أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٣

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٩

آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١١٩)

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ) وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع. (الَّذِينَ خُلِّفُوا) تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجؤون. (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحيرة. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور. (وَظَنُّوا) وعلموا. (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) من سخطه. (إِلَّا إِلَيْهِ) إلا إلى استغفاره. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بالتوفيق للتوبة. (لِيَتُوبُوا) أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين ، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم. (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. (الرَّحِيمُ) المتفضل عليهم بالنعم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فيما لا يرضاه (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في إيمانهم وعهودهم ، أو في دين الله نية وقولا وعملا. وقرئ «من الصادقين» أي في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١٢٠)

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) نهي عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة. (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما يكابده من الأهوال. روي : (أن أبا خيثمة بلغ بستانه ، وكانت له زوجة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الضح والريح ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح ، فمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال : كن أبا خيثمة فكأنه ففرح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغفر له) وفي (لا يَرْغَبُوا) يجوز النصب والجزم. (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو وجوب المشايعة. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم. (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) شيء من العطش. (وَلا نَصَبٌ) تعب. (وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة. (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ) ولا يدوسون. (مَوْطِئاً) مكانا. (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يغضبهم وطؤه. (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) كالقتل والأسر والنهب. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلا استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة. (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم ، وهو تعليل ل (كُتِبَ) وتنبيه على أن الجهاد إحسان ، أما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون ، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢١)

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو علّاقة. (وَلا كَبِيرَةً) مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة. (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) في مسيرهم وهو كل منعرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي إذا سال فشاع بمعنى الأرض. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أثبت لهم ذلك. (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بذلك. (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أعمالهم.

١٠١

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢)

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش. (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة. (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم ، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه ، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا ، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك ، وقد أشبعت القول فيه تقريرا واعتراضا في كتابي «المرصاد». وقد قيل للآية معنى آخر وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو ، وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٢٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين ، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح. وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر. وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) شدة وصبرا على القتال. وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالحراسة والإعانة.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ)(١٢٥)

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ) فمن المنافقين (مَنْ يَقُولُ) انكار واستهزاء. (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة. (إِيماناً) وقرئ «أيكم» بالنصب على إضمار فعل يفسره (زادَتْهُ). (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم. (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر. (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها. (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ

١٠٢

(١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(١٢٧)

(أَوَلا يَرَوْنَ) يعني المنافقين وقرئ بالتاء. (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يبتلون بأصناف البليات ، أو بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات. (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم. (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ولا يعتبرون.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا لما فيها من عيوبهم. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا. (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن حضرته مخافة الفضيحة. (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان وهو يحتمل الإخبار والدعاء. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم. (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم عربي مثلكم. وقرئ «من أنفسكم» أي من أشرفكم. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) شديد شاق. (ما عَنِتُّمْ) عنتكم ولقاؤكم المكروه. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على إيمانكم وصلاح شأنكم. (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم. (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان بك. (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كالدليل عليه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فلا أرجو ولا أخاف إلا منه. (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الملك العظيم ، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير. وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه : أن آخر ما نزل هاتان الآيتان وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نزل القرآن علي إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد ، فإنهما أنزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» والله أعلم.

١٠٣

(١٠) سورة يونس

مكية وهي مائة وتسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

(الر) فخمها ابن كثير ونافع برواية قالون وحفص وقرأ ورش بين اللفظين ، وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من الكتاب أحدهما ، ووصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم ، أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها. (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) استفهام إنكار للتعجب و (عَجَباً) خبر كان واسمه : (أَنْ أَوْحَيْنا) وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على «أن كان» تامة و (أَنْ أَوْحَيْنا) بدل من (عَجَباً) ، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم. (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة. هذا وإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك. وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة «الأنعام». (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه ، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة (أَنَّ لَهُمْ) بأن لهم (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) سابقة ومنزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا) يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام. (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وقرأ ابن كثير والكوفيون «لساحر» على أن الإشارة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة. وقرئ «ما هذا إلا سحر مبين».

