أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

عشرة عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى. وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ ، لأنه يصلح للنكاح عنده. (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) فإن أبصرتم منهم رشدا. وقرئ أحستم بمعنى أحسستم. (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير عن حد البلوغ ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذا المتضمنة معنى الشرط ، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل ؛ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال ، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة ، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد. (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) من أكلها. (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بقدر حاجته وأجرة سعيه ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي ، وعنه عليه الصلاة والسلام «أن رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : كل بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله» وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى. (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة ، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة. (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٨)

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) يريد بهم المتوارثين بالقرابة. (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل مما ترك بإعادة العامل. (نَصِيباً مَفْرُوضاً) نصب على أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أو حال إذ المعنى : ثبت لهم مفروضا نصيب ، أو على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم ، وفيه دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه. روي (أن أوس بن الصامت الأنصاري خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات ، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة. أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية ، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة ، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال : ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله. فنزلت فبعث إليهما : لا تفرقا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا ولم يبين حتى يبين. فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ) فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم). وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقف الخطاب.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) ممن لا يرث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) فأعطوهم شيئا من المقسوم تطييبا لقلوبهم. وتصدقا عليهم ، وهو أمر ندب للبالغ من الورثة. وقيل أمر وجوب ، ثم اختلف في نسخه والضمير لما ترك أو دل عليه القسمة (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)(٩)

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه

٦١

في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم ، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه ، جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع ، وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه ، وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديد للمخالف بحال أولاده. (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ، إذ لا ينفع الأول دون الثاني ، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب ، أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع الورثة ، ويذكره التوبة وكلمة الشهادة ، أو لحاضري القسمة عذرا جميلا ووعدا حسنا ، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ظالمين ، أو على وجه الظلم. (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) ملء بطونهم. (ناراً) ما يجر إلى النار ، ويؤول إليها. وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا». فقيل : من هم؟ فقال : «ألم تر أن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً). (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) سيدخلون نارا وأي نار. وقرأ ابن عامر وابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففا. وقرئ به مشددا يقال صلى النار قاسى حرها ، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(١١)

(يُوصِيكُمُ اللهُ) يأمركم ويعهد إليكم. (فِي أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم وهو إجمال تفصيله. (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان فيضعف نصيبه ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله ، والتنبيه على أن التضعيف كاف للتفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة ، والمعنى للذكر منهم فحذف للعلم به. (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) أي إن كان الأولاد نساء خلصا ليس معهن ذكر ، فأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات. (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) خبر ثان ، أو صفة للنساء أي نساء زائدات على اثنتين. (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) المتوفى منكم ، ويدل عليه المعنى. (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أي وإن كانت المولودة واحدة. وقرأ نافع بالرفع على كان التامة ، واختلف في الثنتين فقال ابن عباس رضي الله عنهما حكمهما حكم الواحدة ، لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما. وقال الباقون حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين أن حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان ، اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان. ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالحري أن تستحقه مع أخت مثلها. وأن البنتين أمس

٦٢

رحما من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله تعالى : (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ). (وَلِأَبَوَيْهِ) ولأبوي الميت. (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) بدل منه بتكرير العامل وفائدته التنصيص على استحقاق كل واحد منهما السدس ، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا. (السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ) أي للميت. (وَلَدٌ) ذكر أو أنثى غير أن الأب يأخذ السدس مع الأنثى بالفريضة ، وما بقي من ذوي الفروض أيضا بالعصوبة. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فحسب. (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب ، لأنه لما فرض أن الوارث أبواه فقط وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب ، وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثا ، وعلى هذا ينبغي أن يكون لها حيث كان معهما أحد الزوجين ثلث ما بقي من فرضه كما قاله الجمهور ، لا ثلث المال كما قاله ابن عباس ، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب وهو خلاف وضع الشرع. (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) بإطلاقه يدل على أن الإخوة يردونها من الثلث إلى السدس ، وإن كانوا لا يرثون مع الأب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم ، والجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كان من الإخوة أو الأخوات ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يحجب الأم من الثلث ما دون الثلاثة ولا الأخوات الخلص أخذا بالظاهر. وقرأ حمزة والكسائي (فَلِأُمِّهِ) بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها أي هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية. أو دين ، وإنما قال بأو التي للإباحة دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدمان على القسمة مجموعين ومنفردين ، وقدم الوصية على الدين وهي متأخرة في الحكم لأنها مشبهة بالميراث شاقة على الورثة مندوب إليها الجميع والدين إنما يكون على الندور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد. (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم ، فتحروا فيهم ما أوصاكم الله به ، ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه. روي أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته. أو من مورثيكم منهم أو من أوصى منهم فعرضكم للثواب بإمضاء وصيته ، أو من لم يوص فوفر عليكم ماله فهو اعتراض مؤكد لأمر القسمة أو تنفيذ الوصية. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أو مصدر يوصيكم الله لأنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح والرتب. (حَكِيماً) فيما قضى وقدر.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)(١٢)

