أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢٧)

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) طالبتني بالمؤاتاة ، وإنما قال ذلك دفعا لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم ، ولو لم تكذب عليه لما قاله. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قيل ابن عم لها. وقيل ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تكلم أربعة صغارا ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليه‌السلام» وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها. (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها ، أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته. والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول ، وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل إن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك : إن أحسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل ، فإن معناه إن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك بإحساني لك السابق. وقرئ «من قبل» «ومن دبر» بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبل وبعد ، وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين.

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩)

(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ) إن قولك (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أو إن السوء أو إن هذا الأمر. (مِنْ كَيْدِكُنَ) من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء. (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة.

(يُوسُفُ) حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث. (أَعْرِضْ عَنْ هذا) اكتمه ولا تذكره. (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يا راعيل. (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا والتذكير للتغليب.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٣٠)

(وَقالَ نِسْوَةٌ) هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها. (فِي الْمَدِينَةِ) ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر ، أو صفة نسوة وكن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) تطلب مواقعة غلامها إياها. و (الْعَزِيزِ) بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة. (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبا ، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه. وقرئ «شعفها» من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه. (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٣١)

١٦١

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) باغتيابهن ، وإنما سماه مكرا لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره ، أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتهن سرها فأفشينه عليها. (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات. (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) ما يتكئن عليه من الوسائد. (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهن يبهتن ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة ، أو يهاب يوسف مكرها إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر. وقيل متكأ طعاما أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفا ولذلك نهي عنه. قال جميل :

فظللنا بنعمة واتكأنّا

وشربنا الحلال من قلله

وقيل المتكأ طعام يحز حزا كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين. وقرئ «متكا» بحذف الهمزة و «متكاء» بإشباع الفتحة كمنتزاح و «متكا» وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و «متكأ» من تكئ يتكأ إذا اتكأ. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) عظمنه وهبن حسنه الفائق. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر» وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران. وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض ، والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة والسلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي :

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع

فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيها له من صفات العجز وتعجبا من قدرته على خلق مثله ، وأصله «حاشا» كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء ، فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك.

وقرئ «حاش الله» بغير لام بمعنى براءة الله ، و «حاشا لله» بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر. وقيل «حاشا» فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية الله مما يتوهم فيه. (ما هذا بَشَراً) لأن هذا الجمال غير معهود للبشر ، وهو على لغة الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال. وقرئ «بشر» بالرفع على لغة تميم و «بشرى» أي بعبد مشترى لئيم. (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة ، أو لأن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إلا الملك.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(٣٢)

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتنني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) فامتنع طلبا للعصمة ، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي ما آمر به ، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف. (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) من الأذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغرا وصغارا والصغير من صغر بالضم صغرا. وقرئ «ليكونن» وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف «كنسفعا» على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين.

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٤)

١٦٢

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ) وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر. (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي آثر عندي من مؤاتاتها زنا نظرا إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه ، وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها. أو دعونه إلى أنفسهن ، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من كان يسأل الصبر. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي) وإن لم تصرف عني. (كَيْدَهُنَ) في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي ، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها. وقرئ (أَصْبُ) من الصبابة وهي الشوق. (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح ، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ). (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء الملتجئين إليه. (الْعَلِيمُ) بأحوالهم وما يصلحهم.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٣٦)

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل (بَدا) مضمر يفسره.

(لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زمانا حتى تبصر ما يكون منه ، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين. وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه ، و «عتى» بلغة هذيل.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه. (قالَ أَحَدُهُما) يعني الشرابي. (إِنِّي أَرانِي) أي في المنام وهي حكاية حال ماضية. (أَعْصِرُ خَمْراً) أي عنبا وسماه خمرا باعتبار ما يؤول إليه. (وَقالَ الْآخَرُ) أي الخباز. (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) تنهش منه. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، أو من العالمين وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٣٨)

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) أي بتأويل ما قصصتما علي ، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل ، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد ، فقدم ما يكون معجزة له من الإخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير. (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما) أي

