أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

بُيُوتاً) وقرئ «تنحتون» بالفتح وتنحاتون بالإشباع ، وانتصاب (بُيُوتاً) على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتا من الجبال ، أو تنحتون بمعنى تتخذون (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي عن الإيمان. (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي للذين استضعفوهم واستذلوهم. (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين. وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو. (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قالوه على الاستهزاء. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيها على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذوي رأي ، وإنما الكلام فيمن آمن به ومن كفر فلذلك قال :

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٧٧)

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) على وجه المقابلة ، ووضعوا (آمَنْتُمْ بِهِ) موضع (أُرْسِلَ بِهِ) ردا لما جعلوه معلوما مسلما.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) فنحروها. أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة ، أو لأنه كان برضاهم. (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) واستكبروا عن امتثاله ، وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة والسلام بقوله : (فَذَرُوها). (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)(٧٩)

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) خامدين ميتين. روي : أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا ، وعمروا أعمارا طوالا لا تفي بها الأبنية ، فنحتوا البيوت من الجبال ، وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحا من أشرافهم فأنذرهم ، فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع ، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال : له أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك ، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا : نعم ، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع في جماعة ، ومنع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم ، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم ، فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه ، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره ، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار ، فعقروها واقتسموا لحمها ، فرقى سقبها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ، ثم يصبحكم العذاب ، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين ، ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.

٢١

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل قليب بدر وقال : «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا». أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)(٨١)

(وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وقت قوله لهم أو واذكر لوطا وإذ بدل منه. (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ما فعلها قبلكم أحد قط. والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق ، والثانية للتبعيض. والجملة استئناف مقرر للإنكار كأنه وبخهم أولا بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) بيان لقوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وهو أبلغ في الإنكار والتوبيخ ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على الإخبار المستأنف ، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة ، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع ، لا قضاء الوطر. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإسراف في كل شيء ، أو عن الإنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم ، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(٨٤)

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي ما جاءوا بما يكون جوابا عن كلامه ، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي من الفواحش.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي من آمن به. (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر. (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي نوعا من المطر عجيبا وهو مبين بقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ). (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) روي : أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه‌السلام إلى الشام نزل بالأردن ، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة ، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا. وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨٥)

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إليهم ، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل

٢٢

ابن يسجر بن مدين ، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي ، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها ، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة ، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه‌السلام أو إرهاصا لنبوته. (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي آلة الكيل على الإضمار ، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله : (وَالْمِيزانَ) كما قال في سورة «هود» (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أو الكيل ووزن الميزان ، ويجوز أن يكون الميزان مصدرا كالميعاد. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ولا تنقصوهم حقوقهم ، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل كانوا مكاسبين لا يدعون شيئا إلا مكسوة. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والحيف. (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعد ما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع ، أو أصلحوا فيها والإضافة إليها كالإضافة في (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه ، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٧)

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) بكل طريق من طرق الدين كالشيطان ، وصراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام ، وكانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شيء منها منعوه. وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق. (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بيانا لكل صراط ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه أو الإيمان بالله. (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي بالله ، أو بكل صراط على الأول ، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا. (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) وتطلبون لسبيل الله عوجا بإلقاء الشبه ، أو وصفها للناس بأنها معوجة. (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) عددكم أو عددكم. (فَكَثَّرَكُمْ) بالبركة في النسل أو المال. (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم.

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا) فتربصوا. (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)

٢٣

أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر ، وشعيب عليه الصلاة والسلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقا ، لكن غلبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم ، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله. (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها ، أو أتعيدوننا في حال كراهتنا.

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً) قد اختلقنا عليه. (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) شرط جوابه محذوف دليله : (قَدِ افْتَرَيْنا) وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة ، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا ، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق. وقيل إنه جواب قسم وتقديره : والله لقد افترينا. (وَما يَكُونُ لَنا) وما يصح لنا. (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) خذلاننا وارتدادنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله. وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم. (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار. (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) احكم بيننا وبينهم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة. أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) على المعنيين.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٩١)

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) وتركتم دينكم. (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لاستبدالكم ضلالته بهداكم ، أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة وفي سورة «الحجر» (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ولعلها كانت من مباديها. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي في مدينتهم.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)(٩٣)

