أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) تدب على وجهها. (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) في الهواء ، وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها. وقرئ «ولا طائر» بالرفع على المحل. (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها ، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية. وجمع الأمم للحمل على المعنى. (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) يعني اللوح المحفوظ ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد. أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا ، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به ، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب. وقرئ «ما فرطنا» بالتخفيف. (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي : أنه يأخذ للجماء من القرناء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حشرها موتها.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣٩)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌ) لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم. (وَبُكْمٌ) لا ينطقون بالحق. (فِي الظُّلُماتِ) خبر ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر ، أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد ، ويجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) من يشأ الله إضلاله يضلله ، وهو دليل واضح لنا على المعتزلة. (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)(٤١)

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) استفهام تعجيب ، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب لأنك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولا كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل ، وللزم في الآية أن يقال : أرأيتموكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره : أرأيتكم آلهتكم تنفعكم. إذ تدعونها. وقرأ نافع أرأيتكم وأ رأيت وأرأيتم وأ فرأيتم وأ فرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء ، والكسائي يحذفها أصلا والباقون يحققونها وحمزة إذا وقف وافق نافعا. (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) كما أتى من قبلكم. (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) وهو لها ويدل عليه. (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) وهو تبكيت لهم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه.

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) بل تخصونه بالدعاء كما حكى عنهم في مواضع ، وتقديم المفعول لإفادة التخصيص. (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي ما تدعونه إلى كشفه. (إِنْ شاءَ) أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة. (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره ، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤٣)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي قبلك ، ومن زائدة. (فَأَخَذْناهُمْ) أي فكفروا وكذبوا المرسلين

١٦١

فأخذناهم. (بِالْبَأْساءِ) بالشدة والفقر. (وَالضَّرَّاءِ) والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا. (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه : لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٥)

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) من البأساء والضراء ولم يتعظوا به. (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء ، وامتحانا لهم بالشدة والرخاء إلزاما للحجة وإزاحة للعلة ، أو مكرا بهم لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «مكر بالقوم ورب الكعبة». وقرأ ابن عامر «فتحنا» بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في «الأعراف». (حَتَّى إِذا فَرِحُوا) أعجبوا (بِما أُوتُوا) من النعم ولم يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى. (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) متحسرون آيسون.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبرا ودبورا إذا تبعه.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم ، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)(٤٧)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أصمكم وأعماكم. (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي بذلك ، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون عنها ، وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) من غير مقدمة. (أَوْ جَهْرَةً) بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. وقيل ليلا أو نهارا. وقرئ (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً). (هَلْ يُهْلَكُ) أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب. (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه ، وقرئ «يهلك» بفتح الياء.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٤٩)

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) المؤمنين بالجنة. (وَمُنْذِرِينَ) الكافرين بالنار ، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم. (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات الثواب.

١٦٢

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم ، واستغنى بتعريفه عن التوصيف. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٥١)

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) مقدوراته أو خزائن رزقه. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي من جنس الملائكة ، أو أقدر على ما يقدرون عليه. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية ، وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر ردا لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثل للضال والمهتدي ، أو الجاهل والعالم ، أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة. (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل ، أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه.

(وَأَنْذِرْ بِهِ) الضمير لما يوحى إلي. (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) هم المؤمنون المفرطون في العمل ، أو المجوزون للحشر مؤمنا كان أو كافرا مقرا به أو مترددا فيه ، فإن الإنذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته. (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) في موضع الحال من يحشروا فإن المخوّف هو الحشر على هذه الحالة. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لكي يتقوا.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٥٢)

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش. روي أنهم قالوا : لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان. جلسنا إليك وحادثناك فقال : «ما أنا بطارد المؤمنين» ، قالوا : فأقمهم عنا إذا جئناك قال «نعم». وروي أن عمر رضي الله عنه قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت. والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، وقيل صلاتا الصبح والعصر. وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) حال من يدعون ، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر. ورتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم. (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا ، أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم. وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم. وقيل الضمير للمشركين والمعنى : لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه. (فَتَطْرُدَهُمْ) فتبعدهم وهو جواب النفي (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)(٥٣)

١٦٣

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ومثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا. (فَتَنَّا) أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان. (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء. وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ). واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٤)

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة ، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم ، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ، ويعز ولا يذل ، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة. وقيل إن قوما جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا فنزلت. (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) استئناف بتفسير الرحمة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها. (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال أي من عمل ذنبا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد ، كعمر فيما أشار إليه ، أو ملتبسا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل. (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) بعد العمل أو السوء. (وَأَصْلَحَ) بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه. (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(٥٥)

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التفصيل الواضح. (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين. وليستبين سبيل المجرمين قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل ، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم ، والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث ، ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(٥٦)

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد. (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) عن عبادة ما تعبدون من دون الله ، أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها. (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم ، وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس بهدى ، وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم ، وفيه تعريض بأنهم كذلك.

