أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ(٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)(٨٠)

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا واللفت والفتل أخوان. (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) الملك فيها سمي بها لاتصاف الملوك بالكبر ، أو التكبر على الناس باستتباعهم. (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين فيما جئتما به.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ) وقرأ حمزة والكسائي بكل «سحار». (عَلِيمٍ) حاذق فيه. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢)

(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحرا. وقرأ أبو عمرو (السِّحْرُ) على أن (ما) استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها و (السِّحْرُ) بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره أهو السحر ، أو مبتدأ خبره محذوف أي السحر هو. ويجوز أن ينتصب ما بفعل يفسره ما بعده وتقديره أي شيء أتيتم. (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه أو سيظهر بطلانه. (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يثبته ولا يقويه وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) ويثبته. (بِكَلِماتِهِ) بأوامره وقضاياه وقرئ «بكلمته». (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٨٣)

(فَما آمَنَ لِمُوسى) أي في مبدأ أمره. (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه خوفا من فرعون إلا طائفة من شبانهم ، وقيل الضمير ل (فِرْعَوْنَ) والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به ، أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنه وزوجته وماشطته (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي مع خوف منهم ، والضمير ل (فِرْعَوْنَ) وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء ، أو على أن المراد ب (فِرْعَوْنَ) آله كما يقال : ربيعة ومضر ، أو لل (ذُرِّيَّةٌ) أو للقوم. (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أن يعذبهم فرعون ، وهو بدل منه أو مفعول خوف وإفراده بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه. (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لغالب فيها. (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦)

(وَقالَ مُوسى) لما رأى تخوف المؤمنين به. (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فثقوا به واعتمدوا عليه. (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) مستسلمين لقضاء الله مخلصين له ، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين ، فإن المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضي له ، والمشروط بالإسلام حصوله فإنه لا يوجد مع التخليط ونظيره إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً)

١٢١

موضع فتنة. (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا.

(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من كيدهم ومن شؤم مشاهدتهم ، وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا لتجاب دعوته.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧)

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا) أي اتخذا مباءة. (لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة. (وَاجْعَلُوا) أنتما وقومكما. (بُيُوتَكُمْ) تلك البيوت. (قِبْلَةً) مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة ، وكان موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إليها. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها ، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى ، وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور ، ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد ، ثم وحد لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوهما. (وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وأنواعا من المال. (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك : لعن الله إبليس. وقيل اللام للعاقبة وهي متعلقة ب (آتَيْتَ) ويحتمل أن تكون للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال ، ولأنهم لما جعلوها سببا للضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون (رَبَّنا) تكريرا للأول تأكيدا وتنبيها على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي أهلكها ، والطمس المحق وقرئ (اطْمِسْ) بالضم. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي واقسها اطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان. (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي ، أو عطف على (لِيُضِلُّوا) وما بينهم دعاء معترض.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) يعني موسى وهارون لأنه كان يؤمن. (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ، ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته. روي : أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة. (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى ، وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان (وَلا تَتَّبِعانِ) بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ، (وَلا تَتَّبِعانِ) من تبع (وَلا تَتَّبِعانِ) أيضا.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٩١)

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم ، وقرئ «جوّزنا» وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف. (فَأَتْبَعَهُمْ) فأدركهم يقال تبعته حتى أتبعته. (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ

١٢٢

بَغْياً وَعَدْواً) باغين وعادين ، أو للبغي والعدو وقرئ «وعدوّا». (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) لحقه. (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي بأنه. (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وقرأ حمزة والكسائي أنه بالكسر على إضمار القول أو الاستئناف بدلا وتفسيرا ل (آمَنْتُ) فنكب عن الإيمان أوان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل.