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مبتدأ خبره (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغني المنزل. (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) دينا ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا ، فإنهم الرابحون في الدارين. وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف بالجملتين وأتى بهما اسميتين.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) قاله تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم ، أو قاله اعتذارا عن عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح والإشفاق فلم تصدقوا قولي ، فكيف آسى عليكم. وقرئ «فكيف أيسي» بإمالتين.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا

٢٤

مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩٥)

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) بالبؤس والضر. (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) حتى يتضرعوا ويتذللوا.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة والسعة ابتلاء لهم بالأمرين. (حَتَّى عَفَوْا) كثروا عددا وعددا يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء اللحى. (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كفرانا لنعمة الله ونسيانا لذكره واعتقادا بأنه من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا. (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فجأة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنزول العذاب.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ)(٩٧)

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) يعني القرى المدلول عليها بقوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) وقيل مكة وما حولها. (آمَنُوا وَاتَّقَوْا) مكان كفرهم وعصيانهم. (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات. وقرأ ابن عامر (لَفَتَحْنا) بالتشديد. (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل. (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) عطف على قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وما بينهما اعتراض والمعنى : أبعد ذلك أمن أهل القرى. (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) تبييتا أو وقت بيات أو مبيتا أو مبيتين ، وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم. (وَهُمْ نائِمُونَ) حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا.

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(٩٩)

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أو بالسكون على الترديد. (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) ضحوة النهار ، وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يلهون من فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم.

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) و (مَكْرَ اللهِ) استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب. (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم ، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين. (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولا. (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) عطف على ما دل عليه ، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ، ولا يجوز عطفه على أصبناهم على

٢٥

أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لو لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واعتبار.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(١٠٢)

(تِلْكَ الْقُرى) يعني قرى الأمم المار ذكرهم. (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) حال إن جعل (الْقُرى) خبرا وتكون إفادته بالتقييد بها ، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين و (مِنْ) للتبعيض أي نقص بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لا نقصها. (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند مجيئهم بها. (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل ، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر. (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) لأكثر الناس ، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين. (مِنْ عَهْدٍ) من وفاء عهد ، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج ، أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضر ومخافة مثل (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ) أي علمناهم. (لَفاسِقِينَ) من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة ، وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما ، وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٠٥)

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) الضمير للرسل في قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) أو للأمم. (بِآياتِنا) يعني المعجزات. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) بأن كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ، ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا. وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس وكان اسمه قابوس ، وقيل الوليد بن مصعب بن الريان. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليك ، وقوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة ، وإنما لم يذكر لدلالة قوله (فَظَلَمُوا بِها) عليه وكان أصله (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ) كما قرأ نافع فقلب لأمن الإلباس كقوله : وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر. أو لأن ما لزمك فقد لزمته ، أو للإغراق في الوصف بالصدق ، والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقا به ، أو ضمن حقيق معنى حريص ، أو وضع على مكان الباء لإفادة التمكن كقولهم : رميت على القوس وجئت على حال حسنة ، ويؤيده قراءة أبي بالباء. وقرئ «حقيق أن لا أقول» بدون على. (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم ، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال.

٢٦

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ(١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(١٠٨)

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) من عند من أرسلك. (فَأْتِ بِها) فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الدعوى.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة. روي : أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر. ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، وصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا.

(وَنَزَعَ يَدَهُ) من جيبه أو من تحت إبطه. (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي بيضاء بياضا خارجا عن العادة تجتمع عليها النظارة ، أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها. روي : أنه عليه‌السلام كان آدم شديد الأدمة ، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم نزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)(١١٢)

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قيل قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره ، فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا.

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) تشيرون في أن نفعل.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ).

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون ، والإرجاء التأخير أي أخر أمره ، وأصله أرجئه كما قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب من أرجأت ، وكذلك «أرجئهوه» على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير ، أو أرجهي من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي ، وأما قراءته في رواية قالون (أَرْجِهْ) بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها ، وأما قراءة حمزة وعاصم وحفص (أَرْجِهْ) بسكون الهاء فلتشبيه المنفصل بالمتصل وجعل (أَرْجِهْ) كإبل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها. وقرأ حمزة والكسائي «بكل سحار» فيه وفي «يونس» ويؤيده اتفاقهم عليه في «الشعراء».

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(١١٤)

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم. (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) استأنف به كأنه جواب سائل قال : ما قالوا إذ جاءوا؟ وقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) على الإخبار وإيجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر ، والتنكير للتعظيم.

