أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً(٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً)(٦٢)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) وقرئ «تعالوا» بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا ثم ضم اللام لواو الضمير. (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) هو مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصد ، والفرق بينه وبين السد أنه غير محسوس والسد محسوس ويصدون في موضع الحال.

(فَكَيْفَ) يكون حالهم. (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) كقتل عمر المنافق أو النقمة من الله تعالى. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضى بحكمك. (ثُمَّ جاؤُكَ) حين يصابون للاعتذار ، عطف على أصابتهم. وقيل على يصدون وما بينهما اعتراض. (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) حال. (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) ما أردنا بذلك إلا الفصل بالوجه الأحسن والتوفيق بين الخصمين ، ولم نرد مخالفتك. وقيل جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(٦٣)

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم أو عن قبول معذرتهم. (وَعِظْهُمْ) بلسانك وكفهم عما هم عليه. (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في معنى أنفسهم أو خاليا بهم فطن النصح في السر أنجع. (قَوْلاً بَلِيغاً) يبلغ منهم ويؤثر فيهم ، أمره بالتجافي عن ذنوبهم والنصح لهم والمبالغة فيه بالترغيب والترهيب ، وذلك مقتضى شفقة الأنبياء عليهم‌السلام ، وتعليق الظرف ببليغا على معنى بليغا في أنفسهم مؤثرا فيها ضعيف لأن معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف ، والقول البليغ في الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٦٤)

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) بسبب إذنه في طاعته وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه ، وكأنه احتج بذلك على أن الذي لم يرض بحكمه وإن أظهر الإسلام كان كافرا مستوجب القتل ، وتقريره أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ومن كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت. (جاؤُكَ) تائبين من ذلك وهو خبر أن وإذ متعلق به. (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) بالتوبة والإخلاص. (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعا ، وإنما عدل الخطاب تفخيما لشأنه وتنبيها على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له ، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب. (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالرحمة ، وإن فسر وجد بصادف كان توابا حالا ورحيما بدلا منه أو حالا من الضمير فيه.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(٦٥)

٨١

(فَلا وَرَبِّكَ) أي فوربك ، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) لأنها تزاد أيضا في الإثبات كقوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ). (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه. (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ضيقا مما حكمت به ، أو من حكمك أو شكا من أجله ، فإن الشاك في ضيق من أمره. (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وينقادوا لك انقيادا بظاهرهم وباطنهم.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(٦٦)

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تعرضوا بها للقتل في الجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا. (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب (أَنِ اقْتُلُوا) بكسر النون على أصل التحريك ، (أَوِ اخْرُجُوا) بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل. (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) إلا أناس قليل وهم المخلصون. لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم ، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا ، أو لأحد مصدري الفعلين. وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا. (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطاوعته طوعا ورغبة. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في عاجلهم وآجلهم. (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز. والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق واليهودي. وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك. فقال عليه الصلاة والسلام اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك».

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(٦٨)

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ؛ وما يكون لهم بعد التثبيت فقال وإذا لو تثبتوا لآتيناهم لأن (إِذاً) جواب وجزاء.

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يصلون بسلوكه جناب القدس ويفتح عليهم أبواب الغيب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم».

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً)(٧٠)

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة أكرم الخلائق وأعظمهم قدرا. (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) بيان للذين أو حال منه ، أو من ضميره قسمهم أربعة بحسب منازلهم في العلم والعمل ، وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم ، وهم : الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل. ثم الصديقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان ، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها. ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد

٨٢

في إظهار الحق حتى بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة الله تعالى. ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته. ولك أن تقول المنعم عليهم هم العارفون بالله وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان. والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبا وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو لا فيكونون كمن يرى الشيء بعيدا وهم الصديقون ، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة وهم العلماء الراسخون في العلم الذين هم شهداء الله في أرضه ، وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم وهم الصالحون. (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) في معنى التعجب ، و (رَفِيقاً) نصب على التمييز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق ، أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقا. روي أن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه ، فسأله عن حاله فقال : ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني عرفت أنك ترتفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك ، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا) فنزلت.