١٦٣

ذلك التأويل. (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه ، ولذلك جوز للحامل أن يصف نفسه حتى يعرف فيقتبس منه ، وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة. (ما كانَ لَنا) ما صح لنا معشر الأنبياء. (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي شيء كان. (ذلِكَ) أي التوحيد. (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) بالوحي. (وَعَلَى النَّاسِ) وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) المبعوث إليهم. (لا يَشْكُرُونَ) هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون ، أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٤٠)

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا ساكنيه ، أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع كقوله :

يا سارق الليلة أهل الدّار

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) شتى متعددة متساوية الأقدام. (خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ) المتوحد بالألوهية. (الْقَهَّارُ) الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر. (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها. (إِنِ الْحُكْمُ) ما الحكم في أمر العبادة. (إِلَّا لِلَّهِ) لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره. (أَمَرَ) على لسان أنبيائه. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الذي دلت عليه الحجج. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم ، وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة ، بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها ، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فيخبطون في جهالاتهم.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)(٤١)

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) يعني الشرابي. (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه. (وَأَمَّا الْآخَرُ) يريد به الخباز. (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) فقالا كذبنا فقال (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه ، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده ، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما.

١٦٤

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين. (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) اذكر حالي عند الملك كي يخلصني. (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فأنسى الشرابي أن يذكره لربه ، فأضاف إليه المصدر لملابسته له أو على تقدير ذكر أخبار ربه ، أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس». والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء. (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)(٤٤)

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) لما دنا فرجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) قد انعقد حبها. (وَأُخَرَ يابِساتٍ) وسبعا أخر يابسات قد أدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها ، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات ، وأجرى السمان على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجردا عن الموصوف فإنه لبيان الجنس ، وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على (سِمانٍ) لأنه نقيضه. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) عبروها. (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة ، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرا واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل ، أو لتضمن (تَعْبُرُونَ) معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا.

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة ، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم : فلان يركب الخيل ، أو لتضمنه أشياء مختلفة. (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا ، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)(٤٦)

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) من صاحبي السجن وهو الشرابي. (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة. وقرئ «إمة» بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة ، و «أمه» أي نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي ، والجملة اعتراض ومقول القول. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن.

١٦٥

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف ، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه. (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي في رؤيا ذلك. (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أعود إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد إذ قيل إن السجن لم يكن فيه. (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويلها أو فضلك ومكانك ، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩)

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين ، أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأبا وتكون الجملة حالا. وقرأ حفص (دَأَباً) بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل. وقيل (تَزْرَعُونَ) أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله : (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) لئلا يأكله السوس ، وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السنين.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحرزون لبذور الزراعة.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار. وقيل يحلبون الضروع. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي ، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا ، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب ، أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)(٥٠)

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) بعد ما جاءه الرسول بالتعبير (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) ليخرجه. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلما فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقى مواقعها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة» وإنما قال (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجا له على البحث وتحقيق الحال ، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرما ومراعاة للأدب وقرئ «النسوة» بضم النون. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) حين قلن لي أطع مولاتك ، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن.

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ

١٦٦

الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(٥٢)

(قالَ ما خَطْبُكُنَ) قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب فيه صاحبه. (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) من ذنب. (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ قال :

فحصحص في صمّ الصفا ثفناته

وناء بسلمى نوأة ثمّ صمّما

أو ظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. وقرئ على البناء للمفعول. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك التثبت ليعلم العزيز. (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه ، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة. (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) لا ينفذه ولا يسدده ، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة. وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله :

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٣)

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي لا أنزهها تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله ، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق. وعن ابن عباس أنه لما قال : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له جبريل ولا حين هممت فقال ذلك. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها ، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات. (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) إلا وقت رحمة ربي ، أو إلا ما رحمه‌الله من النفوس فعصمه من ذلك. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه. وعن ابن كثير ونافع (بِالسُّوءِ) على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر همّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ)(٥٤)

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أجعله خالصا لنفسي. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء. (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة. (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شيء. روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثيابا جددا ، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك : ما هذا اللسان قال : لسان آبائي ، وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال : أحب أن أسمع رؤياي منك ، فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره. وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا.

