أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

كالصحب والركب ، ويجوز أن يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمغوار صوت على قوم فاستفزهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم. وقرأ حفص (وَرَجِلِكَ) بالكسر وغيره بالضم وهما لغتان كندس وندس ومعناه : وجمعك الرجل. وقرئ «ورجالك» «ورجالك». (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي. (وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم ، والإشراك فيه بتسميته عبد العزيز ، والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة. (وَعِدْهُمْ) المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة لطول الأمل. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) اعتراض لبيان مواعيده الباطلة ، والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٦٥)

(إِنَّ عِبادِي) يعني المخلصين ، وتعظيم الإضافة والتقييد في قوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يخصصهم (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي على إغوائهم قدرة. (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) يتوكلون عليه في الاستعاذة منك على الحقيقة.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)(٦٧)

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي) هو الذي يجري. (لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) الريح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم. (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما تعسر من أسبابه.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) خوف الغرق. (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) ذهب عن خواطركم كل من تدعونه في حوادثكم. (إِلَّا إِيَّاهُ) وحده فإنكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه فلا تدعون لكشفه إلا إياه ، أو ضل كل من تعبدونه عن إغاثتكم إلا الله. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق. (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن التوحيد. وقيل اتسعتم في كفران النعمة كقول ذي الرمة :

عطاء فتى تمكّن في المعالي

فأعرض في المكارم واستطالا

(وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) كالتعليل للإعراض.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً)(٦٨)

(أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض ، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) أن يقلبه الله وأنتم عليه ، أو يقلبه بسببكم فبكم حال أو صلة ليخسف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيه وفي الأربعة التي بعده ، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل كفروا وأعرضوا وأن الجوانب والجهات في قدرته سواء لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك. (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) ريحا تحصب أي ترمي بالحصباء (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) يحفظكم من ذلك فإنه لا راد لفعله.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٦٩)

٢٦١

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) في البحر. (تارَةً أُخْرى) بخلق دواع تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه. (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) لا تمر بشيء إلا قصفته أي كسرته. (فَيُغْرِقَكُمْ) وعن يعقوب بالتاء على إسناده إلى ضمير (الرِّيحِ). (بِما كَفَرْتُمْ) بسبب إشراككم أو كفرانكم نعمة الإنجاء. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) مطالبا يتبعنا بانتصار أو صرف.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٧٠)

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل والإفهام بالنطق والإشارة والخط والتهدي ، أو أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره ابن عباس وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلّا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة ، والمستثنى جنس الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم ، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر ، وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٧١)

(يَوْمَ نَدْعُوا) نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه (وَلا يُظْلَمُونَ) ، وقرئ «يدعو» و «يدعي» و «يدعو» على قلب الألف واوا في لغة من يقول أفعو في أفعى ، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع ، وهو قد يقدر كما في «يدعي». (كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين. وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا ، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال. وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم. وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف ، والحكمة في ذلك ، إجلال عيسى عليه‌السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. (فَمَنْ أُوتِيَ) من المدعوين. (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي كتاب عمله. (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) ابتهاجا وتبجحا بما يرون فيه. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع ، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع على ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة ، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله :

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢)

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أيضا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب ، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة. (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة. وقيل لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار

٢٦٢

من فاقد الحاسة. وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو ويعقوب ، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت ، فإن ألفه واقعة في الطرف لفظا وحكما فكانت معرضة للإمالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية ، وقد أمالهما حمزة والكسائي وأبو بكر ، وقرأ ورش بين بين فيهما.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٧٣)

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا ، وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وأدينا كما حرمت مكة ، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني. وقيل في قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك. وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى : أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال. (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأحكام (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) غير ما أوحينا إليك. (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم بريئا من ولايتي.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(٧٥)

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) ولولا تثبيتنا إياك. (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم ، والمعنى أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون فضلا أن تركن إليهم ، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوة الدواعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.

(إِذاً لَأَذَقْناكَ) أي لو قاربت لأذقناك. (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما نعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر ، وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، ثم أضيفت كما يضاف موصوفها. وقيل الضعف من أسماء العذاب. وقيل المراد ب (ضِعْفَ الْحَياةِ) عذاب الآخرة (وَضِعْفَ الْمَماتِ) عذاب القبر. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع العذاب عنك.

