أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فسيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل. (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) إنكارا لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به. وقيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته. روي (أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي عليه الصلاة والسلام فقال : قد قتلت محمدا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفا الناس وجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إليّ عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون ، وقال بعضهم : ليت ابن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه ، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل) فنزلت. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بارتداده بل يضر نفسه. (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(١٤٥)

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلا بمشيئة الله تعالى أو بإذنه لملك الموت عليه الصلاة والسلام في قبض روحه ، والمعنى أن لكل نفس أجلا مسمى في علمه تعالى وقضائه (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) بالإحجام عن القتال والإقدام عليه. وفيه تحريض وتشجيع على القتال ، ووعد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحفظ وتأخير الأجل. (كِتاباً) مصدر مؤكد إذ المعنى كتب الموت كتابا. (مُؤَجَّلاً) صفة له أي مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد ، فإن المسلمين حملوا على المشركين وهزموهم وأخذوا ينهبون ، فلما رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب وخلوا مكانهم فانتهز المشركون وحملوا عليهم من ورائهم فهزموهم. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي من ثوابها. (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)(١٤٦)

(وَكَأَيِّنْ) أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس. وقرأ ابن كثير «وكائن» ككاعن ووجهه أنه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم رعملي في لعمري ، فصار كيأن ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفا كما أبدلت من طائي (مِنْ نَبِيٍ) بيان له. (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ربانيون علماء أتقياء ، أو عابدون لربهم. وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «قتل» ، وإسناده إلى (رِبِّيُّونَ) أو ضمير النبي ومعه ربيون حال منه ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد وقرئ (رِبِّيُّونَ) بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر. (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم. (وَما ضَعُفُوا) عن العدو أو في الدين. (وَمَا اسْتَكانُوا) وما خضعوا للعدو ، وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده ، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من

٤١

الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له ، وهذا تعريض بما أصابهم عند الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام. (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) فينصرهم ويعظم قدرهم.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٤٨)

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول ، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم هضما لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالهم والاستغفار عنها ، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة ، فيكون أقرب إلى الإجابة ، وإنما جعل قولهم خبرا لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث.

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فأتاهم الله بسبب الاستغفار واللجأ إلى الله النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر في الدنيا ، والجنة والنعيم في الآخرة ، وخص ثوابها بالحسن إشعارا بفضله وأنه المعتد به عند الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ) أي إلى الكفر (عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل. وقيل أن تستكينوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجر إلى موافقتهم.

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) ناصركم. وقرئ بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله مولاكم. (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)(١٥١)

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ، ونادى أبو سفيان يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام : «إن شاء الله». وقيل لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم. وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب بالضم على الأصل في كل القرآن (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) بسبب إشراكهم به. (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي آلهة ليس على إشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطانا وهو كقوله :

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر

وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة لحدة اللسان. (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي مثواهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ

٤٢

وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(١٥٢)

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أي وعده إياكم بالنصر بشرط التقوى والصبر ، وكان كذلك حتى خالف الرماة فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم بالنبل والباقون يضربونهم بالسيف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) تقتلونهم ، من حسه إذا أبطل حسه. (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) جبنتم وضعف رأيكم ، أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل. (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) يعني اختلاف الرماة حين انهزم المشركون فقال بعضهم فما موقفنا هاهنا ، وقال آخرون لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهب وهو المعني بقوله : (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الظفر والغنيمة وانهزام العدو ، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم ، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم التاركون المركز للغنيمة. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول عليه‌السلام. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم. (لِيَبْتَلِيَكُمْ) على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإيمان عندها. (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يتفضل عليهم بالعفو ، أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٥٣)

(إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق بصرفكم ، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا. والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة. (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) كان يقول إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة. (فِي أُخْراكُمْ) في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) عطف على صرفكم ، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم ، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصيانكم له. (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق. وقيل (لا) مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم. وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم ، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(١٥٤)

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس ، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه. والأمنة الأمن

