الأقسام في القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

الأقسام في القرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-69-X
الصفحات: ٢٠٠

الدنيا إلّاقليلاً ، في حين يتجلّى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر.

وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً ، لأنّها تردع الإنسان عن اقتراف الذنوب ، ولا يمكن خداعها ، وهي يقظة تزجر الإنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصده.

إنّ إبراهيم لما حطّم الأصنام وجعلها جذاذاً إلّاكبيراً لهم لعل القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها ، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه ، وخاطبوه بقولهم : (أأنت فعلت هذا بآلهتنا) ، فأجابهم إبراهيم : (بل فَعَلَهُ كَبيرهُم) ، ثمّ أمرهم بسؤاله عن الجريمة التي ارتكبها ، فبهُت الجمع من هذا السؤال وظلوا صامتين لعجزهم عن الإجابة ، فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد ، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه ، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا انّها غير خليقة بالعبادة والخضوع ، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله : (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون) أي خاطبوا أنفسهم بالظلم ، فكأنّه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون مالا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلّاكما قال هذا الفتى.

هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الإنسان عن ارتكاب الذنوب.

وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي ، ويصفون الوجدان محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس ، وهي التي تقوم بتأسيس المحكمة ، وتشخص المجرم ، وتصدر الحكم بلا هوادة ، ودون أي تهاون.

وفي الآيات القرآنية الأُخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس ، يقول

١٢١

سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). (١)

يقول الإمام الصادق في تفسير الآية : «بيّن لها ما تأتي وما تترك». (٢)

إنّ اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأُمور وشرّها ، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر ، ولأجل ذلك ، يقول سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَينَين* وَلِساناً وَشَفَتَيْن* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين). (٣)

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «هداه إلى نجد الخير والشر». (٤)

ثمّ إنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً إلّاعرفه ولا منكراً إلّاأنكره». (٥)

نعم ، ما حباه الله سبحانه لكلّ إنسان من النفس اللوامة ، كرامة ونعمة عظيمة ، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر ، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر ، بل ربما يرى الشر خيراً والخير شراً ، وذلك فيما إذا زاوله الإنسان كثيراً بنحو ترك بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره ، وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأد البنات وقتل الأولاد ـ لأي غاية من الغايات كانت ـ أمر يدركه كلّ إنسان ، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعدّه من مفاخره وكراماته ، يقول

__________________

(١) الشمس : ٧ ـ ٨.

(٢) الكافي : ١ / ١٦٣.

(٣) البلد : ٨ ـ ١٠.

(٤) الكافي : ١ / ١٦٣.

(٥) اثبات الهداة : ١ / ٨٧.

١٢٢

سبحانه : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ). (١)

فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسناً والشر خيراً ، يقول سبحانه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَناً فَإنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاء) (٢)

وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف والحالات بل ربما يكون قضاؤها على خلاف ما هو الحقّ ، لا سيما فيمن يزاول الجرم طيلة عمره ، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه ، يقول سبحانه : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساءُوا السُّوأى أن كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ). (٣)

مراتب النفس في الذكر الحكيم

إنّ القرآن الكريم جعل للنفس الإنسانية مراتب :

١. النفس الأمّارة ، ٢. النفس اللوّامة ، ٣. النفس المطمئنة ، ٤. النفس الراضية المرضية ، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز :

١. النفس الأمّارة

إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات ، فليس للإنسان أن يبرّئ نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى

__________________

(١) الأنعام : ١٣٧.

(٢) فاطر : ٨.

(٣) الروم : ١٠.

١٢٣

الشر وذلك برحمة من الله سبحانه ، يقول سبحانه نقلاً عن يوسف عليه‌السلام : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفس لأَمّارةٌ بالسُوء إِلّامَا رَحِمَ رَبّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم). (١)

فما أبرأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفّها عن ارتكاب السوء ، لأنّ النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.

والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الإفراط والتفريط ، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللّذات مهما أمكن ، والرهبانية نادت بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والأديرة ، ولكن الإسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيّبات ويندّد بمن يحرّمها ، ويقول : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللهِ الّتي أَخْرجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزْق). (٢) يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الأخلاقي.

٢. النفس اللوّامة

النفس اللوامة وهي الضمير الذي يؤنّب الإنسان على ما اقترفه من السيئات والآثام خصوصاً بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وإنابة إلى الحقّ ، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ، وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل ، ولكلّ تجلّي خاص ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما إن

__________________

(١) يوسف : ٥٣.

(٢) الأعراف : ٣٢.

