أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(٣٧)

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم. (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقا أي أعتق منه. ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه. روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه‌السلام فولدت منه إسماعيل عليه‌السلام ، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ، ثم إن جرهم رأوا ثم طيورا فقالوا لا طير إلا على الماء ، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت. (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام لام كي وهي متعلقة ب (أَسْكَنْتُ) أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها. وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أي أفئدة من أفئدة الناس ، و (مِنْ) للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى ، أو للابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس. وقرأ هشام «أفئيدة» بخلف عنه بياء بعد الهمزة. وقرئ «آفدة» وهو يحتمل أن يكون مقلوب «أفئدة» كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم «وأفدة» بطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه فيه إخراجها بين بين ويجوز أن يكون من أفد. (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم شوقا وودادا. وقرئ «تهوى» على البناء للمفعول من أهوى إليه غيره و «تهوى» من هوى يهوي إذا أحب ، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مع سكناهم واديا لا نبات فيه. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمة ، فأجاب الله عزوجل دعوته فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)(٣٩)

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تعلم سرنا كما تعلم علننا ، والمعنى إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك وافتقارا إلى رحمتك واستعجالا لنيل ما عندك. وقيل ما نخفي من وجد الفرقة وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك ، وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجأ إلى الله تعالى. (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم ، ومن للاستغراق.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد ، قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة وإظهارا لما فيها من آلائه. (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). روي أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة. (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به ، وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز ، وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها.

٢٠١

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) معدلا لها مواظبا عليها. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على المنصوب في (اجْعَلْنِي) ، والتبعيض لعلمه بإعلام الله أو استقراء عادته في الأمم الماضية أن يكون في ذريته كفار. (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) واستجب دعائي أو وتقبل عبادتي.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وقرئ «ولأبويّ» ، وقد تقدم عذر استغفاره لهما. وقيل أراد بهما آدم وحواء. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) يثبت مستعار من القيام على الرجل كقولهم : قامت الحرب على ساق ، أو يقوم إليه أهله فحذف المضاف أو أسند إليه قيامهم مجازا.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٤٣)

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به تثبيته على ما هو عليه من أنه تعالى مطلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية ، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة ، أو لكل من توهم غفلته جهلا بصفاته واغترارا بإمهاله. وقيل إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخر عذابهم وعن أبي عمرو بالنون. (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقر في أماكنها من هول ما ترى.

(مُهْطِعِينَ) أي مسرعين إلى الداعي ، أو مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة وخوفا ، وأصل الكلمة هو الإقبال على الشيء. (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها. (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف ، أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة ، ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير :

من الظلمان جؤجؤه هواء

وقيل خالية عن الخير خاوية عن الحق.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)(٤٤)

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يا محمد. (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) يعني يوم القيامة ، أو يوم الموت فإنه أول أيام عذابهم ، وهو مفعول ثان ل (أَنْذِرِ). (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالشرك والتكذيب. (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أخر العذاب عنا أو ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب ، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك. (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) جواب للأمر ونظيره (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) على إرادة القول و (ما لَكُمْ) جواب القسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية ، والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت ، ولعلهم أقسموا بطرا وغرورا أو دل عليه حالهم حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا. وقيل أقسموا أنهم لا ينتقلون إلى دار أخرى وأنهم إذا ماتوا لا يزالون على تلك الحالة إلى حالة أخرى كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ).

٢٠٢

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ)(٤٦)

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي كعاد وثمود ، وأصل سكن أن يعدى بفي كقرّ وغني وأقام ، وقد يستعمل بمعنى التبويء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم. (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب ، أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه ، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالا له. (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) في العظم والشدة. (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) مسوى لإزالة الجبال. وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوه. وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا من آيات الله تعالى وشرائعه. وقرأ الكسائي (لِتَزُولَ) بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة ، ومعناه تعظيم مكرهم. وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و «إن كاد مكرهم».

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)(٤٧)

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) مثل قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) ، (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بأنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) وإذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يماكر قادر لا يدافع. (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)(٤٨)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) بدل من (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ) أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده. ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل إن لا يعمل فيما بعده. (وَالسَّماواتُ) عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات ، والتبديل يكون في الذات كقولك : بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) وفي الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وغيرت شكلها ، وعليه قوله : (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) والآية تحتملهما ، فعن علي رضي الله تعالى عنه : تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب ، وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض وإنما تغير صفاتها. ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) واعلم أنه لا يلزم على الوجه الأول أن يكون الحاصل بالتبديل أرضا وسماء على الحقيقة ، ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) وقوله : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ). (وَبَرَزُوا) من أجداثهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) لمحاسبته ومجازاته ، وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله :

٢٠٣

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار.