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) أي ولد وارث من بطنها ، أو من صلب بنيها ، أو بني بنيها وإن سفل ذكرا كان أو أنثى منكم أو من غيركم. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما للمرأة كما في النسب ، وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب ، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة ، وتستوي الواحدة

٦٣

والعدد منهم في الربع والثمن. (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) أي الميت. (يُورَثُ) أي يورث منه من ورث صفة رجل. (كَلالَةً) خبر كان أو يورث خبره ، وكلالة حال من الضمير فيه وهو من لم يخلف ولدا ولا والدا. أو مفعول له والمراد بها قرابة ليست من جهة الوالد والولد. ويجوز أن يكون الرجل الوارث ويورث من أورث ، وكلالة من ليس له بوالد ولا ولد. وقرئ (يُورَثُ) على البناء للفاعل فالرجل الميت وكلالة تحتمل المعاني الثلاثة وعلى الأول خبر أو حال ، وعلى الثاني مفعول له ، وعلى الثالث مفعول به ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الكلال قال الأعشى :

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفا حتى ألاقي محمّدا

فاستعيرت لقرابة ليست بالبعضية ، لأنها كالة بالإضافة إليها ، ثم وصف بها المورث والوارث بمعنى ذي كلالة كقولك فلان من قرابتي. (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل. (وَلَهُ) أي وللرجل ، واكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه. (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من الأم ، ويدل عليه قراءة أبي وسعد بن مالك «وله أخ أو أخت من الأم» ، وأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وللأخوة الكل ، وهو لا يليق بأولاد الأم وأن ما قدر هاهنا فرض الأم فيناسب أن يكون لأولادها. (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) سوى بين الذكر والأنثى في القسمة لأن الإدلاء بمحض الأنوثة ، ومفهوم الآية أنهم لا يرثون ذلك مع الأم والجدة كما لا يرثون مع البنت وبنت الابن فخص فيه بالإجماع. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث ، أو قصد المضارة بالوصية دون القربة والإقرار بدين لا يلزمه ، وهو حال من فاعل يوصى المذكور في هذه القراءة والمدلول عليه بقوله يوصى على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير وابن عامر وابن عياش عن عاصم. (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد أو منصوب بغير مضار على المفعول به ، ويؤيده أنه قرئ «غير مضار وصية» بالإضافة أي لا يضار وصية من الله ، وهو الثلث فما دونه بالزيادة ، أو وصية منه بالأولاد بالإسراف في الوصية والإقرار الكاذب. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمضار وغيره. (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبته.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٤)

(تِلْكَ) إشارة إلى الأحكام التي قدمت في أمر اليتامى والوصايا والمواريث. (حُدُودُ اللهِ) شرائعه التي هي كالحدود المحدودة التي لا يجوز مجاوزتها. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) توحيد الضمير في يدخله ، وجمع (خالِدِينَ) للفظ والمعنى. وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون و (خالِدِينَ) حال مقدرة كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، وكذلك خالدا وليستا صفتين لجنات ونارا وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)(١٥)

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) أي يفعلنها ، يقال : أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها إذا فعلها ،

٦٤

والفاحشة الزنا لزيادة قبحها وشناعتها. (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) فاطلبوا ممن قذفهن أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهن. (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فاحبسوهن في البيوت واجعلوها سجنا عليهن. (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) يستوفي أرواحهن الموت ، أو يتوفاهن ملائكة الموت. قيل : كان ذلك عقوبتهن في أوائل الإسلام فنسخ بالحد ، ويحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كيلا يجري عليهن ما جرى بسبب الخروج والتعرض للرجال ، لم يذكر الحد استغناء بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)(أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) كتعيين الحد المخلص عن الحبس ، أو النكاح المغني عن السفاح.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(١٦)

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) يعني الزانية والزاني. وقرأ ابن كثير (وَالَّذانِ) بتشديد النون وتمكين مد الألف ، والباقون بالتخفيف من غير تمكين. (فَآذُوهُما) بالتوبيخ والتقريع ، وقيل بالتعيير والجلد. (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) فاقطعوا عنهما الإيذاء ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر. (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) علة الأمر بالإعراض وترك المذمة. قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد. وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين ، والزانية والزاني في الزناة.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(١٧)