١٢٤

تخمد شهوته ، حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللّذة فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ، لعدم تحمله وطأة تلك الجريمة.

وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.

٣. النفس المطمئنّة

وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة ، وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسؤولية الموضوعة على عاتقها أمام الله وأمام المجتمع ، يقول سبحانه : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة) (١) ، فصاحب هذه النفس يمتلئ بالسرور والفرح عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.

وبعبارة أُخرى : النفس المطمئنّة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ، ويرى الدنيا دار مجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ، ابتلاء وامتحاناً إلهياً ، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان ، وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر ، بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط. (٢)

وهناك كلمة قيمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث ،

__________________

(١) الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) الميزان : ٢٠ / ٢٨٥.

١٢٥

يقول :

والحقّ انّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأُخر ، وصارت منقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سمّيت «مطمئنة» ، لسكونها حينئذٍ تحت الأوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها ، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سمّيت «لوامة». وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت «أمّارة بالسوء» لأنّه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء. (١)

٤. النفس الراضية المرضية

وهي النفس المتكاملة الراضية من ربّها رضى الرب منها ، واطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضى العبد من ربّه ، رضى الرب منه ، إذ لا يسخطه تعالى إلّاخروج العبد من زي العبودية ، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربّه ولذا عقب قوله : «راضية» بقوله : «مرضية».

قوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادي* وَادْخُلي جَنّتي) تفريع على قوله : (ارجعي إِلى رَبِّكِ) وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية ، وذلك انّه لما اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضى بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما

__________________

(١) جامع السعادات : ١ / ٦٣ ـ ٦٤.

١٢٦

قدر وقضى ، ولا فيما أمر ونهى ، إلّاما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ، ففي قوله : (فَادْخُلي في عِبادي) تقرير لمقام عبوديتها.

وفي قوله : (وادْخُلي جَنَّتي) تعيين لمستقرها ، وفي إضافة الجنة إلى ضمير المتكلم تشريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلّافي هذه الآية. (١) هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فهو محذوف معلوم بالقرينة أي «لتبعثنّ» وإنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره ، قال تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتيكُمْ إِلّابَغْتَة) (٢) ، وقال : (إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخفِيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٣) ، وقال : (عَمّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ العَظيم) (٤). (٥)

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فواضح ، فانّ الإنسان إذا بعث يوم القيامة يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي ، إذ في ذلك الموقف الحرج تنكشف الحجب ويقف الإنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا ، فيندم على ما صدر منه قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦) ، وقال سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ اللَّيلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نكفُرَ باللهِ وَنَجْعل لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَة لَمّا رَأَوا العَذابَ وَجَعَلْنَا الأَغلالَ في أَعْناقِ الَّذينَ كَفَرُوا هَل يُجْزونَ إِلّاما كانوا يَعْمَلُونَ). (٧)

وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة ، ولات حين مناص.

__________________

(١) الميزان : ٢٠ / ٢٨٦.

(٢) الأعراف : ١٨٧.

(٣) طه : ١٥.

(٤) النبأ : ١ ـ ٢.

(٥) الميزان : ٢٠ / ١٠٤.

(٦) يونس : ٥٤.

(٧) سبأ : ٣٣.

١٢٧

الفصل الثامن

القسم في سورة المرسلات

لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة ، وقال :

أ : (وَالمُرسَلاتِ عُرْفاً).

ب : (فَالعاصِفاتِ عَصْفاً)

ج : (وَالنّاشِراتِ نَشْراً).

د : (فَالفارِقاتِ فَرْقاً).

ه : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكراً* عُذْراً أو نُذْراً* إِنَّما تُوعَدونَ لَواقعٌ). (١)

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها ب : «المرسلات ، فالعاصفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً عذراً أونذراً.

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير هذه الأقسام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة ، بيد أنّ وحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :

١. (المُرْسَلاتِ عُرفاً) أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي ، والعرف ـ بالضم فالسكون ـ الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الأُمور إذا تتابعت يقال جاءُوك كعرف الفرس ، يقول سبحانه : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ

__________________

(١) المرسلات : ١ ـ ٧.

١٢٨

أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١) ، ومع ذلك فقد فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.

٢. (فَالعاصِفاتِ عَصْفاً) والعصف هو سرعة السير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد اقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.

٣. (وَالنّاشِراتِ نَشْراً) قسم آخر ، والمراد نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه ، ومع ذلك فقد فسّرت بالرياح التي تنشر السحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر.

٤. (فَالفارِقات فَرقاً) المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحقّ والباطل والحلال والحرام ، وذلك لأجل حمل الوحي المتكفّل ببيان الحقّ والباطل ومع ذلك فقد فسّر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدّده.