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٣)

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي هي أصول الممكنات. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه ، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة. (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له (ذلِكُمُ اللهُ) أي

١٠٤

الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية. (رَبَّكُمُ) لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك. (فَاعْبُدُوهُ) وحدوه بالعبادة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه. (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وعد من الله. (حَقًّا) مصدر آخر مؤكد لغيره وهو ما دل عليه (وَعْدَ اللهِ). (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد بدئه وإهلاكه. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم أو بإيمانهم لأنه العدل القويم كما أن الشرك ظلم عظيم وهو الأوجه لمقابلة قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) فإن معناه ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم ، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة والعقاب واقع بالعرض ، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم. والآية كالتعليل لقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة ، ويؤيده قراءة من قرأ (إِنَّهُ يَبْدَؤُا) بالفتح أي لأنه ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا بما نصب (وَعْدَ اللهِ) أو بما نصب (حَقًّا).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) أي ذات ضياء وهو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط والياء فيه منقلبة عن الواو. وقرأ ابن كثير برواية قنبل هنا وفي «الأنبياء» وفي «القصص» : «ضئاء» بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين. (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي ذا نور أو سمي نورا للمبالغة وهو أعم من الضوء كما عرفت ، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيرا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل ، أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم. (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة. نفصل الآيات لقوم يعلمون فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها وقرأ ابن كثير والبصريان وحفص (يُفَصِّلُ) بالياء.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أنواع الكائنات. (لَآياتٍ) على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته. (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) العواقب فإنه يحملهم على التفكر والتدبر.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨)

١٠٥

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) من الآخرة لغفلتهم عنها. (وَاطْمَأَنُّوا بِها) وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم ير إلّا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له.

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة ، أو لإدراك الحقائق كما قال عليه الصلاة والسلام «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». أو لما يريدونه في الجنة ، ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح لكن دل منطوق قوله: (بِإِيمانِهِمْ) على استقلال الإيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير ، وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر أو حال أخرى منه ، أو من (الْأَنْهارُ) أو متعلق ب (تَجْرِي) أو بيهدي.

(دَعْواهُمْ فِيها) أي دعاؤهم. (سُبْحانَكَ اللهُمَ) اللهم إنا نسبحك تسبيحا. (وَتَحِيَّتُهُمْ) ما يحيى به بعضهم بعضا ، أو تحية الملائكة إياهم. (فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ) وآخر دعائهم. (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أن يقولوا ذلك ، ولعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام ، و (أَنِ) هي المخففة من الثقيلة وقد قرئ بها وينصب «الحمد».

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١)

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) ولو يسرعه إليهم. (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) وتقدير الكلام ، ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير ، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه. (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأميتوا وأهلكوا وقرأ ابن عامر ويعقوب لقضى على البناء للفاعل وهو الله تعالى وقرئ «لقضينا». (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأنه قيل : ولكن لا نعجل ولا نقضي فنذرهم إمهالا لهم واستدراجا.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)

١٠٦

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا) لإزالته مخلصا فيه. (لِجَنْبِهِ) ملقى لجنبه أي مضطجعا. (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) وفائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار. (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) يعني مضى على طريقته واستمر على كفره أو مر عن موقف الدعاء لا يرجع إليه. (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما قال :

ونحر مشرق اللّون

كأن ثدياه حقّان

(إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) إلى كشف ضر. (كَذلِكَ) مثل ذلك التزيين. (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الانهماك في الشهوات والإعراض عن العبادات.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة. (لَمَّا ظَلَمُوا) حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى والجوارح لا على ما ينبغي (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الدالة على صدقهم وهو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا. (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله لهم وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم ، واللام لتأكيد النفي. (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم أعلام فيه.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أتعملون خيرا أو شرا فنعاملكم على مقتضى أعمالكم ، وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله ، وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها لا هي من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٥)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) يعني المشركين. (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والثواب والعقاب بعد الموت ، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا. (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى ولعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه. (قُلْ ما يَكُونُ لِي) ما يصح لي. (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفا ، وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه ، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصيانا فقال : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بالتبديل. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٦)