(آلْآنَ) أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) قبل ذلك مدة عمرك. (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الضالين المضلين عن الإيمان.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)(٩٢)

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل. وقرأ يعقوب (نُنَجِّيكَ) من أنجى ، وقرئ «ننحيك» بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل. (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال أي ببدنك عاريا عن الروح ، أو كاملا سويا أو عريانا من غير لباس. أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرئ «بأبدانك» أي بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها. (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك ، حتى كذبوا موسى عليه‌السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل ، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا عن الطغيان ، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية. وقرئ «لمن خلقك» أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك. وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته ، وهذا الوجه أيضا محتمل على المشهور. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣)

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أنزلنا. (بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلا صالحا مرضيا وهو الشأم ومصر. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ. (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فما اختلفوا في أمر دينهم إلا من بعد ما قرءوا التوراة وعلموا أحكامها ، أو في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٩٥)

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من القصص على سبيل الفرض والتقدير. (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك ، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها ، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إليه ، أو تهييج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيادة تثبيته لا إمكان وقوع الشك له ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «لا أشك ولا أسأل». وقيل الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها

١٢٣

السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك ، وفيه تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم. (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) واضحا أنه لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أيضا من باب التهييج والتثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ).

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٩٧)

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) ثبتت عليهم. (كَلِمَتُ رَبِّكَ) بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في العذاب. (لا يُؤْمِنُونَ) إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.

(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) فإن السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود. (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وحينئذ لا ينفعهم كما لا ينفع فرعون.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(٩٨)

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب ، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون. (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) لكن قوم يونس عليه‌السلام. (لَمَّا آمَنُوا) أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله. (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه ، فيكون الاستثناء متصلا لأن المراد من القرى أهاليها كأنه قال : ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ، ويؤيده قراءة الرفع على البدل. (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) إلى آجالهم. روي : (أن يونس عليه‌السلام بعث إلى أهل نينوى من الموصل ، فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث. وقيل إلى ثلاثين. وقيل إلى أربعين ، فلما دنا الموعد أغامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم ، فهابوا فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرقوا بين كل والدة وولدها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأخلصوا التوبة وأظهروا الإيمان وتضرعوا إلى الله تعالى ، فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٩٩)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) بحيث لا يشذ منهم أحد. (جَمِيعاً) مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه ، وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين ، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة ، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بما لم يشأ الله منهم. (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار ، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلا عن الحث والتحريض عليه ؛ إذ روي أنه كان حريصا على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت. ولذلك قرره بقوله :

١٢٤

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠١)

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) بالله. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلا بإرادته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فإنه إلى الله. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) العذاب أو الخذلان فإنه سببه. وقرئ بالزاي وقرأ أبو بكر «ونجعل» بالنون. (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات ، أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع ويؤيد الأول قوله :

(قُلِ انْظُرُوا) أي تفكروا. (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من عجائب صنعه لتدلكم على وحدته وكمال قدرته ، و (ما ذا) إن جعلت استفهامية علقت (انْظُرُوا) عن العمل. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله وحكمه (وَما) نافية أو استفهامية في موضع النصب.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها. (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لذلك أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على محذوف دل عليه (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم ، على حكاية الحال الماضية. (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) كذلك الإنجاء أو إنجاء كذلك ننجي محمدا وصحبه حين نهلك المشركين ، و (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض ونصبه بفعله المقدر. وقيل بدل من كذلك. وقرأ حفص والكسائي (نُنَجِّي) مخففا.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٥)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لأهل مكة. (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وصحته. (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) فهذا خلاصة ديني اعتقادا وعملا فاعرضوها على العقل الصرف وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا صحتها وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه ، ولكن أعبد خالقكم الذي هو يوجدكم ويتوفاكم. وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بما دل عليه العقل ونطق به الوحي ، وحذف الجار من أن يجوز أن يكون من المطرد مع أن وأن يكون من غيره كقوله:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نسب

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) عطف على (أَنْ أَكُونَ) غير (أَنْ) صلة (أَنْ) محكية بصيغة الأمر ، ولا فرق بينهما في الغرض لأن المقصود وصلها بما يتضمن معنى المصدر لتدل معه عليه ، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب ، والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض ، والانتهاء عن القبائح ، أو في الصلاة باستقبال القبلة. (حَنِيفاً) حال من الدين أو الوجه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ

١٢٥

بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١٠٧)