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها

١٦٧

حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧)

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) ولني أمرها والأرض أرض مصر. (إِنِّي حَفِيظٌ) لها ممن لا يستحقها. (عَلِيمٌ) بوجوه التصرف فيه ، ولعله عليه‌السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده وتجل عوائده ، وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها والتولي من يد الكافر إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد أن الملك أسلم على يده.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) في أرض مصر. (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) ينزل من بلادها حيث يهوى وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) في الدنيا والآخرة. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك والفواحش لعظمه ودوامه.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٨)

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) روي : أنه لما استوزره الملك أقام العدل واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلات ، حتى دخلت السنون المجدبة وعم القحط مصر والشأم ونواحيهما ، وتوجه إليه الناس فباعها أولا بالدراهم والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا ثم عرض الأمر على الملك فقال : الرأي رأيك فأعتقهم ورد عليهم أموالهم ، وكان قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب بنيه ـ غير بنيامين ـ إليه للميرة. (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي عرفهم يوسف ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن الحداثة ونسيانهم إياه ، وتوهمهم أنه هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه وقلة تأملهم في حلاه من التهيب والاستعظام.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)(٦١)

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله ، والجهاز ما يعد من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها وقرئ «بجهازهم» بالكسر. (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) روي : أنهم لما دخلوا عليه قال : من أنتم وما أمركم لعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله إنما نحن بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب ، قال كم أنتم؟ قالوا كنا اثني عشر فذهب أحدنا إلى البرية فهلك ، قال : فكم أنتم ها هنا قالوا عشرة ، قال : فأين الحادي عشر؟ قالوا : عند أبينا يتسلى به عن الهالك ، قال : فمن يشهد لكم. قالوا : لا يعرفنا أحد ها هنا فيشهد لنا قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا فأصابت شمعون. وقيل كان يوسف يعطي لكل نفر حملا فسألوه حملا زائدا لأخ لهم من أبيهم فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم. (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أتمه. (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) للضيف والمضيفين لهم وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تقربوني ولا تدخلوا دياري ، وهو إما نهي أو

١٦٨

نفي معطوف على الجزاء.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنجتهد في طلبه من أبيه. (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا نتوانى فيه.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢)

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) لغلمانه الكيالين جمع فتى. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (لِفِتْيانِهِ) على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فإنه وكل بكل رحل واحدا يعبي فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام ، وكانت نعالا وأدما وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضلا عليهم وترفعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) لعلهم يعرفون حق ردها. أو لكي يعرفوها. (إِذَا انْقَلَبُوا) انصرفوا ورجعوا. (إِلى أَهْلِهِمْ) وفتحوا أوعيتهم. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٦٤)

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين. (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) نرفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ أي يكتل لنفسه فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم في يوسف : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه ، وانتصاب «حفظا» على التمييز و (حافِظاً) على قراءة حمزة والكسائي وحفص يحتمله والحال كقوله : لله دره فارسا ، وقرئ «خير حافظ» و «خير الحافظين». (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)(٦٥)

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) وقرئ «ردت» بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل. (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا. أو لا نطلب وراء ذلك إحسانا أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه. وقرئ «ما تبغي» على الخطاب أي : أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان ، أو من الدليل على صدقنا؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) استئناف موضح لقوله (ما نَبْغِي). (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك. (وَنَحْفَظُ أَخانا) عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا. (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) وسق بعير باستصحاب أخينا ، هذا إذا كانت (ما) استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن أن تكون الجمل معطوفة على (ما نَبْغِي) ، أي لا نبغي فيما نقول (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا). (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي مكيل قليل لا يكفينا ، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه

١٦٩

الملك ولا يتعاظمه ، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه ، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٦٦)

