أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام وينقلب عليها الحيوان. (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت ، جمع راسية والتاء للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة. (وَأَنْهاراً) ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال أسباب لتولدها. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) متعلق بقوله : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين كالحلو والحامض ، والأسود والأبيض والصغير والكبير. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (يُغْشِي) بالتشديد. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها فإن تكونها وتخصصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيأ أسبابها.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بعضها طيبة وبعضها سبخة ، وبعضها رخوة وبعضها صلبة ، وبعضها تصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس. ولو لا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم تكن كذلك ، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية ، من حيث إنها متضامة متشاركة في النسب والأوضاع. (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) وبساتين فيها أنواع الأشجار والزروع ، وتوحيد الزرع لأنه مصدر في أصله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) بالرفع عطفا على (وَجَنَّاتٌ). (صِنْوانٌ) نخلات أصلها واحد. (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) متفرقات مختلفات الأصول. وقرأ حفص بالضم وهو لغة بني تميم ك (قِنْوانٌ) في جمع قنو. تسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما ، وذلك أيضا مما يدل على الصانع الحكيم ، فإن اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب (يُسْقى) بالتذكير على تأويل ما ذكر ، وحمزة والكسائي يفضل بالياء ليطابق قوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالتفكر.

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٥)

(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من إنكارهم البعث. (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) حقيق بأن يتعجب منه فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت الإعادة أيسر شيء عليه ، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ فهي دالة على إمكان الإعادة من حيث إنها تدل على كمال علمه وقدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته. (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بدل من قولهم أو مفعول له ، والعامل في إذا محذوف دل عليه : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) لأنهم كفروا بقدرته على البعث. (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم أو يغلون يوم القيامة. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا ينفكون عنها ، وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)(٦)

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بالعقوبة قبل العافية ، وذلك لأنهم استعجلوا ما هددوا به من عذاب الدنيا استهزاء. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا بها ولم يجوزوا حلول مثلها عليهم ، والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصدقة والصدقة ، العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه ، ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته منه. وقرئ «المثلات» بالتخفيف و «المثلات» بإتباع الفاء العين و «المثلات» بالتخفيف بعد الاتباع ، و «المثلات» بفتح الثاء على أنها جمع مثلة كركبة

١٨١

وركبات. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) مع ظلمهم أنفسهم ، ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة ، فإن التائب ليس على ظلمه ، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر ، أو أول المغفرة بالستر والإمهال. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) للكفار أو لمن شاء ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد».

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه واقتراحا لنحو ما أوتي موسى وعيسى عليهما‌السلام. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) مرسل للإنذار كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى الحق ويدعوهم إلى الصواب ، أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته بما ينزل عليك من الآيات. ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره ، تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه وإنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد ، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨)

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) وما تنقصه وما تزداده في الجنة والمدة والعدد ، وأقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا وخمس عند مالك وسنتان عند أبي حنيفة. روي أن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان لأربع سنين وأعلى عدده لا حد له. وقيل نهاية ما عرف به أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقال الشافعي رحمه‌الله أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة. وقيل المراد نقصان دم الحيض وازدياده ، وغاض جاء متعديا ولازما وكذا ازداد قال تعالى : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية. وإسنادهما إلى الأرحام على المجاز فإنهما لله تعالى أو لما فيها. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين ، وهيأ له أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك. وقرأ ابن كثير (هادٍ) و (والٍ) وو (واقٍ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير ، والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بغير ياء.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠)

(عالِمُ الْغَيْبِ) الغائب عن الحس. (وَالشَّهادَةِ) الحاضر له. (الْكَبِيرُ) العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء. (الْمُتَعالِ) المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه.

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) في نفسه. (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) لغيره. (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) طالب للخفاء في مختبأ بالليل. (وَسارِبٌ) بارز. (بِالنَّهارِ) يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز ، وهو عطف على من أو مستخف على أن من في معنى الاثنين كقوله :

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

١٨٢

كأنه قال سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار ، والآية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه وشموله.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

(لَهُ) لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب. (مُعَقِّباتٌ) ملائكة تعتقب في حفظه ، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها ، أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة ، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات. وقرئ «معاقيب» جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر. (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له ، أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى. وقد قرئ به وقيل من بمعنى الباء. وقيل من أمر الله صفة ثانية ل (مُعَقِّباتٌ). وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من العافية والنعمة. (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) فلا راد له فالعامل في (إِذا) ما دل عليه الجواب. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء ، وفيه دليل على أن خلاف مراد الله تعالى محال.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)(١٣)