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)(٥٠)

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال ، وهو يحتمل أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم. (فِي الْأَصْفادِ) متعلق ب (مُقَرَّنِينَ) أو حال من ضميره ، والصفد القيد. وقيل الغل قال سلامة بن جندل :

وزيد الخيل قد لاقى صفادا

يعضّ بساعد وبعظم ساق

وأصله الشد.

(سَرابِيلُهُمْ) قمصانهم. (مِنْ قَطِرانٍ) وجاء قطران لغتين فيه ، وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته ، وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص ، ليجتمع عليهم لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه مع إسراع النار في جلودهم ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، ويحتمل أن يكون تمثيلا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعا من الغموم والآلام ، وعن يعقوب (قَطِرانٍ) والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره ، والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في (مُقَرَّنِينَ). (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله ، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ).

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٥١)

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ) أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة. (ما كَسَبَتْ) أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا بين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم ، ويتعين ذلك أن علق اللام ب (بَرَزُوا). (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه لا يشغله حساب عن حساب.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

(هذا) إشارة إلى القرآن أو السورة أو ما فيه العظة والتذكير أو ما وصفه من قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ). (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) كفاية لهم في الموعظة. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عطف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغ ، فتكون اللام متعلقة بالبلاغ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره : ولينذروا به أنزل أو تلي. وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعد له.

(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المنبهة على ما يدل عليه (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم ، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر لهذا

٢٠٤

البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب ، تكميل الرسل للناس ، واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى ، جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها».

٢٠٥

(١٥) سورة الحجر

مكية وهي تسع وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى آيات السورة و (الْكِتابِ) هو السورة ، وكذا القرآن وتنكيره للتفخيم أي آيات الجامع لكونه كتابا كاملا وقرآنا يبين الرشد من الغي بيانا غريبا.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر أو حلول الموت أو يوم القيامة. وقرأ نافع وعاصم (رُبَما) بالتخفيف ، وقرئ «ربما» بالفتح والتخفيف وفيه ثمان لغات ضم الراء وفتحها مع التشديد والتخفيف وبتاء التأنيث ودونها ، وما كافة تكفه عن الجر فيجوز دخوله على الفعل وحقه أن يدخل الماضي لكن لما كان المترقب في إخبار الله تعالى كالماضي في تحققه أجري مجراه. وقيل : ما نكرة موصوفة كقوله :

ربّما تكره النّفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال

ومعنى التقليل فيه الإيذان بأنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة فبالحري أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم يودونه كل ساعة. وقيل تدهشهم أهوال القيامة فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا ذلك ، والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك : حلف بالله ليفعلن.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٣)

(ذَرْهُمْ) دعهم. (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم. (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ، والغرض إقناط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان ، وأن نصحهم بعد اشتغال بما لا طائل تحته ، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن إيثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)(٥)

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ ، والمستثنى جملة واقعة صفة لقرية ، والأصل أن لا تدخلها الواو كقوله : (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) ولكن لما شابهت صورتها الحال أدخلت تأكيدا للصوقها بالموصوف.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي وما يستأخرون عنه ، وتذكير ضمير (أُمَّةٍ) فيه للحمل على المعنى.

٢٠٦

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٧)

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) نادوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التهكم ، ألا ترى إلى ما نادوه له وهو قولهم. (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ونظير ذلك قول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ، والمعنى إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر ، أي القرآن.

(لَوْ ما تَأْتِينا) ركب (لَوْ) مع (ما) كما ركبت مع لا لمعنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض. (بِالْمَلائِكَةِ) ليصدقوك ويعضدوك على الدعوة كقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). أو للعقاب على تكذيبنا لك كما أتت الأمم المكذبة قبل. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)