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (٧٧)

(وَإِنْ كادُوا) وإن كاد أهل مكة. (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجوك بمعاداتهم. (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة. (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك. (إِلَّا قَلِيلاً) إلا زمانا قليلا ، وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بسنة. وقيل الآية : نزلت في اليهود حسدوا مقام النبي بالمدينة فقالوا : الشام مقام الأنبياء فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك ، فوقع ذلك في قلبه فخرج مرحلة فنزلت ، فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلي بنو النضير بقليل. وقرئ «لا يلبثوا» منصوبا ب (إِذاً) على أنه معطوف على جملة قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) لا على خبر كاد فإن إذا لا تعمل إذا كان معتمد ما بعدها على ما قبلها وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص (خِلافَكَ) وهو لغة فيه قال الشاعر :

عفت الديار خلافهم فكأنّما

بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا

٢٦٣

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة ، وهو أن يهلك كل أمة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم ، فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه. (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي تغييرا.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨)

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لزوالها ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر». وقيل لغروبها وأصل التركيب للانتقال ومنه الدالك فإن الدالك لا تستقر يده ، وكذا كل ما تركب من الدال واللام : كدلج ودلح ودلع ودلف ودله. وقيل الدلوك من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها ، واللام للتأقيت مثلها في : لثلاث خلون (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) إلى ظلمته وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وصلاة الصبح ، سميت قرآنا لأنه ركنها كما سميت ركوعا وسجودا ، واستدل به على وجوب القراءة فيها ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوز لكونها مندوبة فيها ، نعم لو فسر بالقراءة في صلاة الفجر دل الأمر بإقامتها على الوجوب فيها نصا وفي غيرها قياسا. (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أو شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه أو كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير ، والآية جامعة للصلوات الخمس إن فسر الدلوك بالزوال ولصلوات الليل وحدها إن فسر بالغروب. وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب وقوله (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) بيان لمبدأ الوقت ومنتهاه ، واستدل به على أن الوقت يمتد إلى غروب الشفق.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٧٩)

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) وبعض الليل فاترك الهجود للصلاة والضمير لل (قُرْآنَ). (نافِلَةً لَكَ) فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة ، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه ، وهو مطلق في كل مقام يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة. لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» ولإشعاره بأن الناس يحمدونه لقيامه فيه وما ذاك إلا مقام الشفاعة ، وانتصابه على الظرف بإضمار فعله أي فيقيمك مقاما أو بتضمين (يَبْعَثَكَ) معناه ، أو الحال بمعنى أن يبعثك ذا مقام.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٨١)

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) أي في القبر. (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخالا مرضيا. (وَأَخْرِجْنِي) أي منه عند البعث. (مُخْرَجَ صِدْقٍ) إخراجا ملقى بالكرامة. وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل إدخاله مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديا حقه. وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه. وقرئ «مدخل» و «مخرج» بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولا وأخرجني فأخرج خروجا. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) حجة تنصرني على من خالفني أو ملكا ينصر الإسلام على الكفر ، فاستجاب له بقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ). (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) الإسلام (وَزَهَقَ الْباطِلُ) وذهب وهلك الشرك من زهق روحه إذا خرج. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)

٢٦٤

مضمحلا غير ثابت ، عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح وفيها ثلاثمائة وستون صنما ينكت بمخصرته في عين كل واحد منها فيقول جاء الحق وزهق الباطل ، فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال : يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره).

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً)(٨٢)

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى ، و (مِنَ) للبيان فإن كله كذلك. وقيل إنه للتبعيض والمعنى أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. وقرأ البصريان (نُنَزِّلُ) بالتخفيف. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لتكذيبهم وكفرهم به.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٨٤)

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بالصحة والسعة (أَعْرَضَ) عن ذكر الله. (وَنَأى بِجانِبِهِ) لوى عطفه وبعد بنفسه عنه كأنه مستغن مستبد بأمره ، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان هنا وفي «فصلت» وناء على القلب أو على أنه بمعنى نهض. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر. (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روح الله.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قل كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أسد طريقا وأبين منهجا ، وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(٨٥)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من الإبداعيات الكائنة بكن من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده ، أو وجد بأمره وحدث بتكوينه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه. وقيل مما استأثر الله بعلمه. لما روي : أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة. وقيل الروح جبريل وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن ، ومن أمر ربي معناه من وحيه. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) تستفيدونه بتوسط حواسكم ، فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية. إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ، ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علما. ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئا من أحواله المعروفة لذاته ، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به ، فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب : وما رب العالمين بذكر بعض صفاته. روي : أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك قالوا : أنحن مختصون بهذا الخطاب؟ فقال : بل نحن وأنتم ، فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً). وساعة تقول هذا فنزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) وما قالوه لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده ، وهو بالإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه كثيرا.