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) بنفسه إن دعوته أو خذلته. (فَإِنْ فَعَلْتَ) فإن دعوته (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة الدعاء.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) وإن يصبك به. (فَلا كاشِفَ لَهُ) يرفعه. (إِلَّا هُوَ) إلا الله. (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ) فلا دافع. (لِفَضْلِهِ) الذي أرادك به ولعله ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه ، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده. (يُصِيبُ بِهِ) بالخير. (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) رسوله أو القرآن ولم يبق لكم عذر. (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان والمتابعة. (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن نفعه لها. (وَمَنْ ضَلَ) بالكفر بهما. (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لأن وبال الضلال عليها. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ موكول إلى أمركم ، وإنما أنا بشير ونذير.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) بالامتثال والتبليغ. (وَاصْبِرْ) على دعوتهم وتحمل أذيتهم. (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بالنصرة أو بالأمر بالقتال. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون».

١٢٦

(١١) سورة هود

مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(١)

(الر كِتابٌ) مبتدأ وخبر أو (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف. (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ والمعنى ، أو منعت من الفساد والنسخ فإن المراد آيات السورة وليس فيها منسوخ ، أو أحكمت بالحجج والدلائل أو جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالفوائد من العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار ، أو بجعلها سورا أو بالإنزال نجما نجما ، أو فصل فيها ولخص ما يحتاج إليه. وقرئ «ثمّ فصّلت» أي فرقت بين الحق والباطل وأحكمت آياته (ثُمَّ فُصِّلَتْ) على البناء للمتكلم ، و (ثُمَ) للتفاوت في الحكم أو للتراخي في الأخبار. (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة أخرى ل (كِتابٌ) ، أو خبر بعد خبر أو صلة ل (أُحْكِمَتْ) أو (فُصِّلَتْ) ، وهو تقرير لأحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغي باعتبار ما ظهر أمره وما خفي.

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(٣)

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) لأن لا تعبدوا. وقيل أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد أو الأمر بالتبري من عبادة الغير كأنه قيل : ترك عبادة غير الله بمعنى ألزموه أو اتركوها تركا. (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) من الله. (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عطف على ألا تعبدوا. (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ثم توسلوا إلى مطلوبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من الرجوع. وقيل استغفروا من الشرك ثم توبوا إلى الله بالطاعة ، ويجوز أن يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين. (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) يعيشكم في أمن ودعة. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو آخر أعماركم المقدرة ، أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال والأرزاق والآجال ، وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإضافة إلى كل أحد فلا تتغير. (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة ، وهو وعد للموحد التائب بخير الدارين. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن تتولوا. (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة ، وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف. وقرئ (وَإِنْ تَوَلَّوْا) من ولي.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥)

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم في ذلك اليوم وهو شاذ عن القياس. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر

١٢٧

على تعذيبكم أشد عذاب وكأنه تقدير لكبر اليوم.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يثنونها عن الحق وينحرفون عنه ، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يولون ظهورهم. وقرئ «يثنوني» بالياء والتاء من اثنوني ، وهو بناء مبالغة. و «تثنون» ، وأصله تثنونن من الثن وهو الكلأ الضعيف أراد به ضعف قلوبهم أو مطاوعة صدورهم للثني ، و «يثنئن» من اثنأن كأبياض بالهمزة و «تثنوي». (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) من الله بسرهم فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا : إذا أرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم. وقيل نزلت في المنافقين وفيه نظر إذ الآية مكية والنفاق حدث بالمدينة. (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) ألا حين يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم. (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في قلوبهم. (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم يستوي في علمه سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بالأسرار ذات الصدور أو بالقلوب وأحوالها.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) غذاؤها ومعاشها لتكفله إياه تفضلا ورحمة ، وإنما أتى بلفظ الوجوب تحقيقا لوصوله وحملا على التوكل فيه. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أماكنها في الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة. (كُلٌ) كل واحد من الدواب وأحوالها. (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) مذكور في اللوح المحفوظ ، وكأنه أريد بالآية بيان كونه عالما بالمعلومات كلها وبما بعدها بيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي خلقهما وما فيهما كما مر بيانه في «الأعراف» ، أو ما في جهتي العلو والسفل وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما لا أنه كان موضوعا على متن الماء ، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل كان الماء على متن الريح والله أعلم بذلك. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) متعلق ب (خَلَقَ) أي خلق ذلك كخلق من خلق ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون ، فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما تحتاج إليه أعمالكم ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها ، وإنما جاز تعليق فعل البلوى لما فيه من معنى العلم من حيث إنه طريق إليه كالنظر والاستماع ، وإنما ذكر صيغة التفضيل والاختبار شامل لفرق المكلفين باعتبار الحسن والقبح للتحريض على أحاسن المحاسن ، والتحضيض على الترقي دائما في مراتب العلم والعمل فإن المراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله». والمعنى أيكم أكمل علما وعملا. (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» على أن الإشارة إلى القائل. وقرئ (إِنَّكُمْ) بالفتح على تضمن قلت معنى ذكرت أو أن يكون أن بمعنى على أي ولئن قلت علّكم مبعوثون ، بمعنى توقعوا بعثكم ولا تبتوا بإنكاره لعدوه من قبيل ما لا حقيقة له مبالغة في إنكاره.

