أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد ، فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر). وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)

(إِنَّ هذا) أي ما قص من نبأ عيسى ومريم. (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) بجملتها خبر إن ، أو هو فصل يفيد أن ما ذكره في شأن عيسى ومريم حق دون ما ذكروه ، وما بعده خبر واللام دخلت فيه لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) صرح فيه ب (مِنْ) المزيدة للاستغراق تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وعيد لهم ووضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد ، إفساد للدين والاعتقاد المؤدي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٦٤)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) يعم أهل الكتابين. وقيل يريد به وفد نجران ، أو يهود المدينة. (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) لا يختلف فيها الرسل والكتب ويفسرها ما بعدها. (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها. (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد. (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ولا نقول عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلّا منهم بعضنا بشر مثلنا روي أنه لما نزلت (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال «أليس يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال : هو ذاك». (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التوحيد. (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل.

(تنبيه) انظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين : أولا ، أحوال عيسى عليه الصلاة والسلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل ، وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٦٥)

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) تنازعت اليهود

٢١

والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وزعم كل فريق أنه منهم وترافعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. والمعنى أن اليهودية والنصرانية حدثتا بنزول التوراة والإنجيل على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وكان إبراهيم قبل موسى بألف سنة وعيسى بألفين فكيف يكون عليهما. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتدعون المحال.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٦٦)

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ها حرف تنبيه نبهوا بها على حالهم التي غفلوا عنها ، وأنتم مبتدأ و (هؤُلاءِ) خبره و (حاجَجْتُمْ) جملة أخرى مبينة للأولى. أي أنتم هؤلاء الحمقى وبيان حماقتكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم مما وجدتموه في التوراة والإنجيل عنادا ، أو تدعون وروده فيه فلم تجادلون فيما لا علم لكم به ولا ذكر له في كتابكم من دين إبراهيم. وقيل (هؤُلاءِ) بمعنى الذين و (حاجَجْتُمْ) صلته. وقيل ها أنتم أصله أأنتم على الاستفهام للتعجب من حماقتهم فقلبت الهمزة هاء. وقرأ نافع وأبو عمرو (ها أَنْتُمْ) حيث وقع بالمد من غير همز ، وورش أقل مدا ، وقنبل بالهمز من غير ألف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز ، والبزي بقصر المد على أصله. (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما حاججتم فيه. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأنتم جاهلون به.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(٦٨)

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) تصريح بمقتضى ما قرره من البرهان. (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن العقائد الزائغة. (مُسْلِماً) منقادا لله وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام وإلا لاشترك الإلزام. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأنهم مشركون لاشراكهم به عزيرا والمسيح ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه‌السلام.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) إن أخصهم به وأقربهم منه ، من الولي وهو القرب ، (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) من أمته. (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) لموافقتهم له في أكثر ما شرع لهم على الأصالة. وقرئ والنبي بالنصب عطفا على الهاء في اتبعوه ، وبالجر عطفا على إبراهيم. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم ويجازيهم الحسنى لإيمانهم.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٦٩)

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) نزلت في اليهود لما دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية و (لَوْ) بمعنى أن. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا عليهم إذ يضاعف به عذابهم ، أو ما يضلون إلا أمثالهم. (وَما يَشْعُرُونَ) وزره واختصاص ضرره بهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٧١)

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنها آيات الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق.

٢٢

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) بالتحريف وإبراز الباطل في صورته ، أو بالتقصير في التمييز بينهما. وقرئ «تلبّسون» بالتشديد و «تلبسون» بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كقوله عليه‌السلام «كلابس ثوبي زور» (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) نبوة محمد عليه‌السلام ونعته. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عالمين بما تكتمونه.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧٢)

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) أي أظهروا الإيمان بالقرآن أول النهار. (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) واكفروا به آخره لعلهم يشكون في دينهم ظنا بأنكم رجعتم لخلل ظهر لكم ، والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم وصلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون. وقيل اثنا عشر من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا عليه الصلاة والسلام بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٧٤)

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ولا تقروا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم ، أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أرجى وأهم. (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) هو يهدي من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه. (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) متعلق بمحذوف أي دبّرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد ، والمعنى أن الحسد حملكم على ذلك أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم ، ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراض يدل على أن كيدهم لا يجدي بطائل ، أو خبر إن على أن هدى الله بدل من الهدى. وقراءة ابن كثير (أَنْ يُؤْتى) على الاستفهام للتقريع ، تؤيد الوجه الأول أي إلا أن يؤتى أحد دبرتم. وقرئ «إن» على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على (أَنْ يُؤْتى) على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه : حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم عند ربكم ، والواو ضمير أحد لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم. (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) رد وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٥)