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي إن قبول التوبة كالمحتوم على الله بمقتضى وعده من تاب عليه إذا قبل توبته. (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) متلبسين بها سفها فإن ارتكاب الذنب سفه وتجاهل ، ولذلك قيل من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته. (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) من زمان قريب ، أي قبل حضور الموت لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) وقوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» وسماه قريبا لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ). أو قبل أن يشرب في قلوبهم حبة فيطبع عليها فيتعذر عليهم الرجوع ، و (مِنْ) للتبعيض أي يتوبون في أي جزء من الزمان القريب الذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت ، أو يزين السوء. (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) وعد بالوفاء بما وعد به وكتب على نفسه بقوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً) فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة (حَكِيماً) والحكيم لا يعاقب التائب.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٨)

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) سوى بين من سوف يتوب إلى حضور الموت من الفسقة والكفار ، وبين من مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة ، وكأنه قال وتوبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل المراد بالذين يعملون السوء عصاة المؤمنين ، وبالذين يعملون السيئات المنافقون لتضاعف كفرهم وسوء أعمالهم ، وبالذين يموتون الكفار. (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) تأكيد لعدم قبول توبتهم ، وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء ، والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة ، وقيل أصله أعددنا فأبدلت الدال الأولى تاء.

٦٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(١٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته وقال : أنا أحق بها ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول ، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها ، فنهوا عن ذلك. وقيل : لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإرث فتتزوجوهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه. وقرأ حمزة والكسائي كرها بالضم في مواضعه وهما لغتان. وقيل بالضم المشقة وبالفتح ما يكره عليه. (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) عطف على (أَنْ تَرِثُوا) ، ولا لتأكيد النفي أي ولا تمنعوهن من التزويج ، وأصل العضل التضييق يقال عضلت الدجاجة ببيضها. وقيل الخطاب مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن. وقيل تم الكلام بقوله كرها ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل. (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف ، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له تقديره ولا تعضلوهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة ، أو ولا تعضلوهن لعلة إلا أن يأتين بفاحشة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر (مُبَيِّنَةٍ) هنا وفي الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن. (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول. (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي فلا تفارقوهن لكراهة النفس فإنها قد تكره ما هو أصلح دينا وأكثر خيرا ، وقد تحب ما هو بخلافه. وليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير ، وعسى في الأصل علة فأقيم مقامه. والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)(٢١)

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) تطليق امرأة وتزوج أخرى. (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَ) أي إحدى الزوجات ، جمع الضمير لأنه أراد بالزوج الجنس. (قِنْطاراً) مالا كثيرا. (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي من قنطار. (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) استفهام إنكار وتوبيخ ، أي تأخذونه باهتين وآثمين ، ويحتمل النصب على العلة كما في قولك : قعدت عن الحرب جبنا ، لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم. قيل كان الرجل منهم إذا أراد امرأة جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة ، فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ، وقد يستعمل في الفعل الباطل ولذلك فسر هاهنا بالظلم.

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر. (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عهدا وثيقا ، وهو حق الصحبة والممازحة ، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهن بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أو ما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله».

٦٦

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)(٢٢)

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة ، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر. (مِنَ النِّساءِ) بيان ما نكح على الوجهين. (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء من المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل : وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

والمعنى ولا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوهن. وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف ، فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر. (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم ، ممقوتا عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي (وَساءَ سَبِيلاً) سبيل من يراه ويفعله.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٢٣)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت ، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت ، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة. وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا أو بعيدا ، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى. (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) نزّل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما والمرضعة أختا ، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب. (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) ذكر أولا محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة ، لأن لها لحمة كلحمة النسب ، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج ، والربائب جمع ربيبة. والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر ، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسما ومن نسائكم متعلق بربائبكم ، واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم ، ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية ، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بيانا لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله :

٦٧

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست مني

على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن ، لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها «إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها». وإليه ذهب عامة العلماء ، غير أنه روي عن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما. ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لأن عاملهما مختلف ، وفائدة قوله (فِي حُجُورِكُمْ) تقوية العلة وتكميلها ، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة ، وإليه ذهب جمهور العلماء. وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطا ، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة ،وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع ، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة ، أو ملك يمين. وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول. (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) تصريح بعد إشعار دفعا للقياس. (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) زوجاتهم ، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج. (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) في موضع الرفع عطفا على المحرمات ، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي محرمة في ملك اليمين ، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما : حرمتهما آية وأحلتهما آية ، يعنيان هذه الآية. وقوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فرجح علي كرم الله وجهه التحريم ، وعثمان رضي الله عنه التحليل. وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام «ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام». (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء من لازم المعنى ، أو منقطع معناه لكن ما قد سلف مغفور لقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٢٤)