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من أذاه. (وَطَمَعاً) في الغيث وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف ، أي إرادة خوف وطمع أو التأويل بالإخافة والإطماع ، أو الحال من (الْبَرْقَ) أو المخاطبين على إضمار ذو ، أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. وقيل يخاف المطر من يضره ويطمع فيه من ينفعه. (وَيُنْشِئُ السَّحابَ) الغيم المنسحب في الهواء. (الثِّقالَ) وهو جمع ثقيلة وإنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى الجمع.

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) ويسبح سامعوه. (بِحَمْدِهِ) ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله ، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرعد فقال : «ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب». (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل (الرَّعْدُ). (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) حيث يكذبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم ، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل ، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاصدين لقتله ، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف ، فتنبه له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية ، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، فنزلت. (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) المماحلة المكايدة لأعدائه ، من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك ، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ،

١٨٣

ولعل أصله المحل بمعنى القحط. وقيل فعال من المحل بمعنى القوة. وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ، ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم : فساعد الله أشد وموساه أحد.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (١٤)

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلى عبادته دون غيره ، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه ، ويؤيده ما بعده و (الْحَقِ) على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال (دَعْوَةُ) لما بينهما من الملابسة ، أو على تأويل دعوة المدعو الحق. وقيل (الْحَقِ) هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق ، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو دلالة على أنه على الحق ، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، أو بيان ضلالهم وفساد رأيهم. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون ، فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة (مِنْ دُونِهِ) عليه. (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) من الطلبات. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ) إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه. (إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) يطلب منه أن يبلغه. (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم. وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه. وقرئ «تدعون» بالتاء وباسط بالتنوين. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع وخسار وباطل.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١٥)

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) يحتمل أن يكون السجود على حقيقته فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين ، طوعا حالتي الشدة والرخاء والكفرة كرها حال الشدة والضرورة. (وَظِلالُهُمْ) بالعرض وأن يراد به انقيادهم لإحداث ما أراده منهم شاؤوا أو كرهوا ، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص وانتصاب (طَوْعاً وَكَرْهاً) بالحال أو العلة وقوله : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ظرف ل (يَسْجُدُ) والمراد بهما الدوام أو حال من الظلال ، وتخصيص الوقتين لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما ، والغدو جمع غداة كقنى جمع قناة ، و (الْآصالِ) جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب. وقيل الغدو مصدر ويؤيده أنه قد قرئ و «الإيصال» وهو الدخول في الأصيل.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(١٦)

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومتولي أمرهما. (قُلِ اللهُ) أجب عنهم بذلك إذ لا جواب لهم سواه ، ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه أو لقنهم الجواب به. (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ) ثم ألزمهم بذلك لأن اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل. (أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا يقدرون على أن يجلبوا إليها نفعا أو يدفعوا عنها ضرا فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه ، وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) المشرك

١٨٤

الجاهل بحقيقة العبادة والموجب لها والموحد العالم بذلك. وقيل المعبود الغافل عنكم والمعبود المطلع على أحوالكم. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) الشرك والتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالياء. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) بل أجعلوا والهمزة للإنكار وقوله : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار. (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) خلق الله وخلقهم ، والمعنى أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق. (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي لا خالق غيره فيشاركه في العبادة ، جعل الخلق موجب العبادة ولازم استحقاقها ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله : (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحد بالألوهية. (الْقَهَّارُ) الغالب على كل شيء.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ)(١٧)

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها. (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) أنهار جمع واد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه ، واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع. (بِقَدَرِها) بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر والكبر. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) رفعه والزبد وضر الغليان. (رابِياً) عاليا. وممّا توقدون عليه في النّار يعم الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه. (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) أي طلب حلي. (أَوْ مَتاعٍ) كالأواني وآلات الحرب والحرث ، والمقصود من ذلك بيان منافعها. (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء وهو خبثه ، و (مِنَ) للابتداء أو للتبعيض وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) مثل الحق والباطل فإنه مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار ، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وبين ذلك بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) يجفأ به أي يرمي به السبيل والفلز المذاب وانتصابه على الحال وقرئ جفالا والمعنى واحد. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) كالماء وخلاصة الفلز. (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ينتفع به أهلها. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) لا لايضاح المشتبهات.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) للمؤمنين الذين استجابوا. (لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) الاستجابة الحسنى. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة واللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما. وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي المثوبة أو الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره. (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) وهو على الأول كلام مبتدأ لبيان مال غير المستجيبين. (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) وهو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء. (وَمَأْواهُمْ) مرجعهم. (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