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر دينارا

٢٣

فجحده. وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة ، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وقرأ حمزة وأبو بكر وأبو عمرو (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) و (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) بإسكان الهاء وقالون باختلاس كسرة الهاء وكذا روي عن حفص والباقون بإشباع الكسرة. (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) إلا مدة دوامك قائما على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي والترافع وإقامة البينة. (ذلِكَ) إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله (لا يُؤَدِّهِ). (بِأَنَّهُمْ قالُوا) بسبب قولهم. (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب ، ولم يكونوا على ديننا ، عتاب وذم. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادعائهم ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون ، وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة. وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عند نزولها «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧٦)

(بَلى) إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل. (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) استئناف مقرر للجملة التي سدت (بَلى) مسدها ، والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى (مَنْ) ، وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٧)

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) يستبدلون. (بِعَهْدِ اللهِ) بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بالرسول والوفاء بالأمانات. (وَأَيْمانِهِمْ) وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه ، (ثَمَناً قَلِيلاً) متاع الدنيا. (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بما يسرهم أو بشيء أصلا ، وأن الملائكة يسألونهم يوم القيامة ، أو لا ينتفعون بكلمات الله وآياته ، والظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم لقوله : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه ، كما أن من اعتد بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثني عليهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ما فعلوه. قيل : إنها نزلت في أحبار حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة. وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به. وقيل : نزلت في ترافع كان بين الأشعث بن قيس ويهودي في بئر أو أرض وتوجه الحلف على اليهودي.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٧٨)

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) يعني المحرفين ككعب ومالك وحيي بن أخطب. (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف ، أو يعطفونها بشبه الكتاب. وقرئ «يلون» على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها. (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) الضمير للمحرف المدلول عليه بقوله (يَلْوُونَ). وقرئ «ليحسبوه» بالياء والضمير أيضا للمسلمين. (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) تأكيد لقوله : (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) وتشنيع عليهم وبيان لأنهم

٢٤

يزعمون ذلك تصريحا لا تعريضا ، أي ليس هو نازلا من عنده. وهذا لا يقتضي أن لا يكون فعل العبد فعل الله تعالى. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمد فيه.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)(٧٩)

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) تكذيب ورد على عبدة عيسى عليه‌السلام. وقيل (أن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا : يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا ، فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر بعبادة غير الله ، فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني) فنزلت. وقيل (قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك. قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله) (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل. (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له ، فإن فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب تعلمون بمعنى عالمين. وقرئ «تدرسون» من التدريس وتدرسون من أدرس بمعنى درس كأكرم وكرم ، ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على تقدير وبما كنتم تدرسونه على الناس.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٨٠)

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) نصبه ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب عطفا على ثم يقول ، وتكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله (ما كانَ) ، أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، أو غير مزيدة على معنى أنه ليس له أن يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أربابا ، بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة. ورفعه الباقون على الاستئناف ، ويحتمل الحال وقرأ أبو عمرو على أصله برواية الدوري باختلاس الضم. (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) إنكار ، والضمير فيه للبشر وقيل لله. (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) دليل على أن الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون لأن يسجدوا له.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(٨١)

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) قيل إنه على ظاهره ، وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى. وقيل معناه أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم. وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الفاعل ، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم. وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف ، وهم بنو إسرائيل ، أو سماهم نبيين تهكما لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا ، واللام في (لَما) موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية. وقرأ حمزة «لما» بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ، ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه ، أو موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له. وقرئ «لما» بمعنى حين

٢٥

آتيتكم ، أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالا. وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف جميعا. (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي عهدي ، سمي به لأنه يؤصر أي يشد. وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به. (قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا) أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. وقيل الخطاب فيه للملائكة. (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأنا أيضا على إقراركم وتشاهدكم شاهد ، وهو توكيد وتحذير عظيم.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣)

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) بعد الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة. (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) المتمردون من الكفرة.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار ، أو محذوف تقديره أتتولون فغير دين الله تبغون ، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب ، وبالتاء عند الباقين على تقدير وقل له. (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي طائعين بالنظر واتباع الحجة ، وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق ، والإشراف على الموت. أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون أن يمتنعوا عما قضى عليهم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) وقرئ بالياء على أن الضمير لمن.