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ذوات الأزواج ، أحصنهن التزويج أو الأزواج. وقرأ الكسائي بكسر الصاد في جميع القرآن لأنهن أحصن فروجهن. (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد ما ملكت أيمانكم من اللاتي سبين ولهن أزواج كفار فهن حلال للسابين ، والنكاح مرتفع بالسبي لقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه : أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج كفار ، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الآية فاستحللناهن. وإياه عنى الفرزدق بقوله :

وذات حليل أنكحتها رماحنا

حلال لمن يبني بها لم تطلّق

وقال أبو حنيفة لو سبي الزوجان لم يرتفع النكاح ولم تحل للسابي. وإطلاق الآية والحديث حجة عليه. (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) مصدر مؤكد ، أي كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا. وقرئ «كتب» الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم «وكتب الله» بلفظ الفعل. (وَأُحِلَّ لَكُمْ) عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على (حُرِّمَتْ). (ما وَراءَ ذلِكُمْ) ما سوى المحرمات الثمان المذكورة. وخص عنه بالسنة ما في معنى المذكورات كسائر محرمات الرضاع ، والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلكم إرادة أن تبتغوا النساء بأموالكم بالصرف في مهورهن ، أو أثمانهن في حال كونكم محصنين غير مسافحين ، ويجوز أن لا يقدر مفعول تبتغوا وكأنه قيل إرادة أن يصرفوا أموالكم محصنين غير

٦٨

مسافحين أو بدل مما وراء ذلك بدل الاشتمال. واحتج به الحنفية على أن المهر لا بد وأن يكون مالا. ولا حجة فيه. والإحصان العفة فإنها تحصين للنفس عن اللوم والعقاب ، والسفاح الزنا من السفح وهو صب المني فإنه الغرض منه. (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) فمن تمتعتم به من المنكوحات ، أو فما استمعتم به منهن من جماع أو عقد عليهن. (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهن فإن المهر في مقابلة الاستمتاع. (فَرِيضَةً) حال من الأجور بمعنى مفروضة ، أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي ، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق. وقيل : نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها ثم أصبح يقول : «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة». وهي النكاح المؤقت بوقت معلوم سمي بها إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة ، أو تمتيعها بما تعطي. وجوزها ابن عباس رضي الله عنهما ثم رجع عنه. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح. (حَكِيماً) فيما شرع من الأحكام.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٥)

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) غنى واعتلاء وأصله الفضل والزيادة. (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) في موضع النصب بطولا. أو بفعل مقدر صفة له أي ومن لم يستطع منكم أن يعتلي نكاح المحصنات ، أو من لم يستطع منكم غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر لقوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) يعني الإماء المؤمنات ، فظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرة ، ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقا. وأول أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى طول المحصنات بأن يملك فراشهن ، على أن النكاح هو الوطء وحمل قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) على الأفضل. كما حمل عليه في قوله : (الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) ومن أصحابنا من حمله أيضا على التقييد وجوز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة الكتابية دون المؤمنة حذرا عن مخالطة الكفار وموالاتهم ، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد ، وما فيه من المهانة ونقصان حق الزوج. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فاكتفوا بظاهر الإيمان فإنه العالم بالسرائر ويتفاضل ما بينكم في الإيمان ، فرب أمة تفضل الحرة فيه ، ومن حقكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل النسب ، والمراد تأنيسهم بنكاح الإماء ومنعهم عن الاستنكاف منه ويؤيده. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أنتم وأرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإسلام. (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) يريد أربابهن واعتبار إذنهم مطلقا لا إشعار له ، على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم حتى يحتج به الحنفية. (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن! فحذف ذلك لتقدم ذكره ، أو إلى مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدي إليه ، وقال مالك رضي الله عنه : المهر للأمة ذهابا إلى الظاهر (بِالْمَعْرُوفِ) بغير مطل وإضرار ونقصان. (مُحْصَناتٍ) عفائف. (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) غير مجاهرات بالسفاح. (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أخلاء في السر (فَإِذا أُحْصِنَ) بالتزويج. قرأ أبو بكر وحمزة بفتح الهمزة والصاد والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد. (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) زنى. (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) يعني الحرائر. (مِنَ الْعَذابِ) من الحد لقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهو يدل على أن

٦٩

حد العبد نصف حد الحر ، وأنه لا يرجم لأن الرجم لا ينتصف. (ذلِكَ) أي نكاح الإماء. (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) لمن خاف الوقوع في الزنى ، وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر ، مستعار لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعه الإثم بأفحش القبائح. وقيل : المراد به الحد وهذا شرط آخر لنكاح الإماء. (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم. قال عليه الصلاة والسلام «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه». (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن لم يصبر. (رَحِيمٌ) بأن رخص له.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٦)

