أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) يعني الملائكة ، قيل : كانوا تسعة ، وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل. (بِالْبُشْرى) ببشارة الولد. وقيل بهلاك قوم لوط. (قالُوا سَلاماً) سلمنا عليك سلاما ويجوز نصبه ب (قالُوا) على معنى ذكروا سلاما. (قالَ سَلامٌ) أي أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام ، رفعه إجابة بأحسن من تحيتهم. وقرأ حمزة والكسائي «سلم» وكذلك في «الذاريات» وهما لغتان كحرم وحرام وقيل المراد به الصلح. (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) فما أبطأ مجيئه به ، أو فما أبطأ في المجيء به ، أو فما تأخر عنه والجار في (أَنْ) مقدر أو محذوف والحنيذ المشوي بالرضف. وقيل الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرفته بالجلال لقوله : (بِعِجْلٍ سَمِينٍ).

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ(٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(٧١)

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدون إليه أيديهم. (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أنكر ذلك منهم وخاف أن يريدوا به مكروها ، ونكر وأنكر واستنكر بمعنى والإيجاس الإدراك وقيل الإضمار (قالُوا) له لما أحسوا منه أثر الخوف. (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب ، وإنما لم نمد إليه أيدينا لأنا لا نأكل.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة. (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الفساد أو بإصابة رأيها فإنها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا فإني أعلم أن العذاب ينزل بهؤلاء القوم. وقيل فضحكت فحاضت قال الشاعر :

وعهدي بسلمى ضاحكا في لبابة

ولم يعد حقا ثديها أن تحلّما

ومنه ضحكت السمرة إذا سال صمغها وقرئ بفتح الحاء. (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) نصبه ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسره ما دل عليه الكلام وتقديره : ووهبناها من وراء إسحاق يعقوب. وقيل إنه معطوف على موضع (بِإِسْحاقَ) أو على لفظ (إِسْحاقَ) ، وفتحته للجر فإنه غير مصروف ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف. وقرأ الباقون بالرفع على أنه مبتدأ.

وخبره الظرف أي و (يَعْقُوبَ) مولود من بعده. وقيل الوراء ولد الولد ولعله سمي به لأنه بعد الولد وعلى هذا تكون إضافته إلى (إِسْحاقَ) ليس من حيث أن يعقوب عليه الصلاة والسلام وراءه ، بل من حيث إنه وراء إبراهيم من جهته وفيه نظر. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى ، ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا به ، وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها لا من هاجر ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد.

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)(٧٣)

(قالَتْ يا وَيْلَتى) يا عجبا ، وأصله في الشر فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل. (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ابنة تسعين أو تسع وتسعين. (وَهذا بَعْلِي) زوجي وأصله القائم بالأمر. (شَيْخاً) ابن مائة أو مائة وعشرين ، ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ ، أو خبر بعد خبر أو هو الخبر و (بَعْلِي) بدل. (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) يعني الولد من هرمين ، وهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك :

١٤١

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) منكرين عليها فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات ، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل فضلا عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات ، وأهل البيت نصب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. (إِنَّهُ حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب به الحمد. (مَجِيدٌ) كثير الخير والإحسان.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أي ما أوجس من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم. (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بدل الورع. (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) يجادل رسلنا في شأنهم ومجادلته إياهم قوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً) وهو إما جواب لما جيء به مضارعا على حكاية الحال أو لأنه في سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو ، أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترأ على خطابنا أو شرع في جدالنا ، أو متعلق به أقيم مقامه مثل أخذ أو أقبل يجادلنا.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام من المسيء إليه. (أَوَّاهٌ) كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس. (مُنِيبٌ) راجع إلى الله ، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه.

(يا إِبْراهِيمُ) على إرادة القول أي قالت الملائكة (يا إِبْراهِيمُ). (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم. (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)(٧٨)

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) ساءه مجيئهم لأنهم جاءوه في صورة غلمان فظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم. (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق بمكانهم صدره ، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه. (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد من عصبه إذا شده.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه. (وَمِنْ قَبْلُ) أي ومن قبل ذلك الوقت. (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاءوا يهرعون لها مجاهرين. (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) فدى بهن أضيافه كرما وحمية ، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن ، وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه ، أو إظهارا لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له. وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وهو أب لهم (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أنظف فعلا وأقل فحشا كقولك : الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه. وقرئ (أَطْهَرُ) بالنصب على الحال على أن (هُنَ) خبر (بَناتِي) كقولك : هذا أخي هو لا فصل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها. (فَاتَّقُوا اللهَ) بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم. (وَلا تُخْزُونِ) ولا تفضحوني من الخزي ، أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء. (فِي ضَيْفِي) في شأنهم فإن