١٦٤

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)(٥٨)

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه. والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي ، أو الحجج العقلية أو ما يعمها. (مِنْ رَبِّي) من معرفته وأنه لا معبود سواه ، ويجوز أن يكون صفة لبينة. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره ، أو للبينة باعتبار المعنى. (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في تعجيل العذاب وتأخيره. (يَقْضِي بِالْحَقِ) أي القضاء الحق ، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها ، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر ، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم (يَقُصُ) من قص الأثر ، أو من قص الخبر. (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) القاضين.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي في قدرتي ومكنتي. (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب. (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي ، وانقطع ما بيني وبينكم. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) في معنى الاستدراك كأنه قال : ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٥٩)

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) خزائنه جمع مفتح بفتح الميم ، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ، ويؤيده أنه قرئ «مفاتيح» والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها. (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات. (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) معطوفات على ورقة وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى ، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٦٠)

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ينيمكم فيه ويراقبكم ، استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه. (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) يوقظكم أطلق البعث ترشيحا للتوفي (فِيهِ) في النهار. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالموت. (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه. وقيل الآية خطاب للكفرة ، والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار ، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن

١٦٥

ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ، ثم إليه مرجعكم بالحساب ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)(٦٢)

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ملائكة تحفظ أعملكم ، وهم الكرام الكاتبون ، والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي ، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه. (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ملك الموت وأعوانه. وقرأ حمزة «توفاه» بالألف ممالة. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) بالتواني والتأخير. وقرئ بالتخفيف ، والمعنى : لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) إلى حكمه وجزائه. (مَوْلاهُمُ) الذي يتولى أمرهم. (الْحَقِ) العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح. (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ لا حكم لغيره فيه. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)(٦٤)

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من شدائدهما ، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب ، أو من الخسف في البر والغرق في البحر. وقرأ يعقوب (يُنَجِّيكُمْ) بالتخفيف والمعنى واحد. (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) معلنين ومسرين ، أو إعلانا وإسرارا وقرأ أبو بكر هنا وفي «الأعراف» (وَخُفْيَةً) بالكسر وقرئ «خيفة». (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا. وقرأ الكوفيون «لئن أنجانا» ليوافق قوله (تَدْعُونَهُ) وهذه إشارة إلى الظلمة.

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) شدده الكوفيون وهشام وخففه الباقون. (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) غم سواها. (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد ، وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيها على أن من أشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى فكأنه لم يعبده رأسا.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(٦٦)

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما أغرق فرعون ، وخسف بقارون. وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم. (شِيَعاً) فرقا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم قال :

وكتيبة لبستها بكتيبة

حتّى إذا التبست نفضت لها يدي

(وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) يقاتل بعضكم بعضا. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) بالوعد والوعيد.

(لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

١٦٦

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أي بالعذاب أو بالقرآن. (وَهُوَ الْحَقُ) الواقع لا محالة أو الصدق. (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب ، أو أجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٦٨)

(لِكُلِّ نَبَإٍ) خبر يريد به إما بالعذاب أو الإيعاد به. (مُسْتَقَرٌّ) وقت استقرار ووقوع. (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند وقوعه في الدنيا والآخرة.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تجالسهم وقم عنهم. (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي. وقرأ ابن عامر (يُنْسِيَنَّكَ) بالتشديد. (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) بعد أن تذكره. (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي معهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٦٩)

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم. (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) شيء مما يحاسبون عليه. (وَلكِنْ ذِكْرى) ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع على ولكن عليهم ذكرى ، ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإثبات. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم ، ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى : لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم. روي : أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، ونطوف ، فنزلت.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا وآجلا ، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعبا ولهوا حيث سخروا به ، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب. والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ، ويجوز أن يكون تهديدا لهم كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ومن جعله منسوخا بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنها وترك التعرض لهم (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) حتى أنكروا البعث. (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن. (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها. وأصل الإبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه ، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) يدفع عنها العذاب. (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية. (لا يُؤْخَذْ مِنْها) الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) فإنه المفدى به. (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما

١٦٧

كَسَبُوا) أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) تأكيد وتفصيل لذلك ، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٧١)

(قُلْ أَنَدْعُوا) أنعبد (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) ما لا يقدر على نفعنا وضرنا. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) ونرجع إلى الشرك (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام. (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة ، استفعال من هوى يهوي هويّا إذا ذهب. وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل (نُرَدُّ) أي : مشبهين الذي استهوته ، أو على المصدر أي ردا مثل رد الذي استهوته. (فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) متحيرا ضالا عن الطريق. (لَهُ أَصْحابٌ) لهذا المستهوى رفقة. (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) إلى أن يهدوه الطريق المستقيم ، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. (ائْتِنا) يقولون له ائتنا. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام. (هُوَ الْهُدى) وحده وما عداه ضلال. (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) من جملة المقول عطف على أن هدى الله ، واللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم. وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٧٢)

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة ، أو على موقعه كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا الصلاة. روي : أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان ، فنزلت. وعلى هذا كان أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله تعالى عنه تعظيما لشأنه وإظهارا للاتحاد الذي كان بينهما. (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يوم القيامة.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(٧٣)

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) قائما بالحق والحكمة. (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول ، كقولك : القتال يوم الجمعة ، والمعنى أنه الخالق للسموات والأرضين ، وقوله الحق نافذ في الكائنات. وقيل يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في واتقوه ، أو بمحذوف دل عليه بالحق. وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون ، والمراد به حين يكوّن الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها. (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) كقوله سبحانه وتعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو عالم الغيب. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) كالفذلكة للآية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(٧٥)

١٦٨

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) هو عطف بيان لأبيه ، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب ، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج ، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الأزر أو الوزر ، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته ، أو أطلق عليه بحذف المضاف. وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) تفسيرا وتقريرا. ويدل عليه أنه قرئ «أزرا» ، تتخذ أصناما بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم. وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم. (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ) عن الحق. (مُبِينٍ) ظاهر الضلالة.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) ومثل هذا التبصير نبصره ، وهو حكاية حال ماضية. وقرئ : «ترى» بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية. (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ربوبيتها وملكها. وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة. (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي ليستدل وليكون ، أو وفعلنا ذلك ليكون.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(٧٧)

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) تفصيل وبيان لذلك. وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال ، وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله : (هذا رَبِّي) على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد ، أو على وجه النظر والاستدلال ، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه. (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غاب. (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية.

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) مبتدئا في الطلوع. (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق ، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادا لقومه وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للألوهية ، وأن من اتخذه إلها فهو ضال.

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٧٩)

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث. (هذا أَكْبَرُ) كبره استدلالا أو إظهارا لشبهة الخصم. (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تختص به ، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإنما احتج بالأفوال دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال لتعدد دلالته ، ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً

١٦٩

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٨١)

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) وخاصموه في التوحيد. (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) في وحدانيته سبحانه وتعالى. وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون. (وَقَدْ هَدانِ) إلى توحيده. (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أن يصيبني بمكروه من جهتها ، ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كأنه علة الاستثناء ، أي أحاط به علما فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز.

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) ولا يتعلق به ضر. (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع ، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع. (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) ما لم ينزل بإشراكه كتابا ، أو لم ينصب عليه دليلا. (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أي الموحدون أو المشركون ، وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازا من تزكية نفسه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما يحق أن يخاف منه.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(٨٢)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه ، والمراد بالظلم ها هنا الشّرك لما روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام «ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)» وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به. وقيل المعصية.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣)

(وَتِلْكَ) إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أو من قوله : (أَتُحاجُّونِّي) إليه. (حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أرشدناه إليها أو علمناه إياها. (عَلى قَوْمِهِ) متعلق ب (حُجَّتُنا) إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي : آتيناها إبراهيم حجة على قومه. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) في العلم والحكمة. وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في رفعه وخفضه. (عَلِيمٌ) بحال من يرفعه واستعداده له.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٨٥)

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) أي كلا منهما. (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) من قبل إبراهيم ، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه. وقيل لنوح عليه‌السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم ، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على

١٧٠

نوحا (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ) أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق. (وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم.