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(٨٤)

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخبر عن نفسه ومتابعيه بالإيمان ، والقرآن كما هو منزل عليه منزل عليهم بتوسط تبليغه إليهم وأيضا المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم ، أو بأن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له ، والنزول كما يعدى بإلى لأنه ينتهي إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق ، وإنما قدم المنزل عليه‌السلام على المنزل على سائر الرسل لأنه المعرف له والعيار عليه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالتصديق والتكذيب. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون أو مخلصون في عبادته.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥)

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله. (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواقعين في الخسران ، والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها ، واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل. والجواب إنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره ، ولعل الدين أيضا للأعمال.

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٨٦)

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد. وقيل نفي وإنكار له وذلك

٢٦

يقتضي أن لا تقبل توبة المرتد ، (وَشَهِدُوا) عطف على ما في (إِيمانِهِمْ) من معنى الفعل ونظيره فأصدق وأكن ، أو حال بإضمار قد من كفروا وهو على الوجهين دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(٨٨)

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) يدل بمنطوقه على جواز لعنهم ، وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم. ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأسا بخلاف غيرهم ، والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.

(خالِدِينَ فِيها) في اللعنة ، أو العقوبة ، أو النار وإن لم يجز ذكرهما لدلالة الكلام عليهما. (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨٩)

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد الارتداد. (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا ، ويجوز أن لا يقدر له مفعول بمعنى ودخلوا في الصلاح. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يقبل توبته. (رَحِيمٌ) يتفضل عليه. قيل: إنها نزلت في الحارث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة ، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فرجع إلى المدينة فتاب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)(٩٠)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق ، أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره. (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأنهم لا يتوبون ، أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم تدخل الفاء فيه. (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الثابتون على الضلال.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٩١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء ها هنا للإشعار به ، وملء الشيء ما يملؤه. و (ذَهَباً) نصب على التمييز. وقرئ بالرفع على البدل من (مِلْءُ) أو الخبر لمحذوف. (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تقرب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة ، أو المراد ولو افتدى

٢٧

بمثله كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) والمثل يحذف ويراد كثيرا لأن المثلين في حكم شيء واحد (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مبالغة في التحذير وإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) في دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(٩٢)

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير ، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة. (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي من المال ، أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس ، والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله. روي (أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء فضعها حيث أراك الله ، فقال : بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة بن زيد فقال : زيد إنما أردت أن أتصدق بها فقال عليه‌السلام : إن الله قد قبلها منك) أو ذلك يدل على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل ، وأن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب. وقرئ «بعض ما تحبون» وهو يدل على أن من للتبعيض ويحتمل التبيين. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) أي من أي شيء محبوب أو غيره ومن لبيان ما. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بحسبه.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٩٣)

(كُلُّ الطَّعامِ) أي المطعومات والمراد أكلها. (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) حلالا لهم ، وهو مصدر نعت به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ). (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) يعقوب. (عَلى نَفْسِهِ) كلحوم الإبل وألبانها. وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه. وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء. واحتج به من جوز للنبي أن يجتهد ، وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا ، وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآيتين ، بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا ، وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول عليه‌السلام موافقة إبراهيم عليه‌السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها. (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرما. روي : أنه عليه‌السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة. وفيه دليل على نبوته.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٩٥)

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ابتدعه على الله بزعمه أنه حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد ما لزمتهم الحجة. (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم.

(قُلْ صَدَقَ اللهُ) تعريض بكذبهم ، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ

٢٨

حَنِيفاً) أي ملة الإسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم ، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية ، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإبراهيم ومن تبعه. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)(٩٦)

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) أي وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم ، والواضع هو الله تعالى. ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل. (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) للبيت الذي (بِبَكَّةَ) ، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط ، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم ، وقيل هي موضع المسجد. ومكة البلد من بكة إذا زحمه ، أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي (أنه عليه‌السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس. وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة). وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ، ثم العمالقة ، ثم قريش. وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان ، ثم بناه إبراهيم. وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة ، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظاهر الآية. وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان. (مُبارَكاً) كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله ، حال من المستكن في الظرف (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال :

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٩٧)