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) إذ رأيت منكم ما رأيت. (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي عهدا مؤكدا بذكر الله. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به. (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير : لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم ، أو من أعم العلل على أن قوله لتأتنني به ، في تأويل النفي أي لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم : أقسمت بالله إلا فعلت ، أي ما أطلب إلا فعلك. (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) عهدهم. (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ) من طلب الموثق وإتيانه. (وَكِيلٌ) رقيب مطلع.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك ، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا ، ولعله لم يوصهم بذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين. وللنفس آثار منها العين والذي يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في عوذته «اللهم إني أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة». (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) مما قضى عليكم بما أشرت به إليكم فإن الحذر لا يمنع القدر. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا ولا ينفعكم ذلك. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة لتقدم الصلة للاختصاص كأن الواو للعطف والفاء لإفادة التسبب ، فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من أبواب متفرقة في البلد. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) رأي يعقوب واتباعهم له. (مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه‌السلام. فسرقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب. (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه ، يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا. (قَضاها) أظهرها ووصى بها. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) بالوحي ونصب الحجج ، ولذلك قال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ولم يغتر بتدبيره. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٩)

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل روي : (أنه أضافهم

١٧٠

فأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لجلس معي ، فأجلسه معه على مائدته ثم قال : لينزل كل اثنين منكم بيتا وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات عنده وقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ، قال : من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن افتعال من البؤس. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في حقنا فيما مضى.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ)(٧١)

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) المشربة. (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) قيل كانت مشربة جعلت صاعا يكال به وقيل. كانت تسقى الدواب بها ويكال بها وكانت من فضة. وقيل من ذهب وقرئ «وجعل» على حذف جواب فلما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) لعله لم يقله بأمر يوسف عليه الصلاة والسلام أو كان تعبية السقاية والنداء عليها برضا بنيامين. وقيل معناه إنكم لسارقون يوسف من أبيه أو أإنكم لسارقون ، والعير القافلة وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تتردد ، فقيل لأصحابها كقوله عليه الصلاة والسلام «يا خيل الله اركبي». وقيل جمع عير وأصله فعل كسقف فعل به ما فعل ببيض تجوز به لقافلة الحمير ، ثم استعير لكل قافلة.

(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) أي شيء ضاع منكم؟ والفقد : غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه ، وقرئ «تفقدون» من أفقدته إذا وجدته فقيدا.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ)(٧٣)

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) وقرئ «صاع» و «صوع» بالفتح والضم والعين والغين و «صواغ» من الصياغة. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام جعلا له. (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل.

(قالُوا تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجب ، التاء بدل من الباء مختصة باسم الله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم ومداخلتهم للملك مما يدل على فرط أمانتهم كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم وكعم الدواب لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٧٥)

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ) فما جزاء السارق أو السرق أو ال (صُواعَ) على حذف المضاف. (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في ادعاء البراءة.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله واسترقاقه ، هكذا كان شرع يعقوب عليه الصلاة والسلام. وقوله (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم وإلزام له ، أو خبر (مَنْ) والفاء لتضمنها معنى الشرط أو جواب لها على أنها شرطية. والجملة كما هي خبر (جَزاؤُهُ) على إقامة الظاهر فيها

١٧١

مقام الضمير كأنه قيل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بالسرقة.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(٧٦)

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) فبدأ المؤذن. وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر. (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين نفيا للتهمة. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة. (كَذلِكَ) مثل ذلك الكيد. (كِدْنا لِيُوسُفَ) بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم كما رفعنا درجته. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أرفع درجة منه ، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه. والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ، ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧)

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين. (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون يوسف. قيل ورثت عمته من أبيها منطقة إبراهيم عليه‌السلام وكانت تحضن يوسف وتحبه ، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها فشدت المنطقة على وسطه ، ثم أظهرت ضياعها فتفحص عنها فوجدت محزومة عليه فصارت أحق به في حكمهم. وقيل كان لأبي أمه صنم فسرقه وكسره وألقاه في الجيف. وقيل كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل دخل كنيسة وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أكنها ولم يظهرها لهم ، والضمير للإجابة أو المقالة أو نسبة السرقة إليه وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) فإنه بدل من أسرها. والمعنى قال في نفسه أنتم شر مكانا أي منزلة في السرقة لسرقتكم أخاكم ، أو في سوء الصنيع مما كنتم عليه ، وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة ، وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) وهو يعلم أن الأمر ليس كما تصفون.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ)(٧٩)