٢٦٥

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً)(٨٧)

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اللام الأولى موطئة للقسم و (لَنَذْهَبَنَ) جوابه النائب مناب جزاء الشرط. والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فإنها إن نالتك فلعلها تسترده عليك ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به ، فيكون امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) كإرساله وإنزال الكتاب عليه وإبقائه في حفظه.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)(٨٩)

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى. (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وفيهم العرب العرباء وأرباب البيان وأهل التحقيق ، وهو جواب قسم محذوف دل عليه اللام الموطئة ، ولولا هي لكان جواب الشرط بلا جزم لكون الشرط ماضيا كقول زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

(وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ولو تظاهروا على الإتيان به ، ولعله لم يذكر الملائكة لأن إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزا ، ولأنهم كانوا وسائط في إتيانه ، ويجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله : (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً).

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كررنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان. (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه موقعها في الأنفس. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) إلا جحودا ، وإنما جاز ذلك ولم يجز : ضربت إلا زيدا لأنه متأول بالنفي.

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً)(٩١)

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) تعنتا واقتراحا بعد ما لزمتهم الحجة ببيان إعجاز القرآن وانضمام غيره من المعجزات إليه. وقرأ الكوفيون ويعقوب تفجر بالتخفيف والأرض أرض مكة والينبوع عين لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر.

(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أو يكون لك بستان يشتمل على ذلك.

(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً)(٩٣)

(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) يعنون قوله تعالى : (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) وهو كقطع لفظا ومعنى ، وقد سكنه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب في جميع القرآن إلا في «الروم»

٢٦٦

وابن عامر إلا في هذه السورة ، وأبو بكر ونافع في غيرهما وحفص فيما عدا «الطور» ، وهو إما مخفف من المفتوح كسدرة وسدر أو فعل بمعنى مفعول كالطحن. (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) كفيلا بما تدعيه أي شاهدا على صحته ضامنا لدركه ، أو مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر وهو حال من الله وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها كما حذف الخبر في قوله : فإني وقيّار بها لغريب. أو جماعة فيكون حالا من (الْمَلائِكَةِ).

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) من ذهب وقد قرئ به وأصله الزينة. (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) في معارجها. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) وحده. (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) وكان فيه تصديقك. (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) تعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر : «قال سبحان ربي» أي قال الرسول : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) كسائر الناس. (رَسُولاً) كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم على ما يلائم حال قومهم ، ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى تتخيروها عليّ هذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر في آيات أخر كقوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) ، (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً).

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٩٥)

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق. (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) إلا قولهم هذا ، والمعنى أنه لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا.

(قُلْ) جوابا لشبهتهم. (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) كما يمشي بنو آدم. (مُطْمَئِنِّينَ) ساكنين فيها. (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه ، وأما الإنس فعامتهم عماة عن إدراك الملك والتلقف منه ، فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس ، وملكا يحتمل أن يكون حالا من رسولا وأن يكون موصوفا به وكذلك بشرا والأول أوفق.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(٩٦)

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني رسول الله إليكم بإظهاره المعجزة على وفق دعواي ، أو على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم وشهيدا نصب على الحال أو التمييز. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يعلم أحوالهم الباطنة منها والظاهرة فيجازيهم عليها ، وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد للكفار.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)(٩٨)

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يهدونه. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يسحبون عليها أو يمشون بها. روي (أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم) (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ، لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر وتصاموا عن استماع الحق وأبوا أن ينطقوا بالصدق ، ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى

٢٦٧

النار مؤفي القوى والحواس. (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم. (زِدْناهُمْ سَعِيراً) توقدا بأن نبدل جلودهم ولحومهم فتعود ملتهبة مستعرة ، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء وإليه أشار بقوله :

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) لأن الإشارة إلى ما تقدم من عذابهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)(١٠٠)