٥. (فَالْمُلْقياتِ ذِكراً) المراد به الملائكة ، تلقي الذكر على الأنبياء وتلقيه الأنبياء إلى الأُمم.

وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي ، أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المتلو عليهم.

ثمّ يبّن انّ الغاية من إلقاء الوحي أحد الأمرين إمّا الإعذار أو الإنذار ، والإعذار الإتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى انّه يلقون الذكر لتكون عذراً لعباده المؤمنين بالذكر وتخصيصاً لغيرهم.

وبعبارة أُخرى يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجة على المكذبين وتخويفاً

__________________

(١) النحل : ٢.

١٢٩

لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِع) وما موصولة والخطاب لعامة البشر ، والمراد إنّما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر قطعي وواقع وإنّما عبر بواقع دون كائن ، لأنّه أبلغ في التحقّق.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة ، لأنّ أهم ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الإيمان بالبعث والنشور ، ويؤيد ذلك قوله (عذراً أو نذراً) أي إتماماً للحجة على الكفار وتخويفاً للمؤمنين كل ذلك يدل على معاد قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به المؤمن.

وهناك بيان للعلّامة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست انّها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود ، فانّ التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم ، أعني : إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدبير لا يتم إلّامع وجود التكليف الإلهي والتكليف لا يتم إلّامع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من المكلفين.

فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هوبعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل : اقسم بهذه الحجّة انّ مدلولها واقع. (١)

__________________

(١) الميزان : ٢٠ / ١٤٧.

١٣٠

الفصل التاسع

القسم في سورة النازعات

حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات ، وقال :

(وَالنّازِعاتِ غَرْقاً).

(وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً).

(وَالسّابِحاتِ سَبْحاً).

(فَالسّابِقاتِ سَبْقاً).

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً* يَوْمَ تَرْجُفُ الرِّاجِفَةُ* تَتْبَعُها الرّادِفَةُ* قُلُوبٌ يَومَئذٍ واجِفَةٌ* أَبْصارُها خاشِعَةٌ). (١)

حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها ب : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.

النازعات من النزع ، يقال : نزع الشيء جذبه من مقره ، كنزع القوس عن كنانته.

والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها ، أي نزعها ؛ ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذاخرج.

__________________

(١) النازعات : ١ ـ ٩.

١٣١

والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويقال : سبح سبحاً وسباحة ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.

والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.

وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الإغراق ، يقال : غرق في النزع إذا استوفى في حدّ القوس وبالغ فيه.

هذه هي معاني الألفاظ ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر ، قال الزمخشري : أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أُمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم. (١)

والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.

ولا يخفى انّ الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأُولى ، فالملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأجساد هم الذين ينشطون الأرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الأُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح المؤمنين برفق وسهولة.

والسابحات هم الملائكة التي تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسبح الإسراع في الحركة ، كما يقال : للفرس سابح إذا أسرع في جريه.

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ٣٠٨.

١٣٢

والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.

فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للأُمور ، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل موكل بقبض الأرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.

ثمّ إنّ الأشد ، انطباقاً على الملائكة ، هو قوله : (فالمدبرات أمراً) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة ، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق ، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.

وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي :

المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار ، وبالناشطات الوحش ، وبالسابحات السفن ، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال ، وبالمدبرات الأفلاك ، ولا يخفى انّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.

والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات ، والظاهر انّ المراد بالجميع هم الملائكة.

يقول العلّامة الطباطبائي : وإذ كان قوله : (فالمدبرات أمراً) مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله : (فَالسّابِقاتِ سَبْقاً) مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح ، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث : (وَالسّابِحاتِ سَبحاً* فَالسّابِقاتِ سَبْقاً*

١٣٣

فَالمُدبِّراتِ أَمْراً) فمدلولها أنّهم يدبرون الأمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول ، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره. (١)

تدبير الملائكة

إنّ القرآن الكريم يعرّف الله سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير ، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الأُمور بإرادته ومشيئته ، ويؤدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.

كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين.

وبالجملة هم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون) (٢) فالله سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الأرواح بواسطتهم ، وينزل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره. (٣)

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حقّ الملائكة : فمنهم سجود لا يركعون ، وركوع لا

__________________

(١) الميزان : ٢٠ / ١٨١.

(٢) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) الميزان : ٢٠ / ١٨٨ ، نقل بتلخيص.