(قالَ نَعَمْ) إن لكم لأجرا. (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عطف على ما سد مسده (نَعَمْ) وزيادة على

٢٧

الجواب لتحريضهم.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(١١٦)

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهارا للجلادة ، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك :

(قالَ بَلْ أَلْقُوا) كرما وتسامحا ، أو ازدراء بهم ووثوقا على شأنه. (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا رهبتهم. (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) في فنه. روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنها حيات ملأت الوادي ، وركب بعضها بعضا.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ)(١١٩)

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فصارت حية. (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي ما يزورونه من الإفك ، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه ، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول. روي : أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ، ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقال السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا.

وقرأ حفص عن عاصم (تَلْقَفُ) هاهنا وفي «طه» و «الشعراء».

(فَوَقَعَ الْحَقُ) فثبت لظهور أمره. (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من السحر والمعارضة.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي صاروا أذلاء مبهوتين ، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين ، والضمير لفرعون وقومه.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢)

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) جعلهم ملقين على وجوههم تنبيها على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك ، أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه ، أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

(رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٢٤)

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) بالله أو بموسى ، والاستفهام فيه للإنكار. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل. وقرأ حفص (آمَنْتُمْ بِهِ) على الإخبار ، وقرأ قنبل (قالَ فِرْعَوْنُ) ، و «آمنتم» يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة ويمد بعدها مدة في تقدير ألفين وقرأ في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير

٢٨

ألفين ، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى. (فِي الْمَدِينَةِ) في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد. (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) يعني القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ما فعلتم ، وهو تهديد مجمل تفصيله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) من كل شق طرفا. (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم. قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه الله للقطاع تعظيما لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله ، ولكن على التعاقب لفرط رحمته.

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)(١٢٦)

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك ، أو إنا منقلبون إلى ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك ، كأنهم استطابوه شغفا على لقاء الله ، أو مصيرنا ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا) وما تنكر منا. (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك ، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء ، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون. (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ثابتين على الإسلام. قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به. وقيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ)(١٢٧)

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك. (وَيَذَرَكَ) عطف على يفسدوا ، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة :

ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء

على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك. وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال. وقرئ بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) ، (وَآلِهَتَكَ) معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب. وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقرئ «إلا هتك» أي عبادتك. (قالَ) فرعون (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن كثير ونافع (سَنُقَتِّلُ) بالتخفيف. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا.

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٢٩)

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكينا لهم (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في الأمر. (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)

٢٩

وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له. وقرئ «والعاقبة» بالنصب عطف على اسم إن واللام في (الْأَرْضَ) تحتمل العهد والجنس.

(قالُوا) أي بنو إسرائيل. (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) بالرسالة بقتل الأبناء (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) بإعادته. (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) تصريحا بما كنى عنه أولا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. وقد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه‌السلام (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣١)

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) بالجدوب لقلة الأمطار والمياه ، والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به ، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا. (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) بكثرة العاهات. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا ، أو ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده.

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) من الخصب والسعة. (قالُوا لَنا هذِهِ) لأجلنا ونحن مستحقوها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) جدب وبلاء. (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) يتشاءموا بهم ويقولوا : ما أصابتنا إلا بشؤمهم ، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة ، فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوا وانهماكا في الغي ، وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها ، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات ، ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد لها إلا بالتبع. (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومشيئته ، أو سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. وقرئ «إنما طيرهم» وهو اسم الجمع وقيل هو جمع. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)(١٣٣)

(وَقالُوا مَهْما) أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد ، ثم قلبت ألفها هاء استثقالا للتكرير. وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره. (تَأْتِنا بِهِ) أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به. (مِنْ آيَةٍ) بيان لمهما ، وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا : (لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا ، والضمير في به وبها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنثه بعده باعتبار المعنى.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل. وقيل الجدري ، وقيل الموتان وقيل الطاعون. (وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ) قيل هو كبار القردان ، وقيل أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. (وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) روي : أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته ، ودخل

٣٠

الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة ، وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها ، ودام ذلك عليهم أسبوعا فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ، فدعا فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا ، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم وثمارهم ، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانيا فدعا وخرج إلى الصحراء ، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا ، فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم فيمصها ، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه ، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي ، وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه وتضرعوا ، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود ، ثم أرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دما حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على إناء فيكون ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي ماء ، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دما في فيه. وقيل سلط الله عليهم الرعاف. (آياتٍ) نصب على الحال. (مُفَصَّلاتٍ) مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم ، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعا ، وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان. (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)(١٣٥)

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) يعني العذاب المفصل ، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك. (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) بعهده عندك وهو النبوة ، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك ، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عندك ، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون ، وهو وقت الغرق أو الموت. وقيل إلى أجل عينوه لإيمانهم. (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف فيه.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)(١٣٧)

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فأردنا الانتقام منهم. (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل لجته. (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها. وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله : (فَانْتَقَمْنا).