١٠٧

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ) غير ذلك. (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم به على لساني ، وعن ابن كثير «ولأدراكم» بلام التأكيد أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري. والمعنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري. وقرئ «ولا أدرأكم» «ولا أدرأتكم» بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة ، أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال ، والمعنى أن الأمر بمشيئة الله تعالى لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) مقدارا عمر أربعين سنة. (مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه ، فإنه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ولم يشاهد عالما ولم ينشئ قريضا ولا خطبة ، ثم قرأ عليهم كتابا بزت فصاحته فصاحة كل منطيق وعلا من كل منثور ومنظوم ، واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلوم به من الله تعالى. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تستعملون عقلوكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من الله.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تفاد مما أضافوه إليه كناية ، أو تظليم للمشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم إنه لذو شريك وذو ولد. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) فكفر بها. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) فإنه جماد لا يقدر على نفع ولا ضر ، والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) الأوثان. (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث ، وكأنهم كانوا شاكين فيه وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر ولا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) أتخبرونه. (بِما لا يَعْلَمُ) وهو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما وفيه تقريع وتهكم بهم. (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون الله إما سماوي وإما أرضي ، ولا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الموضعين في أول «النحل» و «الروم» بالتاء.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٢٠)

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) موحدين على الفطرة أو متفقين على الحق ، وذلك في عهد آدم عليه‌السلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو بعد الطوفان ، أو على الضلال في فترة من الرسل. (فَاخْتَلَفُوا) باتباع الهوى والأباطيل ، أو ببعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام فتبعتهم طائفة وأصرت أخرى. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء. (لَقُضِيَ

١٠٨

بَيْنَهُمْ) عاجلا. (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بإهلاك المبطل وإبقاء المحق.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي من الآيات التي اقترحوها. (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) هو المختص بعلمه فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها. (فَانْتَظِرُوا) لنزول ما اقترحتموه. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام واقتراحكم غيره.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)(٢١)

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) صحة وسعة. (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) كقحط ومرض. (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) بالطعن فيها والاحتيال في دفعها. قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم‌الله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله. (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم ، وإنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية والمكر إخفاء الكيد ، وهو من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر. (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على الله تعالى ، وعن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله.

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) يحملكم على السير ويمكنكم منه. وقرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون والشين من النشر. (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) في السفن ، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) بمن فيها ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم. (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) لينة الهبوب. (وَفَرِحُوا بِها) بتلك الريح. (جاءَتْها) جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة ، بمعنى تلقتها. (رِيحٌ عاصِفٌ) ذات عصف شديدة الهبوب. (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يجيء الموج منه. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أهلكوا وسدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو. (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف ، وهو بدل من (ظَنُّوا) بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم. (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على إرادة القول أو مفعول (دَعَوُا) لأنه من جملة القول.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) إجابة لدعائهم. (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه. (بِغَيْرِ الْحَقِ) مبطلين فيه وهو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فإنها إفساد بحق. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم أبناء جنسكم. (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) منفعة الحياة الدنيا لا تبقى ويبقى عقابها ، ورفعه على أنه خبر (بَغْيُكُمْ) و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلته ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبر (بَغْيُكُمْ) ، ونصبه حفص على أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته والخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال ، أو مفعول

١٠٩

فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبره. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) في القيامة. (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأجزاء عليه.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤)