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي في السن أو القدر ، ذكروا له حاله استعطافا له عليه. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) بدله فإن أباه ثكلان على أخيه الهالك مستأنس به. (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فأتمم إحسانك ، أو من المتعودين بالإحسان فلا تغير عادتك.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم فلو أخذنا أحدكم مكانه. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في مذهبكم هذا ، وإن مراده أن الله أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله لمصلحته ورضاه عليه فلو أخذت غيره كنت ظالما.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ

١٧٢

اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(٨٠)

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) يئسوا من يوسف وإجابته إياهم ، وزيادة السين والتاء للمبالغة. (خَلَصُوا) انفردوا واعتزلوا. (نَجِيًّا) متناجين ، وإنما وحده لأنه مصدر أو بزنته كما قيل هو صديق ، وجمعه أنجية كندي وأندية. (قالَ كَبِيرُهُمْ) في السن وهو روبيل ، أو في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا. (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا وثيقا ، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا منه لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته.

(وَمِنْ قَبْلُ) ومن قبل هذا. (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) قصرتم في شأنه ، و (ما) مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في موضع النصب بالعطف على مفعول تعلموا ، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف ، أو على اسم (أَنَ) وخبره في (يُوسُفَ) أو (مِنْ قَبْلُ) أو الرفع بالابتداء والخبر (مِنْ قَبْلُ) وفيه نظر ، لأن (قَبْلُ) إذا كان خبرا أو صلة لا يقطع عن الإضافة حتى لا ينقص وأن تكون موصولة أي : ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه في حقه من الجناية ومحله ما تقدم. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) فلن أفارق أرض مصر. (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع. (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي لي بالخروج منها ، أو بخلاص أخي منهم أو بالمقاتلة معهم لتخليصه. روي : أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل : أيها الملك والله لتتركنّا أو لأصيحن صيحة تضع منها الحوامل ، ووقفت شعور جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف عليه‌السلام لابنه : قم إلى جنبه فمسه ، وكان بنو يعقوب عليه‌السلام إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه. فقال روبيل من هذا إن في هذا البلد لبزرا من بزر يعقوب. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأن حكمه لا يكون إلا بالحق.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٨٢)

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) على ما شاهدناه من ظاهر الأمر. وقرئ «سرق» أي نسب إلى السرقة. (وَما شَهِدْنا) عليه. (إِلَّا بِما عَلِمْنا) بأن رأينا أن الصواع استخرج من وعائه. (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) لباطن الحال. (حافِظِينَ) فلا ندري أنه سرق أو سرق ودس الصواع في رحله ، أو وما كنا للعواقب عالمين فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق ، أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) يعنون مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها ، والمعنى أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) وأصحاب العير التي توجهنا فيهم وكنا معهم. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد في محل القسم.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)(٨٤)

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) أي فلما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم قال : (بَلْ سَوَّلَتْ) أي سولت وسهلت. (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أردتموه فقدرتموه ، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) بيوسف وبنيامين وأخيهما الذي توقف بمصر. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي وحالهم. (الْحَكِيمُ) في تدبيرهما.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم. (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا أسفا تعال فهذا أوانك ، والأسف أشد الحزن والحسرة ، والألف بدل من ياء المتكلم ، وإنما تأسف على يوسف دون

١٧٣

أخويه والحادث رزؤهما لأن رزأه كان قاعدة المصيبات وكان غضا آخذا بمجامع قلبه ، ولأنه كان واثقا بحياتهما دون حياته ، وفي الحديث : «لم تعط أمة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عند المصيبة إلا أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم». ألا ترى إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال (يا أَسَفى). (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) لكثرة بكائه من الحزن كأن العبرة محقت سوادهما. وقيل ضعف بصره. وقيل عمي ، وقرئ «من الحزن» وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع ، ولعل أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ، ولقد بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولده إبراهيم وقال : «القلب يجزع والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنما عليك يا إبراهيم لمحزونون». (فَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره ، فعيل بمعنى مفعول كقوله تعالى : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى فاعل كقوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) من كظم الغيظ إذا اجترعه ، وأصله كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)(٨٥)