١٤٢

إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(٨٠)

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) من حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) وهو إتيان الذكران.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) لو قويت بنفسي على دفعكم. (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) إلى قوي أتمنع به عنكم. شبهه بركن الجبل في شدته. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد». وقرئ «أو آوى» بالنصب بإضمار أن كأنه قال : لو أن لي بكم قوة أو أويا وجواب لو محذوف تقديره لدفعتكم روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار ، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١)

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم ، فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه‌السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم ، فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بالقطع من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السري. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بطائفة منه. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ لأحد وفي المعنى للوط. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ، وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد ، ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها ، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة ، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله : (وَلا يَلْتَفِتْ) مثله في قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح ، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا ولذلك علل على طريقة الاستئناف بقوله : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) كأنه علة الأمر بالإسراء. (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا أو أمرنا به ، ويؤيده الأصل وجعل التعذيب مسببا عنه بقوله : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) فإنه جواب لما وكان حقه : جعلوا عاليها سافلها أي الملائكة المأمورون به ، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيما للأمر فإنه روي : (أن جبريل عليه‌السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم). (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) على المدن أو على شذاذها. (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر لقوله : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) وأصله سنك كل فعرب. وقيل إنه من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته ، والمعنى من مثل الشيء المرسل أو من مثل العطية في الإدرار ،

١٤٣

أو من السجل أي مما كتب الله أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما. (مَنْضُودٍ) نضد معدا لعذابهم ، أو نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضا كقطار الأمطار ، أو نضد بعضه على بعض وألصق به.

(مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب. وقيل معلمة ببياض وحمرة. أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى بها. (عِنْدَ رَبِّكَ) في خزائنه. (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم ، وفيه وعيد لكل ظالم. وعنه عليه الصلاة والسلام «أنه سأل جبريل عليه‌السلام فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة». وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام ، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)(٨٤)

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أمرهم بالتوحيد أولا فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض. (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) بسعة تغنيكم عن البخس ، أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكرا عليها لا أن تنقصوا حقوقهم ، أو بسعة فلا تزيلوها بما أنتم عليه وهو في الجملة علة للنهي. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) لا يشذ منه أحد منكم. وقيل عذاب مهلك من قوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ). والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال ، ووصف اليوم بالإحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٨٥)

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) صرح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف ، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها. (بِالْقِسْطِ) بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان ، فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظورا. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار ، أو في غيره وكذا قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات ، والعثو السرقة وقطع الطريق والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه‌السلام. وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(٨٦)

(بَقِيَّتُ اللهِ) ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم. (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تجمعون بالتطفيف. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان. أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل البقية الطاعة كقوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) وقرئ «تقية الله» بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن القبائح ، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا

١٤٤

ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت ، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(٨٧)

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام ، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى : أصلواتك تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على (أَنْ نَتْرُكَ) وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء. وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك ، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٨٨)

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة. (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال ، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه. وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ، والضمير في (مِنْهُ) لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله. (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم ، فلو كان صوابا لآثرته ولم أعرض عنه فضلا عن أن أنهي عنه ، يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه ، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس ، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإصلاح ، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه ، ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن : وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى ، وثانيها حق النفس ، وثالثها حق الناس. وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم عنه. و (ما) مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من (الْإِصْلاحَ) أي المقدار الذي استطعته ، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته ، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار ، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ. (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إشارة إلى معرفة المعاد ، وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل. وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتيه ويذره من الله تعالى ، والاستعانة به في مجامع أمره والإقبال عليه بشراشره ، وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)(٩٠)

١٤٥

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يكسبنكم. (شِقاقِي) معاداتي. (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق. (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح. (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة و (أَنْ) بصلتها ثاني مفعولي جرم ، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب. وعن ابن كثير (يَجْرِمَنَّكُمْ) بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد ، والأول أفصح فإن أجرم أقل دورانا على ألسنة الفصحاء. وقرئ مثل بالفتح لإضافته إلى المبنى كقوله :

لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أرقال

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم ، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم ، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد ، ولا يبعد أن يسوى في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عما أنتم عليه. (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) عظيم الرحمة للتائبين. (وَدُودٌ) فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده ، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)(٩١)