٤٣

نصب على المفعول ونعاسا بدل منها أو هو المفعول ، و «أمنة» حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة. وقرئ «أمنة» بسكون الميم كأنها المرة في الإمر (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقا. (وَطائِفَةٌ) هم المنافقون. (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أوقعتهم أنفسهم في الهموم ، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها. (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله ، وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به ، و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها. (يَقُولُونَ) أي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بدل من يظنون. (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط. وقيل : أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك ، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا ، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون ، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض. وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الابتداء. (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين إنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإنكار والتكذيب. (يَقُولُونَ) أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له. (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كما وعد محمد أو زعم أن الأمر كله لله ولأوليائه ، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره. (ما قُتِلْنا هاهُنا) لما غلبنا ، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة. (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد ، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه. (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق ، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء ، أو على لكيلا تحزنوا. (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بخفياتها قبل إظهارها ، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(١٥٥)

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوبا لمخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك المركز ، والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب. وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضا كالطاعة. وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١٥٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعني المنافقين. (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) لأجلهم وفيهم ،

٤٤

ومعنى إخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها ، وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز كعاف وعفّى. (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) مفعول قالوا وهو يدل على إن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به. (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) متعلق ب (قالُوا) على إن اللام لام العاقبة مثلها في ليكون لهم عدوا وحزنا ، أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة ، فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد. وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم. (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ردا لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(١٥٨)

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) أي متم في سبيله وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من مات يمات. (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء والمعنى : إن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل وإن وقع ذلك في سبيل الله فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا. وقرأ حفص بالياء.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) أي على أي وجه اتفق هلاككم. (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لإلى معبودكم الذي توجهتم إليه. وبذلتم مهجكم لوجهه لا إلى غيره لا محالة تحشرون ، فيوفي جزاءكم ويعظم ثوابكم. وقرأ نافع وحمزة والكسائي متم بالكسر.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(١٥٩)

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي فبرحمة ، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه. (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سيّئ الخلق جافيا. (غَلِيظَ الْقَلْبِ) قاسيه. (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك. (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يختص بك. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما لله. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه ، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارا برأيهم وتطييبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة. (فَإِذا عَزَمْتَ) فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى. (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك ، فإنه لا يعلمه سواه. وقرئ «فإذا عزمت» ، على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحدا. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٦٠)

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) كما نصركم يوم بدر. (فَلا غالِبَ لَكُمْ) فلا أحد يغلبكم. (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما خذلكم يوم أحد. (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد خذلانه ، أو من بعد الله بمعنى إذا جاوزتموه فلا

٤٥

ناصر لكم ، وهذا تنبيه على المقتضى للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجلب خذلانه. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر لهم سواه وآمنوا به.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٦١)

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) وما صح لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة ، يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه في خفية والمراد منه : إما براءة الرسول عليه‌السلام عما اتهم به إذ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم. وإما المبالغة في النهي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما روي أنه بعث طلائع ، فغنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت. فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة ثانية. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب (أَنْ يَغُلَ) على البناء للمفعول والمعنى : وما صح له أن يوجد غالا أو أن ينسب إلى الغلول. (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) يعني تعطي جزاء ما كسبت وافيا ، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(١٦٣)

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) بالطاعة. (كَمَنْ باءَ) رجع. (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بسبب المعاصي. (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الفرق بينه وبين المرجع إن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع.

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب ، أو هم ذوو درجات. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) عالم بأعمالهم ودرجاتهم صادرة عنهم فيجازيهم على حسبها.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤)

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أنعم على من آمن مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها. وقرئ «لمن من الله» على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه. (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من نسبهم ، أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به. وقرئ «من أنفسهم» أي من أشرفهم لأنه عليه‌السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي القرآن بعد ما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحي. (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي القرآن والسنة. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ضلال ظاهر.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ

٤٦

شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٦٥)

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) الهمزة للتقريع والتقرير ، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد أو على محذوف مثل أفعلتم كذا وقلتم ، ولما ظرفه المضاف إلى ما أصابتكم أي أقلتم حين أصابتكم مصيبة وهي قتل سبعين منكم يوم أحد ، والحال إنكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة ، أو اختيار الخروج من المدينة. وعن علي رضي الله تعالى عنه باختياركم الفداء يوم بدر. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على النصر ومنعه وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧)