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفتأ ولا تزال تذكره تفجعا عليه ، فحذف لا كما في قوله :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

لأنه لا يلتبس بالإثبات ، فإن القسم إذا لم يكن معه علامات الإثبات كان على النفي. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشفيا على الهلاك. وقيل الحرض الذي أذا به هم أو مرض ، وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع والنعت بالكسر كدنف ودنف. وقد قرئ به وبضمتين كجنب. (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) من الميتين.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٨٧)

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي) همي الذي لا أقدر الصبر عليه من البث بمعنى النشر. (إِلَى اللهِ) لا إلى أحد منكم ومن غيركم ، فخلوني وشكايتي. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من صنعه ورحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجئ إليه ، أو من الله بنوع من الإلهام. (ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف. قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال هو حي. وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخر له إخوته سجدا.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) فتعرفوا منهما وتفحصوا عن حالهما والتحسس تطلب الإحساس : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. وقرئ «من روح الله» أي من رحمته التي يحيي بها العباد. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بالله وصفاته فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)(٨٨)

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) بعد ما رجعوا إلى مصر رجعة ثانية. (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) شدة الجوع. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) رديئة أو قليلة ترد وتدفع رغبة عنها ، من أزجيته إذا دفعته ومنه تزجية الزمان.

١٧٤

قيل كانت دراهم زيوفا وقيل صوفا وسمنا. وقيل الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل الأقط وسويق المقل. (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فأتمم لنا الكيل. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) برد أخينا أو بالمسامحة وقبول المزجاة ، أو بالزيادة على ما يساويها. واختلف في أن حرمة الصدقة تعم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو تختص بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أحسن الجزاء والتصدق التفضل مطلقا ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في القصر «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». لكنه اختص عرفا بما يبتغى به ثواب من الله تعالى.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)(٨٩)

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي هل علمتم قبحه فتبتم عنه وفعلهم بأخيه إفراده عن يوسف وإذلاله حتى لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة. (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبحه فلذلك أقدمتم عليه أو عاقبته ، وإنما قال ذلك تنصيحا لهم وتحريضا على التوبة ، وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريبا. وقيل أعطوه كتاب يعقوب في تخليص بنيامين وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه فقال لهم ذلك ، وإنما جهلهم لأن فعلهم كان فعل الجهال ، أو لأنهم كانوا حينئذ صبيانا طياشين.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ)(٩١)

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير ولذلك حقق بأن ودخول اللام عليه. وقرأ ابن كثير على الإيجاب. قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به ، وقيل تبسم فعرفوه بثناياه. وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها. (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) من أبي وأمي ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه وإدخالا له في قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بالسلامة والكرامة. (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) أي يتق الله. (وَيَصْبِرْ) على البليات أو على الطاعات وعن المعاصي. (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) اختارك علينا بحسن الصورة وكمال السيرة. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) والحال أن شأننا أنا كنا مذنبين بما فعلنا معك.

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩٣)

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا تأنيب عليكم تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش للإزالة كالتجليد ، فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه. (الْيَوْمَ) متعلق بال (تَثْرِيبَ) أو بالمقدر للجار الواقع خبرا ل (لا تَثْرِيبَ) والمعنى لا أثربكم اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام أو بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) لأنه صفح عن جريمتهم حينئذ واعترفوا بها. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب ، ومن كرم يوسف عليه‌السلام أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه وقالوا : إنك تدعونا بالبكرة والعشي إلى الطعام ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال إن أهل مصر كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت بكم وعظمت في عيونهم حيث علموا أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه‌السلام.

١٧٥

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) القميص الذي كان عليه. وقيل القميص المتوارث الذي كان في التعويذ. (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي يرجع بصيرا أي ذا بصر. (وَأْتُونِي) أنتم وأبي. (بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) بنسائكم وذراريكم ومواليكم.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥)

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) من مصر وخرجت من عمرانها. (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره. (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أوجده الله ريح ما عبق بقميصه من ريحه حين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخا. (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تنسبوني إلى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم ، ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي. وجواب (لَوْ لا) محذوف تقديره لصدقتموني أو لقلت إنه قريب.