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما تعبدكم به من الحلال والحرام ، أو ما خفي عنكم من مصالحكم ومحاسن أعمالكم ، وليبين مفعول يريد واللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة كما في قول قيس بن سعد :

أردت لكيما يعلم النّاس أنّه

سراويل قيس والوفود شهود

وقيل المفعول محذوف ، وليبين مفعول له أي يريد الحق لأجله. (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) مناهج من تقدمكم من أهل الرشد لتسلكوا طرقهم. (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ويغفر لكم ذنوبكم ، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي ويحثكم على التوبة ، أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بها (حَكِيمٌ) في وضعها.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)(٢٨)

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) كرره للتأكيد والمبالغة. (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها.

وقيل : المجوس. وقيل : اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات. (مَيْلاً عَظِيماً) بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل لها. (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) فلذلك شرع لكم الشرعة الحنيفية السمحة السهلة ، ورخص لكم في المضايق كإحلال نكاح الأمة. (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت هذه الثلاث : و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، و (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، و (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(٢٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) استثناء منقطع أي ، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه ، أو اقصدوا كون تجارة. وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين ، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير ، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات ، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا.

٧٠

وقيل : المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله. وبالتجارة صرفه فيما يرضاه. وقرأ الكوفيون (تِجارَةً) بالنصب على كان الناقصة وإضمار الإسم أي إلا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة. (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بالبخع كما تفعله جهلة الهند ، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة. ويؤيده ما روي : أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها. أو باقتراف ما يذللها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس. وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم ، فإن المؤمنين كنفس واحدة. جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس ، وتستوفي فضائلها رأفة بهم ورحمة كما أشار إليه بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم. وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(٣٠)

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إشارة إلى القتل ، أو ما سبق من المحرمات. (عُدْواناً وَظُلْماً) إفراطا في التجاوز عن الحق وإتيانا بما لا يستحقه. وقيل أراد بالعدوان التعدي على الغير ، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) ندخله إياها. وقرئ بالتشديد من صلى ، وبفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية ، ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث إنه سبب الصلي. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا عسر فيه ولا صارف عنه.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٣١)

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها ، وقرئ «كبير» على إرادة الجنس. (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم.

واختلف في الكبائر ، والأقرب أن الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه حدا أو صرح بالوعيد فيه. وقيل ما علم حرمته بقاطع. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين». وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : (الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع). وقيل أراد هاهنا أنواع الشرك لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر. ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطراته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها. (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) الجنة وما وعد من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة. وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٣٢)

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من الأمور الدنيوية كالجاه والمال ، فلعل عدمه خير والمقتضي للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي ، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له ، وأنه تشه لحصول

٧١

الشيء له من غير طلب وهو مذموم ، لأن تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر ، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) بيان لذلك أي لكل من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ومن أجله ، فاطلبوا الفضل من الله تعالى بالعمل لا بالحسد ، والتمني كما قال عليه الصلاة والسلام «ليس الإيمان بالتمني». وقيل المراد نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه ، وجعل ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالمكتسب له. (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله مثله من خزائنه التي لا تنفذ. وهو يدل على أن المنهي عنه هو الحسد ، أو لا تتمنوا واسألوا الله من فضله بما يقربه ويسوقه إليكم. وقرأ ابن كثير والكسائي (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) وسلهم فسل الذين وشبهه إذا كان أمرا مواجها به ، وقبل السين واو أو فاء بغير همز وحمزة في الوقف على أصله والباقون بالهمز. (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان. روي (أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث ليتنا كنا رجالا) فنزلت.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٣٣)

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ولكل تركة جعلنا وراثا يلونها ويحرزونها ، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل. أو لكل ميت جعلنا وراثا مما ترك على أن من صلة موالي. لأنه في معنى الوارث ، وفي ترك ضمير كل والوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي ، وفيه خروج الأولاد فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين ، أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون ، على أن جعلنا موالي صفة كل والراجع إليه محذوف على هذا فالجملة من مبتدأ وخبر. (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) موالي الموالاة ، كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقد على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث. أو الأزواج على أن العقد عقد النكاح وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط وخبره. (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك : زيدا فاضربه ، أو معطوف على الوالدان ، وقوله فآتوهم جملة مسببة عن الجملة المتقدمة مؤكدة لها ، والضمير للموالي. وقرأ الكوفيون (عَقَدَتْ) بمعنى عقدت عهودهم إيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ثم حذف كما حذف في القراءة الأخرى. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) تهديد على منع نصيبهم.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)(٣٤)