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع المشركين يريد يوم أحد. (فَبِإِذْنِ اللهِ) فهو كائن بقضائه أو تخليته الكفار سماها إذنا لأنها من لوازمه. (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء. (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على نافقوا داخل في الصلة أو كلام مبتدأ. (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) تقسيم للأمر عليهم وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال. وقيل معناه قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيرهم سواد المجاهدين ، فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه. (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة ، أو لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه ، وإنما قالوه دغلا واستهزاء. (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) لانخذالهم وكلامهم هذا فإنها أول أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، إذ كان انخذلهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين. (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) يظهرون خلاف ما يضمرون ، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان. وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من النفاق. وما يخلوا به بعضهم إلى بعض فإنه يعلمه مفصلا بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٦٨)

(الَّذِينَ قالُوا) رفع بدلا من واو (يَكْتُمُونَ) ، أو نصب على الذم أو الوصف للذين نافقوا ، أو جر بدلا من الضمير في (بِأَفْواهِهِمْ) أو (قُلُوبِهِمْ) كقوله :

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم

(لِإِخْوانِهِمْ) أي لأجلهم ، يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم أو من جنسهم. (وَقَعَدُوا) حال مقدرة بقد أي قالوا قاعدين عن القتال. (لَوْ أَطاعُونا) في القعود بالمدينة. (ما قُتِلُوا) كما لم نقتل. قرأ هشام (ما قُتِلُوا) بتشديد التاء. (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون

٤٧

على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه ، فإنه أحرى بكم ، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت ، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سببا للهلاك والقعود سببا للنجاة قد يكون الأمر بالعكس.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(١٦٩)

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) نزلت في شهداء أحد. وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد. وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول ، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا. والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة. وقرأ ابن عامر (قُتِلُوا) بالتشديد لكثرة المقتولين. (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء. وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ذوو زلفى منه. (يُرْزَقُونَ) من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٧١)

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله تعالى والتمتع بنعيم الجنة. (وَيَسْتَبْشِرُونَ) يسرون بالبشارة. (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي بإخوانهم المؤمنين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. (مِنْ خَلْفِهِمْ) أي الذين من خلفهم زمانا أو رتبة. (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من الذين والمعنى : إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين ، وهو إنهم إذا ماتوا أو قتلوا كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور ، وحزن فوات محبوب. والآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) الآية وما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال «أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش». ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحا وعرضا قال هم أحياء يوم القيامة ، وإنما وصفوا به في الحال لتحققه ودنوه أو أحياء بالذكر أو بالإيمان. وفيها حث على الجهاد وترغيب في الشهادة وبعث على ازدياد الطاعة وإحماد لمن يتمنى لإخوانه مثل ما أنعم عليه ، وبشرى للمؤمنين بالفلاح.

(يَسْتَبْشِرُونَ) كرره للتأكيد وليعلق به ما هو بيان لقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم. (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ثوابا لأعمالهم. (وَفَضْلٍ) زيادة عليه كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) وتنكيرهما للتعظيم. (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) من جملة المستبشر به عطف على فضل. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٢)

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) بجملته ومن للبيان ، والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد ، لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون. روي (أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا

٤٨

الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ، فخرج عليه الصلاة والسلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد. وهي على ثمانية أميال من المدينة. وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا) فنزلت.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣)

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) يعني أبا سفيان وأصحابه روي : أنه نادى عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام : إن شاء الله تعالى ، فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع ، فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين. وقيل : لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فسأله ذلك والتزم له عشرا من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففتروا ، فقال عليه‌السلام : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون حسبنا الله. (فَزادَهُمْ إِيماناً) الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده ، والبارز للمقول لهم والمعنى : إنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده ، وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ويعضده قول ابن عمر رضي الله عنهما(قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص ، قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار) وهذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإيمان وكذا إن لم تجعل فإن اليقين يزداد بالإلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج. (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) محسبنا وكافينا ، من أحسبه إذا كفاه ويدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك هذا رجل حسبك. (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ونعم الموكول إليه هو.