(قالُوا) أي الحاضرون. (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفي ذهابك عن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٩٦)

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) يهوذا. روي : أنه قال كما أحزنته بحمل قميصه الملطخ بالدم إليه فأفرحه بحمل هذا إليه. (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) طرح البشير القميص على وجه يعقوب عليه‌السلام أو يعقوب نفسه. (فَارْتَدَّ بَصِيراً) عاد بصيرا لما انتعش فيه من القوة. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف عليه‌السلام ، وإنزال الفرح. وقيل إني أعلم كلام مبتدأ والمقول (لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ، أو (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ).

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويسأله المغفرة.

(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة ، أو إلى أن يستحل لهم من يوسف أو يعلم أنه عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة. ويؤيده ما روي : أنه استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبريل وقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة ، وهو إن صح فدليل على نبوتهم ، وأن ما صدر عنهم كان قبل استنبائهم.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ)(٩٩)

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) روي أنه وجه إليه رواحل وأموالا ليتجهز إليه بمن معه ، واستقبله يوسف والملك بأهل مصر وكان أولاده الذين دخلوا معه مصر اثنين وسبعين رجلا وامرأة ، وكانوا حين خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى. (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضم إليه أباه وخالته واعتنقهما نزلها منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب في قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ

١٧٦

وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أو لأن يعقوب عليه‌السلام تزوجها بعد أمه والرابة تدعى أما (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من القحط وأصناف المكاره ، والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف بالأمن والدخول الأول كان في موضع خارج البلد حين استقبلهم.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١٠٠)

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) تحية وتكرمة له فإن السجود كان عندهم يجري مجراها. وقيل معناه خروا لأجله سجدا لله شكرا. وقيل الضمير لله تعالى والواو لأبويه وإخوته والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظا للاهتمام بتعظيمه لهما. (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) التي رأيتها أيام الصبا. (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) صدقا. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يذكر الجب لئلا يكون تثريبا عليهم. (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) من البادية لأنهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو. (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أفسد بيننا وحرش ، من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ويتسهل دونها. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بوجود المصالح والتدابير. (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة. روي : أن يوسف طاف بأبيه عليهما الصلاة والسلام في خزائنه فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال : أمرني جبريل عليه‌السلام قال : أو ما تسأله قال : أنت أبسط مني إليه فاسأله فقال جبريل : الله أمرني بذلك. لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قال فهلا خفتني.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(١٠١)

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) بعض الملك وهو ملك مصر. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) الكتب أو الرؤيا ، ومن أيضا للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه. (أَنْتَ وَلِيِّي) ناصري ومتولي أمري. (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) اقبضني. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة. روي أن يعقوب عليه‌السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه ، فذهب به ودفنه ثمة ثم عاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة ، ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ، ثم نقله موسى عليه الصلاة والسلام إلى مدفن آبائه وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وقد ولد له من راعيل افرائيم وميشا وهو جد يوشع بن نون ، ورحمة امرأة أيوب عليه‌السلام.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف عليه‌السلام ، والخطاب فيه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مبتدأ. (مِنْ

١٧٧

أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبران له. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) كالدليل عليهما والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب ، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم ، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه ، وإنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير هذه القصة كقوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا).

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم. (بِمُؤْمِنِينَ) لعنادهم وتصميمهم على الكفر.

