أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

الحكومة وعلى تحريف الكلم ، والجملة حال من الواو. (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) حال من الضمير في (لَنا) أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه. (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي في الكتاب. (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب. (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) عطف على (أَلَمْ يُؤْخَذْ) من حيث المعنى فإنه تقرير ، أو على (وَرِثُوا) وهو اعتراض. (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) مما يأخذ هؤلاء. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين. (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) عطف على الذين (يَتَّقُونَ) وقوله : (أَفَلا يَعْقِلُونَ) اعتراض أو مبتدأ خبره : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) على تقدير منهم ، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع. وقرأ أبو بكر (يُمَسِّكُونَ) بالتخفيف وإفراد الإقامة لإنافتها على سائر أنواع التمسكات.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧١)

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب. (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) سقيفة وهي كل ما أظلك. (وَظَنُّوا) وتيقنوا. (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به ، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم. وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم. (خُذُوا) على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا. (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب. (بِقُوَّةٍ) بجد وعزم على تحمل مشاقه ، وهو حال من الواو. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(١٧٤)

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، و (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل (مِنْ بَنِي آدَمَ) بدل البعض. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم». (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم (قالُوا بَلى) فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي كراهة أن تقولوا. (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم ننبه عليه بدليل.

(أَوْ تَقُولُوا) عطف على (أَنْ تَقُولُوا) ، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة. (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا. (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) يعنى آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه ، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب «المصابيح» ، والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا الزام

٤١

اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال :

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي عن التقليد واتباع الباطل.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)(١٧٥)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي على اليهود. (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) هو أحد علماء بني إسرائيل ، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه‌السلام حسده وكفر به ، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله ، (فَانْسَلَخَ مِنْها) من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها. (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) حتى لحقه وقيل استتبعه. (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) فصار من الضالين. روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه.

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)(١٧٧)

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) إلى منازل الأبرار من العلماء. (بِها) بسبب تلك الآيات وملازمتها. (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مال إلى الدنيا أو إلى السفالة. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات ، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد ، تنبيها على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه ، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك ، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) ، مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. (فَمَثَلُهُ) فصفته التي هي مثل في الخسة. (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) كصفته في أخس أحواله وهو (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده. واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى : لاهثا في الحالتين ، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان. وقيل لما دعا على موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب. (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) تفكرا يؤدي بهم إلى الاتعاظ.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) أي مثل القوم ، وقرئ ساء مثل القوم على حذف المخصوص بالذم. (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها. (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إما أن يكون داخلا في الصلة معطوفا على كذبوا بمعنى : الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم ، أو منقطعا عنها بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها ، ولذلك قدم المفعول.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩)

٤٢

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) تصريح بأن الهدى والضلال من الله ، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء والإفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين ، والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء ، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا) خلقنا. (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله. (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار. (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر. (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها. (بَلْ هُمْ أَضَلُ) فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(١٨١)

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني ، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات. (فَادْعُوهُ بِها) فسموه بتلك الأسماء. (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ، إذ ربما يوهم معنى فاسدا كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه ، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من «الله» ، والعزى من «العزيز» ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقرأ حمزة هنا وفي «فصلت» (يُلْحِدُونَ) بالفتح يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة أمة هادين بالحق عادلين في الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» ، إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(١٨٤)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا ، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم ، فيزدادوا بطرا وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم عطف على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ). (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إن أخذي شديد ، وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنْ جِنَّةٍ) من جنون. روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد على

٤٣

الصفا فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح ، فنزلت. (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) موضح إنذاره بحيث لا يخفى على ناظر.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٦)

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال. (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه. (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم ، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي بعد القرآن. (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر. وقيل هو متعلق بقوله : عسى أن يكون ، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن ، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به.

وقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) كالتقرير والتعليل له. ونذرهم في طغيانهم بالرفع على الاستئناف ، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء لقوله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ، وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفا على محل (فَلا هادِيَ لَهُ) ، كأنه قيل : لا يهده أحد غيره (وَيَذَرُهُمْ). (يَعْمَهُونَ) حال من هم.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(١٨٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي عن القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو لأنها على طولها عند الله كساعة. (أَيَّانَ مُرْساها) متى إرساؤها أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره ، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة ، واشتقاق (أَيَّانَ) من أي لأن معناه أي وقت ، وهو من أويت إليه لأن البعض أو إلى الكل. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) لا يظهر أمرها في وقتها. (إِلَّا هُوَ) والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها ، واللام للتأقيت كاللام في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) إلا فجأة على غفلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه». (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) عالم بها ، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه ، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ، ولذلك عدي بعن. وقيل هي صلة (يَسْئَلُونَكَ). وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له : إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة ، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتخصهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها. وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه ، من حفى بالشيء إذا فرح أي تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن علمها عند الله لم يؤته أحدا من خلقه.

٤٤

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١٨٨)

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) جلب نفع ولا دفع ضر ، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له ، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون بهما ، ويجوز أن يكون متعلقا بال (بَشِيرٌ) ومتعلق ال (نَذِيرٌ) محذوف.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(١٨٩)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم. (وَجَعَلَ مِنْها) من جسدها من ضلع من أضلاعها ، أو من جنسها كقوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً). (زَوْجَها) حواء. (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه ، وإنما ذكر الضمير ذهابا إلى المعنى ليناسب. (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها. (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالبا من الأذى ، أو محمولا خفيفا وهو النطفة. (فَمَرَّتْ بِهِ) فاستمرت به أي قامت وقعدت ، وقرئ «فمرت» بالتخفيف و «فاستمرت به» و «فمارت» من المور وهو المجيء والذهاب ، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها. (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) ولدا سويا قد صلح بدنه. (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك على هذه النعمة المجددة.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(١٩١)

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، ويدل عليه قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يعني الأصنام. وقيل : لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج ، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث ، وكان اسمه حارثا بين الملائكة فتقبلت ، فلما ولدت سمياه عبد الحرث. وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في (خَلَقَكُمْ) لآل قصي من قريش ، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم : عبد مناف ، وعبد شمس ، وعبد قصي ، وعبد الدار. ويكون الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما المقتدين بهما. وقرأ نافع وأبو بكر «شركا» أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء ، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة.

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ

٤٥

أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١٩٣)

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) أي لعبدتهم. (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي المشركين. (إِلَى الْهُدى) إلى الإسلام. (لا يَتَّبِعُوكُمْ) وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء ، وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي : إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات ، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل : سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)(١٩٥)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة. (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) من حيث إنها مملوكة مسخرة. (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنهم آلهة ، ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض ، ثم عاد عليه بالنقض فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) وقرئ «إن الذين» بتخفيف «إن» ونصب «عباد» على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله ، و «يبطشون» بالضم ها هنا وفي «القصص» و «الدخان». (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي. (ثُمَّ كِيدُونِ) فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر ، وهي أنتم وشركاؤكم. (فَلا تُنْظِرُونِ) فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١٩٨)

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) القرآن. (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن أنبيائه.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٠٠)

(خُذِ الْعَفْوَ) أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم ، من العفو الذي هو ضد الجهد أو (خُذِ الْعَفْوَ) عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل وجوب الزكاة. (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) المعروف المستحسن من الأفعال. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل

٤٦

أفعالهم ، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر ، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسته للناس إغراء لهم على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ) يسمع استعاذتك. (عَلِيمٌ) يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه ، أو (سَمِيعٌ) بأقوال من آذاك (عَلِيمٌ) بأفعاله فيجازيه عليها مغنيا إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(٢٠٢)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) لمة منه ، وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم ، أو من طاف به الخيال يطيف طيفا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «طيف» على أنه مصدر أو تخفيف طيف كلين وهين ، والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره. (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله به ونهى عنه. (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها ، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله :

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين. (فِي الغَيِ) بالتزيين والحمل عليه ، وقرئ «يمدونهم» من أمد و «يمادونهم» كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال. (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) ثم لا يمسكون عن اغوائهم حتى يردوهم ، ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ، ويجوز أن يراد بال «الإخوان» الشياطين ويرجع الضمير إلى (الْجاهِلِينَ) فيكون الخبر جاريا على ما هو له.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢٠٤)