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٧٥)

(فَانْقَلَبُوا) فرجعوا من بدر. (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) عافية وثبات على الإيمان وزيادة فيه. (وَفَضْلٍ) وربح في التجارة فإنهم لما أتوا بدرا وأوفوا بها سوقا فاتجروا وربحوا. (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) من جراحة وكيد عدو. (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم. (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد ، والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو ، وبالحفظ عن كل ما يسوءهم ، وإصابة النفع مع ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل. وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) يريد به المثبط نعيما أو أبا سفيان ، والشيطان خبر (ذلِكُمُ) وما بعده بيان لشيطنته أو صفته وما بعده خبر ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان يعني إبليس عليه اللعنة. (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) القاعدين عن الخروج مع الرسول ، أو يخوفكم أولياؤه الذين هم

٤٩

أبو سفيان وأصحابه. (فَلا تَخافُوهُمْ) الضمير للناس الثاني على الأول وإلى الأولياء على الثاني. (وَخافُونِ) في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٧)

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعا حرصا عليه ، وهم المنافقون من المتخلفين ، أو قوم ارتدوا عن الإسلام. والمعنى لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك لقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي لن يضروا أولياء الله شيئا بمسارعتهم في الكفر ، وإنما يضرون بها أنفسهم. وشيئا يحتمل المفعول والمصدر وقرأ نافع (يَحْزُنْكَ) بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله في الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فإنه فتح الياء وضم الزاي فيه والباقون كذلك في الكل. (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) نصيبا من الثواب في الآخرة ، وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر ، وفي ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته ، وإن مسارعتهم في الكفر لأنه تعالى لم يرد أن يكون لهم حظ في الآخرة. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) مع الحرمان عن الثواب.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تكرير للتأكيد ، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين ، أو ارتد من العرب.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٧٨)

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) خطاب للرسول عليه‌السلام ، أو لكل من يحسب. والذين مفعول و (أَنَّما نُمْلِي) لهم بدل منه ، وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ). أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم ، أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ، وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإمام فاتبع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على إن الذين فاعل وإن مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم. والإملاء الإمهال وإطالة العمر. وقيل تخليتهم وشأنهم ، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، وما كافة واللام لام الإرادة. وعند المعتزلة لام العاقبة. وقرئ «إنما» بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان ، و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) اعتراض. معناه أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) على هذا يجوز أن يكون حالا من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ

٥٠

(١٧٩))

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره ، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم ، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم ، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر النبي به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم. وقرأ حمزة والكسائي (حَتَّى يَمِيزَ) ، هنا وفي «الأنفال» بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء. (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان ، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بصفة الإخلاص ، أو بأن تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي (أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر) فنزلت. عن السدي أنهعليه‌السلام قال : «عرضت عليّ أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر». فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فنزلت. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) حق الإيمان. (وَتَتَّقُوا) النفاق. (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) القراءات فيه على ما سبق. ومن قرأ بالتاء قدر مضافا ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفا لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم. (بَلْ هُوَ) أي البخل. (شَرٌّ لَهُمْ) لاستجلاب العقاب عليهم. (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان لذلك ، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ، وعنه عليه الصلاة والسلام «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعا في عنقه يوم القيامة». (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وله ما فيهما مما يتوارث ، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله ، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة. (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ) من المنع والإعطاء. (خَبِيرٌ) فمجازيهم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٨٢)

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قالته اليهود لما سمعوا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً). وروي (أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص بن عازوراء : إن الله فقير حتى سأل القرض ، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه وقال : لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحد ما قاله) فنزلت. والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب

٥١

عليه. (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي سنكتبه في صحائف الكتبة ، أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله عزوجل واستهزاء بالقرآن والرسول ، ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء ، وفيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول. وقرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء وقتلهم بالرفع ويقول بالياء. (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق ، وفيه مبالغات في الوعيد. والذّوق إدراك الطعوم ، وعلى الاتساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره هاهنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال.