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت. (وَإِلْياسَ) قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى. وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى. (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي.

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) ومِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٨٧)

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) هو اليسع بن أخطوب. وقرأ حمزة والكسائي والليسع وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

(وَيُونُسَ) هو يونس بن متى. (وَلُوطاً) هو ابن هاران أخي إبراهيم. (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) بالنبوة ، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق.

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) عطف على (كُلًّا) أو (نُوحاً) أي فضلنا كلا منهم ، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا. (وَاجْتَبَيْناهُمْ) عطف على (فَضَّلْنا) أو (هَدَيْنا وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تكرير لبيان ما هدوا إليه.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)(٨٩)

(ذلِكَ هُدَى اللهِ) إشارة إلى ما دانوا به. (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية. (وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم. (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد به الجنس. (وَالْحُكْمَ) الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق. (وَالنُّبُوَّةَ) والرسالة. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بهذه الثلاثة. (هؤُلاءِ) يعني قريشا. (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي بمراعاتها. (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم. وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كل من آمن به أو الفرس. وقيل الملائكة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)(٩٠)

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم. (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها ، فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعا. فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله ، والهاء في (اقْتَدِهْ) للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف ، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن

١٧١

عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على التبليغ أو القرآن. (أَجْراً) جعلا من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين ، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. (إِنْ هُوَ) أي التبليغ أو القرآن أو الغرض. (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) إلا تذكيرا وموعظة لهم.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(٩١)

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد. (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة ، والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم ، وإلزامهم بقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) وقراءة الجمهور (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملا على قالوا وما قدروا ، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه. وروي (أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال : نعم إن الله يبغض الحبر السمين ، قال عليه الصلاة والسلام : فأنت الحبر السمين)

وقيل هم المشركون وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ)(وَعُلِّمْتُمْ) على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وقيل الخطاب لمن آمن من قريش (قُلِ اللهُ) أي أنزله الله ، أو الله أنزله. أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره ، وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب. (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ) في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة. (يَلْعَبُونَ) حال من هم الأول ، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله ، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٩٢)

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) كثير الفائدة والنفع. (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني التوراة أو الكتب التي قبله. (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه ، وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأنا.

وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء أي ولينذر الكتاب. (وَمَنْ حَوْلَها) أهل الشرق والغرب. (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب ، والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ

١٧٢

اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)(٩٣)

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فزعم أنه بعثه نبيا كمسيلمة والأسود العنسي ، أو اختلق عليه أحكاما كعمرو بن لحي ومتابعيه. (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كعبد الله بن سعد بن أبي سرح (كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) فلما بلغ قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) قال عبد الله (فتبارك الله أحسن الخالقين) تعجبا من تفصيل خلق الإنسان فقال عليه الصلاة والسلام : اكتبها فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال). (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين. (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) شدائده من غمره الماء إذا غشيه. (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) يقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أو بالعذاب. (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظا وتعنيفا عليهم ، أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا. (الْيَوْمَ) يريدون وقت الإماتة ، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له. (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة ، فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه. (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذبا. (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٩٤)

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) للحساب والجزاء. (فُرادى) منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم ، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى. وقرئ «فراد» كرخال و «فراد» كثلاث و «فردي» كسكرى. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها ، أو حال من الضمير في (فُرادى) أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما ، أو صفة مصدر (جِئْتُمُونا) أي مجيئنا كما خلقناكم. (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة. (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) ما قدمتم منه شيئا ولم تحتملوا نقيرا. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم. (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم ، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل. وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أو أقيم مقام موصوفه وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به. (وَضَلَّ عَنْكُمْ) ضاع وبطل. (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(٩٥)

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بالنبات والشجر. وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة. (يُخْرِجُ الْحَيَ) يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله. (مِنَ الْمَيِّتِ) مما لا ينمو كالنطف والحب. (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) ومخرج ذلك من الحيوان والنبات ، ذكره بلفظ الاسم حملا على فالق الحب فإن

١٧٣

قوله : يخرج الحي واقع موقع البيان له. (ذلِكُمُ اللهُ) أي ذلكم المحيي المميت هو الذي يحق له العبادة. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عنه إلى غيره.