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) ما نفهم. (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلا عليهما ، وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكرهم. وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه ، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه. (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا ، أو مهينا لا عزّ لك ، وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف ، ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياسا على القضاء والشهادة والفرق بين. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم ، فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة. (لَرَجَمْناكَ) لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) فتمنعنا عزتك عن الرجم ، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب ، والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة ، وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)(٩٣)

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإهانة برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي ، وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب ، و (ظِهْرِيًّا) منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) سبق مثله في سورة «الأنعام» والفاء في ف (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ثمة للتصريح بأن الإصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك ، وحذفها ها هنا لأنه جواب سائل قال : فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل. (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك : ستعلم الكاذب والصادق ، بل لأنهم لما أو عدوه وكذبوه قال : سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم. وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم

١٤٦

لما كانوا يدعونه كاذبا قال : ومن هو كاذب على زعمهم. (وَارْتَقِبُوا) وانتظروا ما أقول لكم. (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم ، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله : (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) وقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فلذلك جاء بفاء السببية. (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قيل صاح بهم جبريل عليه‌السلام فهلكوا. (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين ، وأصل الجثوم اللزوم في المكان.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) كأن لم يقيموا فيها. (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة ، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم. وقرئ «بعدت» بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك ، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٩٧)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) بالتوراة أو المعجزات. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهو المعجزات القاهرة أو العصا ، وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها ، ويجوز أن يراد بهما واحد أي : ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها ، فإن أبان جاء لازما ومتعديا ، والفرق بينهما أن الآية تعم الإمارة ، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص بما فيه جلاء.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مرشد أو ذي رشد ، وإنما هو غي محض وضلال صريح.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم. (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها موردا ثم قال : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنار بالضد ، والآية كالدليل على قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد ، أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يلعنون في الدنيا والآخرة. (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) بئس العون المعان أو العطاء المعطى ، وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده ، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.

١٤٧

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)(١٠١)

(ذلِكَ) أي ذلك النبأ. (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة. (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) مقصوص عليك. (مِنْها قائِمٌ) من تلك القرى باق كالزرع القائم. (وَحَصِيدٌ) ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود ، والجملة مستأنفة وقيل حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم. (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه. (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم. (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) حين جاءهم عذابه ونقمته. (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) هلاك أو تخسير.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(١٠٣)

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الأخذ. (أَخْذُ رَبِّكَ) وقرئ «أخذ ربك» بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر. (إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي أهلكها وقرئ «إذ» لأن المعنى على المضي. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من (الْقُرى) وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها ، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه ، أو غيره من وخامة العاقبة. (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع غير مرجو الخلاص منه ، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من قصصهم. (لَآيَةً) لعبرة. (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة ، أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار ، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها. (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه. (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي يجمع له الناس ، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة. (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله : في محفل من نواصي النّاس مشهود ، أي كثير شاهدوه ، ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك.

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(١٠٥)

(وَما نُؤَخِّرُهُ) أي اليوم. (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود.

(يَوْمَ يَأْتِ) أي الجزاء أو اليوم كقوله : (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) على أن (يَوْمَ) بمعنى حين أو الله عزوجل كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ) ونحوه. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة (يَأْتِ)

١٤٨

بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسر. (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة ، وهو الناصب للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف. (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إلا بإذن الله كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) وهذا في موقف وقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) وجبت له النار بمقتضى الوعيد. (وَسَعِيدٌ) وجبت له الجنة بموجب الوعد والضمير لأهل الموقف وإن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أو للناس.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٠٧)

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النفس والشهيق رده ، واستعمالهما في أول النهيق وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه ، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ (شَقُوا) بالضم.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل ، ولو كان للارتباط لم يلزم أيضا من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم ، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه ، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق. وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل ، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها ، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض ، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم ، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه ، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين ، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا ، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه ، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم ، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم ، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت. وقيل هو من قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) وقيل إلا ها هنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من غير اعتراض.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١٠٨)

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ

١٤٩

مَجْذُوذٍ) غير مقطوع ، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع ، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأبيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (سُعِدُوا) على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده ، و (عَطاءً) نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)(١٠٩)

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس. (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم ، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا ينفع. (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان ، وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله ، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات ، ومعنى (كَما يَعْبُدُ) كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظهم من العذاب كآبائهم ، أو من الرزق فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه. (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول : وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١١)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق. (وَإِنَّهُمْ) وإن كفار قومك. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة.

