الأقسام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

الأقسام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-69-X
الصفحات: ٢٠٠

مستباح العرض لا تحترم ، فلم يبق للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك ، قال وهو المروي عن أبي مسلم كما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمداً فيه ، فقال : لا أُقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد يريد انّهم استحلوك فكذبوك وشتموك ، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه فيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليده إيّاه فاستحلوا من رسول الله مالم يستحلوا من غيره فعاب الله ذلك عليهم. (١)

ثمّ حلف بوالد وما ولد وللمفسرين في تفسيره أقوال أوضحها بأنّ الوالد هو إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح وهذا يتناسب مع القسم بمكة ، لأنّ الوالد والولد هما رفعا قواعد البيت.

وأمّا تفسيرها بآدم وذريته ، أو آدم والأنبياء ، أو آدم وكلّ من ولد عبر القرون تفسير بعيد.

هذا كلّه حول القسم ، وأمّا المقسم عليه ، فقوله سبحانه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ في كَبَد). (٢)

والكبد في اللغة شدّة الأمر ومنه تكبد البلد إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد للإنسان ، لأنّه دم يغلظ ويشتد ، وتكبّد البلد : إذا صار كالكبد ، ومعنى الآية واضح ، فانّ الإنسان منذ خلق إلى أن أدرج في أكفانه لم يزل يكابد أمراً فأمراً ، فمن حمله وولادته ورضاعه وفطامه وشبابه وكماله وهرمه كلّ ذلك محفوف بالتعب والوصب ، يقول الشاعر :

__________________

(١) مجمع البيان : ٥ / ٤٩٣.

(٢) البلد : ٤.

١٦١

يا خاطب الدنيا الدَّنيّ

 ـ ة إنّها شَرَكُ الرَّدى

دارٌ متى ما أضحكت

في يومها أبكت غدا

وإذا أظلَّ سحابها

لم ينتقع منه صدى

غاراتُها ما تنقضى

وأسيرها لا يُفتدى (١)

ويرثي التهامي ولده في قصيدة معروفة مبتدئاً بوصف الدنيا ، ويقول :

حكم المنية في البرية جار

ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً

حتى يرى خبراً من الاخبار

طُبعتْ على كدر وأنت تريدها

صفوا من الاقدار والاكدار

ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها

متطلب في الماء جذوةَ نار

وإذا رجوت المستحيل فإنّما

تبني الرجاء على شفير هار

فالعيش نوم والمنية يقظة

والمرء بينهما خيال سار (٢)

__________________

(١) مقامات الحريري : ٢٢٥ ، المقامة الثالثة والعشرون الشعرية

(٢) شهداء الفضيلة : ٢٦

١٦٢

رحم الله شيخنا الوالد آية الله الشيخ محمد حسين السبحاني (١٢٩٩ ـ ١٣٩٢ ه‍) فقد كان في أواخر أيام عمره طريح الفراش فزارته ابنته «فاطمة» وكنت أرافقها فسألناه عن حاله فأنشدَ بيتاً من لامية العجم للطغرائي وقال :

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها

فهل سمعت بظل غير منتقل

أمّا الكلام حول الدنيا ومصاعبها وما احتضنت من التعب والوصب ، فيكفي في ذلك قراءة خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ننقل منها هذه الشذرات :

«أمّا بعد ، فإنّي أُحذركم الدنيا ، فإنّها حلوة خضرة ، حفّت بالشهوات ، وتحبّبت بالعاجلة. وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو ـ إذا تناهت إلى أُمنية أهل الرغبة فيها والرضاء (الرضى) بها ـ أن تكون كما قال الله تعالى سبحانه : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْض فَأَصْبَحَ هَشيماً تَذروهُ الرياح وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقتدراً) (١) لم يكن امرؤٌ ومنها في حبرة إلّاأعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق في سرّائها بطناً ، إلّامنحته من ضرّائها ظهراً. (٢)

وقال عليه‌السلام في خطبة أُخرى :

«ألا وإنّ الدنيا قد تصرَّمت ، وآذنت بانقضاء ، وتنكَّر معروفها ، وأدبرت حذّاء ، فهي تحفز بالفناء سكّانها (ساكنيها) ، وتحدو بالموت جيرانها ، وقد أمرّ فيها ما كان حلواً ، وكدر منها ما كان صفواً ، فلم يبق (تبق) منها إلّاسملة كسملة الإداوة أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع. فأزمعوا عباد الله الرحيل

__________________

(١) الكهف : ٤٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة : ١١١.