١٢٨

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الموعود. (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) إلى جماعة من الأوقات قليلة. (لَيَقُولُنَ) استهزاء. (ما يَحْبِسُهُ) ما يمنعه من الوقوع. (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) كيوم بدر. (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) ليس العذاب مدفوعا عنهم ، و (يَوْمَ) منصوب بخبر (لَيْسَ) مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها. (وَحاقَ بِهِمْ) وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد. (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون ، فوضع (يَسْتَهْزِؤُنَ) موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١١)

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) ولئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذتها. (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) ثم سلبنا تلك النعمة منه. (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) قطوع رجاءه من فضل الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به. (كَفُورٌ) مبالغ في كفران ما سلف له من النعمة.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم ، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى. (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي المصائب التي ساءتني. (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) بطر بالنعم مغتر بها. (فَخُورٌ) على الناس مشغول عن الشكر والقيام بحقها ، وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة ، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لأن الذوق إدراك الطعم والمس مبتدأ الوصول.

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) شكرا لآلائه سابقها ولاحقها. (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أقله الجنة والاستثناء من الإنسان لأن المراد به الجنس فإذا كان محلى باللام أفاد الاستغراق ومن حمله على الكافر لسبق ذكرهم جعل الاستثناء منقطعا.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٢)

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به ، ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ ها هنا. (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) وعارض لك أحيانا ضيق صدرك بأن تتلوه عليهم مخافة. (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ينفقه في الاستتباع كالملوك. (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه وقيل الضمير في (بِهِ) مبهم يفسره (أَنْ يَقُولُوا). (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ولا عليك ردوا أو اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ

١٢٩

صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٤)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أَمْ) منقطعة والهاء ل (ما يُوحى). (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في البيان وحسن النظم تحداهم أولا بعشر سور ثم لما عجزوا عنها سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة ، وتوحيد المثل باعتبار كل واحدة. (مُفْتَرَياتٍ) مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه بل أنتم أقدر لتعلمكم القصص والأشعار وتعودكم القريض والنظم. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى المعاونة على المعارضة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه مفترى (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) بإتيان ما دعوتم إليه ، وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لأن المؤمنين كانوا أيضا يتحدونهم ، وكان أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متناولا لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا ما خصه الدليل ، وللتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله ولا يقدر عليه سواه. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) واعلموا أن لا إله إلا الله لأنه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره ، ولظهور عجز آلهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقة بإعجازه عليه ، وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقا ، ويجوز أن يكون الكل خطابا للمشركين والضمير في (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) لمن استطعتم أي فإن لم يستجيبوا لكم إلى المظاهرة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا أنه نظم لا يعلمه إلا الله ، وأنه منزل من عنده وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة ، وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٦)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) بإحسانه وبره. (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد. وقرئ «يوف» بالياء أي يوف الله و «توف» على البناء للمفعول و «نوف» بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله :

وإن أتاه كريم يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

(وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون شيئا من أجورهم. والآية في أهل الرياء. وقيل في المنافقين. وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) مطلقا في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة ، أو لم يكن لأنهم لم يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإخلاص ، ويجوز تعليق الظرف ب (صَنَعُوا) على أن الضمير ل (الدُّنْيا). (وَباطِلٌ) في نفسه. (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأنه لم يعمل على ما ينبغي ، وكأن كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها. وقرئ «باطلا» على أنه مفعول يعملون و (ما) إبهامية أو في معنى المصدر كقوله :

ولا خارجا من في زور كلام

وبطل على الفعل.