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أو لم يعلموا. (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فإنهم ليسوا أشد خلقا منهن ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) هو الموت أو القيامة. (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) مع وضوح الحق. (إِلَّا كُفُوراً) إلا جحودا.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) خزائن رزقه وسائر نعمه ، وأنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده كقول حاتم : لو ذات سوار لطمتني. وفائدة هذا الحذف والتفسير المبالغة مع الإيجاز والدلالة على الاختصاص. (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) لبخلتم مخافة النفاد بالإنفاق إذ لا أحد إلا ويختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود الله تعالى وكرمه هذا وإن البخلاء أغلب فيهم. (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) بخيلا لأن بناء أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض فيما يبذله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً)(١٠١)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل. وقيل الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة. وعن صفوان أن يهوديا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال : أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت ، فقبل اليهودي يده ورجله. فعلى هذا المراد بالآيات الأحكام العامة للملل الثابتة في كل الشرائع ، سميت بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقها في الآخرة من السعادة أو الشقاوة. وقوله وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا ، حكم مستأنف زائد على الجواب ولذلك غير فيه سياق الكلام. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) فقلنا له سلهم من فرعون ليرسلهم معك ، أو سلهم عن حال دينهم ويؤيده قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فسأل» على لفظ المضي بغير همز وهو لغة قريش و (إِذْ) متعلق بقلنا أو سأل على هذه القراءة أو فاسأل يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون إذ جاءهم ، أو عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك أو لتتسلى نفسك ، أو لتعلم أنه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصروا على العناد والمكابرة كمن قبلهم ، أو ليزداد يقينك لأن تظاهر الأدلة يوجب قوة اليقين وطمأنينة القلب وعلى هذا كان (إِذْ) نصبا ب (آتَيْنا) أو بإضمار يخبروك على أنه جواب الأمر ، أو بإضمار اذكر على الاستئناف. (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) سحرت فتخبط عقلك.

٢٦٨

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)(١٠٢)

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون وقرأ الكسائي بالضم على إخباره عن نفسه. (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) يعني الآيات. (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) بينات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وانتصابه على الحال. (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم : ما ثبرك عن هذا ، أي ما صرفك أو هالكا قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون كذب بحت وظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر أماراته. وقرئ «وإن أخالك يا فرعون لمثبورا» على إن المخففة واللام هي الفارقة.

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)(١٠٤)

(فَأَرادَ) فرعون. (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) أن يستخف موسى وقومه وينفيهم. (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مصر أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال. (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) فعكسنا عليه مكره فاستفززناه وقومه بالإغراق.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد فرعون أو إغراقه. (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) التي أراد أن يستفزكم منها. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة. (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم ، واللفيف الجماعات من قبائل شتى.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)(١٠٦)

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله ، وما نزل على الرسول إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه. وقيل وما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين. ولعله أراد به نفي اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع بالثواب. (وَنَذِيراً) للعاصي بالعقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) نزلناه مفرقا منجما. وقيل فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف الجار كما في قوله : ويوما شهدناه ، وقرئ بالتشديد لكثرة نجومه فإنه نزل في تضاعيف عشرين سنة. (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) على مهل وتؤدة فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) على حسب الحوادث.

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً)(١٠٧)

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا وامتناعكم عنه لا يورثه نقصا وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) تعليل له أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة ، وتمكنوا من الميز بين المحق والمبطل ، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب ، ويجوز أن يكون تعليلا ل (قُلْ) على سبيل التسلية كأنه قيل. تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم. (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) القرآن. (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله أو شكرا لإنجاز وعده في تلك الكتب ببعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم على فترة من الرسل وإنزال القرآن عليه.

٢٦٩

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(١٠٩)

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) عن خلف الموعد. (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إنه كان وعده كائنا لا محالة.