١٨٥

الْمِهادُ) المستقر والمخصوص بالذم محذوف.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ)(٢٠)

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيستجيب. (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب لا يستبصر فيستجيب ، والهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول المبرأة عن مشايعة الألف ومعارضة الوهم.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى ، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد وهو تعميم بعد تخصيص.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(٢٢)

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ويندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وعيده عموما. (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى. (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) طلبا لرضاه لا لجزاء وسمعة ونحوهما. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه. (سِرًّا) لمن لم يعرف بالمال. (وَعَلانِيَةً) لمن عرف به. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعونها بها فيجازون الإساءة بالإحسان ، أو يتبعون السيئة الحسنة فتمحوها. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أهلها وهي الجنة ، والجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (عُقْبَى الدَّارِ) أو مبتدأ خبره (يَدْخُلُونَها) والعدن الإقامة أي جنات يقيمون فيها ، وقيل هو بطنان الجنة. (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) عطف على المرفوع في يدخلون ، وإنما ساغ للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم ، وفي التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بشارة بدوام السلامة. (بِما صَبَرْتُمْ) متعلق ب (عَلَيْكُمْ) أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم لا ب (سَلامٌ) ، فإن الخبر فاصل والباء للسببية أو للبدلية. (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وقرئ «فنعم» بفتح

١٨٦

النون والأصل نعم فسكن العين بنقل كسرتها إلى الفاء وبغيره.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٢٥)

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) يعني مقابلي الأولين. (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالظلم وتهييج الفتن. (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) عذاب جهنم أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة (عُقْبَى الدَّارِ).

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ)(٢٦)

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسعه ويضيقه. (وَفَرِحُوا) أي أهل مكة. (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) بما بسط لهم في الدنيا. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) أي في جنب الآخرة. (إِلَّا مَتاعٌ) إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي ، والمعنى أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أقبل إلى الحق ورجع عن العناد ، وهو جواب يجري مجرى التعجب من قولهم كأنه قال قل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية ، ويهدي إليه من أناب بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.

(الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (مِنْ) أو خبر مبتدأ محذوف. (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أنسا به واعتمادا عليه ورجاء منه ، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته ، أو بذكر دلائله الدالة على وجوده ووحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات. (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تسكن إليه.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ خبره (طُوبى لَهُمْ) وهو فعلى من الطيب قلبت ياؤه واوا لضمة ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى ، ويجوز فيه الرفع والنصب ولذلك قرئ (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالنصب.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)(٣٠)

(كَذلِكَ) مثل ذلك يعني إرسال الرسل قبلك. (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها) تقدمتها. (أُمَمٌ) أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم. (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته ، فلم يشكروا نعمه وخصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم ، وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنياوية عليهم. وقيل نزلت في مشركي أهل مكة حين قيل لهم (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ). (قُلْ هُوَ رَبِّي) أي الرحمن خالقي ومتولي أمري. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا مستحق للعبادة سواه.

١٨٧

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي عليكم. (وَإِلَيْهِ مَتابِ) مرجعي ومرجعكم.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١)

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن ، أو المبالغة في عناد الكفرة وتصميمهم أي : ولو أن كتابا زعزعت به الجبال عن مقارها. (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهارا وعيونا. (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فتسمع فتقرؤه ، أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار ، أو لما آمنوا به كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) الآية. وقيل إن قريشا قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع ، أو سخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشأم ، أو ابعث لنا به قصي ابن كلاب وغيره من آبائنا ليكلمونا فيك ، فنزلت. وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير. وقيل الجواب مقدم وهو قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وما بينهما اعتراض وتذكير (كُلِّمَ) خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل لله القدرة على كل شيء وهو إضراب عما تضمنته (لَوْ) من معنى النفي أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك ، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم ، وذهب أكثرهم إلى أن معناه أفلم يعلم لما روي أن عليا وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين قرءوا «أفلم يتبين» ، وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم ، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوما ولذلك علقه بقوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم ، وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييأس الذين آمنوا عن إيمانهم علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أو ب (آمَنُوا). (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من الكفر وسوء الأعمال. (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم وتقلقلهم. (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها. وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يزال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) الموت أو القيامة أو فتح مكة. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لامتناع الكذب في كلامه.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه ، والإملاء أن يترك ملاوة من الزمان في دعة وأمن. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي عقابي إياهم.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)(٣٤)