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من القرآن أو مما اقترحوه. (قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) هلا جمعتها تقولا من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله. (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها. (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سبق تفسيره.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات له. وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقا ، وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة. واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما ، أو أمر للمأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه. (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) متضرعا وخائفا. (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) ومتكلما كلاما فوق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص. (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) بأوقات الغدو والعشيات. وقرئ «والإيصال» وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق

٤٧

للغدو. (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني ملائكة الملأ الأعلى. (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) وينزهونه. (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ويخصونه بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول : يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس سترا وكان آدم شفيعا له يوم القيامة».

٤٨

(٨) سورة الأنفال

مدنية وآياتها خمس وسبعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه. (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به. وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار. وقيل شرط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم. وكان المال قليلا. فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءا لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه. وقرئ «يسألونك الأنفال» بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، و «يسألونك الأنفال» أي يسألك الشبان ما شرطت لهم. (فَاتَّقُوا اللهَ) في الاختلاف والمشاجرة. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيه. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في الإيمان. (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فزعت لذكره استعظاما له وتهيبا من جلاله. وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفا من عقابه. وقرئ «وجلت» بالفتح وهي لغة ، وفرقت أي خافت. (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) لزيادة المؤمن به ، أو لاطمئنان النفس ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة ، أو بالعمل بموجبها وهو قول من قال الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية بناء على أن العمل داخل فيه. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون إليه أمورهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه.

٤٩

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، ومحاسن أفعال الجوارح التي هي العيار عليها من الصلاة والصدقة ، و (حَقًّا) صفة مصدر محذوف أو مصدر مؤكد كقوله : «هو عبد الله حقا». (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) كرامة وعلو منزلة. وقيل درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. (وَمَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أعد لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ)(٥)

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال في كراهتهم إياها كحال إخراجك للحرب في كراهتهم له ، وهي كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة. أو صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي الأنفال ثبتت لله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك ، يعني المدينة لأنها مهاجره ومسكنه أو بيته فيها مع كراهتهم. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) في موقع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل عليه‌السلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال ، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا ، وقد رأت قبل ذلك بثلاث عاتكة بنت عبد المطلب أن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت في مكة إلا أصابه شيء منها ، فحدثت بها العباس وبلغ ذلك أبا جهل فقال : ما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة ومضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما في السنة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي ذفران فنزل عليه جبريل عليه‌السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما العير وإما قريش ، فاستشار فيه أصحابه فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنما خرجنا للعير ، فردد عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقالا فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض فيه فو الله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال مقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «أشيروا عليّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار لأنهم كانوا عددهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم ، فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا ، وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله تعالى ، فنشطه قوله ثم قال : «سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم». وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له : عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له «لم» فقال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله.

٥٠

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٦)

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه. (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) لهم أنهم ينصرون أينما توجهوا بإعلام الرسول عليه الصلاة والسلام. (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان ، وفيه إيماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨)

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) على إضمار اذكر ، وإحدى ثاني مفعولي (يَعِدُكُمُ) وقد أبدل منها. (أَنَّها لَكُمْ) بدل الاشتمال. (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) يعني العير فإنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ولذلك يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم ، وعددهم والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك. (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يثبته ويعليه. (بِكَلِماتِهِ) الموحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالإمداد ، وقرئ «بكلمته». (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) ويستأصلهم ، والمعنى : أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها ، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين.

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي فعل ما فعل وليس بتكرير ، لأن الأول لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصره عليها. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) أو متعلق بقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَ) ، أو على إضمار اذكر ، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه‌السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول. (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده ، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين ، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه. وقرأ نافع ويعقوب (مُرْدِفِينَ) بفتح الدال أي متبعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم. وقرئ «مردفين» بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع. وقرئ «بآلاف» ليوافق ما في سورة «آل عمران» ، ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة ، أو وجوههم وأعيانهم ، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الإمداد (إِلَّا بُشْرى) إلا بشارة لكم بالنصر. (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيزول ما بها