(وَإِنَّ كُلًّا) وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين ، والتنوين بدل من المضاف إليه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل. (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) اللام الأولى موطئة لقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة (لَمَّا) بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميما للادغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن ، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم. وقرئ لما بالتنوين أي جميعا كقوله : (أَكْلاً لَمًّا وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) على أن (إِنْ) نافية و (لَمَّا) بمعنى إلا وقد قرئ به. (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يفوته شيء منه وإن خفي.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٢)

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة ، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين ، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «شيبتني هود». (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك ، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا عما حد لكم. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو

١٥٠

مجازيكم عليه ، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي. وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(١١٣)

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته. (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم كل الميل ، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه ، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه ، وخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل ، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه. وقرئ «تركنوا» «فتمسّكم» بكسر التاء على لغة تميم و «تركنوا» على البناء للمفعول من أركنه. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال. (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم ، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم ، ويجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد ، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ(١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه. (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وساعات منه قريبة من النهار ، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة ، وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار ، وصلاة العشية صلاة العصر ، وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء. وقرئ «زلفا» بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و «زلفى» بمعنى زلفة كقربى وقربة. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يكفرنها. وفي الحديث «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر» وفي سبب النزول «أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت». (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (فَاسْتَقِمْ) وما بعده وقيل إلى القرآن. (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتعظين.

(وَاصْبِرْ) على الطاعات وعن المعاصي. (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلا على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)(١١٧)

(فَلَوْ لا كانَ) فهلا كان. (مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) من الرأي والعقل ، أو أولو فضل وإنما سمي (بَقِيَّةٍ) لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه ، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، ويجوز أن يكون مصدرا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب ، ويؤيده أنه قرئ «بقية» وهي المرة

١٥١

من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه. (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك ، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقوله واتبع على معطوف مضمر دل عليه الكلام إذا المعنى : فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على (اتَّبَعَ) أو اعترض. وقرئ «وأتبع» أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء.

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) بشرك. (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد. وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مسلمين كلهم ، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقا.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) إلا ناسا هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين الحق والعمدة فيه.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) إن كان الضمير ل (النَّاسِ) فالإشارة إلى الاختلاف ، واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة ، وإن كان لمن فإلى الرحمة. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وعيد أو قوله للملائكة. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي من عصاتهما (أَجْمَعِينَ) أو منهما أجمعين لا من أحدهما.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١٢٠)

(وَكُلًّا) وكل نبأ. (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) نخبرك به. (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بيان لكلّا أو بدل منه ، وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار ، أو مفعول (وَكُلًّا) منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة أو الأنباء المقتصة عليك. (الْحَقُ) ما هو حق. (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى سائر فوائده العامة.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٢٢)

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالكم. (إِنَّا عامِلُونَ) على حالنا.

(وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر. (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا

١٥٢

تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه. وقرأ نافع وحفص (يُرْجَعُ) على البناء للمفعول. (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك. وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنت وهم فيجازي كلا ما يستحقه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء هنا وفي آخر «النمل». عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى».

١٥٣

(١٢) سورة يوسف

مكية وآيها مائة وإحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب (الْكِتابِ) ، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها في الإعجاز أو الواضحة معانيها ، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله ، أو لليهود ما سألوا إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشأم إلى مصر وعن قصة يوسف عليه‌السلام فنزلت :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) سمى البعض (قُرْآناً) لأنه في الأصل اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علما للكل بالغلبة ، ونصبه على الحال وهو في نفسه إما توطئة للحال التي هي (عَرَبِيًّا) أو حال لأنه مصدر بمعنى مفعول ، و (عَرَبِيًّا) صفة له أو حال من الضمير فيه أو حال بعد حال وفي كل ذلك خلاف. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) علة لإنزاله بهذه الصفة أي أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه ، أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٣)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أحسن الاقتصاص لأن اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقض والسلب ، واشتقاقه من قص أثره إذا تبعه (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بإيحائنا. (هذَا الْقُرْآنَ) يعني السورة ، ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن أحسن نصب على المصدر. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط ، وهو تعليل لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٤)

(إِذْ قالَ يُوسُفُ) بدل من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) إن جعل مفعولا بدل الاشتمال ، أو منصوب بإضمار اذكر و (يُوسُفُ) عبري ولو كان عربيا لصرف. وقرئ بفتح السين وكسرها على التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لأن المشهورة شهدت بعجمته. (لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام وعنه عليه الصلاة السلام «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». (يا أَبَتِ) أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكسرها لأنها عوض حرف يناسبها ، وفتحها ابن عامر في كل القرآن