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) كرره لاختلاف الحال والسبب فإن الأول للشكر عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله ، وذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد ، واللام فيه لاختصاص الخرور به. (وَيَزِيدُهُمْ) سماع القرآن (خُشُوعاً) كما يزيدهم علما ويقينا بالله.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)(١١٠)

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) نزلت حين سمع المشركون رسول الله يقول : يا الله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إليهن وهو يدعو إلها آخر. أو قالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله في التوراة ، والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما يطلقان على ذات واحدة وإن اختلف اعتبار إطلاقهما ، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود المطلق وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أجود لقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) والدعاء في الآية بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في (أَيًّا) عوض عن المضاف إليه ، و (ما) صلة لتأكيد ما في (أَيًّا) من الإبهام ، والضمير في (فَلَهُ) للمسمى لأن التسمية له لا للاسم ، وكان أصل الكلام (أَيًّا ما تَدْعُوا) فهو حسن ، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) بقراءة صلاتك حتى تسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها. (وَلا تُخافِتْ بِها) حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) بين الجهر والمخافتة. (سَبِيلاً) وسطا فإن الاقتصاد في جميع الأمور محبوب. روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وعمر رضي الله عنه كان يجهر ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا. وقيل معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالإخفات نهارا والجهر ليلا.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) في الألوهية. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) ولي يواليه من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته نفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا واضطرارا ، وما يعاونه ويقويه ، ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه الكامل الذات المنفرد بالإيجاد ، المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة ، أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك.

٢٧٠

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية ، وعنه عليه‌السلام «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين ، كان له قنطار في الجنة» والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

٢٧١

(١٨) سورة الكهف

مكية وقيل إلا قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية

وهي مائة وإحدى عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)(١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) يعني القرآن ، رتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) شيئا من العوج باختلال في اللفظ وتناف في المعنى ، أو انحراف من الدعوة إلى جناب الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان.

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً(٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً)(٣)

(قَيِّماً) مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، أو (قَيِّماً) بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال ، أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها ، وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيما أو على الحال من الضمير في (لَهُ) ، أو من (الْكِتابَ) على أن الواو (وَلَمْ يَجْعَلْ) للحال دون العطف ، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير وقرئ «قيما». (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) أي لينذر الذين كفروا عذابا شديدا ، فحذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة واقتصارا على الغرض المسوق إليه. (مِنْ لَدُنْهُ) صادرا من عنده ، وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء من سبع مع الإشمام ليدل على أصله ، وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) هو الجنة.

(ماكِثِينَ فِيهِ) في الأجر. (أَبَداً) بلا انقطاع.

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(٥)

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) خصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقا بهم استعظاما لكفرهم ، وإنما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدم ذكره.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول ، والمعنى أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب ، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به ، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر. أو بالله إذ لو علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه. (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين تقولوه بمعنى

٢٧٢

التبني. (كَبُرَتْ كَلِمَةً) عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ ، و (كَلِمَةً) نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ وأدل على المقصود. (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم ، والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها. وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبر ها هنا بمعنى بئس وقرئ «كبرت» بالسكون مع الإشمام. (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(٦)

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتلها. (عَلى آثارِهِمْ) إذا ولوا عن الإيمان ، شبهه لما يداخله من الوجد على توليهم بمن فارقته أعزته فهو يتحسر على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم. وقرئ «باخع نفسك» على الإضافة. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) بهذا القرآن. (أَسَفاً) للتأسف عليهم أو متأسفا عليهم ، والأسف فرط الحزن والغضب. وقرئ «أن» بالفتح على لأن فلا يجوز إعمال (باخِعٌ) إلا إذا جعل حكاية حال ماضية.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) من الحيوان والنبات والمعادن. (زِينَةً لَها) ولأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في تعاطيه ، وهو من زهد فيه ولم يغتر به وقنع منه بما يزجي به أيامه وصرفه على ما ينبغي ، وفيه تسكين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) تزهيد فيه ، والجرز الأرض التي قطع نباتها. مأخوذ من الجرز وهو القطع ، والمعنى إنا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض ونجعله كصعيد أملس لا نبات فيه.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)(٩)

(أَمْ حَسِبْتَ) بل أحسبت. (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) في إبقاء حياتهم مدة مديدة. (انُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) وقصتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع الفائتة للحصر على طبائع متباعدة وهيئات متخالفة تعجب الناظرين من مادة واحدة ، ثم ردها إليها ليس بعجيب مع أنه من آيات الله كالنزر الحقير. و (الْكَهْفِ) الغار الواسع في الجبل. و (الرَّقِيمِ) اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم ، أو اسم قريتهم أو كلبهم. قال أمية بن أبي الصلت :

وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا

وصيدهمو والقوم في الكهف هجّد

أو لوح رصاصي أو حجري رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف. وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم ، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدت بابه. فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته ، فقال أحدهم : استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم ، فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت ، ثم مر بي بقر فاشتريت به فصيلة فبلغت ما شاء الله ، فرجع إلي بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : إن لي عندك حقا وذكره لي حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا ، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا ، فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء. وقال آخر : كان فيّ فضل وأصابت الناس شدة ، فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفا فقلت : والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثا ، ثم ذكرت لزوجها فقال أجيبي له وأغيثي عيالك ، فأتت وسلمت إلي نفسها فلما تكشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت : ما لك قالت أخاف الله ،

٢٧٣

فقلت لها : خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها ، اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا ، فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث كان لي أبوان هرمان وكانت لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غني فحبسني ذات يوم غيث فلم أبرح حتى أمسيت ، فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما ، فوجدتهما نائمين فشق علي أن أوقظهما ، فتوقعت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا. ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك نعمان بن بشير.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)(١١)

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا إلى الكهف ، (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو. (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار. (رَشَداً) نصير بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا كله رشدا كقولك : رأيت منك أسدا وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي ضربنا عليهم حجابا يمنع السماع بمعنى أنمناهم إنامة لا تنبههم فيها الأصوات ، فحذف المفعول كما حذف في قولهم : بنى على امرأته. (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ) ظرفان لضربنا. (عَدَداً) أي ذوات عدد ، ووصف السنين به يحتمل التكثير والتقليل ، فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً)(١٣)

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أيقظناهم. (لِنَعْلَمَ) ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا. (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم. (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) ضبط أمد الزمان لبثهم وما في أي من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم ، فهو مبتدأ و (أَحْصى) خبره. وهو فعل ماض و (أَمَداً) مفعول له و (لِما لَبِثُوا) حال منه أو مفعول له ، وقيل إنه المفعول واللام مزيدة وما موصولة و (أَمَداً) تمييز ، وقيل (أَحْصى) اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم : هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق ، و (أَمَداً) نصب بفعل دل عليه (أَحْصى) كقوله :

واضرب منّا بالسّيوف القوانسا

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) بالصدق. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شبان جمع فتى كصبي وصبية. (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) بالتثبيت.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)(١٥)

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) وقويناها بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال ، والجراءة على إظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار. (إِذْ قامُوا) بين يديه. (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) والله لقد قلنا قولا ذا شطط أي ذا بعد عن الحق مفرط في الظلم.

٢٧٤

(هؤُلاءِ) مبتدأ. (قَوْمُنَا) عطف بيان. (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) خبره ، وهو إخبار في معنى إنكار. (لَوْ لا يَأْتُونَ) هلا يأتون. (عَلَيْهِمْ) على عبادتهم. (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به ، وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود وأن التقليد فيه غير جائز. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب بعضهم لبعض. (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) عطف على الضمير المنصوب ، أي وإذ اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله ، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين. ويجوز أن تكون (ما) مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله ، وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين (إِذِ) وجوابه لتحقيق اعتزالهم. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) يبسط الرزق لكم ويوسع عليكم. (مِنْ رَحْمَتِهِ) في الدارين. (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما ترتفقون به أي تنتفعون ، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى ، وقرأ نافع وابن عامر (مِرْفَقاً) بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذا كالمرجع والمحيض فإن قياسه الفتح.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)(١٧)

(وَتَرَى الشَّمْسَ) لو رأيتهم ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد. (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم ، لأن الكهف كان جنوبيا ، أو لأن الله تعالى زورها عنهم. وأصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي ، وقرأ الكوفيون بحذفها وابن عامر ويعقوب «تزورّ» كتحمر ، وقرئ «تزوار» كتحمار وكلها من الزور بمعنى الميل. (ذاتَ الْيَمِينِ) جهة اليمين وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين. (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم وتصرم عنهم. (ذاتَ الشِّمالِ) يعني يمين الكهف وشماله لقوله : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي وهم في متسع من الكهف ، يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس ، وذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات نعش ، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه ، والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن وهو الذي يلي المغرب ، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه ، ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي شأنهم وإيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك ، أو إخبارك قصتهم ، أو ازورار الشمس عنهم وقرضها طالعة وغاربة من آيات الله. (مَنْ يَهْدِ اللهُ) بالتوفيق. (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الذي أصاب الفلاح ، والمراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل فيها والاستبصار بها. (وَمَنْ يُضْلِلْ) ومن يخذله. (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) من يليه ويرشده.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(١٨)

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم. (وَهُمْ رُقُودٌ) نيام. (وَنُقَلِّبُهُمْ) في رقدتهم.