١٦٣

عن هذه الدار المقدور على أهلها الزّوال ، ولا يغلبنّكم فيها الأمل ، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد». (١)

يقول العلّامة الطباطبائي : فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّاخالصة في طيبها ، محضة في هنائها ، ولا ينال شيئاً منها إلّامشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة ، مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان. (٢)

وربّما ينظر الإنسان إلى من هو فوقه لا سيما الذين يتمتعون بالغنى والرفاه ، فيخطر على باله أنّ حياة هؤلاء غيرمشوبة بالكد والتعب ، ولكنّ هذا التصوّر غير صائب إذ أنّ تعبهم وكدَّهم أكثر بمراتب من الذين هم دونهم.

وأمّا الصلة بين المقسم به (والد وما ولد) والمقسم عليه (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ، واضحة ، إذ لم تزل حياة إبراهيم وولده مقرونة بالتعب والوصب ، إذ ولد وقد أمضى صباه في الغاب خوفاً من بطش الجهاز الحاكم ، وبعد ما خرج منها وله من العمر ١٣ سنة أخذ يكافح الوثنيين وعبّاد الأجرام السماوية ، إلى ان حكم عليه بالرمي في النار والإحراق ، فنجّاه الله سبحانه ، فلم يجد بداً من مغادرة الوطن والهجرة إلى فلسطين ولم يزل بها حتى أُمر بإيداع زوجه وابنه في بيداء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع ، يحكي سبحانه تلك الحالة عن لسان إبراهيم عليه‌السلام ويقول : (رَبَّنا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍغَيْر ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). (٣)

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ٥٢.

(٢) الميزان : ٢٠ / ٢٩١.

(٣) إبراهيم : ٣٧.

١٦٤

الفصل السادس عشر

القسم في سورة الشمس

حلف سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشمس إحدى عشرة مرّة بتسعة أشياء. (١)

١. الشمس ، ٢. ضحى الشمس ، ٣. القمر ، ٤. النهار ، ٥. الليل ، ٦. السماء ، ٧. وما بناها ، ٨. الأرض ، ٩. وما طحاها ، ١٠. ونفس ، ١١. وما سوّاها.

وبما أنّ المراد من الموصول في الجمل الثلاث الأخيرة هو الله سبحانه فيكون المقسم به تسعة ، والأقسام إحدى عشرة ، قال سبحانه : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها* وَالنَّهار إِذا جَلّاها* وَاللَّيلِ إِذا يَغْشاها* وَالسَّماء وَما بَناها* وَالأَرْضِ وَما طَحاها* وَنَفْسٍ وَما سَوّاها* فأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْأَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْخابَ مَنْ دَسّاها). (٢)

تفسير الآيات

١ ، ٢. (الشمس وضحاها) ، حلف بالنيّر الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة على الأرض وهو مصدر للنور والحرارة ، إلى غير ذلك من

__________________

(١) وما في تفسير الرازي من أنّه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء غير صحيح ولعلّه أسقط قوله : «وضحاها» والموصول كلّه عن القسم. «انظر تفسير الفخر الرازي : ٣١ / ١٨٩».

(٢) الشمس : ١ ـ ١٠.

١٦٥

المعطيات ، وهو سلطان منظومتنا ، وله حركة انتقالية وحركة وضعية ، ويعجز البيان واللسان عن بيان ماله من الأهمية ، ويكفيك هذا الأثر انّه ينتج في كلّ دقيقة ٢٤٠ ميليون وحدة طاقة ، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أنّ عمرها يتجاوز الخمسة آلاف ميليون سنة.

هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء ، هي محور نظامنا السيّاري ومصدر حياتنا أيضاً ، هذه الشمس التي كلّ ما يكتشف عنها يزيدها غموضاً ، ولم تزح يد العلم بعد النقاب عن كلّ ما يجب أن نعلمه عن الشمس ، هذه الشمس التي تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها ، ولم تزل تجدّد وزنها وحجمها ، والتي تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كلّ ثانية ، وهي آية من آيات الخالق ، وإن هي إلّاآية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم أضخم منها حجماً وأكبر سرعة وأكثر تألّقاً. (١)

كما حلف بضحى الشمس ، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار ، والأولى أن يقال الضحى هو انبساط نورها وضوئها ، فانّ لضوئها أثراً خاصاً في نشوء الحياة وبقائها والفتك بالأمراض وزوالها.