١٥٤

لأنها حركة أصلها أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة ، وإنما جاز يا أبتا ولم يجز يا أبتي لأنه جمع بين العوض والمعوض. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض ، وإنما لم تسكن كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب. (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرؤيا لا من الرؤية لقوله : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ) ولقوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). روي عن جابر رضي الله تعالى عنه (أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف ، فسكت فنزل جبريل عليه‌السلام فأخبره بذلك فقال إذا أخبرتك هل تسلم قال نعم ، قال جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي إي والله إنها لأسماؤها) (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرير وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٥)

(قالَ يا بُنَيَ) تصغير ابن ، صغّره للشفقة أو لصغر السن ، لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة. وقرأ حفص هنا وفي «الصافات» بفتح الياء. (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فيحتالوا لإهلاكك حيلة ، فهم يعقوب عليه‌السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ويفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم ، فرق بينهما بحرفي التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه ، وإنما عدى كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به تأكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعلله بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه‌السلام وحواء فلا يألوا جهدا في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

(وَكَذلِكَ) أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس. (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) للنبوة والملك أو لأمور عظام ، والاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك. (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك. (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة ، وأحاديث النفس أو الشيطان إن كانت كاذبة. أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء وكلمات الحكماء ، وهو اسم جمع للحديث كأباطيل اسم جمع للباطل. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة. (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) يريد به سائر بنيه ، ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب أو نسله. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) بالرسالة وقيل على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار وعلى إسحاق بإنقاذه من الذبح وفدائه بذبح عظيم. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلك أو من قبل هذا الوقت. (إِبْراهِيمَ

١٥٥

وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك. (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن يستحق الاجتباء. (حَكِيمٌ) يفعل الأشياء على ما ينبغي.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧)

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في قصتهم. (آياتٌ) دلائل قدرة الله تعالى وحكمته ، أو علامات نبوتك وقرأ ابن كثير «آية». (لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن قصتهم ، والمراد بإخوته بنو علاته العشرة وهم : يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وزبالون ويشخر ودينة من بنت خالته ليا تزوجها يعقوب أولا فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. وقيل جمع بينهما ولم يكن الجمع محرما حينئذ وأربعة آخرون : دان ونفتالي وجاد وأشر من سريتين زلفة وبلهة.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨)

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من الطرفين. (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) وحده لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ، والمذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف. (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما ، والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لتفضيله المفضول أو لترك التعديل في المحبة. روي أنه كان أحب إليه لما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه ، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبر عنه ، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)(١٠)

(اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة المحكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال (لا تقتلوا يوسف). وقيل إنما قاله شمعون أو دان ورضي به الآخرون.

(أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) منكورة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإبهامها ولذلك نصبت كالظروف المبهمة. (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) جواب الأمر. والمعنى يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد. (وَتَكُونُوا) جزم بالعطف على (يَخْلُ) أو نصب بإضمار أن. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد يوسف أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه. (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه ، أو صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) يعني يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا. وقيل روبيل. (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإن القتل عظيم. (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) في قعره ، سمي بها لغيبوبته عن أعين الناظرين. وقرأ نافع في «غيابات» في الموضعين على الجمع كأنه لتلك الجب غيابات. وقرئ «غيبة» و «غيابات» بالتشديد. (يَلْتَقِطْهُ) يأخذه. (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) بعض الذين يسيرون في الأرض. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه.

١٥٦

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١٢)

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) لم تخافنا عليه. (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) ونحن نشفق عليه ونريد له الخير ، أرادوا به استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم ، والمشهور (تَأْمَنَّا) بالإدغام بإشمام. وعن نافع بترك الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام لأنهما من كلمتين و «تيمنا» بكسر التاء.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء. نرتع نتسع في أكل الفواكه ونحوها من الرتعة وهي الخصب. ونلعب بالاستباق والانتضال. وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين على أنه من ارتعى يرتعي ونافع بالكسر والياء فيه وفي (يَلْعَبْ). وقرأ الكوفيون ويعقوب بالياء والسكون على إسناد الفعل إلى يوسف. وقرئ (يَرْتَعْ) من أرتع ماشيته و «يرتع» بكسر العين و (يَلْعَبْ) بالرفع على الابتداء. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ)(١٤)

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لأن الأرض كانت مذأبة. وقيل رأى في المنام أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره عليه ، وقد همزها على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون ، وفي رواية اليزيدي وأبو عمرو وقفا وعاصم وابن عامر وحمزة درجا واشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة. (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) اللام موطئة للقسم وجوابه : (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) ضعفاء مغبونون ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والواو في (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) للحال.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٥)