١٣٠

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١٧)

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة ، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا ، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص. وقيل المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب. (وَيَتْلُوهُ) ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل. (شاهِدٌ مِنْهُ) شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن. (وَمِنْ قَبْلِهِ) ومن قبل القرآن. (كِتابُ مُوسى) يعني التوراة فإنها أيضا تتلوه في التصديق ، أو البينة هو القرآن (وَيَتْلُوهُ) من التلاوة والشاهد جبريل ، أو لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه. والضمير في (يَتْلُوهُ) إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) جملة مبتدأة. وقرئ كتاب بالنصب عطفا على الضمير في (يَتْلُوهُ) أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة دالة على أنه حق كقوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ويقرأ من قبل القرآن التوراة. (إِماماً) كتابا مؤتما به في الدين. (وَرَحْمَةً) على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين. (أُولئِكَ) إشارة إلى من كان على بينة. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالقرآن. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) يردها لا محالة. (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) من الموعد ، أو القرآن وقرئ (مِرْيَةٍ) بالضم وهما الشك. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لقلة نظرهم واختلال فكرهم.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(١٩)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله. (أُولئِكَ) أي الكاذبون. (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم. (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم ، وهو جمع شاهد كأصحاب أو شهيد كأشراف جمع شريف. (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن دينه. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكريرهم لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)(٢٢)

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. (يُضاعَفُ

١٣١

لَهُمُ الْعَذابُ) استئناف وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضّعف بالتشديد. (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) لتصامهم عن الحق وبغضهم له. (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) لتعاميهم عن آيات الله ، وكأنه العلة لمضاعفة العذاب. وقيل هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) اعتراض.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها ، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا أحد أبين وأكثر خسرانا منهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت وهو الأرض المطمئنة. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) الكافر والمؤمن. (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات الله ، وبالأصم لتصامه عن إسماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه ، وتشبيه المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين باعتبار وصفين ، أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما والعاطف لعطف الصفة على الصفة كقوله :

الصّائح فالغانم فالآئب

وهذا من باب اللف والطباق. (هَلْ يَسْتَوِيانِ) هل يستوي الفريقان. (مَثَلاً) أي تمثيلا أو صفة أو حالا. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بضرب الأمثال والتأمل فيها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(٢٦)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ) بأني لكم. قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة بالكسر على إرادة القول. (نَذِيرٌ مُبِينٌ) أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص.

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بدل من (إِنِّي لَكُمْ) ، أو مفعول مبين ، ويجوز أن تكون أن مفسرة متعلقة ب (أَرْسَلْنا) أو ب (نَذِيرٌ). (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) مؤلم وهو في الحقيقة صفة المعذب لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جد جده ونهاره صائم للمبالغة.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(٢٧)

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أخساؤنا جمع أرذل فإنه بالغلبة صار مثل الاسم كالأكبر ، أو أرذل جمع رذل. (بادِيَ الرَّأْيِ) ظاهر الرأي من غير تعمق من البدو ، أو أول الرأي من البدء ، والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها. وقرأ أبو عمرو بالهمزة وانتصابه بالظرف على حذف المضاف أي : وقت حدوث بادي الرأي ، والعامل فيه (اتَّبَعَكَ). وإنما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من

١٣٢

الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم والمحروم منها أرذل. (وَما نَرى لَكُمْ) لك ولمتبعيك. (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) إياك في دعوى النبوة وإياهم في دعوى العلم بصدقك فغلب المخاطب على الغائبين.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢٩)