٣. (وَالْقَمَر إِذا تَلاها) حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه ، وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضيئ الليل كلّه من غروب الشمس إلى الفجر.

وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فانّ ضوء القمر إنّما ينتشر ، إذا تلا الشمس وظهر بعد غروبها.

وربما يقال بأنّ المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر ، لأنّ نوره مأخوذ من

__________________

(١) الله والعلم الحديث : ٣٠.

١٦٦

نور الشمس فهو يتبعها في جميع الأزمان ، ولكن المعنى الأوّل هو اللائح.

٤. (وَالنّهار إِذا جَلّاها) التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر ، يقال : أجليت القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها ، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار إذا جلا الأرض وأظهرها ، والضمير يعود إلى الأرض المفهوم من سياق الآية ، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس ، فانّ النهار كلّما كان أجلى ظهوراً كانت الشمس أكمل وضوحاً ، أي احلف بالنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها.

ولكن المعنى الأوّل هو الظاهر ، لأنّ الشمس هي المظهرة للنهار ، دون العكس.

٥. (وَاللَّيلِ إِذا يَغْشاها) حلف بالليل إذا غطّى الأرض وسترها في مقابل الشمس إذاجلا الأرض وأظهرها ، وربما يتصوّر أنّ الضمير يرجع إلى الشمس ، فحلف سبحانه بالليل إذا غطّى الشمس وهو بعيد ، فانّ الليل أدون من أن يغطي الشمس وإنّما يغطي الأرض ومن عليها.

والأفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي ، (تلاها ، جلّاها) وإلّا في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع (يغشاها) فما هو الوجه؟

ذكر السيد الطباطبائي وجهاً استحسانياً وقال : والتعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل : (وَالنَّهار إذا جَلّاها* وَاللَّيل إِذا يَغْشاها) للدلالة على الحال ، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرضَ في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلامية. (١)

__________________

(١) الميزان : ٢٠ / ٢٩٧.

١٦٧

٦ ، ٧. (وَالسَّماء وَمابَناها) ، فحلف بالسماء وبانيها ، بناء على أنّ «ما» موصولة ، وليست مصدرية ، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها ومسوِّيها ، وغلبة الاستعمال على «ما» الموصولة في غير العاقل لم يمنع من استعمالها في العاقل أيضاً ، قال سبحانه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ). (١) ولعلّ استعمال «ما» مكان «من» لأجل أنّ الخطاب كان موجهاً إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب للأثر مؤثراً فينتقل من ذلك إلى معرفة الله تعالى ، فعبّر عن نفسه بلفظة «ما» التي هي الغاية في الإبهام. (٢)

وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنّه يمتنع أن يكون رهن الصدفة ، بل لا يتحقق إلّابصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها ، خصوصاً بناء الكواكب التي ترتبط أجزاؤها البعض بالبعض ، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.

٨ ، ٩. (وَالأَرْض وَما طَحاها) حلف بالأرض وطاحيها والطحو كالدحو ، وهو البسط ، وإبدال الطاء من الدال جائز ، والمعنى وسَّعها.

وقد أشار إلى وصف الأرض في آية أُخرى وقال : (الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (٣) فحلف سبحانه بالأرض وبما جعلها لنا فراشاً.

والأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت ، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم ، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة التي تتكون منها المجموعة الشمسية.

__________________

(١) النساء : ٣.

(٢) تفسير المراغي : ٣٠ / ١٦٧.

(٣) البقرة : ٢٢.

١٦٨

والأرض تكاد تكون كرة ، إلّاأنّها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء ومفلطحة عند القطبين. (١)

١٠ ، ١١. (وَنَفْسٍ وَما سَوّاها) ، فالمراد من النفس هي الروح ، قال سبحانه : (أَخْرِجُوا أَنفُسكُمْ) (٢) وقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما في أَنْفُسكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (٣) وقال : (تَعْلَمُ ما في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ). (٤)

فاذاً المراد من تسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة ، فتسوية النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة ، ولو أُريد من النفس الروح والجسم فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.