(ذلِكَ) مبتدأ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم ، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم. (الْفَضْلُ) صفته. (مِنَ اللهِ) خبره أو الفضل خبره ومن الله حال والعامل فيه معنى الإشارة. (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بجزاء من أطاعه ، أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً)(٧٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) تيقظوا واستعدوا للأعداء ، والحذر والحذر كالأثر والأثر. وقيل ما يحذر به كالحزم والسلاح. (فَانْفِرُوا) فاخرجوا إلى الجهاد. (ثُباتٍ) جماعات متفرقة ، جمع ثبة من ثبيت على فلان تثبية إذا ذكرت متفرق محاسنه ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه. (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) مجتمعين كوكبة واحدة ، والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات.

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) الخطاب لعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد ، من بطأ بمعنى أبطأ وهو لازم أو ثبطوا غيرهم كما ثبط ابن أبي ناسا يوم أحد ، من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل واللام الأولى للابتداء دخلت اسم إن للفصل بالخبر ، والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير : وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن. (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) كقتل وهزيمة. (قالَ) أي المبطئ. (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) حاضرا فيصيبني ما أصابهم.

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧٣)

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) كفتح وغنيمة. (لَيَقُولَنَ) أكده تنبيها على فرط تحسره ، وقرئ بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى (مِنَ). (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل ومفعوله وهو. (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) للتنبيه على ضعف عقيدتهم ، وأن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه ، وإنما يريد أن يكون معكم لمجرد المال ، أو حال من الضمير في ليقولن أو داخل في المقول أي يقول المبطئ لمن يبطئه من المنافقين ، وضعفة المسلمين تضريبا وحسدا ، كأن لم يكن بينكم وبين محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مودة

٨٣

حيث لم يستعن بكم فتفوزوا بما فاز يا ليتني كنت معهم. وقيل : إنه متصل بالجملة الأولى وهو ضعيف ، إذ لا يفصل أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظا ومعنى وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب تكن بالتاء لتأنيث لفظ المودة ، والمنادى في يا ليتني محذوف أي: يا قوم وقيل يا أطلق للتنبيه على الاتساع فأفوز نصب على جواب التمني وقرئ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت ، أو العطف على كنت.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٧٤)

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي الذين يبيعونها بها ، والمعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ، أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون ، والمعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم. (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ، ترغيبا في القتال وتكذيبا لقولهم (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) وإنما قال (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) تنبيها على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين ، بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل ، بل إلى إعلاء الحق وإعزاز الدين.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً)(٧٥)

(وَما لَكُمْ) مبتدأ وخبر. (لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال والعامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على اسم الله تعالى أي وفي سبيل المستضعفين ، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو ، أو على سبيل بحذف المضاف أي وفي خلاص المستضعفين ، ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير ، وتخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار أعظمها وأخصها. (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين ، أو ضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتحنين ، وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان ، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. وقيل المراد به العبيد والإماء وهو جمع وليد. (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولي وناصر بفتح مكة على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتولاهم ونصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها ، والقرية مكة والظالم صفتها ، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)(٧٦)

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيما يصلون به إلى الله سبحانه وتعالى. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) فيما يبلغ بهم إلى الشيطان. (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى

٨٤

كيد الله سبحانه وتعالى للكافرين ، ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه ، فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(٧٧)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي عن القتال. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) واشتغلوا بما أمرتم به. (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه ، وإذا للمفاجأة جواب لما وفريق مبتدأ منهم صفته ويخشون خبره وكخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ، وقع موقع المصدر أو الحال من فاعل يخشون على معنى ، يخشون الناس مثل أهل خشية الله منه. (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه إن جعلته حالا وإن جعلته مصدرا فلا ، لأن أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم الله تعالى أي : وكخشية الله تعالى أو كخشية أشد خشية منه ، على الفرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم : جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية الله تعالى ، أو خشية أشد خشية من خشية الله. (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) استزادة في مدة الكف عن القتال حذرا عن الموت ، ويحتمل أنهم ما تفوهوا به ولكن قالوا في أنفسهم فحكى الله تعالى عنهم. (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) سريع التقضي (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه ، أو من آجالكم المقدرة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ولا يظلمون لتقدم الغيبة.