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) حجة شاهدة بصحة دعواي. (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) بإيتاء البينة أو النبوة. (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) فخفيت عليكم فلم تهدكم وتوحيد الضمير لأن البينة في نفسها هي الرحمة ، أو لأن خفاءها يوجب خفاء النبوة ، أو على تقدير فعميت بعد البينة وحذفها للاختصار أو لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حمزة والكسائي وحفص (فَعُمِّيَتْ) أي أخفيت. وقرئ «فعماها» على أن الفعل لله. (أَنُلْزِمُكُمُوها) أنكرهكم على الاهتداء بها. (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) لا تختارونها ولا تتأملون فيها ، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الفصل والوصل.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. (مالاً) جعلا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فإنه المأمول منه. (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) جواب لهم حين سألوا طردهم. (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فيخاصمون طاردهم عنده ، أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) بلقاء ربكم أو بأقدارهم أو في التماس طردهم ، أو تتسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٣١)

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) بدفع انتقامه. (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) وهم بتلك الصفة والمثابة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) رزقه وأمواله حتى جحدتم فضلي. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) عطف على (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي : ولا أقول لكم أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني استبعادا ، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ، وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول. (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا ما أنت إلا بشر مثلنا. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) ولا أقول في شأن من استرذلتموهم لفقرهم. (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) فإن ما أعده الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن قلت شيئا من ذلك ، والازدراء به افتعال من زرى عليه إذا عابه قلبت تاؤه دالا لتجانس الراء في الجهر وإسناده إلى الأعين للمبالغة ، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرؤية من غير روية بما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٣٣)

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) خاصمتنا. (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) فأطلته أو أتيت بأنواعه. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من

١٣٣

العذاب. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك لا تؤثر فينا.

(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) عاجلا أو آجلا. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بدفع العذاب أو الهرب منه.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٣٥)

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) شرط ودليل جواب والجملة دليل جواب قوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) وتقدير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم ، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، ولذلك نقول لو قال الرجل أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيدا فدخلت ثم كلمت لم تطلق ، وهو جواب لما أوهموا من جداله كلام بلا طائل. وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده محال. وقيل (أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أن يهلككم من غوى الفصيل غوى إذا بشم فهلك. (هُوَ رَبُّكُمْ) هو خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) وباله وقرئ «أجرامي» على الجمع. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(٣٧)

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن ولا تتأسف. (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أقنطه الله تعالى من إيمانهم ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإيذاء.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) ملتبسا بأعيننا ، عبر بكثرة آلة الحس الذي يحفظ به الشيء ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل. (وَوَحْيِنا) إليك كيف تصنعها. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) محكوم عليهم بالإغراق فلا سبيل إلى كفه.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ)(٣٨)

(تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٩)

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية. (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به لعمله السفينة فإنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان عزته ، وكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجارا بعد ما كنت نبيا. (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل المراد بالسخرية الاستجهال.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يعني به إياهم وبالعذاب الغرق. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) وينزل عليه ، أو يحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه. (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم وهو عذاب النار.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)(٤٠)

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) غاية لقوله (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ

١٣٤

بعدها الكلام. (وَفارَ التَّنُّورُ) نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور ، و (التَّنُّورُ) تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها ، أو في الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها. (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) في السفينة. (مِنْ كُلٍ) من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها. (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى. (وَأَهْلَكَ) عطف على (زَوْجَيْنِ) أو (اثْنَيْنِ) ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين. (وَمَنْ آمَنَ) والمؤمنين من غيرهم. (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم. روي أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الإنس وفي أعلاها الطير.

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٤١)

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض. (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) متصل ب (ارْكَبُوا) حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها ، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو المصدر ، والمضاف محذوف كقولهم : آتيك خفوق النجم ، وانتصابهما بما قدرناه حالا ويجوز رفعهما ب (بِسْمِ اللهِ) على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ وخبر ، أي إجراؤها (بِسْمِ اللهِ) على أن (بِسْمِ اللهِ) خبر أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء. وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست. ويجوز أن يكون الاسم مقحما كقوله : ثمّ اسم السّلام عليكما. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية حفص (مَجْراها) بالفتح من جرى وقرئ «مرساها» أيضا من رسا وكلاهما يحتمل الثلاثة و «مجريها ومرسيها» بلفظ الفاعل صفتين لله. (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم.