وأمّا تنكير النفس ، فلأنّه أراد كلّ نفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون نفس ، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة ، وهي نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمعنى الأوّل هو الأوضح بقرينة انّه أخذ يحلف بالكائنات الحيّة وغير الحيّة.

إلى هنا تمّ بيان الحلف بأحد عشر أمراً ، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الأقسام الواردة في القرآن الكريم.

ثمّ إنّ بعض من ينكمش من الحلف بغير الله سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات ، ويحس عجزاً في المنطق ، ويقول : المراد هو ربّ الشمس والقمر وهكذا ، ولكنّه غافل انّه لا يمكن تقديره في الآيتين الأخيرتين أي : (وَالسَّماء وَما بَناها

__________________

(١) الله والعلم الحديث : ٢٥.

(٢) الأنعام : ٩٣.

(٣) البقرة : ٢٣٥.

(٤) المائدة : ١١٦.

١٦٩

وَالأَرض وما طَحاها) إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم بربّ السماء وربّ ما بناها أي ربّ بانيها ، وهكذا الحلف بربّ الأرض وما طحاها ، أي ربّ طاحيها.

إلى هنا تمّ الحلف بهذه الموجودات السماوية والأرضية والحية وغير الحية.

أخبر سبحانه بأنّه بعد ما خلق النفس وسوّاها واكتملت خلقتها ظاهراً وباطناً ، علّمها سبحانه التقوى والفجور ، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح ، وقد تعلّم ذلك في منهج الفطرة ، وقد استعمل كلمة «ألهم» لأنّه بمعنى إلقاء الشيء في روع الإنسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتى ، والإنسان يعلم من صميم ذاته الحسن والسيّء من دون أن يتعلّم عند أحد.

وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أُخرى ، وقال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين). (١)

ولما حلف بالموجودات السماوية والأرضية غير الحيّة والحيّة ، وانّه قد ألهم النفس الإنسانية طرق الصلاح والفلاح ، أو طرق الشر والضلال ، أتى بجواب القسم ، وهو قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْخابَ مَنْ دَسّاها) ، فجعل «زكاها» مقابل «دساها» فيعلم معنى الثاني من الأوّل ، فقال : (وَقَدْخابَ مَنْ دَسّاها).

والتزكية هو التطهير من الآثام ، مقابل التدسيس ، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.

انّ قوله : (دسّاها) مشتق من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء من الشيء ، والتدسيس مصدر دسّس ، وهو من دسس يدسس تدسيساً ، ومعنى الآية

__________________

(١) البلد : ١٠.

١٧٠

فالإنسان هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما ، والتزكية هي الإتمام والإعلاء بالتقوى ، لأنّ لازم التطهير هو الإنماء كما أنّ التدسية النقص والإخفاء بالفجور.

والمقسم عليه : هو قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَقَدْخابَ مَنْ دَسّاها) ، وربّما يتصوّر أنّ جواب القسم محذوف.

قال الزمخشري : إنّ جوابه محذوف تقديره ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله كما دمدم على ثمود لأنّهم قد كذبوا صالحاً.

وأمّا قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها) فكلام تابع لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء. (١)

يلاحظ عليه : أنّه لو كان جواب القسم هو ما قدّره ، يفقد الجواب الصلة اللازمة بينه وبين الأقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس ، ولا مانع من أن يكون قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها) جواب القسم ، بأن يكون تابعاً لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).

وعلى ما ذكرنا فالصلة بين الأمرين واضحة ، وهي أنّه سبحانه يذكر نعمه الهائلة في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحداً منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو الأمام ، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي على درب الطاعة ، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٤٢.

١٧١

الفصل السابع عشر

القسم في سورة الليل

حلف سبحانه في سورة الليل بأُمور ثلاثة : (اللَّيل إِذا يَغْشى) ، (النَّهار إِذا تَجَلّى وما خلق الذكر والأُنثى).

وقال سبحانه : (وَاللَّيل إِذا يَغْشى* وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى * وَما خَلَقَ الذَّكَر وَالأُنثى * إنَّ سَعْيَكُمْ لَشتّى). (١)

تفسير الآيات

١. (وَاللَّيل إِذا يَغْشى) أقسم بالليل إذا يغشى النهار ، أو يغشى الأرض ، ويدل على الأوّل ، قوله : (يُغشِي اللَّيلَ النَّهار) (٢) بمعنى يأتي بأحدهما بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ويحتمل المعنى الثاني ، كما في قوله في سورة الشمس : (وَاللَّيل إِذا يَغْشاها).