٣١

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بالاستعباد وذبح الأبناء من مستضعفيهم. (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها. (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالخصب وسعة العيش. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ومضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) إلى قوله : (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) وقرئ «كلمات ربك» لتعدد المواعيد (بِما صَبَرُوا) بسبب صبرهم على الشدائد. (وَدَمَّرْنا) وخربنا. (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من القصور والعمارات. (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي «النحل» (يَعْرِشُونَ) بالضم. وهذا آخر قصة فرعون وقومه.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(١٣٨)

وقوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) وما بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن منّ الله عليهم بالنعم الجسام ، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما رأى منهم ، وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. روي : أن موسى عليه‌السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا. (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ) فمروا عليهم. (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) يقيمون على عبادتها ، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل ، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. وقيل من لخم ، وقرأ حمزة والكسائي (يَعْكُفُونَ) بالكسر. (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) مثالا نعبده. (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) يعبدونها ، وما كافة للكاف. (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل.

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(١٤٠)

(إِنَّ هؤُلاءِ) إشارة إلى القوم. (مُتَبَّرٌ) مكسر مدمر. (ما هُمْ فِيهِ) يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضا (وَباطِلٌ) مضمحل. (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى ، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع (هؤُلاءِ) اسم (إِنَ) والإخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان ، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لإن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة ، وأن الإحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا.

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) أطلب لكم معبودا. (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم ، وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلا بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(١٤٢)

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت. وقرأ ابن عامر «أنجاكم». (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) استئناف لبيان ما أنجاهم منه ، أو حال من المخاطبين ، أو من آل فرعون أو منهما.

٣٢

(يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) بدل منه مبين. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) وفي الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ذا القعدة ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ووعدنا». (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) من ذي الحجة. (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) بالغا أربعين. روي : أنه عليه‌السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرا. وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها. (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) كن خليفتي فيهم. (وَأَصْلِحْ) ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا. (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ولا تتبع من سلك الإفساد ولا تطع من دعاك إليه.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(١٤٣)

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) لوقتنا الذي وقتناه ، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير وسيط كما يكلم الملائكة ، وفيما روي : أن موسى عليه‌السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين. (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك ، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك. وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليّ ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا وأن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية. (قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه ، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن ، والجبل قيل هو جبل زبير. (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره. وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه. (جَعَلَهُ دَكًّا) مدكوكا مفتتا والدك والدق أخوان كالشك والشق ، وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» أي أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها. وقرئ (دَكًّا) أي قطعا جمع دكاء. (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) مغشيا عليه من هول ما رأى. (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ) تعظيما لما رأى. (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) من الجراءة والإقدام على السؤال من غير إذن. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) مر تفسيره. وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ)(١٤٥)

٣٣

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) اخترتك. (عَلَى النَّاسِ) أي الموجودين في زمانك ، وهارون وإن كان نبيا كان مأمورا باتباعه ولم يكن كليما ولا صاحب شرع. (بِرِسالاتِي) يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع «برسالتي». (وَبِكَلامِي) وبتكليمي إياك. (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أعطيتك من الرسالة. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على النعمة فيه. روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة ، وإعطاء التوراة كان يوم النحر.

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاجون إليه من أمر الدين. (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) بدل من الجار والمجرور ، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام. واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة ، وكانت من زمرد أو زبرجد ، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها. (فَخُذْها) على إضمار القول عطفا على كتبنا أو بدل من قوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات. (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة. (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار ، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره ، ويجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة ، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء. (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها ، أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا ، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم. وقرئ «سأوريكم» بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند و «سأورثكم» ، ويؤيده قوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ).