١٨٨

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) رقيب عليها (بِما كَسَبَتْ) من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده شيء من جزائهم ، والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) استئناف أو عطف على (كَسَبَتْ) إن جعلت «ما» مصدرية ، أو لم يوحدوه وجعلوا عطف عليه ويكون الظاهر فيه موضع الضمير لتنبيه على أنه المستحق للعبادة وقوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) تنبيه على أن هؤلاء الشركاء لا يستحقونها ، والمعنى صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة. (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) بل أتنبئونه. وقرئ «تنبئونه» بالتخفيف. (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم ، أو بصفات لهم يستحقونها لأجلها لا يعلمها وهو العالم بكل شيء. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار معنى كتسمية الزنجي كافورا وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) تمويههم فتخيلوا أباطيل ثم خالوها حقا ، أو كيدهم للإسلام بشركهم. (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الحق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (وَصُدُّوا) بالفتح أي وصدوا الناس عن الإيمان ، وقرئ بالكسر «وصد» بالتنوين. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يخذله. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يوفقه للهدى.

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) لشدته ودوامه. (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ) من عذابه أو من رحمته. (مِنْ واقٍ) حافظ.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) صفتها التي هي مثل في الغرابة ، وهو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقيل خبره. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) على طريقة قولك صفة زيد أسمر ، أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، أو على زيادة المثل وهو على قول سيبويه حال من العائد أو المحذوف أو من الصلة. (أُكُلُها دائِمٌ) لا ينقطع ثمرها. (وَظِلُّها) أي وظلها وكذلك لا ينسخ في الدنيا بالشمس (تِلْكَ) أي الجنة الموصوفة. (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) مآلهم ومنتهى أمرهم.

(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) لا غير ، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) (٣٦)

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعني المسلمين من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة ، أو عامتهم فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم. (وَمِنَ الْأَحْزابِ) يعني كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما. (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرفوه منها. (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) جواب للمنكرين أي قل لهم إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وأوحده ، وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره ، وأما ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام. وقرئ «ولا أشرك» بالرفع على الاستئناف. (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره. (وَإِلَيْهِ مَآبِ) وإليه مرجعي للجزاء لا إلى غيره ، وهذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء ، وأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه.

١٨٩

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)(٣٨)

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها. (أَنْزَلْناهُ حُكْماً) يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة. (عَرَبِيًّا) مترجما بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه وانتصابه على الحال. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) التي يدعونك إليها ، كتقرير دينهم والصلاة إلى قبلتهم بعد ما حولت عنها.

(بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بنسخ ذلك. (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ينصرك ويمنع العقاب عنك وهو حسم لأطماعهم وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) بشرا مثلك. (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) نساء وأولادا كما هي لك. (وَما كانَ لِرَسُولٍ) وما يصح له ولم يكن في وسعه. (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) تقترح عليه وحكم يلتمس منه. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإنه الملي بذلك. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل وقت وأمد حكم يكتب على العباد على ما يقتضيه استصلاحهم.

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(٤٠)

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه. (وَيُثْبِتُ) ما تقتضيه حكمته. وقيل يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها. وقيل يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتا أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه. وقيل يمحو قرنا ويثبت آخرين. وقيل يمحو الفاسدات الكائنات. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي (وَيُثْبِتُ) بالتشديد. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) وكيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم أو توفيناك قبله. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) لا غير. (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) للمجازاة لا عليك فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم فإنا فاعلون له وهذا طلائعه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(٤٢)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفرة. (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بما نفتحه على المسلمين منها.