٢٧٥

(ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. وقرئ «ويقلبهم» بالياء والضمير لله تعالى ، و «تقلبهم» على المصدر منصوبا بفعل يدل عليه تحسبهم أي وترى تقلبهم. (وَكَلْبُهُمْ) هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه الله تعالى فقال : أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم. أو كلب راع مروا به فتبعهم وتبعه الكلب ، ويؤيده قراءة من قرأ : «وكالبهم» أي وصاحب كلبهم. (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل. (بِالْوَصِيدِ) بفناء الكهف ، وقيل الوصيد الباب ، وقيل العتبة. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) فنظرت إليهم ، وقرئ «لو اطّلعت» بضم الواو. (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) لهربت منهم ، و (فِراراً) يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية والعلة والحال. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) خوفا يملأ صدرك بما ألبسهم الله من الهيبة أو لعظم أجرامهم وانفتاح عيونهم. وقيل لوحشة مكانهم. وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس لك ذلك قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) فلم يسمع وبعث ناسا فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم. وقرأ الحجازيان (لَمُلِئْتَ) بالتشديد للمبالغة وابن عامر والكسائي ويعقوب (رُعْباً) بالتثقيل.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(٢٠)

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا. (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ليسأل بعضهم بعضا فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى ، ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى. (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وهذا إنكار الآخرين عليهم. وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف. وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغما وغير مدغم ، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده ، وحملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين والمدينة طرسوس. (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أهلها. (أَزْكى طَعاماً) أحل وأطيب أو أكثر وأرخص. (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن ، أو في التخفي حتى لا يعرف. (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم ، والضمير للأهل المقدر في (أَيُّها). (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم بالرجم. (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أو يصيروكم إليها كرها من العود بمعنى الصيرورة. وقيل كانوا أولا على دينهم فآمنوا. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) إن دخلتم في ملتهم.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ

٢٧٦

أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١)

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم. (لِيَعْلَمُوا) ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم. (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث أو الموعود الذي هو البعث. (حَقٌ) لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث. (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) وأن القيامة لا ريب في إمكانها ، فإن من توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظا أبدانها عن التحلل والتفتت ، ثم أرسلها إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكا إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها. (إِذْ يَتَنازَعُونَ) ظرف ل (أَعْثَرْنا) أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون. (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أمر دينهم ، وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول يبعثان معا ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معا ، أو أمر الفتية حين أماتهم الله ثانيا بالموت فقال بعضهم ، ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة ، أو قالت طائفة نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتخذونه قرية ، وقال آخرون لنتخذن عليهم مسجدا يصلى فيه كما قال تعالى : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) وقوله (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) اعتراض إما من الله ردا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم ، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك. حكي أن المبعوث لما دخل السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك. وكان نصرانيا موحدا. فقص عليه القصص ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبني عليهم مسجدا. وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا ، فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجدا.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢٢)

(سَيَقُولُونَ) أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين. (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل هو قول اليهود وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبيا. (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) قاله النصارى أو العاقب منهم وكان نسطوريا. (رَجْماً بِالْغَيْبِ) يرمون رميا بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به ، أو ظنا بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وإنما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه. (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليهما الصلاة والسلام وإيماء الله تعالى إليه بأن اتبعه قوله (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وأتبع الأولين قوله رجما بالغيب وبأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة ، فإن عدم إيراد رابع في نحو هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل ينفيه ، ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ليتعين الثالث وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة ، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت. وعن علي رضي الله عنه هم سبعة وثامنهم كلبهم وأسماؤهم : يمليخا ومكشلينيا

٢٧٧

ومشلينيا هؤلاء أصحاب يمين الملك ، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش أصحاب يساره وكان يستشيرهم ، والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس. وقيل الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) فلا تجادل في شأن الفتية إلّا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه ، وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم والرد عليهم. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي إليك لمندوحة من غيره ، مع أنه لا علم لهم بها ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول وتزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)(٢٤)