٢. (وَالنَّهار إِذا تَجَلّى) عطف على الليل ، والتجلّي ظهور الشيء بعد خفائه ، وقد جاء الفعل في الآية الأُولى بصيغة المضارع وفي الآية الثانية بصورة الماضي وفقاً لسورة الشمس كما مرّ.

٣. (وَما خَلَقَ الذَّكَر وَالأُنثى) و «ما» موصولة كناية عن الخالق البارئ

__________________

(١) الليل : ١ ـ ٤.

(٢) الأعراف : ٥٤.

١٧٢

للذكر والأُنثى ، سواء أكان من جنس الإنسان أو من جنس الحيوان ، وتطبيقه في بعض التفاسير على أبينا آدم وزوجه حوّاء من باب التمثيل لا التخصيص.

وأمّا جواب القسم : هو قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى) ، وشتى جمع شتيت ، كمرضى جمع مريض ، والمراد تشتت السعي ، فانّ سعي الإنسان لمختلف وليس منصبَّاً على اتجاه واحد ، فمن ساع للدنيا ومن ساع للعقبى ، ومن ساع للصلاح والفلاح ، ومن ساع للهلاك والفساد.

ثمّ إنّه سبحانه صنّف المساعي إلى قسمين ، وقال في الآيات التالية بأنّ الناس على صنفين : فصنف يصبُّ سعيه في طريق العطاء والتقى والتصديق بالحسنى ، فيُيسّر لليسري ، وصنف آخر يصبُّ سعيه على ضدّما ذكر فيبخل ويستغني بما لديه ، ويكذب بالحسنى ، فيُيسر للعسرى.

قال : (فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى* وَصَدَّقَ بِالحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسرى * وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). (١)

والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : واضحة ، وهي أنّه سبحانه أقسم بالمتفرقات خلقاً وأثراً على المساعي المتفرقة في أنفسها وآثارها ، فأين التقوى والتصديق من البخل والتكذيب؟!

__________________

(١) الليل : ٥ ـ ١٠.

١٧٣

الفصل الثامن عشر

القسم في سورة الضحى

حلف سبحانه في تلك السورة بأمرين ، أحدهما الضحى ، والآخر : (اللَّيل إِذا سَجى) ، وقال : (وَالضُّحى * وَاللَّيلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى * وللآخِرةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأُولى* وَلَسوفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى). (١)

تفسير الآيات

المراد من الضحى وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها ، قال سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحى). (٢)

وقوله : (وَالليلِ إذا سَجى) أي والليل إذا سكن ، يقال : سجى البحر سجواً ، أي سكنت أمواجه ، ومنه استعير تسجية الميت ، أي تغطيته بالثوب ، والمراد إذا غطى الليلُ وجه الأرض وعمّت ظلمتُه جميع أنحاء البسيطة. هذا هو المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فهو ما جاء عقبه ، أي ما تركك يا محمد ربّك وما أبغضك منذ اصطفاك. (وللآخِرةُ خَيرٌ لَكَ من الأُولى) أي ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية. (ولَسَوفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى) أي

__________________

(١) الضحى : ١ ـ ٥.

(٢) طه : ٥٩.

١٧٤

سوف يعطيك ربّك في الآخرة ما يرضيك من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة.

وروي أنّ محمد بن علي بن الحنفية ، قال : يا أهل العراق ، تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب الله عزوجل هو قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله) (١) وإنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله ، هو قوله : (وَلَسَوفَ يُعطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى) وهي والله الشفاعة ، ليعطينّها في أهل لاإله إلّاالله حتى يقول : ربّي رضيت. (٢)

وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية : انّه احتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً ، فقال المشركون : إنّ محمداً قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه ، فنزلت هذه السورة.