٥١

من الوجل لقلتكم وذلتكم. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوهما وسائط لا تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ)(١١)

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) بدل ثان من (إِذْ يَعِدُكُمُ) لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل ، أو بجعل أو بإضمار اذكر. وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم النعاس» بالرفع. (أَمَنَةً مِنْهُ) أمنا من الله ، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) متضمن معنى تنعسون ، و «يغشاكم» بمعناه ، وال (أَمَنَةً) فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي ، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه ، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاهم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :

بهاب النّوم ان يغشى عيونا

تهابك فهو نفّار شرود

وقرئ «أمنة» كرحمة وهي لغة. (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الحدث والجنابة. (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) يعني الجنابة لأنها من تخييله ، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش. روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف تنصرون ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله ، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة.

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بالوثوق على لطف الله بهم. (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(١٢)

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) بدل ثالث أو متعلق بيثبت. (إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) في إعانتهم وتثبيتهم وهو مفعول (يُوحِي). وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه. (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبشارة أو بتكثير سوادهم ، أو بمحاربة أعدائهم فيكون قوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) كالتفسير لقوله (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا) ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا ومن منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين إما على تغيير الخطاب أو على أن قوله : (سَأُلْقِي) إلى قوله : (كُلَّ بَنانٍ) تلقين للملائكة ما يثبتون المؤمنين به كأنه قال : قولوا لهم قولي هذا. (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) أعاليها التي هي المذابح أو الرؤوس. (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أصابع أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(١٤)

(ذلِكَ) إشارة إلى الضرب أو الأمر به والخطاب للرسول ، أو لكل أحد من المخاطبين قبل. (بِأَنَّهُمْ

٥٢

شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بسبب مشاقتهم لهما واشتقاقه من الشق لأن كلّا من المتعادين في شق خلاف شق الآخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تقرير للتعليل أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا.

(ذلِكُمْ) الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع أي : الأمر ذلكم أو ذلكم واقع أو نصب يفعل دل عليه. (فَذُوقُوهُ) أو غيره مثل باشروا أو عليكم فتكون الفاء عاطفة. (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) عطف على ذلكم أو نصب على المفعول معه ، والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم في الآخرة. ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أن الكفر سبب العذاب الآجل أو الجمع بينهما. وقرئ وإن بالكسر على الاستئناف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) كثيرا بحيث يرى لكثرتهم كأنهم يزحفون ، وهو مصدر زحف الصبي إذا دب على مقعده قليلا قليلا ، سمي به وجمع على زحوف وانتصابه على الحال. (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) بالانهزام فضلا أن يكونوا مثلكم أو أقل منكم ، والأظهر أنها محكمة مخصوصة بقوله : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) الآية ، ويجوز أن ينتصب زحفا حالا من الفاعل والمفعول أي : إذا لقيتموهم متزاحفين يدبون إليكم وتدبون إليهم فلا تنهزموا ، أو من الفاعل وحده ويكون إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إثنا عشر ألفا.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو ، فإنه من مكايد الحرب. (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم ، ومنهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففروا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون فقال : «بل أنتم العكارون وأنا فئتكم». وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الحال وإلا لغو لا عمل لها ، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرفا أو متحيزا ، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز. (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية ، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)(١٨)

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بقوتكم. (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. روي : أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه‌السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال «شاهت الوجوه» ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت. والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله

٥٣

قتلهم. (وَما رَمَيْتَ) يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه. (إِذْ رَمَيْتَ) أي إذ أتيت بصورة الرمي. (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه. وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم. وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات. أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (وَلكِنَ) بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغاثتهم ودعائهم. (عَلِيمٌ) بنياتهم وأحوالهم.