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)(٤٢)

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) متصل بمحذوف دل عليه (ارْكَبُوا) فركبوا مسمين وهي تجري وهم فيها. (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) في موج من الطوفان ، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة منها كجبل في تراكمها وارتفاعها ، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه ليس بثابت ، والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا وإن صح فلعل ذلك قبل التطبيق. (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان ، وقرئ «ابنها» و «ابنه» بحذف الألف على أن الضمير لامرأته ، وكان ربيبه وقيل كان لغير رشدة لقوله تعالى : (فَخانَتاهُما) وهو خطأ إذ الأنبياء عصمن من ذلك والمراد بالخيانة الخيانة في الدين ، وقرئ «ابناه» على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف الحرف. (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا أبعده. (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) في السفينة ، والجمهور كسروا الياء ليدل على ياء الإضافة المحذوفة في جميع القرآن ، غير ابن كثير فإنه وقف عليها في «لقمان» في الموضع الأول باتفاق الرواة وفي الثالث في رواية قنبل وعاصم فإنه فتح ها هنا اقتصارا على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإضافة ، واختلفت الرواية عنه في سائر المواضع وقد أدغم الباء في الميم أبو عمرو والكسائي وحفص لتقاربهما. (وَلا

١٣٥

تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) في الدين والانعزال.

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٤)

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أن يغرقني (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) إلا الراحم وهو الله تعالى أو إلّا مكان من رحمهم‌الله وهم المؤمنون ، رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة. وقيل لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة كقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من رحمه‌الله يعصمه. (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل. (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) فصار من المهلكين بالماء.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) نوديا بما ينادي به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به ، تمثيلا لكمال قدرته وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره ، مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه ، والبلع النشف والإقلاع الإمساك. (وَغِيضَ الْماءُ) نقص. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين. (وَاسْتَوَتْ) واستقرت السفينة. (عَلَى الْجُودِيِ) جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل. روي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة. (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هلاكا لهم ، يقال : بعد بعدا وبعدا ، إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، وفي إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين في نفسه مستغن عن ذكره ، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٤٦)

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) وأراد نداءه بدليل عطف قوله : (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) فإنه النداء. (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) وإن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه الخلف ، وقد وعدت أن تنجي أهلي فما حاله ، أو فما له لم ينج ، ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه. (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) لأنك أعلمهم وأعدلهم ، أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فإنه تعليل لنفي كونه من أهله ، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيهما وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه. وقرأ الكسائي ويعقوب (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي عمل عملا غير صالح. (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك ، وإنما سمي نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه

١٣٦

في شأن ولده أو استفسار المانع للإنجاز في حقه ، وإنما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر. وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ(٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٨)

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) فيما يستقبل. (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ما لا علم لي بصحته. (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) وإن لم تغفر لي ما فرط مني في السؤال. (وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة والتفضل علي. (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) انزل من السفينة مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك. (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) ومباركا عليك أو زيادات في نسلك حتى تصير آدما ثانيا. وقرئ «اهبط» بالضم «وبركة» على التوحيد وهو الخير النامي. (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) وعلى أمم هم الذين معك ، سموا أمما لتحزبهم أو لتشعب الأمم منهم ، أو وعلى أمم ناشئة ممن معك والمراد بهم المؤمنون لقوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا. (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة والمراد بهم الكفار من ذرية من معه. وقيل هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب ، والعذاب ما نزل بهم.

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(٤٩)

(تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي بعضها. (نُوحِيها إِلَيْكَ) خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك ، أو حال من ال (أَنْباءِ) أو هو الخبر و (مِنْ أَنْباءِ) متعلق به أو حال من الهاء في (نُوحِيها). (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك ، أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في (إِلَيْكَ) أي : جاهلا أنت وقومك بها ، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم. (فَاصْبِرْ) على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح. (إِنَّ الْعاقِبَةَ) في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز. (لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك والمعاصي.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٥١)

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) عطف على قوله (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) و (هُوداً) عطف بيان (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وقرئ بالجر حملا على المجرور وحده. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) على الله باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خاطب كل رسول به قومه إزاحة للتهمة

١٣٧

وتمحيضا للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (٥٣)

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) اطلبوا مغفرة الله بالإيمان ثم توسلوا إليها بالتوبة وأيضا التبري من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده. (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدر. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) ويضاعف قوتكم ، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات. وقيل حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه‌السلام على الإيمان والتوبة بكثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. (وَلا تَتَوَلَّوْا) ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه. (مُجْرِمِينَ) مصرين على إجرامكم.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) بتاركي عبادتهم. (عَنْ قَوْلِكَ) صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي. (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إقناط له من الإجابة والتصديق.