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا راد له وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء ، والمعنى أنه حكم للإسلام بالقبال وعلى الكفر بالإدبار وذلك كائن لا يمكن تغييره ، ومحل (لا) مع المنفي النصب على الحال أي يحكم نافذا حكمه. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والاجلاء في الدنيا.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بأنبيائهم والمؤمنين منهم. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) إذ لا يؤبه بمكر دون مكره فإنه القادر على ما هو المقصود منه دون غيره. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فيعد جزاءها. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ

١٩٠

لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) من الحزبين حيثما يأتيهم العذاب المعد لهم وهم في غفلة منه ، وهذا كالتفسير لمكر الله تعالى بهم ، واللام تدل على أن المراد بالعقبى العاقبة المحمودة. مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو الكافر على إرادة الجنس ، وقرئ «الكافرون» و «الذين كفروا» و «الكفر» أي أهله وسيعلم من أعلمه إذا أخبره.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) قيل المراد بهم رؤساء اليهود. (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز ، أو علم التوراة وهو ابن سلام وأضرابه ، أو علم اللوح المحفوظ وهو الله تعالى ، أي كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيدا بيننا فيخزي الكاذب منا ، ويؤيده قراءة من قرأ (وَمَنْ عِنْدَهُ) بالكسر و (عِلْمُ الْكِتابِ) وعلى الأول مرتفع بالظرف فإنه معتمد على الموصول ، ويجوز أن يكون مبتدأ والظرف خبره وهو متعين على الثاني. وقرئ «ومن عنده علم الكتاب» على الحرف والبناء للمفعول. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى ، وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله».

١٩١

(١٤) سورة إبراهيم

مكية وهي اثنتان وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(١)

(الر كِتابٌ) أي هو كتاب. (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) بدعائك إياهم إلى ما تضمنه. (مِنَ الظُّلُماتِ) من أنواع الضلال. (إِلَى النُّورِ) إلى الهدى. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتوفيقه وتسهيله مستعار من الاذن الذي هو تسهيل الحجاب ، وهو صلة (لِتُخْرِجَ) أو حال من فاعله أو مفعوله. (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله : (إِلَى النُّورِ) بتكرير العامل أو استئناف على أنه جواب لمن يسأل عنه ، وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له وتخصيص الوصفين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه ولا يخيب سابله.

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) على قراءة نافع وابن عامر مبتدأ وخبر ، أو (اللهِ) خبر مبتدأ محذوف والذي صفته وعلى قراءة الباقين عطف بيان ل (الْعَزِيزِ) لأنه كالعلم لاختصاصه بالمعبود على الحق. (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور ، والويل نقيض الوأل وهو النجاة ، وأصله النصب لأنه مصدر إلا أنه لم يشتق منه فعل لكنه رفع لإفادة الثبات.

(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها من غيره. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بتعويق الناس عن الإيمان. وقرئ «ويصدون» من أصده وهو منقول من صد صدودا إذا تنكب وليس فصيحا ، لأن في صده مندوحة عن تكلف التعدية بالهمزة. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويبغون لها زيغا ونكوبا عن الحق ليقدحوا فيه ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير والموصول بصلته يحتمل الجر صفة للكافرين والنصب على الذم والرفع عليه أو على أنه مبتدأ خبره. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله للمبالغة ، أو للأمر الذي به الضلال فوصف به لملابسته.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٤)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم. (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوه ويترجموه إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ، ولذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار عشيرته أولا ، ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على

١٩٢

ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز ، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشعبة منها وما في اتعاب القرائح وكد النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. وقرئ «بلسن» وهو لغة فيه كريش ورياش ، ولسن بضمتين وضمة وسكون على الجمع كعمد وعمد. وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية ، ثم ترجمها جبريل عليه‌السلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فإنه ضمير القوم ، والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل لتبين للعرب. (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) فيخذله عن الإيمان. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق له. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغلب على مشيئته. (الْحَكِيمُ) الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) يعني اليد والعصا وسائر معجزاته. (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) بمعنى أي أخرج لأن في الإرسال معنى القول ، أو بأن أخرج فإن صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر فيصح أن توصل بها أن الناصبة. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة وأيام العرب حروبها. وقيل بنعمائه وبلائه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يصبر على بلائه ويشكر على نعمائه ، فإنه إذا سمع بما أنزل على من قبل من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل المراد لكل مؤمن وإنما عبر عنه بذلك تنبيها على أن الصبر والشكر عنوان المؤمن.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي اذكروا نعمته عليكم وقت إنجائه إياكم ، ويجوز أن ينتصب ب (عَلَيْكُمْ) إن جعلت مستقرة غير صلة للنعمة ، وذلك إذا أريدت بها العطية دون الأنعام ، ويجوز أن يكون بدلا من (نِعْمَةَ اللهِ) بدل الاشتمال. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أحوال من آل فرعون ، أو من ضمير المخاطبين والمراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة «البقرة» و «الأعراف» لأنه مفسر بالتذبيح والقتل ثمة ومعطوف عليه التذبيح ها هنا ، وهو إما جنس العذاب أو استعبادهم أو استعمالهم بالأعمال الشاقة. (وَفِي ذلِكُمْ) من حيث إنه بإقدار الله إياهم وإمهالهم فيه. (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ابتلاء منه ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء والمراد بالبلاء النعمة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٨)