(ذلِكُمْ) إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل أو الرمي ، ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله: (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (مُوهِنُ) بالتشديد ، وحفص (مُوهِنُ كَيْدِ) بالإضافة والتخفيف.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٩)

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين. (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر ومعاداة الرسول (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين. (وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته. (نَعُدْ) لنصرته عليكم. (وَلَنْ تُغْنِيَ) ولن تدفع. (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) جماعتكم. (شَيْئاً) من الإغناء أو المضار. (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم. (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والمعونة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص (وَإِنْ) بالفتح على تقدير ولأن الله مع المؤمنين كان ذلك. وقيل الآية خطاب للمؤمنين والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدو ، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فإنه مع الكاملين في إيمانهم ويؤيد ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(٢١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي ولا تتولوا عن الرسول ، فإن المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه ، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة. (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) كالكفرة والمنافقين الذين ادعوا السماع. (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماعا ينتفعون به فكأنهم لا يسمعون رأسا.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٣)

٥٤

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) شر ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم. (الصُّمُ) عن الحق. (الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) إياه ، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) سعادة كتبت لهم أو انتفاعا بالآيات. (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم. (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) وقد علم أن لا خير فيهم. (لَتَوَلَّوْا) ولم ينتفعوا به ، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لعنادهم. وقيل كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك. والمعنى لأسمعهم كلام قصي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) بالطاعة. (إِذا دَعاكُمْ) وحد الضمير فيه لما سبق ولأن دعوة الله تسمع من الرسول. وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : «ألم تخبر فيما أوحي إلي» (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ). واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا إجابة. وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول. (لِما يُحْيِيكُمْ) من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته. قال :

لا تعجبنّ الجهول حلّته

فذاك ميت وثوبه كفن

أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى اخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته. وقرئ بين المرّ بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه. (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجازيكم بأعمالكم.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥)

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) اتقوا ذنبا يعمكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم والمداهنة في الأمر بالمعروف وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن إما جواب الأمر على معنى أن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة بل تعمكم ، وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) وأما صفة ل (فِتْنَةً) ، ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم ، أو لنهي على إرادة القول كقوله :

حتى إذا جن الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

وإما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلفا في المعنى ، ويحتمل أن يكون نهيا بعد الأمر باتقاء الذنب عن التعرض للظلم فإن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ، ومن في منكم على الوجوه

٥٥

الأول للتبعيض وعلى الأخيرين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظلم منكم أقبح من غيركم. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢٦)

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أرض مكة يستضعفكم قريش ، والخطاب للمهاجرين. وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم. (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعا معادين لهم مضادين لهم. (فَآواكُمْ) إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم. (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) على الكفار أو بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم بدر. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بتعطيل الفرائض والسنن ، أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون ، أو بالغلول في المغانم. وروي : (أنه عليه الصلاة والسلام حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوه الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء بأرض الشام ، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم ، فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد بن معاذ ، فأشار إلى حلقه أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله ، فنزلت. فشد نفسه على سارية في المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه فقيل له : قد تيب عليك فحل نفسك فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي فقال عليه الصلاة والسلام يجزيك الثلث أن تتصدق به). وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام ، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه. (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) فيما بينكم وهو مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم تخونون ، أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب ، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة. (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر رضا الله عليهم وراعى حدوده فيهم ، فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجا من الشبهات ، أو نجاة عما تحذرون في الدارين ، أو ظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي

٥٦

الصبح. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ويسترها. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بالتجاوز والعفو عنكم. وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر. وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٣٠)

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تذكار لما مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه. من مكرهم واستيلائه عليهم ، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك. (لِيُثْبِتُوكَ) بالوثاق أو الحبس ، أو الإثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح ، وقرئ (لِيُثْبِتُوكَ) بالتشديد و «ليبيتوك» من البيات و «ليقيدوك». (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بسيوفهم. (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة ، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا فقال أبو البحتري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت ، فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم ، فقال هشام بن عمرو رأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع ، فقال بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم ، فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه. فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه ، فأتى جبريل النبي عليهما‌السلام وأخبره الخبر وأمره بالهجرة ، فبيت عليا رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) برد مكرهم عليهم ، أو بمجازاتهم عليه ، أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره ، وإسناد أمثال هذا مما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) هو قول النضر بن الحرث ، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم فإنه كان قاصهم ، أو قول الذين ائتمروا في أمره عليه‌السلام وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاءوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في باب البيان. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ما سطره الأولون من القصص.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هذا أيضا من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود. روي أنه لما قال النضر إن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك إنه كلام الله» فقال ذلك. والمعنى إن كان هذا القرآن حقا منزلا فأمطر الحجارة علينا عقوبة على