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤٧)

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) المنصوبة في الآفاق والأنفس. (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقيل سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بأعلائها أو بإهلاكهم. (بِغَيْرِ الْحَقِ) صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل ، أو حال من فاعله. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) منزلة أو معجزة. (لا يُؤْمِنُوا بِها) لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول. (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لاستيلاء الشيطنة عليهم. وقرأ حمزة والكسائي (الرُّشْدِ) بفتحتين وقرئ «الرشاد» وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام ، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات ، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي ولقائهم الدار الآخرة ، أو ما وعد الله في الدار الآخرة. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لا ينتفعون بها. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا جزاء أعمالهم.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١٤٩)

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) من بعد ذهابه للميقات. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروا من القبط حين هموا

٣٤

بالخروج من مصر ، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم. وهو جمع حلي كثدي وثدي. وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإفراد. (عِجْلاً جَسَداً) بدنا ذا لحم ودم ، أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه على البدل. (لَهُ خُوارٌ) صوت البقر. روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حيا. وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت ، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلها. وقرئ «جوار» أي صياح. (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر. (اتَّخَذُوهُ) تكرير للذم أي اتخذوه إلها. (وَكانُوا ظالِمِينَ) واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها. وقرئ «سقط» على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها. وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم. (وَرَأَوْا) وعلموا. (أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) باتخاذ العجل. (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) بإنزال التوراة. (وَيَغْفِرْ لَنا) بالتجاوز عن الخطيئة. (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقرأهما حمزة والكسائي بالتاء و (رَبُّنا) على النداء.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(١٥١)

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) شديد الغضب وقيل حزينا. (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل ، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه ، وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي ، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أتركتموه غير تام ، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدي تعديته ، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين. روي : أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام. (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) بشعر رأسه. (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) توهما بأنه قصر في كفهم ، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولا لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل. (قالَ ابْنَ أُمَ) ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي «طه» «يا ابن أم» بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء ، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيها بخمسة عشر. (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) إزاحة لتوهم التقصير في حقه ، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي. (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله. (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) معدودا في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) بما صنعت بأخي. (وَلِأَخِي) إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار

٣٥

ترضية له ودفعا للشماتة عنه. (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) بمزيد الإنعام علينا. (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٥٣)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم. (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهي خروجهم من ديارهم. وقيل الجزية. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم وإله موسى ، ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الكفر والمعاصي. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) من بعد السيئات. (وَآمَنُوا) واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة. (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل ، وكثر كجرائم بني إسرائيل.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(١٥٤)

(وَلَمَّا سَكَتَ) سكن وقد قرئ به. (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) باعتذار هارون ، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت. وقرئ «سكت» و «أسكت» على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها. (وَفِي نُسْخَتِها) وفيما نسخ فيها أي كتب ، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة. (هُدىً) بيان للحق. (وَرَحْمَةٌ) إرشاد إلى الصلاح والخير. (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير ، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ)(١٥٥)

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال : ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال : إن لمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين ، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا ، فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فأخذتهم الرجفة أي الصاعقة ، أو رجفة الجبل فصعقوا منها. (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) تمنى هلاكهم وهلاكه ، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر ، أو عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالانقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك. (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) من العناد والتجاسر على طلب الرؤية ، وكان ذلك قاله بعضهم. وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل ، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم

٣٦

هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم ، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم. (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية ، أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به. (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل. (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) هداه فيقوى بها إيمانه. (أَنْتَ وَلِيُّنا) القائم بأمرنا. (فَاغْفِرْ لَنا) بمغفرة ما قارفنا. (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)(١٥٦)

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) حسن معيشة وتوفيق طاعة. (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة. (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع. وقرئ بالكسر من هاد يهيده إذا أماله ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك ، ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض. (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) تعذيبه. (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره. (فَسَأَكْتُبُها) فسأثبتها في الآخرة ، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل.

(لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم. (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) فلا يكفرون بشيء منها.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٥٧)

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ) مبتدأ خبره يأمرهم ، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين ، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل ، والمراد من آمن منهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة إلى العباد. (الْأُمِّيَ) الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) اسما وصفة. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) مما حرم عليهم كالشحوم. (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة. (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة ، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله. وقرأ ابن عامر «آصارهم». (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) وعظموه بالتقوية. وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير. (وَنَصَرُوهُ) لي. (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي مع نبوته يعني القرآن ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره ، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ، ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة. (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالرحمة الأبدية ، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