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها. (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا. (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الزروع والبقول والحشيش. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) حسنها وبهجتها. (وَازَّيَّنَتْ) تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها ، (وَازَّيَّنَتْ) أصله تزينت فأدغم وقد قرئ على الأصل «وازينت» على أفعلت من غير إعلال كأغيلت ، والمعنى صارت ذات زينة «وازيانت» كابياضت. (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) متمكنون من حصدها ورفع غلتها. (أَتاها أَمْرُنا) ضرب زرعها ما يجتاحه. (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) فجعلنا زرعها. (حَصِيداً) شبيها بما حصد من أصله. (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث ، والمضاف محذوف في الموضعين للمبالغة وقرئ بالياء على الأصل. (بِالْأَمْسِ) فيما قبيله وهو مثل في الوقت القريب والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما بعد ما كان غضا والتف ، وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإنهم المنتفعون به.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٦)

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) دار السلامة من التقضي والآفة ، أو دار الله وتخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك ، أو دار يسلم الله والملائكة فيها على من يدخلها والمراد الجنة. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو طريقها وذلك الإسلام والتدرع بلباس التقوى ، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن المصر على الضلالة لم يرد الله رشده.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) المثوبة الحسنى. (وَزِيادَةٌ) وما يزيد على المثوبة تفضلا لقوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر ، وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان ، وقيل الحسنى الجنة والزيادة هي اللقاء. (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) لا يغشاها. (قَتَرٌ) غبرة فيها سواد. (وَلا ذِلَّةٌ) هوان ، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن وسوء حال. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ)(٢٨)

١١٠

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) عطف على قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) على مذهب من يجوز : في الدار زيد والحجرة عمرو ، أو (الَّذِينَ) مبتدأ ، والخبر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) على تقدير : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) ، أو (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) وما بينهما اعتراض ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) مبتدأ خبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع ، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها. (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) وقرئ بالياء. (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ما من أحد يعصمهم من سخط الله ، أو من جهة الله ومن عنده كما يكون للمؤمنين. (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) غطيت. (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لفرط سوادها وظلمتها ومظلما حال من الليل والعامل فيه (أُغْشِيَتْ) لأنه العامل في (قِطَعاً) وهو موصوف بالجار والمجرور ، والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في (مِنَ اللَّيْلِ). وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب (قِطَعاً) بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون (مُظْلِماً) صفة له أو حالا منه. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مما يحتج به الوعيدية. والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمه.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني الفريقين جميعا. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم. (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله. (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه وقرئ بالنصب على المفعول معه. (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم. (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به. وقيل ينطق الله الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها. وقيل المراد بالشركاء الملائكة والمسيح وقيل الشياطين.

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠)

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فإنه العالم بكنه الحال. (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ إِنْ) هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. (هُنالِكَ) في ذلك المقام. (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) تختبر ما قدمت من عمل فتعاين نفعه وضره. وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت ، أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار. وقرئ «نبلو» بالنون ونصب (كُلُ) وإبدال (ما) منه والمعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها المتعرف لسعادتها وشقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها ، ويجوز أن يراد به نصيب بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون (ما) منصوبة بنزع الخافض. (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) إلى جزائه إياهم بما أسلفوا. (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى ، وقرئ «الحقّ» بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وضاع عنهم. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أن آلهتهم تشفع لهم ، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٣٢)

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو (مَنْ) كل واحد منهما توسعة عليكم. وقيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء

١١١

والأرض. (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما ، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالها من أدنى شيء. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ومن يحيي ويميت ، أو من ينشئ الحيوان من النطفة والنطفة منه. (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ومن يلي تدبير أمر العالم وهو تعميم بعد تخصيص. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه. (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم. (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) استفهام إنكار أي ليس بعد الحق إلا الضلال فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق إلى الضلال.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٣٤)

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي كما حقت الربوبية لله أو أن الحق بعده الضلال ، أو أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة الله وحكمه. وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» هنا وفي آخر السورة وفي «غافر» (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) تمردوا في كفرهم وخرجوا عن حد الاستصلاح. (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من الكلمة ، أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة بالعذاب.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) جعل الإعادة كالابداء في الإلزام بها لظهور برهانها وإن لم يساعدوا عليها ، ولذلك أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينوب عنهم في الجواب فقال (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن قصد السبيل.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بنصب الحجج وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام والتوفيق للنظر والتدبر ، وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك عدى بها ما أسند إلى الله تعالى. (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم :

هدي بنفسه إذا اهتدى ، أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعزير ، وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر يهدي بفتح الهاء وتشديد الدال. ويعقوب وحفص بالكسر والتشديد والأصل يهتدي فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين. وروى أبو بكر يهدي باتباع الياء الهاء. وقرأ أبو عمرو بالإدغام المجرد ولم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك. وعن نافع برواية قالون مثله وقرئ «إلا أن يهدي» للمبالغة (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بما يقتضي صريح العقل بطلانه. (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) فيما يعتقدونه. (إِلَّا ظَنًّا) مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ، والمراد بالأكثر الجميع أو من ينتمي منهم إلى تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف. (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ) من العلم والاعتقاد

١١٢

الحق. (شَيْئاً) من الإغناء ويجوز أن يكون مفعولا به و (مِنَ الْحَقِ) حالا منه ، وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) وعيد على اتباعهم للظن وإعراضهم عن البرهان.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣٨)

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) افتراء من الخلق. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها ولا يكون كذبا كيف وهو لكونه معجزا دونها عيّار عليها شاهد على صحتها ، ونصبه بأنه خبر لكان مقدرا أو علة لفعل محذوف تقديره : ولكن أنزله الله تصديق الذي. وقرئ بالرفع على تقدير ولكن هو تصديق. (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) وتفصيل ما حقق وأثبت من العقائد والشرائع. (لا رَيْبَ فِيهِ) منتفيا عنه الريب وهو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك ، ويجوز أن يكون حالا من الكتاب فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا. (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر آخر تقديره كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو تفصيل ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض أو بالفعل المعلل بهما ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من الضمير في (فِيهِ) ، ومساق الآية بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه.

(أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون. (افْتَراهُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى الهمزة فيه للإنكار. (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا في النظم والعبارة. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى فإنه وحده قادر على ذلك. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه اختلقه.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)(٣٩)

(بَلْ كَذَّبُوا) بل سارعوا إلى التكذيب. (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه ، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما من ذكر البعث والجزاء وسائر ما يخالف دينهم. (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ولم يقفوا بعد على تأويله ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، أو ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب ، والمعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى ثم إنهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي

فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها ، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقا لإخباره مرارا فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا وعنادا. (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٤١)

(وَمِنْهُمْ) ومن المكذبين. (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) من يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند ، أو من

١١٣

سيؤمن به ويتوب عن الكفر. (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره ، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر ، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) بالمعاندين أو المصرين.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ) وإن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة. (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) فتبرأ منهم فقد أعذرت ، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقا كان أو باطلا. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، ولما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل إنه منسوخ بآية السيف.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ)(٤٣)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) تقدر على إسماعهم. (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم. وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم ، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره وعقولهم لما كانت مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد ، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) يعاينون دلائل نبوتك ولكن لا يصدقونك. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) تقدر على هدايتهم. (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) وإن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصيرة ، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. والآية كالتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥)

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بسلب حواسهم وعقولهم. (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإفسادها وتفويت منافعها عليهم ، وفيه دليل على أن للعبد كسبا وأنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة ، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بمعنى أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله لا يظلمهم به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالتخفيف ورفع الناس.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون ، والجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة ، أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره : كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف ، أي : حشرا كأن لم يلبثوا قبله. (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا ، وهذا أول ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم وهي حال أخرى مقدرة ، أو بيان لقوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون يوم يحشرهم. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) استئناف للشهادة على خسرانهم والتعجب منه ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في يتعارفون على إرادة القول. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى والعذاب الدائم.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ

١١٤

رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٤٧)