(ذلِكَ) إشارة إلى العذاب. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من قتل الأنبياء وقولهم هذا وسائر معاصيهم. عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٨٣)

(الَّذِينَ قالُوا) هم كعب بن الأشرف ومالك وحيي وفنحاص ووهب بن يهوذا. (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) أمرنا في التوراة وأوصانا. (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله ، أي تحيله إلى طبعها بالإحراق. وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك. (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكذيب وإلزام بأن رسلا جاءوهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم ، فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترءوا على قتله.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)(١٨٤)

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تكذيب قومه واليهود ، والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حبسته ، والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن. وقيل الزبر المواعظ والزواجر ، من زبرته إذا زجرته. وقرأ ابن عامر (وَبِالزُّبُرِ) وهشام وبالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(١٨٥)

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وعد ووعيد للمصدق والمكذب. وقرئ «ذائقة الموت» بالنصب مع التنوين وعدمه كقوله : «ولا ذاكر الله إلّا قليلا» (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) تعطون جزاء أعمالكم خيرا كان أو شرا تاما وافيا. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يوم قيامكم من القبور ، ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) بعد

٥٢

عنها ، والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة. (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بالنجاة ونيل المراد ، والفوز الظفر بالبغية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه». (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لذاتها وزخارفها. (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، وهذا لمن آثرها على الآخرة. فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر أو جمع غار.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(١٨٦)

(لَتُبْلَوُنَ) أي والله لتختبرن. (فِي أَمْوالِكُمْ) بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات. (وَأَنْفُسِكُمْ) بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب. (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) من هجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك. (وَتَتَّقُوا) مخالفة أمر الله. (فَإِنَّ ذلِكَ) يعني الصبر والتقوى. (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه. والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)(١٨٧)

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) أي اذكر وقت أخذه. (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يريد به العلماء. (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) حكاية لمخاطبتهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب ، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ) والضمير للكتاب. (فَنَبَذُوهُ) أي الميثاق. (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات ، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه. (وَاشْتَرَوْا بِهِ). وأخذوا بدله. (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا وأعراضها. (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) يختارون لأنفسهم ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كتم علمه عن أهله ألجم بلجام من نار». وعن علي رضي الله تعالى عنه (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا).

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٨٨)

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ضم الباء جعل الخطاب له وللمؤمنين ، والمفعول الأول (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) والثاني (بِمَفازَةٍ) ، وقوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد والمعنى : لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإخبار بالصدق ، بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الذين فاعل ومفعولا يحسبن محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكدة ، فكأنه قيل ؛ ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة ، أو المفعول الأول محذوف وقوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم وتدليسهم. روي أنه عليه الصلاة والسلام (سأل اليهود عن شيء مما في

٥٣

التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بما فعلوا) فنزلت. وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به. وقيل : نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(١٩٠)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقابهم. وقيل هو رد لقولهم إن الله فقير (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم كما سبق في سورة البقرة ، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير ، وهذه معترضة لجملة أنواعه فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار ، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها. وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)(١٩١)

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه عليه الصلاة والسلام «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله». وقيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين : «صل قائما فطن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء». فهو حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم بدنه. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استدلالا واعتبارا ، وهو أفضل العبادات كما قال عليه الصلاة والسلام «لا عبادة كالتفكر». لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق ، وعنه عليه الصلاة والسلام : «بينما رجل مستلق على فراشة إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا : اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له». وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك ، وهذا إشارة إلى المتفكر فيه ، أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض ، أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق ، والمعنى ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك. (سُبْحانَكَ) تنزيها لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض. (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) للإخلال بالنظر فيه ، والقيام بما يقتضيه. وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الاستعاذة.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(١٩٢)

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) غاية الإخزاء ، وهو نظير قولهم : من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك ، والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه ، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أراد بهم المدخلين ، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على

٥٤

أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها ، ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ)(١٩٣)

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه ، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه ، والمراد به الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل القرآن ، والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص. (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أي بأن آمنوا فامتثلنا. (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) كبائرنا فإنها ذات تبعة. (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) صغائرنا فإنها مستقبحة ، ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله ، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب.