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)(٧٨)

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

أو على أنه كلام مبتدأ ، وأينما متصل ب (لا تُظْلَمُونَ). (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) في قصور أو حصون مرتفعة ، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور ، من تبرجت المرأة إذا ظهرت. وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفا لها بوصف فاعلها كقولهم : قصيدة شاعرة ، ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية ، وهما المراد في الآية أي : وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى ، وإن تصبهم بلية كقحط أضافوها إليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها. (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي يبسط ويقبض حسب إرادته. (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يوعظون به ، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى ، أو حديثا ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثا من صروف الزمان فيفتكرون فيه فيعملون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٧٩)

٨٥

(ما أَصابَكَ) يا إنسان. (مِنْ حَسَنَةٍ) من نعمة. (فَمِنَ اللهِ) أي تفضلا منه ، فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود ، فكيف يقتضي غيره ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل ولا أنت قال : ولا أنا». (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من بلية. (فَمِنْ نَفْسِكَ) لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي ، وهو لا ينافي قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فإن الكل منه إيجادا وإيصالا غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر». والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا وللمعتزلة. (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل والتعميم إن علق بها أي رسولا للناس جميعا كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) ويجوز نصبه على المصدر كقوله : ولا خارجا من فيّ زور كلام. (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك بنصب المعجزات.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٨١)

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأنه عليه الصلاة والسلام في الحقيقة مبلغ ، والأمر هو الله سبحانه وتعالى. روي (أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله». فقال : المنافقون لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ، ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا) فنزلت. (وَمَنْ تَوَلَّى) عن طاعته. (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب وهو حال من الكاف.

(وَيَقُولُونَ) إذا أمرتهم بأمر. (طاعَةٌ) أي أمرنا أو منا طاعة ، وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات. (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) خرجوا. (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي زورت خلاف ما قلت لها ، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل ، أو من بيت الشعر ، أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر. وقرأ أبو عمرو وحمزة (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام لقربهما في المخرج. (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) يثبته في صحائفهم للمجازاة ، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في الأمور كلها سيما في شأنهم. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٨٢)

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه ، وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء. (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) أي ولو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار. (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) من تناقض المعنى وتفاوت النظم ، وكان بعضه فصيحا وبعضه ركيكا ، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل ، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض ، وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض ، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية. ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٨٣)

٨٦

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) مما يوجب الأمن أو الخوف. (أَذاعُوا بِهِ) أفشوه كما كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أخبرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر ، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة. والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث. (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي ولو ردوا ذلك الخبر. (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) إلى رأيه ورأي كبار أصحابه البصراء بالأمور ، أو الأمراء. (لَعَلِمَهُ) لعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر. (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم. وقيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالا على المسلمين ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم وتعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي : يستخرجون علمه من جهتهم ، وأصل الاستنباط إخراج النبط : وهو الماء ، يخرج من البئر أول ما يحفر. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بإرسال الرسول وإنزال الكتاب. (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) والكفر والضلال. (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا قليلا منكم تفضل الله عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق والصواب ، وعصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل. أو إلا اتباعا قليلا على الندور.

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)(٨٤)

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أن تثبطوا وتركوك وحدك. (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم ، فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود. روي (أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت. فخرج عليه الصلاة والسلام وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد). وقرئ «لا تكلف» بالجزم ، و «لا نكلف» بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك ، لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني قريشا ، وقد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا. (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من قريش. (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا منهم ، وهو تقريع وتهديد لمن لم يتبعه.

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)(٨٥)

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضرا أو جلب إليه نفعا ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنها الدعاء لمسلم قال عليه الصلاة والسلام : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك». (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها. (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) يريد بها محرما. (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) نصيب من وزرها مساو لها في القدر. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) مقتدرا من أقات على الشيء إذا قدر قال :

وذي ضغن كففت الضغن عنه

وكنت على مساءته مقيتا

أو شهيدا حافظا ، واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن ويحفظه.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦)

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) الجمهور على أنه في السلام ، ويدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه وهو أن يزيد عليه ورحمة الله ، فإن قاله المسلم زاد وبركاته وهي النهاية وإما برد مثله