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها ، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل. والجملة مفسرة للهدى ، أو حال أخرى. (مَقامُ إِبْراهِيمَ) مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل. وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة. ويؤيده أنه قرئ «آية» بينة على التوحيد. وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه. (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة ابتدائية ، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله ، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله. اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما كقوله عليه‌السلام «حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة» لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة ، قال عليه‌السلام : «من مات في أحد الحرمين ، بعث يوم القيامة آمنا». وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجئ إلى الخروج. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قصده للزيارة على الوجه المخصوص. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص (حِجُ) بالكسر وهو لغة نجد. (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له ، وقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستطاعة «بالزاد والراحلة» وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال ، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه. وقال مالك رحمه‌الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق. وقال أبو حنيفةرحمه‌الله تعالى إنها

٢٩

بمجموع الأمرين. والضمير في إليه للبيت ، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وضع كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ، ولذلك قال عليه‌السلام «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر ، وإبرازه في الصورة الاسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس ، وتعميم الحكم أولا ثم تخصيصه ثانيا فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد ، وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة ، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله: (عَنِ الْعالَمِينَ) يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإشعار بعظم السخط ، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإقبال على الله. روي (أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى : كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر).

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٩)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره ، وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح ، لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما. (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم ، وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب ، وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام. قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم ما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه. (تَبْغُونَها عِوَجاً) حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجا بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجا عن الحق ، بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوهما ، أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) إنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال ، أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم ، ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ). ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال وما الله بغافل عما تعملون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ(١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٠١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون ، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح ، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقال «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم» فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح

٣٠

واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم ، وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم.

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره. (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقد اهتدى لا محالة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٠٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) حق تقواه وما يجب منها ، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى. وقيل هو : أن تنزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها. وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب ، وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤدة وتخمة والياء ألفا. (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ، فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي.

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(١٠٣)

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) بدين الإسلام ، أو بكتابه لقوله عليه‌السلام : «القرآن حبل الله المتين». استعار له الحبل من حيث إن التمسك به سبب للنجاة من الردى ، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز. (جَمِيعاً) مجتمعين عليه (وَلا تَفَرَّقُوا) أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب ، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الالفة. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل. (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) في الجاهلية متقابلين. (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام. (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) متحابين مجتمعين على الأخوة في الله. وقيل كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار. (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالإسلام ، والضمير للحفرة ، أو للنار ، أو للشفا. وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة ، وأصله شفو فقلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث. (كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) دلائله. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤)

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من للتبعيض ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولأنه لا يصلح له كل أحد إذ للمتصدي له شروط لا يشترط

٣١

فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها. خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأسا أثموا جميعا ولكن يسقط بفعل بعضهم ، وهكذا كل ما هو فرض كفاية. أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي ، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عطف الخاص على العام للإيذان بفضله. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المخصوصون بكمال الفلاح وروي أنه عليه‌السلام سئل من خير الناس فقال : «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم». والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به. والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام. والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠٥)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه. والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه‌السلام «اختلاف أمتي رحمة». ولقوله عليه الصلاة والسلام «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد». (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١٠٧)

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) نصب بما في لهم من معنى الفعل ، أو بإضمار اذكر. وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه. وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه ، وأهل الباطل بأضداد ذلك. (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، أو جميع الكفار كفروا بعد ما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات. (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أمر إهانة. (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم أو جزاء لكفركم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) يعني الجنة والثواب المخلد ، عبر عن ذلك بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله ، وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم. (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أخرجه مخرج الاستئناف للتأكيد كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقال هم فيها خالدون.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(١٠٩)

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) الواردة في وعده ووعيده (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) ملتبسة بالحق لا شبهة فيها. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه ، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله ، لأنه المالك على الإطلاق كما قال.

٣٢

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي كلا بما وعد له وأوعد.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)(١١٠)

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ ، أو فيما بين الأمم المتقدمين. (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي أظهرت لهم. (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) استئناف بين به كونهم (خَيْرَ أُمَّةٍ) ، أو خبر ثان لكنتم. (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ، لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به ، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه ، واستدل بهذه الآية على إن الإجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) إيمانا كما ينبغي (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه. (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه. (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) المتمردون في الكفر ، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سبيل الاستطراد.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(١١١)

