك. (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لأجله.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ

٧٤

اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) أي إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ومن عمارتها تزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودرس العلم فيها وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره». وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما علم أن الإيمان بالله قرينه وتمامه الإيمان به ولدلالة قوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) عليه. (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي في أبواب الدين فإن الخشية عن المحاذير جبلية لا يكاد العاقل يتمالك عنها. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ذكره بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم بالقطع بأنهم مهتدون ، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرا بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم ، ومنعا للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا عليها.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن. ويؤيد الأول قراءة من قرأ «سقاة الحاج وعمرة المسجد» والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) وبين عدم تساويهم بقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب ، وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم تستجمع فيه هذه الصفات أو من أهل السقاية والعمارة عندكم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالثواب ونيل الحسنى عند الله دونكم.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها) في الجنات. (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم ، وقرأ حمزة (يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف ، وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل. (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعيم الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٢٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة

٧٥

قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبنائنا وعشائرنا وذهبت تجاراتنا وبقينا ضائعين. وقيل نزلت نهيا عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، والمعنى لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدونكم عن الطاعة لقوله : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) إن اختاروه وحرصوا عليه. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضعهم الموالاة في غير موضعها.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أقرباؤكم مأخوذ من العشرة. وقيل من العشرة فإن العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة. وقرأ أبو بكر «وعشيراتكم» وقرئ «وعشائركم». (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها. (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) فوات وقت نفاقها. (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في التحفظ عنه. (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل فتح مكة. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يرشدهم ، وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(٢٥)

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) يعني مواطن الحرب وهي مواقفها. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) منه أن يعطف على موضع في (مَواطِنَ) فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن. و (حُنَيْنٍ) واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ـ وكانوا اثني عشر ألفا ، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء ـ هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس أخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحرث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس ـ وكان صيّتا ـ «صيح بالناس» ، فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا حين حمي الوطيس» ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا. (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ) أي الكثرة. (شَيْئاً) من الإغناء أو من أمر العدو. (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ) الكفار ظهوركم. (مُدْبِرِينَ) منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)

٧٦

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) رحمته التي سكنوا بها وأمنوا. (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين انهزموا وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما. وقيل هم الذين ثبتوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يفروا. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) بأعينكم أي الملائكة وكانوا خمسة آلاف أو ثمانية أو ستة عشر على اختلاف الأقوال. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر والسبي. (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) منهم بالتوفيق للإسلام. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم. روي (أن ناسا منهم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اختاروا إما سباياكم وإما أموالكم؟ فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن هؤلاء جاءوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه فقالوا : رضينا وسلمنا فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد رضوا).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالبا. وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب. وقرئ «نجس» بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعا لرجس. (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) لنجاستهم ، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم. وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) يعني سنة براءة وهي التاسعة. وقيل سنة حجة الوداع. (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) فقرأ بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق. (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض. وقرئ «عائلة» على أنها مصدر كالعافية أو حال. (إِنْ شاءَ) قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغني الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم. (حَكِيمٌ) فيما يعطي ويمنع.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩)

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في أول «البقرة» فإن إيمانهم كلا إيمان. (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا. (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها. (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للذين لا يؤمنون. (حَتَّى

٧٧

يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه. (عَنْ يَدٍ) حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين ، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه ، أو عن غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير ، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة. (وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه. ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها من مجوس هجر. وأنه قال : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين ، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب ، وعند مالك رحمه‌الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير ، وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٣٠)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله. والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب (عُزَيْرٌ) بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف ، أو لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر. (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) هو أيضا قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها. (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها ، أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان. (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم ، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، أو اليهود على أن الضمير للنصارى ، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه. وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهياء على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض. (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك ، أو تعجب من شناعة قولهم. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(٣٢)

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله أو بالسجود لهم. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) بأن جعلوه ابنا لله. (وَما أُمِرُوا) أي وما أمر المتخذون أو المتخذون

٧٨

أربابا فيكون كالدليل على بطلان الاتخاذ. (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) ليطيعوا. (إِلهاً واحِداً) وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهو في الحقيقة طاعة الله. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد. (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له عن أن يكون له شريك.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) يخمدوا. (نُورَ اللهِ) حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد ، أو القرآن أو نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (بِأَفْواهِهِمْ) بشركهم أو بتكذيبهم. (وَيَأْبَى اللهُ) أي لا يرضى. (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام. وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه ، وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) كالبيان لقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ولذلك كرر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله ، والضمير في (لِيُظْهِرَهُ) للدين الحق ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام واللام في (الدِّينِ) للجنس أي على سائر الأديان فينسخها ، أو على أهلها فيخذلهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) يأخذونها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه. (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ ، ويدل عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم» ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «ما أدي زكاته فليس بكنز» أي بكنز أوعد عليه ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورده الشيخان مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره» (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هو الكي بهما.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣٥)

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها ، وأصله تحمى بالنار فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود فانتقل من صيغة

٧٩

التأنيث إلى صيغة التذكير ، وإنما قال (عَلَيْها) والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه : أربعة آلاف وما دونها نفقة وما فوقها كنز. وكذا قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها) وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فطن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول ، أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم. (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) لأن جمعهم وإمساكهم إياه كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية ، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم ، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنباه. (هذا ما كَنَزْتُمْ) على إرادة القول. (لِأَنْفُسِكُمْ) لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها. (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ «تكنزون» بضم النون.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) أي مبلغ عددها. (عِنْدَ اللهِ) معمول عدة لأنها مصدر. (اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح المحفوظ ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر ، وقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة. (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ، وأولوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام ، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة). (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧)

(إِنَّمَا النَّسِيءُ) أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد ، وعن نافع برواية ورش إنما النسي بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «النسي» بحذفها و «النسء» و «النساء» وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره. (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم. (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ضلالا زائدا. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (يُضَلُ) على البناء للمفعول ، وعن يعقوب (يُضَلُ) على أن الفعل لله تعالى. (يُحِلُّونَهُ عاماً) يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر. (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) فيتركونه على حرمته. قيل : أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. والجملتان تفسير للضلال أو حال. (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة ، واللام متعلقة

٨٠