٨٧

لما روي (أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السلام عليك. فقال : وعليك السلام ورحمة الله. وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال : وعليك. فقال الرجل : نقصتني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله. وذلك لاستجماعه أقسام المطالب السلامة عن المضار وحصول المنافع وثباتها ومنه قيل ، أو للترديد بين أن يحيى المسلم ببعض التحية وبين أن يحيى بتمامها ، وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة ، وقراءة القرآن ، وفي الحمام ، وعند قضاء الحاجة ونحوها. والتحية في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة ، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك ، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام. وقيل المراد بالتحية العطية وواجب الثواب أو الرد على المتهب ، وهو قول قديم للشافعي رضي الله تعالى عنه. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) يحاسبكم على التحية وغيرها.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧)

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، أو (اللهُ) مبتدأ والخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي الله ، والله ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة ، أو مفضين إليه أو في يوم القيامة ، ولا إله إلّا هو ، اعتراض. والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهي قيام الناس من القبور أو للحساب. (لا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم ، أو صفة للمصدر (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) إنكار أن يكون أحد أكثر صدقا منه ، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص وهو على الله محال.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)(٨٨)

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين. (فِئَتَيْنِ) أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم. وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. و (فِئَتَيْنِ) حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما. و (فِي الْمُنافِقِينَ) حال من (فِئَتَيْنِ) أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من (فِئَتَيْنِ). (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار. وأصل الركس رد الشيء مقلوبا. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أن تجعلوه من المهتدين. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهدى.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(٨٩)

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) تمنوا أن تكفروا ككفرهم. (فَتَكُونُونَ سَواءً) فتكونون معهم سواء في الضلال ، وهو عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز. (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فلا توالوهم حتى يؤمنوا وتتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله ورسوله لا لأغراض الدنيا ، وسبيل الله ما أمر بسلوكه. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإيمان. (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ

٨٨

وَجَدْتُمُوهُمْ) كسائر الكفرة. (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي جانبوهم رأسا ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة.

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)(٩٠)

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي : إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ، ويفارقون محاربتكم. والقوم هم خزاعة. وقيل : هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل ماله. وقيل بنو بكر بن زيد مناة. (أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على الصلة ، أي أو الذين جاءوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم ، استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين ، أو أتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكف عن قتال الفريقين ، أو على صفة قوم وكأنه قيل : إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو قوم كافين عن القتال لكم وعليكم. والأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم. وقرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف. (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال بإضمار قد ويدل عليه أنه قرئ «حصرة صدورهم» وحصرات صدورهم ، أو بيان لجاءوكم وقيل صفة محذوف أي جاءوكم قوما حصرت صدورهم ، وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض. (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم. (فَلَقاتَلُوكُمْ) ولم يكفوا عنكم. (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) فإن لم يتعرضوا لكم. (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد. (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم.

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)(٩١)

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هم أسد وغطفان ، وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا. (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين. (أُرْكِسُوا فِيها) عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب. (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) وينبذوا إليكم العهد. (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عن قتالكم. (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض. (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم ، أو تسلطا ظاهرا حيث أذنّا لكم في قتلهم.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(٩٢)

٨٩

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) وما صح له وليس من شأنه. (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حق. (إِلَّا خَطَأً) فإنه على عرضته ، ونصبه على الحال أو المفعول له أي : لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ ، أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي إلّا قتلا خطأ. وقيل (ما كانَ) نفي في معنى النهي ، والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر ، والخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا ، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه ، أو يكون فعل غير المكلف. وقرئ «خطاء» بالمد و «خطا» كعصا بتخفيف الهمزة ، والآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم ، لقي حارث بن زيد في طريق وكان قد أسلم ولم يشعر به عياش فقتله. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة ، والتحرير الإعتاق ، والحر كالعتيق للكريم من الشيء ومنه حر الوجه لأكرم موضع منه ، سمي به لأن الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد ، والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس. (مُؤْمِنَةٍ) محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة. (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث ، لقول ضحاك بن سفيان الكلابي : (كتب إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها). وهي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال ، فإن لم يكن ففي ماله. (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) إلا أن يتصدقوا عليه بالدية. سمي العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل معروف صدقة» وهو متعلق بعليه ، أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه. أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف. (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين ، أو في تضاعيفهم ولم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية لأهله إذ لا وراثة بينه وبينهم ولأنهم محاربون. (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي وإن كان من قوم كفرة معاهدين ، أو أهل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة والدية ولعله فيما إذا كان المقتول معاهدا ، أو كان له وارث مسلم. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها. (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين. (تَوْبَةً) نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة ، من تاب الله عليه إذا قبل توبته. أو على المصدر أي وتاب الله عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف إي فعليه صيام شهرين ذا توبة. (مِنَ اللهِ) صفتها. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بحاله. (حَكِيماً) فيما أمر في شأنه.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٩٣)