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أيضا من كلام موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (تَأَذَّنَ) بمعنى آذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة. (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم من الإنجاء وغيره بالإيمان والعمل الصالح. (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ما أنعمت عليكم. (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) فلعلي أعذبكم على الكفران عذابا شديدا ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد ، والجملة مقول قول مقدر أو مفعول (تَأَذَّنَ) على أنه جار مجرى قال لأنه ضرب منه.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين. (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكركم. (حَمِيدٌ) مستحق للحمد في ذاته ، محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمته ذرات المخلوقات ، فما ضررتم

١٩٣

بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الأنعام وعرضتموها للعذاب الشديد.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٩)

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) من كلام موسى عليه الصلاة والسلام أو كلام مبتدأ من الله. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) جملة وقعت اعتراضا ، أو الذين من بعدهم عطف على ما قبله ولا يعلمهم اعتراض ، والمعنى أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله ، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كذب النسابون. (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ). أو وضعوها عليها تعجبا منه أو استهزاء عليه كمن غلبه الضحك ، أو إسكاتا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرا لهم بإطباق الأفواه ، أو أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم : (إِنَّا كَفَرْنا) تنبيها على أن لا جواب لهم سواه أو ردوها في أفواه الأنبياء يمنعونهم من التكلم ، وعلى هذا يحتمل أن يكون تمثيلا. وقيل الأيدي بمعنى الأيادي أي ردوا أيادي الأنبياء التي هي مواعظهم وما أوحي إليهم من الحكم والشرائع في أفواههم ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه. (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم. (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من الإيمان وقرئ «تدعونا» بالإدغام. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة أو ذي ريبة وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الشيء.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١٠)

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه لا في الشك. أي إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه. وأشاروا إلى ذلك بقولهم : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو صفة أو بدل ، و (شَكٌ) مرتفع بالظرف. (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان ببعثه إيانا. (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) أو يدعوكم إلى المغفرة كقولك : دعوته لينصرني ، على إقامة المفعول له مقام المفعول به. (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم وهو ما بينكم وبينه تعالى ، فإن الإسلام يجبه دون المظالم ، وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين ، ولعل المعنى فيه أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فتتناول الخروج عن المظالم. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله آخر أعماركم. (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل. (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) بهذه الدعوى. (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) يدل على فضلكم واستحقاقكم لهذه المزية ، أو على صحة ادعائكم النبوة كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتا ولجاجا.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١٢)

١٩٤

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) سلموا مشاركتهم في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومنه عليهم ، وفيه دليل على أن النبوة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى. (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ليس إلينا الإتيان بالآيات ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتي بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى فيخص كل نبي بنوع من الآيات. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فلنتوكل عليه في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم ، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ألا ترى قوله تعالى :

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي : أي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه. (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) التي بها نعرفه ونعلم أن الأمور كلها بيده. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا وفي «العنكبوت». (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) جواب قسم محذوف أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)(١٤)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) حلفوا على أن يكون أحد الأمرين ، إما إخراجهم للرسل أو عودهم إلى ملتهم ، وهو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ومن آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي إلى رسلهم. (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) على إضمار القول ، أو إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه.

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي أرضهم وديارهم كقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا). وقرئ «ليهلكن» «وليسكننكم» بالياء اعتبارا لأوحى كقولك : أقسم زيد ليخرجن. (ذلِكَ) إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين. (لِمَنْ خافَ مَقامِي) موقفي وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة ، أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل المقام مقحم. (وَخافَ وَعِيدِ) أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(١٧)

(وَاسْتَفْتَحُوا) سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم من الفتاحة كقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) وهو معطوف على (فَأَوْحى) والضمير للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل للكفرة وقيل للفريقين. فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق ويهلك المبطل. وقرئ بلفظ الأمر عطفا على «ليهلكن». (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون وخاب كل جبار عات متكبر على الله معاند للحق فلم يفلح ، ومعنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع.