(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٩٦)

(فالِقُ الْإِصْباحِ) شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار ، أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح. وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ «فالق الإصباح» بالنصب على المدح. (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناسا به ، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به ، فإن في معنى الماضي. ويدل عليه قراءة الكوفيين (وَجَعَلَ اللَّيْلَ) حملا على معنى المعطوف عليه ، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به ، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطفا على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدرا. وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان. (حُسْباناً) أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان ، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب. وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان. (ذلِكَ) إشارة إلى جعلهما حسبانا أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم. (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص. (الْعَلِيمِ) بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)(٩٨)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) خلقها لكم. (لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في ظلمات الليل في البر والبحر ، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة ، وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) بيناها فصلا فصلا. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون به. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم عليه الصلاة والسلام. (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي فلكم استقرار في الأصلاب ، أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام ، أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع ، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر ، ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٩٩)

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) من السحاب أو من جانب السماء. (فَأَخْرَجْنا) على تلوين الخطاب. (بِهِ) بالماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) نبت كل صنف من النبات والمعنى : إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).

١٧٤

(فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) من النبات أو الماء. (خَضِراً) شيئا أخضر يقال أخضر كأعور وعور ، وهو الخارج من الحبة المتشعب. (نُخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر. (حَبًّا مُتَراكِباً) وهو السنبل. (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) أي وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ، أو من النخل شيء من طلعها قنوان ، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو. وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع. (دانِيَةٌ) قريبة من المتناول ، أو ملتفة قريب بعضها من بعض ، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها. (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) عطف على نبات كل شيء. وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات ، ولا يجوز عطفه على (قِنْوانٌ) إذ العنب لا يخرج من النخل. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أيضا عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم. (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) حال من الرمان ، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم. (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) أي ثمر كل واحد من ذلك. وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم ، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب ، أو ثمار ككتاب وكتب. (إِذا أَثْمَرَ) إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به. (وَيَنْعِهِ) وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة ، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت. وقيل جمع يانع كتاجر وتجر. وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعة. (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده ، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ، ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده ، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)(١٠٠)

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله. وسماهم جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم ، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى ، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع ، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية. ومفعولا (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) والجن بدل من (شُرَكاءَ) أو (شُرَكاءَ) الجن و (لِلَّهِ) متعلق ب (شُرَكاءَ) ، أو حال منه وقرئ (الْجِنَ) بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل الجن ، و (الْجِنَ) بالجر على الإضافة للتبيين. (وَخَلَقَهُمْ) حال بتقدير قد ، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق. وقرئ (وَخَلَقَهُمْ) عطفا على (الْجِنَ) أي وما يخلقونه من الأصنام ، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه. (وَخَرَقُوا لَهُ) افتعلوا وافتروا له. وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير. وقرئ «وحرفوا» أي وزوّروا. (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالت العرب الملائكة بنات الله. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا ، وهو في موضع الحال من الواو ، أو المصدر أي خرقا بغير علم. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) وهو أن له شريكا أو ولدا.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٠١)

١٧٥

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، أو إلى الظرف كقولهم : ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما ، وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه ، ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي من أين أو كيف يكون له ولد. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) يكون منها الولد. وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير الله أو ضمير الشأن. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا تخفى عليه خافية ، وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول ، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : (الأول) أنه من مبدعاته السموات والأرضون ، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها ، أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد. (والثاني) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة. (والثالث) أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين : الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه. والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٠٣)

(ذلِكُمُ) إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ. (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة والبعض خبرا. (فَاعْبُدُوهُ) حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها.

(لا تُدْرِكُهُ) أي لا تحيط به. (الْأَبْصارُ) جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف ، إذ ليس الإدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاما في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص ، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع. (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) يحيط علمه بها. (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(١٠٥)

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن ، سميت بها الدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به. (فَمَنْ أَبْصَرَ) أي أبصر الحق وآمن به. (فَلِنَفْسِهِ) أبصر لأن نفسه لها. (وَمَنْ عَمِيَ) عن الحق وضل. (فَعَلَيْها) وباله. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها ، وهذا كلام ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام.(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) ومثل ذلك التصريف نصرف ، وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف ، وهو نقل الشيء من حال إلى حال. (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي وليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة ، والدرس القراءة والتعليم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم ، وابن عامر ويعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين. وقرئ «درست» بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت ، أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة ، ودرسن أي عفون ودرس

١٧٦

أي درس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودراسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). (وَلِنُبَيِّنَهُ) اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى ، أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو للمصدر. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون به.