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) ضررا يسيرا كطعن وتهديد. (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) ينهزموا ولا يضروكم بقتل وأسر. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم أو يدفع بأسكم عنهم ، نفي إضرارهم سوى ما يكون بقول وقرر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم ، ثم أخبر بأنه تكون عاقبتهم العجز والخذلان. وقرئ «لا ينصروا» عطفا على يولوا على أن ثم للتراخي في الرتبة فيكون عدم النصر مقيدا بقتالهم ، وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع إذ كان ذلك حال قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(١١٢)

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) هدر النفس والمال والأهل ، أو ذل التمسك بالباطل والجزية. (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) استثناء من أعم عام الأحوال أي ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا معتصمين ، أو ملتبسين بذمة الله أو كتابة الذي آتاهم وذمة المسلمين ، أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا به مستوجبين له (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله ، واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين. (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء. والتقييد بغير حق مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقا بحسب اعتقادهم أيضا. (ذلِكَ) أي الكفر والقتل. (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله ، فإن الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر. وقيل معناه أن ضرب الذلة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم

٣٣

واعتدائهم من حيث إنهم مخاطبون بالفروع أيضا.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(١١٣)

(لَيْسُوا سَواءً) في المساوي والضمير لأهل الكتاب. (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) استئناف لبيان نفي الاستواء ، والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام وهم الذين أسلموا منهم. (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يتلون القرآن في تهجدهم. عبّر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح. وقيل المراد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها لما روي (أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم).

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)(١١٥)

(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) صفات أخر لأمة وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود ، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين في الليل مشركون بالله ملحدون في صفاته ، واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته ، مداهنون في الاحتساب متباطئون عن الخيرات.

(وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الموصوفون بتلك الصفات ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه.

وما تفعلوا من خير فلن تكفروه فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة ، سمي ذلك كفرانا كما سمي توفية الثواب شكرا ، وتعديته إلى مفعولين لتضمنه معنى الحرمان ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) بالياء والباقون بالتاء. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل ، وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) من العذاب ، أو من الغناء فيكون مصدرا. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها. (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) ما ينفق الكفرة قربة ، أو مفاخرة وسمعة ، أو المنافقون رياء أو خوفا. (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) برد شديد والشائع إطلاقه للريح الباردة كالصرصر ، فهو في الأصل مصدر نعت به أو نعت وصف به البرد للمبالغة كقولك برد بارد. (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد ، والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة ، وهو من التشبيه المركب ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه للريح دون الحرث ، ويجوز أن يقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم لما لم ينفقوها بحيث يعتد بها ، أو ما ظلم أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ «ولكن» أي ولكن أنفسهم يظلمونها ، ولا يجوز أن يقدر ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في ضرورة الشعر كقوله:

٣٤

وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه

ولكنّ من يبصر جفونك يعشق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(١١٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) وليجة ، وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به ، شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال عليه الصلاة والسلام : «الأنصار شعار والناس دثار». (مِنْ دُونِكُمْ) من دون المسلمين ، وهو متعلق بلا تتخذوا ، أو بمحذوف هو صفة بطانة أي بطانة كائنة من دونكم. (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يقصرون لكم في الفساد ، والألو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع أو النقص. (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) تمنوا عنتكم ، وهو شدة الضرر والمشقة وما مصدرية. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي في كلامهم لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم. (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على وجوب الإخلاص وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ما بين لكم ، والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل ، ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات لبطانة.

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(١١٩)

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفار وتحبونهم ولا يحبونكم ، بيان لخطئهم في موالاتهم ، وهو خبر ثان أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك : أنت زيد تحبه ، أو صلته أو حال والعامل فيها معنى الإشارة ، ويجوز أن ينصب أولاء بفعل مضمر يفسره ما بعده وتكون الجملة خبرا. (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) بجنس الكتاب كله ، وهو حال من لا يحبونكم والمعنى : إنهم لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضا فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا وتغريرا (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) من أجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا. (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق ، وهو يحتمل أن يكون من المقول أي وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا ، وأن يكون خارجا عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(١٢٠)

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة ، وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة ، والمس مستعار للإصابة (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم ، أو على مشاق التكاليف. (وَتَتَّقُوا) موالاتهم ، أو ما حرم الله جل جلاله عليكم. (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) بفضل الله عزوجل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المحدّ في الأمر ، المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريئا على الخصم ، وضمه الراء للاتباع كضمة مد. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (لا يَضُرُّكُمْ) من ضاره يضيره. (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الصبر والتقوى وغيرهما. (مُحِيطٌ) أي محيط