٣٧

تَهْتَدُونَ) (١٥٨)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) الخطاب عام ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى كافة الثقلين ، وسائر الرسل إلى أقوامهم. (جَمِيعاً) حال من إليكم. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه ، أو مدح منصوب أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهو على الوجوه. الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإله لا غيره وفي : (يُحيِي وَيُمِيتُ) مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن ، أو عيسى تعريضا لليهود وتنبيها على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه ، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له. (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١٦٠)

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) يعنى من بني إسرائيل. (أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق. (وَبِهِ) بالحق. (يَعْدِلُونَ) بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه ، أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. وقيل مؤمنو أهل الكتاب. وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج فآمنوا به. (وَقَطَّعْناهُمُ) وصيرناهم قطعا متميزا بعضهم عن بعض. (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير ، أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة. (أَسْباطاً) بدل منه ولذلك جمع ، أو تمييز له على أن كل واحدة من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل : اثنتي عشرة قبيلة. وقرئ بكسر الشين وإسكانها. (أُمَماً) على الأول بدل بعد بدل ، أو نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) في التيه. (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ) أي فضرب فانبجست وحذفه للإيماء على أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتوقف في الامتثال ، وأن ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الفعل في ذاته (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) كل سبط. (مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) ليقيهم حر الشمس. (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا) أي وقلنا لهم كلوا. (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) سبق تفسيره في سورة «البقرة».

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)(١٦٢)

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بإضمار اذكر والقرية بيت المقدس. (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) مثل ما في سورة «البقرة» معنى غير أن قوله (فَكُلُوا) فيها بالفاء أفاد تسبب

٣٨

سكناهم للأكل منها ، ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة ، أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة بينهما. (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة ، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول ، و (خَطِيئاتِكُمْ) بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو «خطاياكم».

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) مضى تفسيره فيها.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(١٦٣)

(وَسْئَلْهُمْ) للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم ، والإعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم. (عَنِ الْقَرْيَةِ) عن خبرها وما وقع بأهلها. (الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة منه وهي أيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر ، وقيل مدين ، وقيل طبرية. (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت ، و (إِذْ) ظرف ل (كانَتْ) أو (حاضِرَةَ) أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال. (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) ظرف ل «يعدون» أو بدل بعد بدل. وقرئ «يعدون» وأصله يعتدون ويعدون من الإعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت ، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة. (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة. وقيل اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه ، ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم ، وقوله : (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) وقرئ «لا يسبتون» من أسبت و «لا يسبتون» على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ، و (شُرَّعاً) حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف. (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم. وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت ، والباء متعلق ب (يَعْدُونَ).

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤)

(وَإِذْ قالَتْ) عطف على (إِذْ يَعْدُونَ). (أُمَّةٌ مِنْهُمْ) جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم. (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) مخترمهم. (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة لتماديهم في العصيان ، قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم ، أو سؤالا عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم ، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم وتهكما بهم. (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر إلى الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر. وقرأ حفص (مَعْذِرَةً) بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١٦٦)

(فَلَمَّا نَسُوا) تركوا ترك الناسي. (ما ذُكِّرُوا بِهِ) ما ذكرهم به صلحاؤهم. (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالاعتداء ومخالفة أمر الله. (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤسا إذا

٣٩

اشتد. وقرأ أبو بكر (بَئِيسٍ) على فيعل كضيغم ، وابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمز على أنه بئس كحذر ، كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد ، وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسما ، وقرئ «بيس» كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و «بيس» بالتخفيف كهين و «بائس» كفاعل. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى : (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ). (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) كقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى. روي : أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم ، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق ، فأصبحوا يوما ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا : إن لهم شأنا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم ، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث.

وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(١٦٨)

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإيعاد ، أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله وأجري مجرى فعل القسم ك (عَلِمَ اللهُ) و (شَهِدَ اللهُ). ولذلك أجيب بجوابه وهو : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود. (مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) كالإذلال وضرب الجزية ، بعث الله عليهم بعد سليمان عليه‌السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر. (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) عاقبهم في الدنيا. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب وآمن.

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و (أُمَماً) مفعول ثان أو حال. (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) تقديره ومنهم أناس من دون ذلك أي منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم. (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) بالنعم والنقم. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ينهون فيرجعون عما كانوا عليه.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(١٧٠)

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد المذكورين. (فَخَلَفَ) بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع. وقيل جمع وهو شائع في الشر والخلف بالفتح في الخير والمراد به الذين كانوا في عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة من أسلافهم يقرءونها ويقفون على ما فيها ... (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا ، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في

٤٠