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) نهي تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين ، فسألوه فقال : «ائتوني غدا أخبركم» ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما حتى شق عليه وكذبته قريش. والاستثناء من النهي أي ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب (أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، أي إلا ملتبسا بمشيئته قائلا إن شاء الله أو إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه ، ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) مشيئة ربك وقل إن شاء الله. كما روي أنه لما نزل قال عليه الصلاة والسلام : «إن شاء الله». (إِذا نَسِيتَ) إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته. وعن ابن عباس ولو بعد سنة ما لم يحنث ، ولذلك جوز تأخير الاستثناء عنه. وعامة الفقهاء على خلافه لأنه لو صح ذلك لم يتقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب ، وليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه ، ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه ، أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك ، أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) يدلني. (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) لأقرب رشدا وأظهر دلالة على أني نبي من نبأ أصحاب الكهف. وقد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ، أو لأقرب رشدا وأدنى خيرا من المنسي.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(٢٥)

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) يعني لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم ، وهو بيان لما أجمل قبل. وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فقال بعضهم ثلاثمائة وقال بعضهم ثلاثمائة وتسع سنين. وقرأ حمزة والكسائي (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد ، ويحسنه ها هنا أن علامة الجمع فيه جبر لما حذف من الواحد وأن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع ومن لم يضف أبدل السنين من ثلاثمائة.

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)(٢٦)

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما ، فلا خلق يخفى عليه علما. (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما

٢٧٨

عليه إدراك السامعين والمبصرين ، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي ، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء ، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى (وَكَفى بِهِ) والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة. (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السموات والأرض. (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) من يتولى أمورهم. (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) في قضائه. (أَحَداً) منهم ولا بجعل له فيه مدخلا. وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإشراك ، ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال :

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٢٨)

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) من القرآن ، ولا تسمع لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ). (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ عليه إن هممت به.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) واحبسها وثبتها. (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في مجامع أوقاتهم ، أو في طرفي النهار. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رضا الله وطاعته. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم ، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبا. وقرئ «ولا تعد عينيك» «ولا تعد» من أعداه وعداه. والمراد نهي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى طراوة زي الأغنياء. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا. (عَنْ ذِكْرِنا) كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش. وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات ، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة. والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى الله تعالى قالوا : إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وجوابه ما مر غير مرة. وقرئ «أغفلنا» بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة. (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي تقدما على الحق ونبذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩)

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و (مِنْ رَبِّكُمْ) حالا. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته. (إِنَّا أَعْتَدْنا)

٢٧٩

هيأنا. (لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من النار. وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من العطش. (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) كالجسد المذاب. وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله : فأعتبوا بالصيلم. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف. (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل. (وَساءَتْ) النار. (مُرْتَفَقاً) متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة قوله (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلا فلا ارتفاق لأهل النار.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(٣٠)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) خبر إن الأولى هي الثانية بما في حيزها ، والراجع محذوف تقديره من أحسن عملا منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملا كما هو مستغنى عنه في قولك : نعم الرجل زيد ، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١)

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) وما بينهما اعتراض وعلى الأول استئناف لبيان الأجر أو خبر ثان. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) من الأولى للابتداء والثانية للبيان صفة ل (أَساوِرَ) ، وتنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به وهو جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار. (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة. (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) نمارق من الديباج وما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) على السرر كما هو هيئة المتنعمين. (نِعْمَ الثَّوابُ) الجنة ونعيمها. (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) متكأ.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً)(٣٢)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) للكافر والمؤمن. (رَجُلَيْنِ) حال رجلين مقدرين أو موجودين هما أخوان من بني إسرائيل كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا ، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطرا ، فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا وصرفها المؤمن في وجوه الخير ، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى. وقيل الممثل بهما أخوان من بني مخزوم كافر وهو الأسود بن عبد الأشد ومؤمن وهو أبو سلمة عبد الله زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) بستانين. (مِنْ أَعْنابٍ) من كروم والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة للرجلين. (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) وجعلنا النخل محيطة بهما مؤزرا بها كرومهما ، يقال حفه القوم إذا أطافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا ثانيا كقولك : غشيته به. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) وسطهما. (زَرْعاً) ليكون كل منهما جامعا للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والترتيب الأنيق.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)(٣٤)

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ثمرها ، وإفراد الضمير لإفراد (كِلْتَا) وقرئ «كل الجنتين آتى أكله». (وَلَمْ

٢٨٠