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)(١٠٥)

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على الإنباء أو القرآن. (مِنْ أَجْرٍ) من جعل كما يفعله حملة الأخبار. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة من الله تعالى. (لِلْعالَمِينَ) عامة.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) وكم من آية. والمعنى وكأي عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده. (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) على الآيات ويشاهدونها. (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقرئ (وَالْأَرْضِ) بالرفع على أنه مبتدأ خبره (يَمُرُّونَ) ، فيكون لها الضمير في (عَلَيْها) وبالنصب على ويطئون الأرض. وقرئ و «الأرض يمشون عليها» أي يترددون فيها فيرون آثار الأمم الهالكة.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٨)

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) في إقرارهم بوجوده وخالقيته. (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بعبادة غيره أو باتخاذ الأحبار أربابا. ونسبة التبني إليه تعالى ، أو القول بالنور والظلمة أو النظر إلى الأسباب ونحو ذلك. وقيل الآية في مشركي مكة ، وقيل في المنافقين. وقيل في أهل الكتاب.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) عقوبة تغشاهم وتشملهم. (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة من غير سابقة علامة. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها غير مستعدين لها.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) يعني الدعوة إلى التوحيد والإعداد للمعاد ولذلك فسر السبيل بقوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) وقيل هو حال من الياء. (عَلى بَصِيرَةٍ) بيان وحجة واضحة غير عمياء. (أَنَا) تأكيد للمستتر في (أَدْعُوا) أو (عَلى بَصِيرَةٍ) لأنه حال منه أو مبتدأ خبره (عَلى بَصِيرَةٍ). (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه. (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وأنزهه تنزيها من الشركاء.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠٩)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) رد لقولهم (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) وقيل معناه نفي استنباء النساء يوحي إليهم كما يوحي إليك ويميزون بذلك عن غيرهم. وقرأ حفص (نُوحِي) في كل القرآن ووافقه

١٧٨

حمزة والكسائي في سورة «الأنبياء». (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأن أهلها أعلم وأحلم من أهل البدو. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ، أو من من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا عن حبها. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة. (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم ليعرفوا أنها خير. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالتاء حملا على قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) أي قل لهم أفلا تعقلون.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١١٠)

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم فإن من قبلهم أمهلوا حتى أى الرسل عن النصر عليهم في الدنيا ، أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير وازع. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذبهم القوم بوعد الإيمان. وقيل الضمير للمرسل إليهم أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد. وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل أي وظنوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة. هذا وإن المراد به المبالغة في التراخي والإمهال على سبيل التمثيل. وقرأ غير الكوفيين بالتشديد أي وظن الرسل أن القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم. وقرئ «كذبوا» بالتخفيف وبناء الفاعل أي وظنوا أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به عند قومهم لما تراخى عنهم ولم يروا له أثرا. (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) النبي والمؤمنين وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون إن يشاء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب على لفظ الماضي المبني للمفعول وقرئ «فنجا» (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا نزل بهم وفيه بيان للمشيئين.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته. (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول. المبرأة من شوائب الإلف والركون إلى الحس. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ما كان القرآن حديثا يفترى. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الإلهية. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط. (وَهُدىً) من الضلال. (وَرَحْمَةً) ينال بها خير الدارين. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقونه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما».

١٧٩

(١٣) سورة الرعد

مدنية وقيل مكية إلا قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية

وهي ثلاث وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١)

(المر) قيل معناه أنا الله أعلم وأرى. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يعني بالكتاب السورة و (تِلْكَ) إشارة إلى آياتها أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو القرآن. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو القرآن كله ومحله الجر بالعطف على (الْكِتابِ) عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى ، أو الرفع بالابتداء وخبره (الْحَقُ) والجملة كالحجة على الجملة الأولى ، وتعريف الخبر وإن دل على اختصاص المنزل بكونه حقا فهو أعم من المنزل صريحا أو ضمنا ، كالمثبت بالقياس وغيره مما نطق المنزل بحسن اتباعه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)(٢)

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون الموصول صفة والخبر (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ). (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أساطين جمع عماد كإهاب وأهب ، أو عمود كأديم وأدم وقرئ «عمد» كرسل. (تَرَوْنَها) صفة ل (عَمَدٍ) أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك ، وهو دليل على وجود الصانع الحكيم فإن ارتفاعها على سائر الأجسام السماوية لها في حقيقة الجرمية ، واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بالحفظ والتدبير. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها. (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لمدة معينة يتم فيها أدواره ، أو لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر ملكوته من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وغير ذلك. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) ينزلها ويبينها مفصلة أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد. (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لكي تتفكروا فيها وتتحققوا كمال قدرته فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإعادة والجزاء.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤)

١٨٠