٣٥

علمه فيجازيكم مما أنتم أهله. وقرئ بالياء أي (بِما يَعْمَلُونَ) ، في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٢١)

(وَإِذْ غَدَوْتَ) أي واذكر إذ غدوت. (مِنْ أَهْلِكَ) أي من حجرة عائشة رضي الله عنها. (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) تنزلهم. أو تسوي وتهيئ لهم ويؤيده القراءة باللام. (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) مواقف وأماكن له ، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) وقوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ). (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم. (عَلِيمٌ) بنياتكم روي (أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء. ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة. فاستشار الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه ، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام : «رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فقال رجال فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا. وبالغوا حتى دخل ولبس لامته ، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال «لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل». فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أحد يوم السبت ، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم ، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال : انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا).

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٢٢)

(إِذْ هَمَّتْ) متعلق بقوله : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أو بدل من إذ غدوت. (طائِفَتانِ مِنْكُمْ) بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر. (أَنْ تَفْشَلا) أن تجبنا وتضعفا. روي (أنه عليه الصلاة والسلام خرج في زهاء ألف رجل ووعد لهم النصر إن صبروا ، فلما بلغوا الشوط انخذل ابن أبي في ثلاثمائة رجل وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله والإسلام في نبيكم وأنفسكم. فقال : ابن أبي لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم). والظاهر أنها ما كانت عزيمة لقوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي عاصمهما من اتباع تلك الخطرة ، ويجوز أن يراد والله ناصرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليتوكلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره لينصرهم كما نصرهم ببدر.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)(١٢٤)

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) تذكير ببعض ما أفادهم التوكل. وبدر ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدرا فسمي به. (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) حال من الضمير ، وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل تنبيها على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح. (فَاتَّقُوا اللهَ) في الثياب. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصره ، أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون ، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سببه.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف لنصركم. وقيل بدل ثان من إذ غدوت على أن قوله لهم يوم أحد وكان مع

٣٦

اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ، فلما لم يصبروا عن الغنائم وخالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تنزل الملائكة. (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) إنكار أن لا يكفيهم ، ذلك وإنما جيء بلن إشعارا بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم. قيل أمدهم الله يوم بدر أولا بألف من الملائكة ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف. وقرأ ابن عامر (مُنْزَلِينَ) بالتشديد للتكثير أو للتدريج.

(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(١٢٥)

(بَلى) إيجاب لما بعد لن ، أي بلى يكفيكم. ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثا عليهما وتقوية لقلوبهم فقال : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) أي المشركون. (مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) من ساعتهم هذه ، وهو في الأصل مصدر من فارت القدر إذ غلت ، فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي ، والمعنى إن يأتوكم في الحال. (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) في حال إتيانهم بلا تراخ ولا تأخير. (مُسَوِّمِينَ) معلمين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء لقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه. «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت». أو مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)(١٢٧)

(وَما جَعَلَهُ اللهُ) وما جعل إمدادكم بالملائكة. (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) إلا بشارة لكم بالنصر. (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) ولتسكن إليه من الخوف. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من العدة والعدد ، وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد وإنما أمدهم ووعد لهم به بشارة لهم وربطا على قلوبهم ، من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر ، وحثا على أن لا يبالوا بمن تأخر عنهم. (الْعَزِيزِ) الذي لا يغالب في أقضيته. (الْحَكِيمِ) الذي ينصر ويخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق بنصركم ، أو (وَمَا النَّصْرُ) إن كان اللام فيه للعهد ، والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين ، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم. (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أو يخزيهم ، والكبت شدة الغيظ ، أو وهن يقع في القلب ، وأو للتنويع دون الترديد (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) فينهزموا منقطعي الآمال.

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)(١٢٨)

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض. (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على قوله أو يكبتهم ، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء ، وإنما أنت عبد مأمور لإنذارهم وجهادهم. ويحتمل أن يكون معطوفا على الأمر أو شيء بإضمار أن ، أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء. أو ليس لك من أمرهم شيء ، أو التوبة عليهم أو تعذيبهم. وأن تكون أو بمعنى إلا أن. أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتتشفى منهم. روي (أن عتبة بن أبي وقاص شجه يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم) فنزلت. وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه

٣٧

الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن. (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) قد استحقوا التعذيب بظلمهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٣٠)

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا فله الأمر كله لا لك. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) صريح في نفي وجوب التعذيب ، والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لعباده فلا تبادر إلى الدعاء عليهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) لا تزيدوا زيادات مكررة ، ولعل التخصيص بحسب الواقع. إذ كان الرجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «مضعفة». (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما نهيتم عنه. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين الفلاح.