ما ينزّل الملائكة بالياء ونصب (الْمَلائِكَةَ) على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون وأبو بكر بالتاء والبناء للمفعول ورفع الملائكة. وقرئ «تنزل» بمعنى تتنزل. (إِلَّا بِالْحَقِ) إلا تنزيلا ملتبسا بالحق أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته ، ولا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا ، ولا في معاجلتكم بالعقوبة فإن منكم ومن ذراريكم من سبقت كلمتنا له بالإيمان. وقيل الحق الوحي أو العذاب. (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِذاً) جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم واستهزائهم ولذلك أكده من وجوه وقرره بقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي من التحريف والزيادة والنقص بأن جعلناه معجزا مباينا لكلام البشر ، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان ، أو نفي تطرق الخلل إليه في الدوام بضمان الحفظ له كما نفى أن يطعن فيه بأنه المنزل له. وقيل الضمير في (لَهُ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١١)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في فرقهم ، جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب من شاعه إذا تبعه ، وأصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار ، والمعنى نبأنا رجالا فيهم وجعلناهم رسلا فيما بينهم.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما يفعل هؤلاء ، وهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام و (ما) للحال لا يدخل إلا مضارعا بمعنى الحال ، أو ماضيا قريبا منه وهذا على حكاية الحال الماضية.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(١٣)

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) ندخله. (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط ، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء. وفيه دليل على أن الله يوجد الباطل في قلوبهم. وقيل ل (الذِّكْرَ) فإن الضمير الآخر في قوله :

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) له وهو حال من هذا الضمير ، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذبا غير مؤمن به ، أو بيان للجملة المتضمنة له ، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب

٢٠٧

الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالا من الضمير لجواز أن تكون حالا من المجرمين ، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه. (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم ، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥)

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المقترحين. (باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون ، أو تصعد الملائكة وهم يشاهدونهم.

(لَقالُوا) من غلوهم في العناد وتشكيكهم في الحق. (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) سدت عن الإبصار بالسحر من السكر ، ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف ، أو حيرت من السكر ويدل عليه قراءة من قرأ «سكرت». (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمد بذلك كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات ، وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)(١٨)

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) اثني عشر مختلفة الهيئات والخواص على ما دل عليه الرصد والتجربة مع بساطة السماء. (وَزَيَّنَّاها) بالأشكال والهيئات البهية. (لِلنَّاظِرِينَ) المعتبرين المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس إلى أهلها ويتصرف في أمرها ويطلع على أحوالها.

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاسه سرا ، شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من كلها بالشهب. ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع. (فَأَتْبَعَهُ) فتبعه ولحقه. (شِهابٌ مُبِينٌ) ظاهر للمبصرين ، والشهاب شعلة نار ساطعة ، وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)(٢٠)

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها. (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت. (وَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض أو فيها وفي الجبال. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته ، أو مستحسن ، مناسب من قولهم كلام موزون ، أو ما يوزن ويقدر أو له وزن في أبواب النعمة والمنفعة.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) تعيشون بها من المطاعم والملابس. وقرئ «معائش» بالهمزة على التشبيه بشمائل : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على (مَعايِشَ) أو على محل (لَكُمْ) ، ويريد به العيال والخدم

٢٠٨

والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا ، فإن الله يرزقهم وإياهم ، وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيا أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته ، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه ، ثم بالغ في ذلك وقال :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢١)

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه ، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. (وَما نُنَزِّلُهُ) من بقاع القدرة. (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) حده الحكمة وتعلقت به المشيئة ، فإن تخصيص بعضها بالإيجاد في بعض الأوقات مشتملا على بعض الصفات والحالات لا بد له من مخصص حكيم.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ)(٢٣)

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) حوامل ، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم ، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله :

ومختبط ممّا تطيح الطوائح

وقرئ «وأرسلنا الريح» على تأويل الجنس. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فجعلناه لكم سقيا. (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) قادرين متمكنين من إخراجه ، نفى عنهم ما أثبته لنفسه ، أو حافظين في الغدران والعيون والآبار ، وذلك أيضا يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس ، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مخصص.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها. (وَنُمِيتُ) بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الباقون إذا مات الخلائق كلها.

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) من استقدم ولادة وموتا ومن استأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد ، أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ، أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم ، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وقيل رغب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت. وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت.

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) لا محالة للجزاء ، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غير ، وتصدير الجملة ب (إِنَ) لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله : (إِنَّهُ حَكِيمٌ) باهر الحكمة متقن في أفعاله. (عَلِيمٌ) وسع علمه كل شيء.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(٢٧)

٢٠٩

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) من طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. وقيل هو من صلصل إذا أنتن تضعيف صل. (مِنْ حَمَإٍ) طين تغير واسودّ من طول مجاورة الماء ، وهو صفة صلصال أي كائن (مِنْ حَمَإٍ). (مَسْنُونٍ) مصور من سنة الوجه ، أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب ، من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه ، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به ، فإن ما يسيل بينهما يكون منتنا ويسمى السنين.