هذا ما يذكره المفسرون ، ولكن الحقّ انّه لم يكن هناك أيُّ احتباس وتأخير في نزول الوحي ، وذلك لأنّه جرت سنّة الله تعالى على نزول الوحي تدريجاً لغايات معنوية واجتماعية ، وقد أشار الذكر الحكيم إلى حكمة نزوله نجوماً في غير واحدة من الآيات ، قال سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرآن جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (٣)

فالآية تعكس فكرة المشركين حول نزول القرآن وكانوا يتصورون أنّ القرآن كالتوراة ، يجب أن ينزل جملة واحدة لا نجوماً وعلى سبيل التدريج ، فأجاب عنه الوحي ، بأنّ في نزوله التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتداوم الصلة بين الموحي

__________________

(١) الزمر : ٥٣.

(٢) مجمع البيان : ٥ / ٥٠٥.

(٣) الفرقان : ٣٢.

١٧٥

والموحى إليه بين الحين والحين.

وهذا بخلاف ما لو نزل جملة واحدة وأوصد فيها باب الوحي ، وانقطعت صلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسماء ، ففي صورة استدامة الوحي والصلة بينه وبين الله سبحانه يعيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت ظل إمدادات غيبية تعقبه إزالة الصدأ العالق على قلبه من خلال مجابهة المشركين والكافرين ، بخلاف الثاني ، ففيه إيماء إلى انقطاع الصلة حينها يجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه وحيداً دون من يعضده ويسلّيه ويذهب عنه همّ القلب.

ففي الحقيقة لم يكن هناك طارئة باسم احتباس الوحي أو تأخيره ، وإن زعم المشركون نزول الوحي نجوماً احتباساً وتأخيراً له.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فلا تخلو من وضوح :

١. لأنّ نزول الوحي يناسب الضحى ، كما أنّ انقطاعه يناسب الليل.

٢. لأنّ عماد الحياة هو مجيئ الليل عقب النهار ، لا استدامة النهار ولا استدامة الليل ، فهكذا الحال في عماد الحياة النبوية الذي هو نزول الوحي نجوماً تثبيتاً لقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣. ولأنّ الضحى والليل نعمة من نعم الله سبحانه منّ بها على عباده لما لهما من تأثير مباشر في استقرار الحياة وهكذا الحال في نزول الوحي نجوماً.

١٧٦

الفصل التاسع عشر

القسم في سورة التين

حلف سبحانه في سورة التين ، بأُمور أربعة : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين ، قال سبحانه : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الأَمين* لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلينَ* إِلّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). (١)

تفسير الآيات

«التين والزَّيتُون» فاكهتان معروفتان ، حلف بهما سبحانه لما فيهما من فوائد جمّة وخواص نافعة ، فالتين فاكهة خالصة من شآئب التنغيص ، وفيه أعظم عبرة لأنّه عزّ اسمه جعلها على مقدار اللقمة ، وهيّأها على تلك الصورة إنعاماً على عِباده بها.

وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «لو قلت انّ فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت : هذه هي ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عَجَمْ (٢) ، فانّها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرص». (٣)

وأمّا الزيتون فانّه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة ، وهو إدام ، والتين فاكهة فيها منافع جمّة.

__________________

(١) التين : ١ ـ ٦.

(٢) العجم : نوى التمر ، أو كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.

(٣) مجمع البيان : ٥ / ٥١٠.

١٧٧

ذكر علماء الأغذية أنّه يمكن الاستفادة من التين كسكر طبيعي للأطفال ، ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف كبر السنّ أن ينتفعوا منه للتغذية ، حتى ذكروا أنّ الشخص إن أراد توفير الصحة والسلامة لنفسه فلابد له أن يتناول هذه الفاكهة ، كما أنّ زيت الزيتون هو الآخر له تأثير بالغ في معالجة عوارض الكُلَى ، حتي وصفها سبحانه بأنّه مأخوذ من شجرة مباركة ، ولا نطيل الكلام في سرد فوائدهما. (١)

هذا وربما يفسر التين بالجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون بالجبل الذي عليه بيت المقدس.

وهذا التفسير وإن كان بعيداً عن ظاهر الآيات ، ولكن الذي يدعمه هو القسم الثالث والرابع ـ أعني : الحلف ب (طور سينين* والبلد الأمين) ـ إذ على ذلك يكون بين الأُمور الأربعة السالفة الذكر صلة واضحة ، ولعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما ، والإقسام بهما ، لأنّهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء.