٥٧

إنكاره ، أو ائتنا بعذاب أليم سواه ، والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلا. وقرئ «الحق» بالرفع على أن (هُوَ) مبتدأ غير فصل ، وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تنزيله لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل كأساطير الأولين.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٣٤)

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) بيان لما كان الموجب لإمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته غير مستقيم في قضائه ، والمراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين ، أو قولهم اللهم غفرانك ، أو فرضه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون. (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وحالهم ذلك ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية. (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) مستحقين ولاية أمره مع شركهم ، وهو رد لما كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء. (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره ، وقيل الضميران لله. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن لا ولاية لهم عليه كأنه نبه بالأكثر أن منهم من يعلم ويعاند ، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٣٥)

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ) أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة ، أو ما يضعون موضعها. (إِلَّا مُكاءً) صفيرا فعال من مكا يمكو إذا صفر. وقرئ بالقصر كالبكا. (وَتَصْدِيَةً) تصفيقا تفعله من الصدا ، أو من الصد على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء. وقرئ «صلاتهم» بالنصب على أنه الخبر المقدم ، ومساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته. روي : أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضا. (فَذُوقُوا الْعَذابَ) يعني القتل والأسر يوم بدر ، وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل أن تكون للعهد والمعهود : (ائْتِنا بِعَذابٍ). (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) اعتقادا وعملا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)(٣٦)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية. أو في أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش

٥٨

ببدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا ففعلوا ، والمراد ب (سَبِيلِ اللهِ) دينه واتباع رسوله. (فَسَيُنْفِقُونَها) بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر ، والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد ، ويحتمل أن يراد بهما واحد على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وإنه لم يقع بعد. (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) ندما وغما لفواتها من غير مقصود جعل ذاتها تصير حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة. (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم. (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) يساقون.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)(٣٨)

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) الكافر من المؤمن ، أو الفساد من الصلاح. واللام متعلقة ب (يُحْشَرُونَ) أو (يُغْلَبُونَ) أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أنفقه المسلمون في نصرته ، واللام متعلقة بقوله (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (لِيَمِيزَ) من التمييز وهو أبلغ من الميز. (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم ، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كمال الكانزين. (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) كله. (أُولئِكَ) إشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين. (هُمُ الْخاسِرُونَ) الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أبا سفيان وأصحابه والمعنى قل لأجلهم. (إِنْ يَنْتَهُوا) عن معاداة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدخول في الإسلام. (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من ذنوبهم ، وقرئ بالتاء والكاف على أنه خاطبهم و «يغفر» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى قتاله. (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٤٠)

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) لا يوجد فيهم شرك. (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) وتضمحل عنهم الأديان الباطلة. (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر. (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم. وعن يعقوب «تعملون» بالتاء على معنى فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير ، فيجازيكم ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبب.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) ولم ينتهوا. (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم. (نِعْمَ الْمَوْلى) لا يضيع من تولاه. (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لا يغلب من نصره.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ

٥٩

شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤١)

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا. (مِنْ شَيْءٍ) مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط. (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه. وقرئ «فإن» بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ). وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به. وحكمه بعده ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما. وقيل إلى الإمام. وقيل إلى الأصناف الأربعة. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية. وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي (أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة). وقيل سهم الله لبيت المال. وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وشبك بين أصابعه». وقيل بنو هاشم وحدهم. وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء. وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم بن السبيل. وقيل الخمس كله لهم والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص. والآية نزلت ببدر. وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) متعلق بمحذوف دل عليه (وَاعْلَمُوا) أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل. (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات والملائكة والنصر. وقرئ عبدنا بضمتين أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) المسلمون والكافرون. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٤٢)

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بدل من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) ، والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها ، والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب. (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) البعدى من المدينة ، تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالا من القصيا. (وَالرَّكْبُ) أي العير أو قوادها. (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل ، وهو منصوب على الظرف واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله ، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم ، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة ، وكذا ذكر

٦٠