(وَالْجَانَ) أبا الجن. وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإنسان ، لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كأن الجنس بأسره مخلوقا منها وانتصابه بفعل يفسره. (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) من قبل خلق الإنسان. (مِنْ نارِ السَّمُومِ) من نار الحر الشديد النافذ في المسام ، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة ، فضلا عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري ، فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي ، وقوله : (مِنْ نارِ) باعتبار الغالب كقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(٢٩)

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) واذكر وقت قوله : (لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي ، وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر ، ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه الحيوانية فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن ، جعل تعلقه بالبدن نفخا وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في «النساء». (فَقَعُوا لَهُ) فاسقطوا له. (ساجِدِينَ) أمر من وقع يقع.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)(٣١)

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص ، وقيل أكد بالكل للإحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة ، وفيه نظر إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالا لا تأكيدا.

(إِلَّا إِبْلِيسَ) إن جعل منقطعا اتصل به قوله : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي ولكن إبليس أبى وإن جعل متصلا كان استئنافا على أنه جواب سائل قال هلا سجد.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)(٣٣)

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ) أي غرض لك في أن لا تكون. (مَعَ السَّاجِدِينَ) لآدم.

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد. (لِبَشَرٍ) جسماني كثيف وأنا ملك روحاني. (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وهو أخس العناصر وخلقتني من نار وهي أشرفها ، استنقص آدم عليه‌السلام باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة «الأعراف».

٢١٠

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٣٥)

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من السماء أو الجنة أو زمر الملائكة. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من الخير والكرامة ، فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان يرجم بالشهب ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) هذا الطرد والإبعاد. (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) فإنه منتهى أمد اللعن ، فإنه يناسب أيام التكليف ومنه زمان الجزاء وما في قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بمعنى آخر ينسى عنده هذه. وقيل إنما حد اللعن به لأنه أبعد غاية يضر بها الناس ، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائل.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(٣٨)

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) فأخرني ، والفاء متعلقة بمحذوف دل عليه (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أراد أن يجد فسحة في الإغواء أو نجاة من الموت ، إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) المسمى فيه أجلك عند الله ، أو انقراض الناس كلهم وهو النفخة الأولى عند الجمهور ، ويجوز أن يكون المراد بالأيام الثلاثة يوم القيامة ، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات فعبر عنه أولا بيوم الجزاء لما عرفته وثانيا بيوم البعث ، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل ، وثالثا بالمعلوم لوقوعه في الكلامين ، ولا يلزم من ذلك أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه ، وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدل على منصب إبليس لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٤٠)

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم وما مصدرية وجوابه. (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله : (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) وفي انعقاد القسم بأفعال الله تعالى خلاف. وقيل للسببية والمعتزلة أوّلوا الإغواء بالنسبة إلى الغي ، أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه‌السلام ، أو بالإضلال عن طريق الجنة واعتذروا عن إمهال الله له ، وهو سبب لزيادة غيه وتسليط له على إغواء بني آدم بأن الله تعالى علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أو لم يمهل ، وأن في إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب ، وضعف ذلك لا يخفى على ذوي الألباب. (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ولأحملنهم أجمعين على الغواية.

(إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم كيدي. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالكسر في كل القرآن أي الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)(٤٢)

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَ) حقّ علي أن أراعيه. (مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف عنه ، والإشارة إلى ما تضمنه

٢١١

الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه ، أو الإخلاص على معنى أنه طريق (عَلَيَ) يؤدي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج وضلال. وقرئ (عَلَيَ) من علو الشرف.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) تصديق لإبليس فيما استثناه وتغيير الوضع لتعظيم (الْمُخْلَصِينَ) ، ولأن المقصود بيان عصمتهم وانقطاع مخالب الشيطان عنهم ، أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده ، فإن منتهى تزيينه التحريض والتدليس كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، وعلى الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثنى أقل من الباقي لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) لموعد الغاوين أو المتبعين. (أَجْمَعِينَ) تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير مضاف ، ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل.