١٣٤

ينتصبون ، وصافُّون لا يتزايلون ، ومسبِّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نومُ العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النِّسيان ، ومنهم أُمناءُ على وحيه ، وألسنة إلى رُسُله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظةُلعباده والسَّدنَة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السُّفلى أقدامُهُم ، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم ، والخارجة من الأقطار أركانُهم ، والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم ، متلفِّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة ، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدُّونه بالأماكن ، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر. (١)

وقد عرفت أنّ المقسم عليه هو كتبعثن ، وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي انّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثاً بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا.

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٩ ـ ٢٠ ، الخطبة الأُولى.

١٣٥

الفصل العاشر

القسم في سورة التكوير

قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مضافاً إلى الليل المدبر ، والصبح المتنفس ، وقال : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ* مطاعٍ ثَمَّ أَمِين). (١)

تفسير الآيات

أشار سبحانه إلى الحلف الأوّل ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله :

الخُنَّس ، الجوار ، الكنس.

كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَس).

وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله : (والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس).

وجاء جواب القسم في قوله : (إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم) فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوة ، عند ذي العرش مكين ، مطاع ، ثم أمين.

فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ثمّ نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به

__________________

(١) التكوير : ١٥ ـ ٢١.

١٣٦

والمقسم عليه.

أمّا الحلف الأوّل فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة.

فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :

الأوّل : الخنس : وهو جمع خانس كالطُلَّب جمع طالب ، فقد فسره الراغب في مفراداته بالمنقبض ، قال سبحانه : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس) أي الشيطان الذي يخنس ، أي ينقبض إذا ذكر الله تعالى.

وقال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.

وقيل : الخنس من زحل والمشتري والمريخ ، لأنّها تخنس في مجراها أي ترجع ، واخنست عنه حقه أي أخرته. (١)

فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر ، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخر هو الانقباض.

الثاني : الجوار : جمع جارية ، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.

قال الراغب : الجري ، المرّ السريع ، وأصله كمرِّ الماء.

قال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ الجوارِ فِي البَحْرِ كَالأَعلام) (٢) أي السفينة التي تجري في البحر.

الثالث : الكنس : جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء

فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين : الخنوس والكنوس ،

__________________

(١) مفردات الراغب : مادة خنس.

(٢) الشورى : ٣٢.

١٣٧

وكأنّه قال : فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس ، فقد ذهب أكثر المفسرين أنّ المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة ، وهي عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل ويطلق عليها السيارات المتغيرة.

وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لاشك انّ الكواكب جميعها متحركات ، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها السيارات ، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.

إذا عرفت ذلك : فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فسرا بأحد وجهين :

الأوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخنّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكنّس.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخر إلّاأن يكون كناية عن الاختفاء.

كما أنّ تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربما يقال : من أنّها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها (١) ، لا يخلو من إشكال ، فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.

ولو سلمنا ذلك فالأولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة.

__________________

(١) تفسير المراغي : ٣٠ / ٥٧.

١٣٨

الثاني : أن يقال : انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها ، وكنوسهاعبارة عن قربها وتراجعها

قال في اللسان : «وكنست النجوم كنساً ، كنوساً : استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة. (١)

وعلى ذلك فالله سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل ، وهي انّها على أحوال ثلاثة.

منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض ، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى.

(واللّيل إِذا عَسْعَس) : وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله ، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.

والظاهر انّ المراد هو إقبالها.

قال الزجاج : عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر ، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني (وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس) ، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ودفعه الظلمة التي غشيته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر :

حتى إذا الصبح لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : (إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ

__________________

(١) لسان العرب : مادة كنس.

١٣٩

كَريم).

الضمير في قوله : (إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم) يرجع إلى القرآن بدليل قوله : (لقولُ رَسُولٍ) والمراد من «رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول الله إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين. قال سبحانه : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْريلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله) (١) ، وقال : (نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين). (٢)

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست :

١. رسول : يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.

٢. كريم : عزيز بإعزاز الله.

٣. ذي قوة : «ذي قدرة وشدة بالغة ، كما قال سبحانه : (عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى* ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوى). (٣)

٤. (عِنْدَ ذِي الْعَرش مَكين) : أي صاحب مكانة ومنزلة عند الله ، وهي كونه مقرباً عند الله.

٥. مطاع : عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.

٦. أمين : لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.

وعطف على جواب القسم قوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون) (٤) ، والمراد هو

__________________

(١) البقرة : ٩٧.

(٢) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) النجم : ٥ ـ ٦.

(٤) التكوير : ٢٢.

١٤٠