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) نبصرنك. (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب في حياتك كما أراه يوم بدر. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك. (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) فنريكه في الآخرة وهو جواب (نَتَوَفَّيَنَّكَ) وجواب (نُرِيَنَّكَ) محذوف مثل فذاك. (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) مجاز عليه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ولذلك رتبها على الرجوع ب (ثُمَ) ، أو مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية. (رَسُولٌ) يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحق. (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) بالبينات فكذبوه. (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الرسول ومكذبيه. (بِالْقِسْطِ) بالعدل فأنجي الرسول وأهلك المكذبون. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وقيل معناه لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمنين وعقاب الكفار لقوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩)

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) استبعادا له واستهزاء به. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب منهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن أملكه أو ولكن ما شاء الله من ذلك كائن. (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مضروب لهلاكهم. (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخرون ولا يتقدمون فلا تستعجلون فسيحين وقتكم وينجز وعدكم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(٥١)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) الذي تستعجلون به. (بَياتاً) وقت بيات واشتغال بالنوم. (أَوْ نَهاراً) حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم. (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي شيء من العذاب يستعجلونه ، وكله مكروه لا يلائم الاستعجال وهو متعلق ب (أَرَأَيْتُمْ) لأنه بمعنى أخبروني ، والمجرمون وضع موضع الضمير للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب لا أن يستعجلوه ، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا خطأه ، ويجوز أن يكون الجواب ماذا كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني وتكون الجملة متعلقة ب (أَرَأَيْتُمْ) أو بقوله :

(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) بمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، وماذا يستعجل اعتراض ودخول حرف الاستفهام على «ثم» لإنكار التأخير. (آلْآنَ) على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به. وعن نافع (آلْآنَ) بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام. (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) تكذيبا واستهزاء.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(٥٣)

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على قيل المقدر. (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) المؤلم على الدوام. (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.

١١٥

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) ويستخبرونك. (أَحَقٌّ هُوَ) أحق ما تقول من الوعد أو ادعاء النبوة تقوله بجد أم باطل تهزل به قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة ، والأظهر أن الاستفهام فيه على أصله لقوله : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) وقيل إنه للإنكار ويؤيده أنه قرئ «آلحق هو» فإن فيه تعريضا بأنه باطل ، وأحق مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر أو خبر مقدم والجملة في موضع النصب ب (يَسْتَنْبِئُونَكَ). (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) إن العذاب لكائن أو ما ادعيته لثابت. وقيل كلا الضميرين للقرآن ، وإي بمعنى نعم وهو من لوازم القسم ولذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال إي والله ولا يقال إي وحده. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين العذاب.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٥٤)

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) بالشرك أو التعدي على الغير (ما فِي الْأَرْضِ) من خزائنها وأموالها.

(لَافْتَدَتْ بِهِ) لجعلته فدية لها من العذاب ، من قولهم افتداه بمعنى فداه. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنهم بهتوا بما عاينوا مما لم يحتسبوه من فظاعة الأمر وهوله فلم يقدروا أن ينطقوا. وقيل (أَسَرُّوا النَّدامَةَ) أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها ، أو لأنه يقال سر الشيء لخالصته من حيث إنها تخفى ويضن بها. وقيل أظهروها من قولهم أسر الشيء وأشره إذا أظهره. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ليس تكريرا لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم والثاني مجازاة المشركين على الشرك أو الحكومة بين الظالمين والمظلومين ، والضمير إنما يتناولهم لدلالة الظلم عليهم.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٥٦)

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ما وعده من الثواب والعقاب كائن لا خلف فيه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يعلمون لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) في الدنيا فهو يقدر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته ، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت لهما أبدا. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالموت أو النشور.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح ، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدى إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين ، حيث أنزلت عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان ، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان ، والتنكير فيها للتعظيم.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) بإنزال القرآن ، والباء متعلقة بفعل يفسره قوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) فإن اسم الإشارة بمنزلة الضمير تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو فليفرحوا فبذلك فليفرحوا ، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح أو بفعل دل عليه (قَدْ جاءَتْكُمْ) ، وذلك إشارة إلى مصدره أي فبمجيئها فليفرحوا والفاء بمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فيهما فليفرحوا