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يدخلون منها لكثرتهم ، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي : جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ، ولعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ومتابعة القوة الشهوية والغضبية ، أو لأن أهلها سبع فرق. (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الأتباع. (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أفرز له ، فأعلاها للموحدين العصاة ، والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين ، وقرأ أبو بكر «جزء» بالتثقيل. وقرئ «جز» على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الزاي ، ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى الوقف ، ومنهم حال منه أو من المستكن في الظرف لا في (مَقْسُومٌ) لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)(٤٦)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفرة. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لكل واحد جنة وعين أو لكل عدة منهما كقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) ثم قوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) وقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية ، وقرأ نافع وحفص وأبو عمرو وهشام (وَعُيُونٍ) والعيون بضم العين حيث وقع والباقون بكسر العين. (ادْخُلُوها) على إرادة القول ، وقرئ بقطع الهمزة وكسر الخاء على أنه ماض فلا يكسر التنوين. (بِسَلامٍ) سالمين أو مسلما عليكم. (آمِنِينَ) من الآفة والزوال.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨)

(وَنَزَعْنا) في الدنيا بما ألف بين قلوبهم ، أو في الجنة بتطييب نفوسهم. (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) من حقد كان في الدنيا وعن علي رضي الله تعالى عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ، أو من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب. (إِخْواناً) حال من الضمير في جنات ، أو فاعل ادخلوها أو الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه ، والعامل فيها معنى الإضافة وكذا قوله : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ويجوز أن يكونا صفتين لإخوانا أو حال من ضميره لأنه بمعنى متصافين ، وأن يكون متقابلين حالا من المستقر في على سرر.

٢١٢

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) استئناف أو حال بعد حال ، أو حال من الضمير في متقابلين. (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فإن تمام النعمة بالخلود.

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١)

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له ، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها ، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده وفي عطف (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) على (نَبِّئْ عِبادِي) تحقيق لهما بما يعتبرون به.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(٥٣)

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم عليك سلاما أو سلمنا سلاما. (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) خائفون وذلك لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت ، ولأنهم امتنعوا من الأكل والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.

(قالُوا لا تَوْجَلْ) وقرئ «لا تأجل» من أوجله «ولا تواجل» من واجله بمعنى أوجله. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، فإن المبشر لا يخاف منه. وقرأ حمزة نبشرك بفتح النون والتخفيف من البشر. (بِغُلامٍ) هو إسحاق عليه‌السلام لقوله : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ). (عَلِيمٍ) إذا بلغ.

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (٥٦)

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه ، أو إنكار لأن يبشر به في مثل هذه الحالة وكذا قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي فبأي أعجوبة تبشرون ، أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء ، وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها وقرأ نافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية وكسرها على الياء. (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) بما يكون لا محالة ، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو قول الله تعالى وأمره. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر ، وكان استعجاب إبراهيم عليه‌السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك :

(قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته كما قال تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقرأ أبو عمرو والكسائي (يَقْنَطُ) بالكسر ، وقرئ بالضم وماضيهما قنط بالفتح.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)(٥٨)

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ، ولعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عددا والبشارة لا تحتاج إلى العدد ، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما‌السلام ، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.

٢١٣

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعني قوم لوط.

(إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)(٦٠)

(إِلَّا آلَ لُوطٍ) إن كان استثناء من (قَوْمٍ) كان منقطعا إذ ال (قَوْمٍ) مقيد بالإجرام وإن كان استثناء من الضمير في (مُجْرِمِينَ) كان متصلا ، والقوم والإرسال شاملين للمجرمين ، و (آلَ لُوطٍ) المؤمنين به وكأن المعنى : إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط منهم ، ويدل عليه قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي مما يعذب به القوم ، وهو استئناف إذا اتصل الاستثناء ومتصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع وعلى هذا جاز أن يكون قوله :

(إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من (آلَ لُوطٍ) ، أو من ضميرهم ، وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) اعتراضا ، وقرأ حمزة والكسائي (لَمُنَجُّوهُمْ) مخففا. (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم (قَدَّرْنا) هنا وفي «النمل» بالتخفيف ، وإنما علق والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم. ويجوز أن يكون (قَدَّرْنا) أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم. وهو فعل الله سبحانه وتعالى لما لهم من القرب والاختصاص به.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٦٤)

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) تنكركم نفسي وتنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بشر.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما يسرك ويشفي لك من عدوك ، وهو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه.

(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) باليقين من عذابهم. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥)

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) فاذهب بهم في الليل ، وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السري وهما بمعنى وقرئ «فسر» من السير. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) في طائفة من الليل وقيل في آخره قال :

افتحي الباب وانظري في النّجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب. وقيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة. (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه ، وهو الشام أو مصر فعدي (وَامْضُوا) إلى (حَيْثُ) و (تُؤْمَرُونَ) إلى ضميره ٠ المحذوف على الاتساع.