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤)

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب. لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفا من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال أو تعبدا واستكانة. ويجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا عليهم. وقيل معناه على ألسنة رسلك. (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن تعصمنا عما يقتضيه. (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) بإثابة المؤمن وإجابة الداعي وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الميعاد البعث بعد الموت. وتكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها. وفي الآثار(من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف).

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)(١٩٥)

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) إلى طلبتهم ، وهو أخص من أجاب ويعدي بنفسه وباللام. (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي بأني لا أضيع. وقرئ بالكسر على إرادة القول. (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان عامل. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، أو لأنهما من أصل واحد ، أو لفرط الاتصال والاتحاد ، أو للاجتماع والاتفاق في الدين. وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال. روي (أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء) فنزلت. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلخ ، تفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم ، والمعنى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين. (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) بسبب إيمانهم بالله ومن أجله (وَقاتَلُوا) الكفار. (وَقُتِلُوا) في الجهاد. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس لأن الواو لا توجب ترتيبا والثاني أفضل. أو لأن المراد لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا. وشدد ابن كثير وابن عامر (قُتِلُوا) للتكثير. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) لأمحونها. (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلا منه ، فهو مصدر مؤكد. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) على

٥٥

الطاعات قادر عليه.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٩٧)

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، أو تثبيته على ما كان عليه كقوله (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أو لكل أحد ، والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب للمبالغة ، والمعنى لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظ ، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم. روي (أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد) فنزلت.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك التقلب متاع قليل لقصر مدته في جنب ما أعد الله للمؤمنين. قال عليه الصلاة والسلام «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع». (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ما مهدوا لأنفسهم.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)(١٩٨)

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) النزل والنزل : ما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة ، قال أبو الشعر الضبي :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

وانتصابه على الحال من جنات والعامل فيها الظرف ، وقيل : إنه مصدر مؤكد ، والتقدير : أنزلوها نزلا (وَما عِنْدَ اللهِ) لكثرته ودوامه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٩٩)

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل في أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا. وقيل في أصحمة النجاشي لما نعاه جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج فصلى عليه فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط. وإنما دخلت اللام على الاسم للفصل بينه وبين إن بالظرف. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الكتابين. (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كما يفعله المحرفون من أحبارهم. (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ما خص بهم من الأجر ووعده في قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ)(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لعلمه بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل والاحتياط ، والمراد أن الأجر الموعود سريع الوصول فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد. (وَصابِرُوا) وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى ، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر

٥٦

مطلقا لشدته. (وَرابِطُوا) أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو ، وأنفسكم على الطاعة كما قال عليه الصلاة والسلام «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة». وعنه عليه الصلاة والسلام «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة». (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح ، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة ، المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة ، والطريقة ، والحقيقة. عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أمانا على جسر جهنم». وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلّى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس». والله أعلم.

٥٧

(٤) سورة النساء

مدنية وهي مائة وخمس وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يعم بني آدم. (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم. (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه ، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها ، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة. (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) بيان لكيفية تولدهم منهما ، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة ، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها ، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر ، وذكر (كَثِيراً) حملا على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى ، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها ، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزلة وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها. وقرئ «وخالق» «وباث» على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي يسأل بعضكم بعضا تقول أسألك بالله ، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها. (وَالْأَرْحامَ) بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمرا ، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. وقرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة. وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك ، أي مما يتقى أو يتساءل به. وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه. وعنه عليه الصلاة والسلام «الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله». (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) حافظا مطلعا.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً)(٢)

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) أي إذا بلغوا ، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد.