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) لما فيه من التهديد العظيم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا». ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه. والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ

٩٠

مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(٩٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) سافرتم وذهبتم للغزو. (فَتَبَيَّنُوا) فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فيه. وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا في الموضعين هنا ، وفي «الحجرات» من التثبت. (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضا. (لَسْتَ مُؤْمِناً) وإنما فعلت ذلك متعوذا. وقرئ «مؤمنا» بالفتح أي مبذولا له الأمان. (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ ، وهو حال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت. (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ) لكم (كَثِيرَةٌ) تغنيكم عن قتل أمثاله لماله. (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم. (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين. (فَتَبَيَّنُوا) وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنا بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفا ، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم. وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم. (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) عالما به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا فيه. روي (أن سرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد ، فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه) وقيل نزلت في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال : لا إله إلا الله. فقتله وقال : ود لو فر بأهله وماله. وفيه دليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)(٩٥)

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) عن الحرب. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه. (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء. وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه. وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم : وكيف وأنا أعمى فغشي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلسه الوحي ، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة. وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعا لرتبته وأنفه عن انحطاط منزلته. (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق ، ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه ، أو الحال بمعنى ذوي درجة. (وَكُلًّا) من القاعدين والمجاهدين. (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب. (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر ، أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قيل : وأعطاهم زيادة على

٩١

القاعدين أجرا عظيما.

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٩٦)

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) كل واحد منها بدل من أجرا ، ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك : ضربته أسواطا ، وأجرا على الحال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة ، ومغفرة ورحمة على المصدر بإضمار فعليهما كرر تفضيل المجاهدين ، وبالغ فيه إجمالا وتفصيلا تعظيما للجهاد وترغيبا فيه. وقيل : الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر ، والثاني ما جعل لهم في الآخرة. وقيل المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى ، وبالدرجات منازلهم في الجنة. وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم. وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه الصلاة والسلام «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما عسى أن يفرط منهم. (رَحِيماً) بما وعد لهم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)(٩٧)

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) يحتمل الماضي والمضارع ، وقرئ «توفتهم» و «توفاهم» على مضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة. (قالُوا) أي الملائكة توبيخا لهم. (فِيمَ كُنْتُمْ) في أي شيء كنتم من أمر دينكم. (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة ، أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله. (قالُوا) أي الملائكة تكذيبا لهم أو تبكيتا. (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة. (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار. وهو خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ، وقالوا فيم كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا والعائد محذوف أي قالوا لهم ، وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها. (وَساءَتْ مَصِيراً) مصيرهم أو جهنم ، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام».

(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)(٩٩)

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه ، وذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر ، وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر والإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة ، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها وأن قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت. (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه ، أو حال منه أو من المستكن فيه. واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه ، واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى

٩٢

إن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه. (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً).

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٠٠)

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) متحولا من الرغام وهو التراب. وقيل طريق يراغم قومه بسلوكه أي يفارقهم على رغم أنوفهم وهو أيضا من الرغام. (وَسَعَةً) في الرزق وإظهار الدين.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) وقرئ «يدركه» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه وبالنصب على إضمار أن كقوله :

سأترك منزلي ببني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

(فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى : ثبت أجره عند الله تعالى ثبوت الأمر الواجب. والآية الكريمة نزلت في جندب بن ضمرة حمله بنوه على سرير متوجها إلى المدينة ، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله فقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايع عليه رسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمات.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً)(١٠١)

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم. (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه ، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر. وأن عائشة رضي الله تعالى عنها اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت. فقال : «أحسنت يا عائشة». وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها : أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء ، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية. بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان ، فسمي الإتيان بهما قصرا على ظنهم. ونفي الجناح فيه لتطبيب به نفوسهم ، وأقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا وستة عند أبي حنيفة. قرئ «تقصروا» من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول تقصروا بزيادة من عند الأخفش. (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت ، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن. وقرئ «من الصلاة أن يفتنكم» بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم : وهو القتال والتعرض بما يكره.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ

٩٣

كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١٠٢)

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم لفضل الجماعة ، وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره. (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى تجاه العدو. (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي المصلون حزما. وقيل الضمير للطائفة الأخرى ، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم. (فَإِذا سَجَدُوا) يعني المصلين. (فَلْيَكُونُوا) أي غير المصلين. (مِنْ وَرائِكُمْ) يحرسونكم يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يصلي معه ، فغلب المخاطب على الغالب. (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) لاشتغالهم بالحراسة. (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) ظاهره يدل على أن الإمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل ، وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائما حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو ، وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية. ثم ينتظر قاعدا حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذات الرقاع. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة ، ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو ، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ)(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة ، وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض ، وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب. (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو. (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم ، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(١٠٣)

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أديتم وفرغتم منها. (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) فداوموا على الذكر في جميع الأحوال ، أو إذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف فأدوها كيفما أمكن ، قياما مسايفين ومقارعين ، وقعودا مرامين وعلى جنوبكم مثخنين. (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) سكنت قلوبكم من الخوف. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وائتوا بها تامة. (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) فرضا محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال ، وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة وأنها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة ، وتعليل للأمر بالإيتاء بها كيفما أمكن. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى لا يصلي المحارب حتى يطمئن.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١٠٤)

٩٤

(وَلا تَهِنُوا) ولا تضعفوا. (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) في طلب الكفار بالقتال. (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) إلزام لهم وتقريع على التواني فيه ، بأن ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختص بهم ، وهم يرجون من الله بسببه من إظهار الدين واستحقاق الثروات ما لا يرجو عدوهم ، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها. وقرئ «أن تكونوا» بالفتح بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون ، ويكون قوله فإنهم يألمون علة للنهي عن الوهن لأجله. والآية نزلت في بدر الصغرى. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأعمالكم وضمائركم. (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(١٠٦)

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر ، سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي ، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد ، وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل (بِما أَراكَ اللهُ) بما عرفك الله وأوحى به إليك وليس من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل. (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) أي لأجلهم والذب عنهم (خَصِيماً) للبرآء.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما هممت به. (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن يستغفره.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)(١٠٨)

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها ، أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها ، والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) مبالغا في الخيانة مصرا عليها. (أَثِيماً) منهمكا فيها. روي : أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يستترون منهم حياء وخوفا. (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) ولا يستحيون منه وهو أحق بأن يستحيا ويخاف منه. (وَهُوَ مَعَهُمْ) لا يخفى عليه سرهم فلا طريق معه إلا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه. (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبرون ويزورون. (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من رمي البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور. (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً). لا يفوت عنه شيء.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)(١١٠)

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) مبتدأ وخبر. (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا أو صلة عند من يجعله موصولا. (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) محاميا يحميهم من عذاب الله.

٩٥

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) قبيحا يسوء به غيره. (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختص به ولا يتعداه. وقيل المراد بالسوء ما دون الشرك ، وبالظلم الشرك. وقيل : الصغيرة والكبيرة. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة. (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لذنوبه (رَحِيماً) متفضلا عليه ، وفيه حث لطعمة وقومه على التوبة والاستغفار.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)(١١٢)

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يتعداه وباله كقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها). (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو عالم بفعله حكيم في مجازاته.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة أو ما لا عمد فيه. (أَوْ إِثْماً) كبيرة أو ما كان عن عمد. (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) كما رمى طعمة زيدا ، ووحد الضمير لمكان أو. (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة ، ولذلك سوّى بينهما وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(١١٣)

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بإعلام ما هم عليه بالوحي ، والضمير لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من بني ظفر. (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال ، والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل إلى نفي تأثيره فيه. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأنه ما أزلك عن الحق وعاد وباله عليهم. (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) فإن الله سبحانه وتعالى عصمك وما خطر ببالك كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر لا ميلا في الحكم ، ومن شيء في موضع النصب على المصدر أي شيء من الضرر (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من خفيات الأمور ، أو من أمور الدين والأحكام. (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) إذ لا فضل أعظم من النبوة.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١١٤)

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) من متناجيهم كقوله تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أو من تناجيهم فقوله : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل. وفسر هاهنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به. (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أو إصلاح ذات البين. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه ، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى ، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجرا. ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا. وقرأ حمزة وأبو عمرو يؤتيه بالياء.