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)(٦٧)

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أي وأوحينا إليه مقضيا ، ولذلك عدي بإلى. (ذلِكَ الْأَمْرَ) مبهم يفسره. (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ

٢١٤

مَقْطُوعٌ) ومحله النصب على البدل منه وفي ذلك تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد. (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء ، أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى. ف (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) في معنى مدبري هؤلاء.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) سدوم. (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط طمعا فيهم.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ)(٦٩)

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في ركوب الفاحشة. (وَلا تُخْزُونِ) ولا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان ، أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهو الحياء.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٧١)

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) على أن تجير منهم أحدا أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه ، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم ، وفيه وجوه ذكرت في سورة «هود». (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) قضاء الوطر أو ما أقول لكم.

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٧٢)

(لَعَمْرُكَ) قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة والسلام وقيل لوط عليه‌السلام قالت الملائكة له ذلك ، والتقدير لعمرك قسمي ، وهو لغة في العمر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم. (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم. (يَعْمَهُونَ) يتحيرون فكيف يسمعون نصحك. وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)(٧٤)

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) يعني صيحة هائلة مهلكة. وقيل صيحة جبريل عليه‌السلام. (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشمس.

(فَجَعَلْنا عالِيَها) عالي المدينة أو عالي قراهم. (سافِلَها) وصارت منقلبة بهم. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل ، وقد تقدم مزيد بيان لهذه القصة في سورة «هود».

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفكرين المتفرسين الذين يتثبّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته.

(وَإِنَّها) وإن المدينة أو القرى. (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)(٧٩)

٢١٥

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه الله إليهم فكذبوه فأهلكوا بالظلة ، و (الْأَيْكَةِ) الشجرة المتكاثفة.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالإهلاك. (وَإِنَّهُما) يعني سدوم والأيكة. وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثا إليهما فكان ذكر إحداهما منبها على الأخرى. (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح ، والإمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح لأنها مما يؤتم به.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٨١)

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعني ثمود ، كذّبوا صالحا ، ومن كذّب واحدا من الرسل فكأنما كذب الجميع ، ويجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحا ومن معه من المؤمنين ، و (الْحِجْرِ) واد بين المدينة والشأم يسكنونه.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم ، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها ودرها ، أو ما نصب لهم من الأدلة.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٤)

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها ، أو من العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ)(٨٦)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) إلا خلقا ملتبسا بالحق لا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرور ، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزاحة فسادهم من الأرض. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فينتقم الله لك فيها ممن كذبك. (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ولا تعجل بانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وقيل هو منسوخ بآية السيف.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلقك وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم. (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم ، أو هو الذي خلقكم وعلم الأصلح لكم ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح ، وفي مصحف عثمان وأبيّ رضي الله عنهما «هو الخالق» ، وهو يصلح للقليل والكثير و (الْخَلَّاقُ) يختص بالكثير.

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(٨٧)

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) سبع آيات وهي الفاتحة. وقيل سبع سور وهي الطوال وسابعتها «الأنفال» و «التوبة» فإنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. وقيل «التوبة» وقيل «يونس» أو الحواميم السبع. وقيل سبع صحائف وهي الأسباع. (مِنَ الْمَثانِي) بيان للسبع والمثاني من التثنية ، أو الثناء فإن كل ذلك مثنى تكرر قراءته ، أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه أو مثني عليه بالبلاغة والإعجاز ، أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته

٢١٦

العظمى وأسمائه الحسنى ، ويجوز أن يراد ب (الْمَثانِي) القرآن أو كتب الله كلها فتكون (مِنَ) للتبعيض. (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص ، وإن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر.

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)(٨٩)

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب. (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفار ، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات. وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه «من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا». وروي «أنه عليه الصلاة والسلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم : لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع». (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أنهم لم يؤمنوا. وقيل إنهم المتمتعون به. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وتواضع لهم وارفق بهم.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)(٩٠)

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم ، فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم الإثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا أي تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة والسلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه. (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) فإنه بمعنى أنزلنا إليك ، والمقتسمون هم الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا عنادا : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما ، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، أو أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أن القرآن ما يقرءون من كتبهم ، فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) إلخ اعتراضا ممدا لها.