(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥٦)

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ) ما نقول إلا قولنا (اعْتَراكَ) أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه. (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم لخرافات ، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيدا لذلك وتثبيتا له ، وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بهم ، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقاما منه ، وهذا من جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك عقبه بقوله :

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) تقريرا له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده ، ولا تقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي

١٣٨

عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٨)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن تتولوا. (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة فلا تفريط مني ولا عذر لكم فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم. (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) استئناف بالوعيد لهم بأن الله يهلكهم ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم ، أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده القراءة بالجزم على الموضع كأنه قيل : وإن تتولوا يعذرني ربي ويستخلف. (وَلا تَضُرُّونَهُ) بتوليكم. (شَيْئاً) من الضرر ومن جزم يستخلف أسقط النون منه. (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) رقيب فلا تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم ، أو حافظ مستول عليه فلا يمكن أن يضره شيء.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا أو أمرنا العذاب. (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وكانوا أربعة آلاف. (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) تكرير لبيان ما نجاهم منه وهو السموم ، كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أعضاءهم ، أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضا ، والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)(٦٠)

(وَتِلْكَ عادٌ) أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم. (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) كفروا بها. (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسولا فكأنما عصى الكل لأنهم أمروا بطاعة كل رسول. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) يعني كبراءهم الطاغين و (عَنِيدٍ) من عند عندا وعندا وعنودا إذا طغى ، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم في العذاب. (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) جحدوه أو كفروا نعمه أو كفروا به فحذف الجار. (أَلا بُعْداً لِعادٍ) دعاء عليهم بالهلاك ، والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم ، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعا لأمرهم وحثا على الاعتبار بحالهم. (قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد ، وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم ، والإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(٦١)

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) هو كونكم منها لا غيره فإنه خلق آدم ومواد النطف التي خلق نسله منها من التراب. (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) عمركم فيها واستبقاكم من العمر ، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها ، وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم ، أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم. (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) قريب الرحمة. (مُجِيبٌ) لداعيه.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ

١٣٩

إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)(٦٣)

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد أن تكون لنا سيدا ومستشارا في الأمور ، أو أن توافقنا في الدين فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك. (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) على حكاية الحال الماضية. (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد والتبري عن الأوثان. (مُرِيبٍ) موقع في الريبة من أرابه ، أو ذي ريبة على الإسناد المجازي من أراب في الأمر.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) بيان وبصيرة وحرف الشك باعتبار المخاطبين. (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوة. (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) فمن يمنعني من عذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ رسالته والمنبع عن الإشراك به. (فَما تَزِيدُونَنِي) إذن باستتباعكم إياي. (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه ، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ(٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)(٦٥)

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) انتصب آية على الحال وعاملها معنى الإشارة ، ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها. (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ترع نباتها وتشرب ماءها. (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا وهو ثلاثة أيام.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا. (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) الأربعاء والخميس والجمعة ثم تهلكون. (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي غير مكذوب فيه فاتسع فيه باجرائه مجرى المفعول به كقوله :

ويوم شهدناه سليما وعامرا

أو غير مكذوب على المجاز ، وكأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقة وإلا كذبه ، أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(٦٨)

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة. وعن نافع (يَوْمِئِذٍ) بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي «المعارج» في قوله : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر على كل شيء والغالب عليه.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) قد سبق تفسير ذلك في سورة «الأعراف».

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) نوّنه أبو بكر ها هنا وفي «النجم» والكسائي في جميع القرآن وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو في قوله : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) ذهابا إلى الحي أو الأب الأكبر.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩)

١٤٠