٩٦

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)(١١٥)

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) يخالفه ، من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر. (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات. (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل. (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نجعله واليا لما تولى من الضلال ، ونخل بينه وبين ما اختاره. (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) وندخله فيها. وقرئ بفتح النون من صلاه. (وَساءَتْ مَصِيراً) جهنم ، والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهما أو الجمع بينهما ، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم ، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا ، لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم ، وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)(١١٦)

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) كرره للتأكيد ، أو لقصة طعمة. وقيل جاء شيخ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا ، وإني لنادم تائب فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى. فنزلت (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى.

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً)(١١٧)

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) يعني اللات والعزى ومناة ونحوها ، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال :

وما ذكر فإن يسمن فأنثى

شديد الأزم ليس له ضروس

فإنه عنى القراد وهو ما كان صغيرا سمي قرادا فإذا كبر سمي حلمة ، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لا نفعا لها ، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا لأنه ينفعل ولا يفعل ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم. وقيل المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى ، وهو جمع أنثى كرباب وربي ، وقرئ «أنثى» على التوحيد وأنثا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث ، ووثنا بالتخفيف ووثنا بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة. (وَإِنْ يَدْعُونَ) وإن يعبدون بعبادتها. (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكأن طاعته في ذلك عبادة له ، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير. وأصل التركيب للملابسة. ومنه (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها.

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)(١١٨)

٩٧

(لَعَنَهُ اللهُ) صفة ثانية للشيطان. (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) عطف عليه أي شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله ، وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس.

وقد برهن سبحانه وتعالى أولا على أن الشرك ضلال في الغاية على سبيل التعليل ، بأن ما يشركون به ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا ، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة ، فإن الإله ينبغي أن يكون فاعلا غير منفعل ، ثم استدل عليه بأنه عبادة الشيطان وهي أفظع الضلال لثلاثة أوجه. الأول : أنه مريد منهمك في الضلال لا يعلق بشيء من الخير والهدى ، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الهدى. والثاني : أنه ملعون لضلاله فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال واللعن. والثالث : أنه في غاية العداوة والسعي في إهلاكهم وموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلا عن عبادته. والمفروض المقطوع أي نصيبا قدر لي وفرض من قولهم فرض له في العطاء.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً)(١١٩)

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) يشقونها لتحريم ما أحل الله وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب ، وإشارة إلى تحريم ما أحل ونقص كل ما خلق كاملا بالفعل أو القوة. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) عن وجهه وصورته أو صفته. ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي ، وخصاء العبيد ، والوشم ، والوشر ، واللواط ، والسحق ، ونحو ذلك وعبادة الشمس ، والقمر ، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم للحاجة. والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقا أو أتاه فعلا. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمر الله به ومجاوزته عن طاعة الله سبحانه وتعالى إلى طاعته. (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) إذا ضيع رأس ماله وبدل مكانه من الجنة بمكان من النار.

(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً)(١٢١)

(يَعِدُهُمْ) ما لا ينجزه. (وَيُمَنِّيهِمْ) ما لا ينالون. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بالخواطر الفاسدة ، أو بلسان أوليائه.

(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) معدلا ومهربا من حاص يحيص إذا عدل وعنها حال منه ، وليس صلة له لأنه اسم مكان وإن جعل مصدرا فلا يعمل أيضا فيما قبله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا). أي وعده وعدا وحق ذلك حقا ، فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الاسمية التي قبله وعد ، والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينصب الموصول بفعل يفسره ما بعده ، ووعد الله بقوله (سَنُدْخِلُهُمْ) لأنه بمعنى

٩٨

نعدهم إدخالهم وحقا على أنه حال من المصدر. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) جملة مؤكدة بليغة ، والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه ، والمبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(١٢٣)

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا بأماني أهل الكتاب ، وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل : ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. روي (أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة) فنزلت. وقيل : الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي : ليس الأمر بأماني المشركين ، وهو قولهم لا جنة ولا نار ، وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا ، ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ثم قرر ذلك وقال : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) عاجلا أو آجلا لما روي (أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فمن ينجو مع هذا يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك اللأواء؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : هو ذاك). (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)(١٢٤)