ومنه الدرة اليتيمة ، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمى كأسرى لأنه من باب الآفات. ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى وأسارى ، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ. ووروده في الآية إما للبالغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال ؛

٥٨

وآتوهم إذا بلغوا. ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت. فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير. (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها. وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، وهذا تبديل وليس بتبدل. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(إِنَّهُ) الضمير للأكل. (كانَ حُوباً كَبِيراً) ذنبا عظيما. وقرئ حوبا وهو مصدر حاب (حُوباً) وحابا كقال قولا وقالا.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)(٣)

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن ، فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن. إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوجها ضنا بها ، فربما يجتمع عنده منهن عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهن. أو إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقه ، لأن المتحرج من الذنب ينبغي أن يتحرج من الذنوب كلها على ما روي : أنه تعالى لما عظم أمر اليتامى تحرجوا من ولايتهم وما كانوا يتحرجون من تكثير النساء وإضاعتهن فنزلت. وقيل : كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى ، فقيل لهم إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنى ، فانكحوا ما حل لكم. وإنما عبر عنهن بما ذهابا إلى الصفة أو إجراء لهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن ، ونظيره (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وقرئ «تقسطوا» بفتح التاء على أن «لا» مزيدة أي إن خفتم إن تجوروا. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معدولة عن أعداد مكررة وهي : ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا. وهي غير منصرفة للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن كانت أصولها لم تبن لها. وقيل لتكرير العدل فإنها معدولة باعتبار الصفة والتكرير منصوبة على الحال من فاعل طاب ومعناها : الإذن لكل ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين كقولك : اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بأو لذهب تجويز الاختلاف في العدد. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد أيضا. (فَواحِدَةً) فاختاروا أو فانكحوا واحدة وذروا الجمع. وقرئ بالرفع على أنه فاعل محذوف أو خبره تقديره فتكفيكم واحدة ، أو فالمقنع واحدة. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) سوّى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري لخفة مؤنهن وعدم وجوب القسم بينهن (ذلِكَ) أي التقليل منهن أو اختيار الواحدة أو التسري. (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أقرب من أن لا تميلوا ، يقال عال الميزان إذا مال وعال الحاكم إذا جار ، وعول الفريضة الميل عن حد السهام المسماة. وفسر بأن لا تكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مانهم ، فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية. ويؤيده قراءة «أن لا تعيلوا» من أعال الرجل إذا كثر عياله ، ولعل المراد بالعيال الأزواج وإن أريد الأولاد فلأن التسري مظنة قلة الولد بالإضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مهورهن. وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف ، وبضم الصاد

٥٩

وسكون الدال ، جمع صدقة كغرفة ، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة. (نِحْلَةً) أي عطية يقال نحلة كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ، ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو ، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة. وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلا منه عليهن فتكون حالا من الصدقات. وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له ، أو حال من الصدقات أي دينا من الله تعالى شرعه ، والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) الضمير للصداق حملا على المعنى أو مجري مجرى اسم الإشارة كقول رؤبة :

كأنّه في الجلد

توليع البهق

إذ سئل فقال : أردت كأن ذاك. وقيل للإيتاء ، ونفسا تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيب نفس ، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز ، وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فخذوه وأنفقوه حلالا بلا تبعة. والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص ، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالا من الضمير. وقيل الهنيء ما يلذه الإنسان ، والمريء ما تحمد عاقبته. روي : أن ناسا كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا مما ساق إليها. فنزلت.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(٥)

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) نهي للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها ، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم ، وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة. وقيل نهي لكل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله تعالى من المال فيعطي امرأته وأولاده ، ثم ينظر إلى أيديهم. وإنما سماهم سفهاء استخفافا بعقولهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم وهو أوفق لقوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) أي تقومون بها وتنتعشون ، وعلى الأول يؤول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياما سمي ما به القيام قياما للمبالغة. وقرأ نافع وابن عامر «قيما» بمعناه كعوذ بمعنى عياذ. وقرئ «قواما» وهو ما يقام به. (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) واجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) عدة جميلة تطيب بها نفوسهم ، والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل بالحسن ، والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)(٦)

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين ، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف ، بأن يكل إليه مقدمات العقد. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه. (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم ، أو يستكمل خمس عشرة سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة ، كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود». وثماني

٦٠