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية ، وعلل ذلك بأمرين وهبي وكسبي فقال : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر ، والشهادة في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها ، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق. (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) في نكاحهن كالمهر والنفقة. روي (أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكى فقال

٧٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتقتص منه ، فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام : «أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير». (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ) مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج. (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) لمواجب الغيب أي يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، وعنه عليه الصلاة والسلام : «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها». وتلا الآية. وقيل لأسرارهم. (بِما حَفِظَ اللهُ) بحفظ الله إياهن بالأمر على حفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له ، أو بالذي حفظه الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن. وقرئ (بِما حَفِظَ اللهُ) بالنصب على أن ما موصولة فإنها لو كانت مصدرية لم يكن لحفظ فاعل ، والمعنى بالأمر الذي حفظ حق الله وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال. (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) عصيانهن وترفعهن عن مطاوعة الأزواج من النشز. (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ، أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع. وقيل المضاجع المبايت أي لا تباينوهن (وَاضْرِبُوهُنَ) يعني ضربا غير مبرح ولا شائن ، والأمور الثلاثة مرتبة ينبغي أن يتدرج فيها. (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالتوبيخ والإيذاء ، والمعنى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم ، أو أنه على علو شأنه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم ، أو أنه يتعالى ويتكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)(٣٥)

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) خلافا بين المرأة وزوجها ، أضمرهما وإن لم يجر ذكرهما لجرى ما يدل عليهما وإضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به كقوله : يا سارق اللّيلة أهل الدّار. أو لفاعل كقولهم نهارك صائم. (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبيين الأمر أو إصلاح ذات البين ، رجلا وسطا يصلح للحكومة والإصلاح من أهله وآخر من أهلها ، فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ، وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز. وقيل الخطاب للأزواج والزوجات ، واستدل به على جواز التحكيم ، والأظهر أن النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر ولا يليان الجمع والتفريق إلا بإذن الزوجين ، وقال مالك لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه. (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين ، أي إن قصدا الإصلاح أوقع الله بحسن سعيهما الموافقة بين الزوجين. وقيل كلاهما للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما. وقيل للزوجين أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بالظواهر والبواطن ، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)(٣٦)

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) صنما أو غيره ، أو شيئا من الإشراك جليا أو خفيا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وأحسنوا بهما إحسانا. (وَبِذِي الْقُرْبى) وبصاحب القرابة. (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى)

٧٣

أي الذي قرب جواره. وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بسبب أو دين. وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه. (وَالْجارِ الْجُنُبِ) البعيد ، أو الذي لا قرابة له. وعنه عليه الصلاة والسلام : «الجيران ثلاثة. فجار له ثلاث حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام. وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب». (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ، فإنه صحبك وحصل بجنبك. وقيل المرأة. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر أو الضعيف. (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) العبيد والإماء. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) متكبرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم. (فَخُوراً) يتفاخر عليهم.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(٣٧)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بدل من قوله من كان ، أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون بما منحوا به ويأمرون الناس بالبخل به. وقرأ حمزة والكسائي هاهنا وفي «الحديد» (بِالْبُخْلِ) بفتح الحرفين وهي لغة. (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الغنى والعلم فهم أحقاء بكل ملامة. (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله ، ومن كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحا : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر. وقيل في الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)(٣٨)

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) عطف على الذين يبخلون ، أو الكافرين. وإنما شاركهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على من ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذم ، أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً). (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ليتحروا بالإنفاق مراضيه وثوابه وهم مشركو مكة. وقيل هم المنافقون. (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) تنبيه على أن الشيطان قرنهم فحملهم على ذلك وزينة لهم كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ). والمراد إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة ، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان في النار.

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) (٣٩)

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) أي وما الذي عليهم ، أو أي تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان والإنفاق في سبيل الله ، وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه ، وتحريض على الفكر لطلب الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة ، والعوائد الجميلة. وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا ، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدّم الإيمان هاهنا وأخّره في الآية الأخرى لأن القصد بذكره إلى التخصيص هاهنا والتعليل ثم (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) وعيد لهم.