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بعضها أو شيئا منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفا بها. (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) في موضع الحال من المستكن في يعمل ، و (مَنْ) للبيان أو من الصالحات أي كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور وتنبيها على أنه لا اعتداد به دونه فيه. (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) بنقص شيء من الثواب وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالحري أن لا يزاد عقاب العاصي ، لأن المجازي أرحم الراحمين ، ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) هنا وفي «غافر» و «مريم» بضم الياء وفتح الخاء ، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)(١٢٦)

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص نفسه لله لا يعرف لها ربا سواه. وقيل بذل وجهه له في السجود وفي هذا الاستفهام تنبيه على أن ذلك منتهى ما تبلغه القوة البشرية. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) آت بالحسنات تارك للسيئات. (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها (حَنِيفاً) مائلا عن سائر الأديان ، وهو حال من المتبع أو من الملة أو إبراهيم. (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيما لشأنه وتنصيصا على أنه الممدوح. والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها. وقيل من الخلل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلل الآخر ، أو

٩٩

من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يترافقان في الطريقة ، أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال. والجملة استئناف جئ بها للترغيب في اتباع ملته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيذان بأنه نهاية في الحسن وغاية كمال البشر. روي (أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله : لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت ، ولكن يريد للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس ، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس فلما أخبروا إبراهيم ساءه الخبر ، فغلبته عيناه فنام وقامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت حوارى واختبزت ، فاستيقظ إبراهيم عليه‌السلام فاشتم رائحة الخبز فقال : من أين لكم هذا؟ فقالت : من خليلك المصري ، فقال : بل هو من عند خليلي الله عزوجل فسماه الله خليلا).

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا يختار منهما من يشاء وما يشاء. وقيل هو متصل بذكر العمال مقرر لوجوب طاعته على أهل السموات والأرض ، وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة فكان عالما بأعمالهم فيجازيهم على خيرها وشرها.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)(١٢٧)

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) في ميراثهن إذ سبب نزوله (أن عيينة بن حصن أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أخبرنا أنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف ، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال عليه الصلاة والسلام : كذلك أمرت) (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) يبين لكم حكمه فيهن والإفتاء تبيين المبهم. (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) عطف على اسم الله تعالى ، أو ضميره المستكن في يفتيكم وساغ للفصل فيكون الإفتاء مسندا إلى الله سبحانه وتعالى وإلى ما في القرآن من قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ) ونحوه ، والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين مختلفين باعتبارين مختلفين ، ونظيره أغناني زيد وعطاؤه ، أو استئناف معترض لتعظيم المتلو عليهم على أن ما يتلى عليكم مبتدأ وفي الكتاب خبره. والمراد به اللوح المحفوظ ، ويجوز أن ينصب على معنى ويبين لكم ما يتلى عليكم أو يخفض على القسم كأنه قيل : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ، ولا يجوز عطفه على المجرور في فيهن لاختلاله لفظا ومعنى (فِي يَتامَى النِّساءِ) صلة يتلى إن عطف الموصول على ما قبله أي يتلى عليكم في شأنهن وإلا فبدل من فيهن ، أو صلة أخرى ليفتيكم على معنى الله يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كما تقول : كلمتك اليوم في زيد ، وهذه الإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه. وقرئ «ييامى» بياءين على أنه أيامى فقلبت همزته ياء. (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي فرض لهن من الميراث (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) في أن تنكحوهن ، أو عن أن تنكحوهن. فإن أولياء اليتامى كانوا أي يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن ، وإلا كانوا يعضلونهن طمعا في ميراثهن والواو تحتمل الحال والعطف ، وليس فيه دليل على جواز تزويج اليتيمة إذ لا يلزم من الرغبة في نكاحها جريان العقد في صغرها. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على يتامى النساء والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء. (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أيضا عطف عليه أي ويفتيكم أو ما يتلى في أن تقوموا ، هذا إذا جعلت في يتامى صلة لأحدهما فإن جعلته بدلا فالوجه نصبهما عطفا على موضع فيهن ، ويجوز أن ينصب وأن تقوموا بإضمار فعل أي : ويأمركم أن تقوموا ، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم ، أو للقوام بالنصفة في شأنهم. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) وعد لمن آثر الخير في ذلك.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ

١٠٠