١١٦

أو للربط بما قبلها ، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح وتكريرها للتأكيد كقوله :

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

وعن يعقوب «فلتفرحوا» بالتاء على الأصل المرفوض ، وقد روي مرفوعا ويؤيده أنه قرئ «فافرحوا». (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا فإنها إلى الزوال قريب وهو ضمير ذلك. وقرأ ابن عامر تجمعون بالتاء على معنى فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعونه أيها المخاطبون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٦٠)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) جعل الرزق منزلا لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها ، وما في موضع النصب ب (أَنْزَلَ) أو ب (أَرَأَيْتُمْ) فإنه بمعنى أخبروني ، ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) مثل : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [وعند قوله تعالى] (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه. (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في نسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المنفصلة متصلة ب (أَرَأَيْتُمْ) وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار ، و (أَمْ) منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله.

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي شيء ظنهم. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أيحسبون أن لا يجازوا عليه ، وهو منصوب بالظن ويدل عليه أنه قرئ بلفظ الماضي لأنه كائن ، وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦١)

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) ولا تكون في أمر ، وأصله الهمز من شأنت شأنه إذا قصدت قصده والضمير في (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) له لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول ، أو لأن القراءة تكون لشأن فيكون التقدير من أجله ومفعول تتلو (مِنْ قُرْآنٍ) على أن (مِنْ) تبعيضية أو مزيدة لتأكيد النفي أو لل (قُرْآنٍ) ، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له أو لله. (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم ، ولذلك ذكر حيث خص ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير. (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) رقباء مطلعين عليه. (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) تخوضون فيه وتندفعون. (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) ولا يبعد عنه ولا يغيب عن علمه ، وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا وفي «سبأ». (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) موازن نملة صغيرة أو هباء. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي في الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما ولا متعلقا بهما ، وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود منه البرهان على إحاطة علمه بها. (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كلام برأسه مقرر لما قبله و (لا) نافية و (أَصْغَرَ) اسمها و (فِي كِتابٍ) خبرها. وقرأ

١١٧

حمزة ويعقوب بالرفع على الابتداء والخبر ، ومن عطف على لفظ (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعا ، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٦٤)

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات مأمول. والآية كمجمل فسره قوله :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) وقيل الذين آمنوا وكانوا يتقون بيان لتوليهم إياه.

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما بشر به المتقين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يريهم من الرؤيا الصالحة وما يسنح لهم من المكاشفات ، وبشرى الملائكة عند النزع. (وَفِي الْآخِرَةِ) بتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة بيان لتوليه لهم ، ومحل (الَّذِينَ آمَنُوا) النصب أو الرفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء وخبره (لَهُمُ الْبُشْرى). (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده. (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين. (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه ، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٥)

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم. وقرأ نافع (يَحْزُنْكَ) من أحزنه وكلاهما بمعنى. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) استئناف بمعنى التعليل ويدل عليه القراءة بالفتح كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم. (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم. (الْعَلِيمُ) بعزماتهم فيكافئهم عليها.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٦٧)

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين ، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندا أو شريكا فهو كالدليل على قوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء ، ويجوز أن يكون (شُرَكاءَ) مفعول (يَدْعُونَ) ومفعول (يَتَّبِعُ) محذوف دل عليه. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء ، ويجوز أن تكون (ما) استفهامية منصوبة ب (يَتَّبِعُ) أو موصولة معطوفة على من وقرئ «تدعون» بالتاء الخطابية والمعنى : أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، أي إنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابه لبيان سندهم ومنشأ رأيهم. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون فيما ينسبون إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) تنبيه على كمال قدرته وعظم نعمته المتوحد هو

١١٨

بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة ، وإنما قال (مُبْصِراً) ولم يقل لتبصروا فيه تفرقة بين الظرف المجرد والظرف الذي هو سبب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبر واعتبار.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٦٨)

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي تبناه. (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء. (هُوَ الْغَنِيُ) علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لغناه. (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقا لبطلان قولهم ، و (بِهذا) متعلق ب (سُلْطانٍ) أو نعت (لَهُ) أو ب (عِنْدَكُمْ) كأنه قيل : إن عندكم في هذا من سلطان. (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم. وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير سائغ.