٧٤

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)(٤٠)

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة ، وهي النملة الصغيرة. ويقال لكل جزء من أجزاء الهباء ، والمثقال مفعال من الثقل ، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه. (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) وإن يكن مثقال الذرة حسنة وأنّث الضمير لتأنيث الخبر ، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث. وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة. وقرأ ابن كثير ونافع (حَسَنَةً) بالرفع على كان التامة. (يُضاعِفْها) يضاعف ثوابها وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعفها وكلاهما بمعنى. (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ) ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل (أَجْراً عَظِيماً) عطاء جزيلا ، وإنما سماه أجرا لأنه تابع للأجر مزيد عليه.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٤٢)

(فَكَيْفَ) أي فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم؟. (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يعني نبيهم يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم ، والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وتعظيم الشأن. (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد. (عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لعلمك بعقائدهم ، واستجماع شرعك مجامع قواعدهم. وقيل هؤلاء إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم. وقيل إلى المؤمنين كقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) بيان لحالهم حينئذ ، أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر ، أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى ، أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء. (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو للحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثا ولا يكذبونه بقولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إذ روي : أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم ، فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض. وقرأ نافع وابن عامر (تُسَوَّى بِهِمُ) على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين. وقرأ حمزة والكسائي (تُسَوَّى) على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)(٤٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم. روي (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مأدبة ودعا نفرا من الصحابة. حين كانت الخمر مباحة. فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون). فنزلت. وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة ، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب ، والسكر من السكر وهو السد. وقرئ «سكارى» بالفتح وسكرى على أنه جمع كهلكى. أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى ، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة. (وَلا جُنُباً) عطف على

٧٥

قوله (وَأَنْتُمْ سُكارى) إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، لأنه يجرى مجرى المصدر. (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) متعلق بقوله (وَلا جُنُباً) ، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم ، أو صفة لقوله (جُنُباً) أي جنبا غير عابري سبيل. وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث. ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها ، وجوز الجنب عبور المسجد. وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق. (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية النهي عن القربان حال الجنابة ، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه. (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإن الواجد كالفاقد. أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) لا تجدونه فيه. (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين ، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض. (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء. وقيل : أو جامعتموهن. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة «لمستم» ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة. (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) فلم تتمكنوا من استعماله ، إذ الممنوع عنه كالمفقود. ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر. والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض ، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ). أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا. ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه. وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي بعضه ، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض ، واليد اسم للعضو إلى المنكب ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ). (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)(٤٥)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) من رؤية البصر أي ألم تنظر إليهم ، أو القلب. وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء. (نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حظا يسيرا من علم التوراة لأن المراد أحبار اليهود. (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) يختارونها على الهدى ، أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه ، أو حصوله لهم بإنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : يأخذون الرشى ويحرفون التوراة. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أيها المؤمنون. (السَّبِيلَ) سبيل الحق.

(وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم. (بِأَعْدائِكُمْ) وقد أخبركم بعداوة هؤلاء وما يريدون بكم فاحذروهم. (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أمركم. (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) يعينكم فثقوا عليه واكتفوا به عن غيره. والباء تزاد في فاعل كفى لتوكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا

٧٦

بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٤٦)

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) بيان للذين أوتوا نصيبا فإنه يحتملهم وغيرهم ، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيرا. أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم ، أو خبر محذوف صفته يحرفون. (الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه. وقرئ «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة. (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا) قولك. (وَعَصَيْنا) أمرك. (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي مدعوا عليك بلا سمعت لصمم أو موت ، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولا به ، أو اسمع غير مسمع مكروها من قولهم أسمعه فلان إذا سبه ، وإنما قالوه نفاقا. (وَراعِنا) انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك. (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب ، حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها ، أو فتلا بها وضما لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقا. (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) استهزاء به وسخرية. (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأعدل ، وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه. (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم. (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ، ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله :

قليل التشكّي للمهم يصيبه

أو إلا قليلا منهم آمنوا أو سيؤمنون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(٤٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها ، يعني الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، أو في الآخرة. وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار ، أو نردها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء ، أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة. (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم ، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود. والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء ، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) بإيقاع شيء أو وعيده ، أو ما حكم به وقضاه. (مَفْعُولاً) نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا.

٧٧

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(٤٨)