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي من بين يديه فطنة مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة. وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك. (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ) عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ). (صَدِيدٍ) عطف بيان ل (ماءٍ) وهو ما يسيل من جلود أهل النار.

(يَتَجَرَّعُهُ) يتكلف جرعه وهو صفة لماء ، أو حال من الضمير في (يُسْقى وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ولا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه ، والسوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة وقبول

١٩٥

نفس. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات. وقيل من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح. (وَمِنْ وَرائِهِ) ومن بين يديه. (عَذابٌ غَلِيظٌ) أي يستقبل في كل وقت عذابا أشد مما هو عليه. وقيل هو الخلود في النار. وقيل حبس الأنفاس. وقيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل الله تعالى عليهم بدعوة رسوله ، فخيب رجاءهم فلم يسقهم ووعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار.

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)(١٨)

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في الغرابة ، أو قوله (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) وهو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم. وقيل (أَعْمالُهُمْ) بدل من ال (مَثَلُ) والخبر (كَرَمادٍ). (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) حملته وأسرعت الذهاب به وقرأ نافع «الرياح». (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم : نهاره صائم وليله قائم ، شبه صنائعهم من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا ، لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والتوجه بها إليه ، أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح العاصف. (لا يَقْدِرُونَ) يوم القيامة. (مِمَّا كَسَبُوا) من أعمالهم. (عَلى شَيْءٍ) لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب وهو فذلكة التمثيل. (ذلِكَ) إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون. (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)(٢٠)

(أَلَمْ تَرَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به أمته. وقيل لكل واحد من الكفرة على التلوين. (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة والوجه الذي يحق أن تخلق عليه ، وقرأ حمزة والكسائي «خالق السموات». (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يعدمكم ويخلق خلقا آخر مكانكم ، رتب ذلك على كونه خالقا للسموات والأرض استدلالا به عليه ، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم ثم كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع قدر أن يبدلهم بخلق آخر ولم يمتنع عليه ذلك كما قال :

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، ومن كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد رجاء لثوابه وخوفا من عقابه يوم الجزاء.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)(٢١)

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو (لِلَّهِ) على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش ويظنون أنها تخفى على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم ، وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه. (فَقالَ الضُّعَفاءُ) الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف

١٩٦

الرأي ، وإنما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لرؤوسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم ، وهو جمع تابع كغائب وغيب ، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) دافعون عنا. (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من الأولى للبيان واقعة موقع الحال ، والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله ، والإعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا ، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء. (قالُوا) أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذارا عما فعلوا بهم. (لَوْ هَدانَا اللهُ) للإيمان ووفقنا له. (لَهَدَيْناكُمْ) ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له ، لكن سد دوننا طريق الخلاص. (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) مستويان علينا الجزع والصبر. (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) منجى ومهرب من العذاب ، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار ، وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت ومصدرا كالمغيب ، ويجوز أن يكون قوله (سَواءٌ عَلَيْنا) من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون (سَواءٌ عَلَيْنا).

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٢)

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أحكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنّة وأهل النار النار خطيبا في الأشقياء من الثقلين. (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وعدا من حقه أن ينجز أو وعدا أنجزه وهو الوعد بالبعث والجزاء. (وَوَعَدْتُكُمْ) وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب وإن كانا فالأصنام تشفع لكم. (فَأَخْلَفْتُكُمْ) جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلط فألجئكم إلى الكفر والمعاصي. (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) إلا دعائي إياكم إليها بتسويلي وهو ليس من جنس السلطان ولكنه على طريقة قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع. ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أسرعتم إجابتي. (فَلا تَلُومُونِي) بوسوستي فإن من صرح العداوة لا يلام بأمثال ذلك. (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث أطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم ، واحتجت المعتزلة بأمثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله وليس فيها ما يدل عليه ، إذ يكفي لصحتها أن يكون لقدرة العبد مدخل ما في فعله وهو الكسب الذي يقوله أصحابنا. (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) بمغيثكم من العذاب. (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) بمغيثي وقرأ حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين ، وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه. من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع أن حركة ياء الإضافة الفتح ، فإذا لم تكسر وقبلها ألف فبالحري أن لا تكسر وقبلها ياء ، أو على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى الهاء والكاف في : ضربته ، وأعطيتكه ، وحذف الياء اكتفاء بالكسرة. (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) «ما» إما مصدرية و (مِنْ) متعلقة بأشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). أو موصولة بمعنى من نحو ما في قولهم : سبحان ما سخركن لنا ، و (مِنْ) متعلقة ب (كَفَرْتُ) أي كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى بطاعتكم إياي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام وغيرها من قبل إشراككم ، حين رددت أمره بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام وأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان. (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين

١٩٧

وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣)

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بإذن الله تعالى وأمره والمدخلون هم الملائكة. وقرئ «وأدخل» على التكلم فيكون قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلقا بقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربهم.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٢٥)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) كيف اعتمده ووضعه. (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، ويجوز أن تكون (كَلِمَةً) بدلا من (مَثَلاً) و (كَشَجَرَةٍ) صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي (كَشَجَرَةٍ) ، وأن تكون أول مفعولي ضرب إجراء له مجرى جعل وقد قرئت بالرفع على الابتداء. (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض ضارب بعروقه فيها. (وَفَرْعُها) وأعلاها. (فِي السَّماءِ) ويجوز أن يريد وفروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس لاكتسابه الاستغراق من الإضافة. وقرئ «ثابت أصلها» والأول على أصله ولذلك قيل إنه أقوى ولعل الثاني أبلغ.

(تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي ثمرها. (كُلَّ حِينٍ) وقته الله تعالى لإثمارها. (بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادة خالقها وتكوينه. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير ، فإنه تصوير للمعاني وإدناء لها من الحس.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)(٢٦)

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) كمثل شجرة خبيثة (اجْتُثَّتْ) استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية. (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لأن عروقها قريبة منه. (ما لَها مِنْ قَرارٍ) استقرار. واختلف في الكلمة والشجرة ففسرت الكلمة الطيبة : بكلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالشرك بالله تعالى والدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ، ولعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة. وروي ذلك مرفوعا وبشجرة في الجنة ، والخبيثة بالحنظلة والكشوث ، ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)(٢٧)

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحيى عليهما‌السلام وجرجيس وشمعون والذين فتنهم أصحاب الأخدود. (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ، ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة. وروي (أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ). (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين

١٩٨

ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق ولا يثبتون في مواقف الفتن. (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)(٣٠)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) أي شكر نعمته كفرا بأن وضعوه مكانه ، أو بدلوا نفس النعمة كفرا ، فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة ، خلقهم الله تعالى وأسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا أذلاء ، فبقوا مسلوبي النعمة وموصوفين بالكفر ، وعن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما : هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) الذين شايعوهم في الكفر. (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك بحملهم على الكفر.

(جَهَنَّمَ) عطف بيان لها. (يَصْلَوْنَها) حال منها أو من القوم ، أي داخلين فيها مقاسين لحرها ، أو مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم. (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي وبئس المقر جهنم.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) الذي هو التوحيد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بفتح الياء ، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. (قُلْ تَمَتَّعُوا) بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها ، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به ، وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من آمر مطاع.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)(٣١)

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية ، ومفعول (قُلْ) محذوف يدل عليه جوابه : أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا. (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيكون إيذانا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله :

محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا

لدلالة قل عليه. وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا مقامين مقامهما ، وهو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرط وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا. (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية ، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية ، والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدي به نفسه. (وَلا خِلالٌ) ولا مخالة فيشفع لك خليل ، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على النفي العام.

١٩٩

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مبتدأ وخبر (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و (مِنَ الثَّمَراتِ) بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة ، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) بمشيئته إلى حيث توجهتم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم. (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا ، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى ، ولعل المراد ب (ما سَأَلْتُمُوهُ) ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل ، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول. وقرئ «من كل» بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال ، ويجوز أن تكون «ما» نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن أفرادها ، فإنها غير متناهية. وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان. (كَفَّارٌ) شديد الكفران. وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٦)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) بلدة مكة. (آمِناً) ذا أمن لمن فيها ، والفرق بينه وبين قوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمنا ، وفي الثاني جعله من البلاد الآمنة. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) بعدني وإياهم ، (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) واجعلنا منها في جانب وقرئ «وأجنبني» وهما على لغة نجد وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره. وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم وهو بظاهره ، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته. وزعم ابن عيينة أو أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام لم يعبدوا الصنم محتجا به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) (فَمَنْ تَبِعَنِي) على ديني. (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين. (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً

٢٠٠