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه. (لا يُفْلِحُونَ) لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) خبر مبتدأ محذوف أي افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم ، (مَتاعٌ) مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع في الدنيا. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) بالموت فيلقون الشقاء المؤبد. (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(٧١)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) خبره مع قومه. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) عظم عليكم وشق. (مَقامِي) نفسي كقولك فعلت كذا لمكان فلان ، أو كوني وإقامتي بينكم مدة مديدة أو قيامي على الدعوة. (وَتَذْكِيرِي) إياكم. (بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) وثقت به. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) فأعزموا عليه.

(وَشُرَكاءَكُمْ) أي مع شركائكم ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على الضمير المتصل ، وجاز من غير أن يؤكد للفصل وقيل إنه معطوف على (أَمْرَكُمْ) بحذف المضاف أي وأمر شركائكم. وقيل إنه منصوب بفعل محذوف تقديره وادعوا شركاءكم وقد قرئ به ، وعن نافع (فَأَجْمِعُوا) من الجمع ، والمعنى أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم ثقة بالله وقلة مبالاة بهم. (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) في قصدي. (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مستورا واجعلوه ظاهرا مكشوفا ، من غمه إذا ستره أو ثم لا يكن حالكم عليكم غما إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري. (ثُمَّ اقْضُوا) أدوا. (إِلَيَ) ذلك الأمر الذي تريدون بي ، وقرئ «ثم أفضوا إليّ» بالفاء أي انتهوا إليّ بشركم أو ابرزوا إلي ، من أفضى إذا خرج إلى الفضاء. (وَلا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلوني.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

١١٩

(٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)(٧٣)

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيري. (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يوجب توليكم لثقله عليكم واتهامكم إياي لأجله ، أو يفوتني لتوليكم. (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي على الدعوة والتذكير. (إِلَّا عَلَى اللهِ) لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره. (فَكَذَّبُوهُ) فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة وبين أن توليهم ليس إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب. (فَنَجَّيْناهُ) من الغرق. (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) وكانوا ثمانين. (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) من الهالكين به. (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(٧٤)

(ثُمَّ بَعَثْنا) أرسلنا. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح. (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كل رسول إلى قومه. (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحة المثبتة لدعواهم. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر وخذلان الله إياهم. (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام. (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف ، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد وقد مر تحقيق ذلك.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)(٧٦)

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد هؤلاء الرسل. (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) بالآيات التسع. (فَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباعهما. (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) معتادين الإجرام فلذلك تهاونوا برسالة ربهم واجترءوا على ردها.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك. (قالُوا) من فرط تمردهم. (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر أنه سحر ، أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوانه.

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)(٧٧)

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) إنه لسحر فحذف المحكي المقول لدلالة ما قبله عليه ، ولا يجوز أن يكون. (أَسِحْرٌ هذا) لأنهم بتوا القول بل هو استئناف بإنكار ما قالوه اللهم إلا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير والمحكي مفهوم قولهم ، ويجوز أن يكون معنى (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ) أتعيبونه من قولهم فلان يخاف القالة كقوله تعالى : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) فيستغني عن المفعول.

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) من تمام كلام موسى للدلالة على أنه ليس بسحر فإنه لو كان سحرا لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة ، ولأن العالم بأنه لا يفلح الساحر لا يسحر ، أو من تمام قولهم إن جعل أسحر هذا محكيا كأنهم قالوا أجئتنا بالسحر تطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون.

١٢٠