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لأنه بت الحكم على خلود عذابه وأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره. (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا. (لِمَنْ يَشاءُ) تفضلا عليه وإحسانا. والمعتزلة علقوه بالفعلين على معنى إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء. وهو من لم يتب ويغفر ما دونه لمن يشاء وهو من تاب. وفيه تقييد بلا دليل إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه ونقض لمذهبهم فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة والصفح بعدها ، فالآية كما هي حجة عليهم فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) ارتكب ما يستحقر دونه الآثام ، وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب ، والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذلك الاختلاق.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)(٥٠)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) يعني أهل الكتاب قالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وقيل: ناس من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب قال لا قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار. وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها. (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) تنبيه على أن تزكيته تعالى هي المعتد بها دون تزكية غيره ، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح ، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين. وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا أو قولا. (وَلا يُظْلَمُونَ) بالذم أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حق. (فَتِيلاً) أدنى ظلم وأصغره ، وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في زعمهم أنهم أبناء الله وأزكياء عنده. (وَكَفى بِهِ) بزعمهم هذا أو بالافتراء. (إِثْماً مُبِيناً) لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)(٥١)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) نزلت في يهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوهم إليه محمد. وقيل في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا. والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله. وقيل أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء. والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره. (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لأجلهم وفيهم. (هؤُلاءِ) إشارة إليهم. (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أقوم دينا وأرشد طريقا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)(٥٣)

٧٨

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) يمنع العذاب منه بشفاعة أو غيرها.

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أم منقطعة ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أن الملك سيصير إليهم. (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا ، وهو النقرة في ظهر النواة. وهذا هو الإغراق في بيان شحهم فإنهم إن بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا فقراء أذلاء متفاقرين ، ويجوز أن يكون المعنى إنكار أنهم أوتوا نصيبا من الملك على الكناية ، وأنهم لا يؤتون الناس شيئا وإذا وقع بعد الواو والفاء لا لتشريك مفرد جاز فيه الإلغاء والإعمال ، ولذلك قرئ فإذا لا يؤتوا الناس على النصب.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(٥٥)

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) بل أيحسدون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أو العرب ، أو الناس جميعا لأن من حسد على النبوة فكأنما حسد الناس كلهم كمالهم. ورشدهم وبخهم وأنكر عليهم الحسد كما ذمهم على البخل وهما شر الرذائل وكأن بينهما تلازما وتجاذبا. (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني النبوة والكتاب والنصرة والإعزاز وجعل النبي الموعود منهم. (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) الذين هم أسلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبناء عمه. (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) النبوة. (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) فلا يبعد أن يؤتيه الله مثل ما آتاهم.

(فَمِنْهُمْ) من اليهود. (مَنْ آمَنَ بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم. (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أعرض عنه ولم يؤمن به وقيل معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك. (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) نارا مسعورة يعذبون بها أي إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً)(٥٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) كالبيان والتقرير لذلك. (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك : بدلت الخاتم قرطا ، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي ليدوم لهم ذوقه. وقيل يخلق لهم مكانه جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور. (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا يمتنع عليه ما يريده. (حَكِيماً) يعاقب على وفق حكمته.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قدم ذكر الكفار ووعيدهم على ذكر المؤمنين ووعدهم لأن الكلام فيهم ، وذكر المؤمنين بالعرض. (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) فينانا لا جوب فيه ودائما لا تنسخه الشمس ، وهو إشارة إلى النعمة التامة الدائمة. والظليل صفة مشتقة من الظل لتأكيده كقولهم : شمس شامس وليل أليل ويوم أيوم.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(٥٨)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) خطاب يعم المكلفين والأمانات ، وإن نزلت يوم الفتح في

٧٩

عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة ، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة. فنزلت فأمره الله أن يرده إليه ، فأمر عليا رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه ، وصار ذلك سببا لإسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم ، أو يرضى بحكمكم ولأن الحكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم. (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي نعم شيئا يعظكم به ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة يعظكم به. أو مرفوعة موصولة به. والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات. (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(٥٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده ، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية. أمر الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل تنبيها على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق. وقيل علماء الشرع لقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) أنتم وأولو الأمر منكم. (فِي شَيْءٍ) من أمور الدين ، وهو يؤيد الوجه الأول إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات. (فَرُدُّوهُ) فراجعوا فيه. (إِلَى اللهِ) إلى كتابه. (وَالرَّسُولِ) بالسؤال عنه في زمانه ، والمراجعة إلى سنته بعده. واستدل به منكر والقياس وقالوا : إنه تعالى أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس. وأجيب بأن رد المختلف إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو القياس ، ويؤيد ذلك الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة مثبت بالكتاب ومثبت بالسنة ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن الإيمان يوجب ذلك. (ذلِكَ) أي الرد. (خَيْرٌ) لكم. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) عاقبة أو أحسن تأويلا من تأويلكم بلا رد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)(٦٠)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه وقال : نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه للمنافق : أكذلك. فقال نعم. فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله) فنزلت. وقال جبريل إن عمر قد فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق ، والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف وفي معناه من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله ، سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبهه بالشيطان ، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه كما قال. (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) وقرئ أن «يكفروا بها» على أن الطاغوت جمع كقوله تعالى (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ).

٨٠