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) وعزموا على إلقائه فيها ، والبئر بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين ، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى. فقد روي (أنهم لما برزوا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا : أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر ، فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم ، فقال : يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به فقالوا : ادع الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك ، فلما بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي) كما قال : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) وكان ابن سبع عشرة سنة. وقيل كان مراهقا أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. وفي القصص : أن إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليه‌السلام وألبسه إياه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) لتحدثنهم بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات ، وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). بشره بما يؤول إليه أمره إيناسا له

١٥٧

وتطييبا لقلبه. وقيل (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) متصل ب (أَوْحَيْنا) أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧)

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) أي آخر النهار. وقرئ «عشيا» وهو تصغير عشى و «عشى» بالضم والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء. (يَبْكُونَ) متباكين. روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بني وأين يوسف.

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) نتسابق في العدو أو في الرمي ، وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالانتضال والتناضل. (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨)

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه ، ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاءوا كاذبين و «كدب» بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري. وقيل : أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص ، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور. روي : أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. ولذلك (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمرا عظيما من السول وهو الاسترخاء. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل ، وفي الحديث «الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق». (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ)(١٩)

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه. (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعالى فهذا أوانك. وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. وقرأ غير الكوفيين «يا بشراي» بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي. وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ «يا بشرى» بالإدغام وهو لغة و «بشراي» بالسكون على قصد الوقف. (وَأَسَرُّوهُ) أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبره إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. (بِضاعَةً) نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما

١٥٨

بضع من المال للتجارة. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(٢٠)

(وَشَرَوْهُ) وباعوه ، وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من إخوته. (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مبخوس لزيفه أو نقصانه. (دَراهِمَ) بدل من الثمن. (مَعْدُودَةٍ) قليلة فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها. قيل كان عشرين درهما وقيل كان اثنين وعشرين درهما. (وَكانُوا فِيهِ) في يوسف. (مِنَ الزَّاهِدِينَ) الراغبين عنه والضمير في (وَكانُوا) إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه ، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه ، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف ، وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف يبينه (الزَّاهِدِينَ) لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير ، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي وقد آمن بيوسف عليه‌السلام ومات في حياته. وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ). والمشهور أنه من أولاد فرعون يوسف. والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء. روي : أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول : عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان. وقيل ملؤه فضة وقيل ذهبا. (لِامْرَأَتِهِ) راعيل أو زليخا. (أَكْرِمِي مَثْواهُ) اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا والمعنى أحسني تعهده. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) نتبناه وكان عقيما لما تفرس فيه من الرشد ، ولذلك قيل : أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر ، وابنة شعيب التي قالت (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) ، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس ، ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكامه فينفذها ، أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء أو على أمر يوسف أراد به إخوته شيئا وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كله بيده ، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢)

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين ، وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم. (آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل ، أو حكما بين الناس. (وَعِلْماً) يعني علم تأويل الأحاديث. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء

١٥٩

على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢٣)

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) طلبت منه وتمحلت أن يواقعها ، من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق. (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي أقبل وبادر ، أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح كأين واللام للتبيين كالتي في سقيا لك. وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء تشبيها له بحيث ، ونافع وابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط. وقرأ هشام كذلك إلا أنه يهمز. وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه. وقرئ «هيت» كجير و «هئت» كجئت من هاء يهئ إذا تهيأ وقرئ «هيئت» وعلى هذا فاللام من صلته. (قالَ مَعاذَ اللهِ) أعوذ بالله معاذا. (إِنَّهُ) إن الشأن. (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في (أَكْرِمِي مَثْواهُ) فما جزاؤه أن أخونه في أهله. وقيل الضمير لله تعالى أي إنه خالقي أحسن منزلتي بأن عطف علي قلبه فلا أعصيه. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) المجازون الحسن بالسيئ. وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على الزاني والمزني بأهله.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(٢٤)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ، والمراد بهمه عليه‌السلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله. (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المبالغة ، ولا يجوز أن يجعل (وَهَمَّ بِها) جواب (لَوْ لا) فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها ، بل الجواب محذوف يدل عليه. وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل تمثل له يعقوب عاضا على أنامله. وقيل قطفير. وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو الأمر مثل ذلك. (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) خيانة السيد. (وَالْفَحْشاءَ) الزنا. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم الله لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٥)

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار. وذلك أن يوسف فرّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولا والقط الشق عرضا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) وصادفا زوجها. (لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إيهاما بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاما منه ، و (ما) نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن.

١٦٠