(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٣)

(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أجزاء جمع عضة ، وأصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء.

وقيل فعلة من عضهته إذا بهته ، وفي الحديث «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العاضهة والمستعضهة» وقيل أسحارا وعن عكرمة المعضة السحر ، وإنما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه والموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ خبره.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من التقسيم أو النسبة إلى السحر فنجازيهم عليه. وقيل هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(٩٤)

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فاجهر به ، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا ، أو فافرق به بين الحق والباطل ، وأصله الإبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة ، والراجع محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع. (وَأَعْرِضْ عَنِ

٢١٧

الْمُشْرِكِينَ) ولا تلتفت إلى ما يقولون.

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٩٦)

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بقمعهم وإهلاكهم. قيل كانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، يبالغون في إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستهزاء به فقال جبريل عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه ، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص فدخل فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، وإلى عيني الأسود بن المطلب فعمي :

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم في الدارين.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء بك.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك ويكشف الغم عنك ، أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق. (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) من المصلين ، وعنه عليه الصلاة والسلام (أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق ، والمعنى فاعبده ما دمت حيا ولا تخلّ بالعبادة لحظة. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والله أعلم.

٢١٨

(١٦) سورة النحل

مكية غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١)

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت ، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع ، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على وفق قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) والباقون بالياء على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم ، لما روي أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) بالوحي أو القرآن ، فإنه يحيي به القلوب الميتة بالجهل ، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، وذكره عقيب ذلك إشارة إلى الطريق الذي به علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تحقق موعدهم به ودنوه وإزاحة لاستبعادهم اختصاصه بالعلم به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل من أنزل ، وعن يعقوب مثله وعنه «تنزل» بمعنى تتنزل. وقرأ أبو بكر «تنزل» على المضارع المبني للمفعول من التنزيل. (مِنْ أَمْرِهِ) بأمره أو من أجله. (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أن يتخذه رسولا. (أَنْ أَنْذِرُوا) بأن أنذروا أي اعلموا من نذرت بكذا إذا علمته. (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أن الشأن (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ، أو خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وقوله (فَاتَّقُونِ) رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود ، و (أَنْ) مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول ، أو مصدرية في موضع الجر بدلا من الروح أو النصب بنزع الخافض ، أو مخففة من الثقيلة. والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة وأن حاصله التنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية. وأن النبوة عطائية والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة ، ولو كان له شريك لقدر على ذلك فيلزم التمانع.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها

٢١٩

وخصصها بحكمته. (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) منهما أو مما يفتقر في وجوده أو بقائه إليهما ومما لا يقدر على خلقهما. وفيه دليل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) جماد لا حس بها ولا حراك سيالة لا تحفظ الوضع والشكل. (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) منطيق مجادل. (مُبِينٌ) للحجة أو خصيم مكافح لخالقه قائل : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). روي أن أبيّ بن خلف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم وقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ. فنزلت.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦)

(وَالْأَنْعامَ) الإبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره. (خَلَقَها لَكُمْ) أو بالعطف على الإنسان ، وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله وما بعده تفصيل له. (فِيها دِفْءٌ) ما يدفأ به فيقي البرد. (وَمَنافِعُ) نسلها ودرها وظهورها ، وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول عوضها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان ، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي ، أو لأن الكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش ، وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) زينة. (حِينَ تُرِيحُونَ) تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي. (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها ، وتقديم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر فإنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرئ «حينا» على أن (تُرِيحُونَ) و (تَسْرَحُونَ) وصفان له بمعنى (تُرِيحُونَ) فيه و (تَسْرَحُونَ) فيه.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧)

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أحمالكم. (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) أي إن لم تكن الأنعام ولم تخلق فضلا أن تحملوها على ظهوركم إليه. (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) إلا بكلفة ومشقة. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه وأصله الصدع والمكسور بمعنى النصف ، كأنه ذهب نصف قوته بالتعب. (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨)

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) عطف على (الْأَنْعامَ). (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة. وقيل هي معطوفة على محل (لِتَرْكَبُوها) وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله ، ولأن المقصود من خلقها الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض. وقرئ بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة (لِتَرْكَبُوها) أو مصدرا في موضع الحال من أحد الضميرين أي : متزينين أو متزينا بها ، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا ، ويدل عليه أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري أجمل غيرها ، ويجوز أن يكون إخبارا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، وأن يراد به ما خلق في الجنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر.

٢٢٠