ثمّ إنّ المراد من طور سينين ، هو الجبل الذي كلّم الله فيه موسى عليه‌السلام ، وقال : (إِنَّي أَنَا رَبّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوادِ المُقدَّسِ طُوى) (٢) ، وقال : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ المُقَدَّسِ طُوى) (٣) ، وقال سبحانه مخاطباً موسى عليه‌السلام : (وَلكِنِ انْظُر إِلى الْجَبَل فَإِن اسْتَقَرَ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّى رَبّه لِلجَبَل جَعَلهُ دَكّاً وخَرّ مُوسى صَعِقاً). (٤)

__________________

(١) فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب علماء الأغذية وما أُلّف في هذا المضمار.

(٢) طه : ١٢.

(٣) النازعات : ١٦.

(٤) الأعراف : ١٤٣.

١٧٨

البلد الأمين

وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم ، حيث قال : (وَإِذْقالَ إِبْراهيم رَبِّ اجْعَل هذا بَلَداً آمِناً وَارزُق أَهْلهُ مِنَ الثَّمراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَومِ الآخر) (١) ، وقال أيضاً : (رَبِّ اجْعَل هذا البلد آمناً وَاجْنُبْني وَبَنيّ أن نَعْبُد الأَصْنام). (٢)

وقد أمر سبحانه نبيّه الخاتم ، أن يقول : (إِنَّما أُمرت أن أَعبُدَ ربَّ هذه البَلْدة الّذي حرّمها ولَهُ كُلّ شيء وَأُمرت أن أكون من المُسلمين). (٣)

وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية ، قال سبحانه : (انَّ الّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآن لَرادّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَم مَنْ جاءَ بِالهُدى وَمَنْ هُوَ في ضَلالٍ مُبين). (٤)

والمراد من قوله (إلى معاد) هو موطنه الذي نشأ فيه.

وقد روى المفسرون في تفسير الآية انّه لما نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال : نعم. قال جبرئيل : فإنّ الله ، يقول : (إنَّ الّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآن لَرادّكَ إِلى مَعاد) يعني مكة ظاهراً عليها ، فنزلت الآية بالجحفة ، وليست بمكية ولا مدنية ، وسمّيت مكة معاداً لعوده إليها. عن ابن عباس. (٥)

كما ذكر أيضاً في آية أُخرى بوصفه وقال : (أَوَ لَمْ يَرَوا انّا جَعَلْنا حَرماً آمِناً

__________________

(١) البقرة : ١٢٦.

(٢) إبراهيم : ٣٥.

(٣) النمل : ٩١.

(٤) القصص : ٨٥.

(٥) مجمع البيان : ٧ / ٢٦٨.

١٧٩

وَيُتَخَطَّف النّاسُ منْ حَولهِم أَفَبالباطِل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يكْفُرون). (١)

وقد وصف سبحانه البلد بالأمن وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وقد جعله وصفاً في بعض الآيات للحرم ، قال سبحانه : (أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرماً آمناً يجبى إليهِ ثَمرات كلّ شَيْءٍ رِزْقاً من لَدُنّا وَلكِنّ أَكثَرهم لا يَعْلَمُون) (٢). وفي آية أُخرى يقول : (أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمناً وَيُتَخَطَّف النّاسُ من حَولهِمْ أَفَبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون). (٣)

والمراد من هذا الأمن هو الأمن التشريعي ، بمعنى أنّه سبحانه حرم فيه القتل والحرب حتى قطع الأشجار والنباتات إلّابعض الأنواع مما تحتاج إليه الناس ، والذي يوضح أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكّة مُباركاً وَهُدىً لِلْعالَمين* فِيه آياتٌ بَيِّنات مَقامُ إِبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلله عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْت مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإِنَّ الله غَنِيٌّ عَن الْعالَمين). (٤)

فالآية الأُولى تحكي عن تشريع خاص ، وهو أنّ الكعبة أوّل بيت وضعت لعبادة الناس ، ويدل على ذلك أنّ فيه مقام إبراهيم ، كما أنّ الآية الثانية تبيّن تشريعاً آخر ، وهو وجوب حجّ البيت لمن استطاع إليه ، وبين هذين التشريعين جاء قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وهذا دليل على أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني ، ولذلك كان الطغاة يسلبون الأمن عن هذا البلد بين آونة وأُخرى.

__________________

(١) العنكبوت : ٦٧.

(٢) القصص : ٥٧.

(٣) العنكبوت : ٦٧.

(٤) آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧.

١٨٠