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢)

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم ، وفيه تنبيه على أن النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أتبع الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة ، ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل عزة التوصل إلى ما جعل خبرا له.

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١٣٤)

(وَسارِعُوا) بادروا وأقبلوا. (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى ما يستحق به المغفرة ، كالإسلام والتوبة والإخلاص. وقرأ نافع وابن عامر (سارِعُوا) بلا واو. (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي عرضها كعرضهما ، وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريقة التمثيل ، لأنه دون الطول. وعن ابن عباس كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض ، (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) هيئت لهم ، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإنها خارجة عن هذا العالم.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) صفة مادحة للمتقين ، أو مدح منصوب أو مرفوع. (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في حالتي الرخاء والشدة ، أو الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة ، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير ، (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة ، من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام «إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله» وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء ، والعهد فتكون الإشارة إليهم.

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١٣٥)

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) فعلة بالغة في القبح كالزنى. (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك. (ذَكَرُوا

٣٨

اللهَ) تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم. (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) بالندم والتوبة. (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين ، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة». (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(١٣٦)

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) خبر للذين إن ابتدأت به ، وجملة مستأنفة مبينة لما قبلها إن عطفته على المتقين ، أو على الذين ينفقون. ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم إن لا يدخلها المصرون ، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم ، وتنكير جنات على الأول يدل على أن ما هم أدون مما للمتقين الموصوفين بتلك الصفات المذكورة في الآية المتقدمة ، وكفاك فارقا بين القبيلين أنه فصل آيتهم بأن بين أنهم محسنون مستوجبون لمحبة الله ، وذلك لأنهم حافظوا على حدود الشرع وتخطوا إلى التخصص بمكارمه ، وفصل آية هؤلاء بقوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) لأن المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل بعض ما فوت على نفسه ، وكم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير ، ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(١٣٨)

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) وقائع سنها الله في الأمم المكذبة كقوله تعالى : (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) وقيل أمم قال :

ما عاين النّاس من فضل كفضلكمو

ولا رأوا مثله في سالف السّنن

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم.

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) إشارة إلى قوله (قَدْ خَلَتْ) ، أو مفهوم قوله (فَانْظُروا) أي أنه مع كونه بيانا للمكذبين فهو زيادة بصيرة وموعظة للمتقين ، أو إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين ، وقوله قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان والتوبة وقيل إلى القرآن.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣٩)

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) تسلية لهم عما أصابهم يوم أحد ، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم ولا تحزنوا على من قتل منكم. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وحالكم إنكم أعلى منهم شأنا ، فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة ، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار ، أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم ، أو وأنتم الأعلون في العاقبة فيكون بشارة لهم بالنصر والغلبة. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالنهي أي لا تهنوا إن صح إيمانكم ، فإنه يقتضي قوة القلب بالوثوق على الله أو بالأعلون.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ

٣٩

الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(١٤٠)

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف ، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها ، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله ، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا ، فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون. وقيل كلا المسّين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله :

فيوما علينا ويوما لنا

ويوم نساء ويوم نسرّ

والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه ، والأيام تحتمل الوصف والخبر و (نُداوِلُها) يحتمل الخبر والحال والمراد بها : أوقات النصر والغلبة. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت وليعلم الله إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة ، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم ، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك ، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان. وقيل معناه ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) ويكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد ، أو يتخذ منكم شهودا معدلين بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يضمرون خلاف ما يظهرون ، أو الكافرين وهو اعتراض ، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين.

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(١٤٢)

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم. (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ويهلكهم إن كانت عليهم ، والمحق نقص الشيء قليلا قليلا.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) بل أحسبتم ومعناه الإنكار. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) ولما تجاهدوا ، وفيه دليل على أن الجهاد فرض كفاية والفرق بين (لَمَّا) ولم إن فيه توقع الفعل فيما يستقبل. وقرئ «يعلم» بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع. وقرئ بالرفع على أن الواو للحال كأنه قال : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(١٤٣)

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي الحرب فإنها من أسباب الموت ، أو الموت بالشهادة. والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهدا لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته. (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فقد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم ، وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها ، أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(١٤٤)

٤٠