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(١٠٧)

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بالتدين به. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض أكد به إيجاب الاتباع ، أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفردا في الألوهية. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم ، ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعم الكف عنهم.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ) توحيدهم وعدم إشراكهم. (ما أَشْرَكُوا) وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع. (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) رقيبا. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) تقوم بأمورهم.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٠٨)

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح.(فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) تجاوزا عن الحق إلى الباطل. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به. وقرأ يعقوب (عَدْواً) يقال عدا فلان عدوّا وعدوا وعداء وعدوانا. روي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك ، فنزلت. وقيل كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله سبحانه وتعالى ، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر. (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم ، والمشبه به تزيين سب الله لهم. (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بالمحاسبة والمجازات عليه.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١٠)

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مصدر في موقع الحال ، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها. (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من مقترحاتهم. (لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي. (وَما يُشْعِرُكُمْ) وما يدريكم استفهام إنكار. (أَنَّها) أي أن الآية المقترحة. (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون ، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب ، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب إنها بالكسر كأنه قال : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعا في إيمانهم ، فنزلت. وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر وحمزة «لا تؤمنون»

١٧٧

بالتاء وقرئ «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم» فيكون إنكارا لهم على حلفهم أي : وما يشعرهم أن قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) عطف على لا يؤمنون أي : وما يشعركم أنّا حينئذ نقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها. (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بما أنزل من الآيات. (أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين. وقرئ. «ويقلّب» و «يذرهم» على الغيبة ، و «تقلب» على البناء للمفعول والإسناد إلى الأفئدة.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)(١١١)

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به وأنذروا به ، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر ، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه. (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لما سبق عليهم القضاء بالكفر. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(١١٣)

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي كما جعلنا لك عدوا جعلنا لكل نبي سبقك عدوا ، وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه. (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) مردة الفريقين ، وهو بدل من عدوا ، أو أول مفعولي (جَعَلْنا) و (عَدُوًّا) مفعوله الثاني ، ولكل متعلق به أو حال منه. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، أو بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض. (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) الأباطيل المموهة منه من زخرفه إذا زينه. (غُرُوراً) مفعول له أو مصدر في موقع الحال. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) إيمانهم. (ما فَعَلُوهُ) أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايحاء الزخارف ، ويجوز أن يكون الضمير للايحاء أو الزخرف أو الغرور ، وهو أيضا دليل على المعتزلة. (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) وكفرهم.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) عطف على (غُرُوراً) إن جعل علة ، أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا). والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا : اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر ، والصغو : الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه. (وَلِيَرْضَوْهُ) لأنفسهم. (وَلِيَقْتَرِفُوا) وليكتسبوا. (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من الآثام.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ

١٧٨

أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(١١٤)

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) على إرادة القول أي : قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل ، و «غير» مفعول (أَبْتَغِي) و (حَكَماً) حال منه ويحتمل عكسه ، و (حَكَماً) أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل. (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) القرآن المعجز. (مُفَصَّلاً) مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس. وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) تأييد لدلالة الإعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى ، يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم ، وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل. وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم (مُنَزَّلٌ) بالتشديد. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في أنهم يعلمون ذلك ، أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به ، فيكون من باب التهييج كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أو خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخطاب الأمة. وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥)

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده. (صِدْقاً) في الأخبار والمواعيد. (وَعَدْلاً) في الأقضية والأحكام ونصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له. (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل ، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن ، فيكون ضمانا لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها. وقرأ الكوفيون ويعقوب (كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي ما تكلم به أو القرآن. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون. (الْعَلِيمُ) بما يضمرون فلا يهملهم.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(١١٦)

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي أكثر الناس يريد الكفار ، أو الجهال أو أتباع الهوى. وقيل الأرض أرض مكة. (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصل إليه ، فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق ، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه ، وتحليل الميتة وتحريم البحائر ، أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١١٧)

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي أعلم بالفريقين ، و (مَنْ) موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك ، أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر «يضل» والجملة معلق عنها الفعل المقدر. وقرئ «من يضل» أي يضله الله ، فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي : أعلم المضلين من قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ)

١٧٩

أو من أضللته إذا وجدته ضالا ، والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)(١١٩)

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام ، والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه. (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه. (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) مما لم يحرم بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (فَصَّلَ) على البناء للمفعول ، ونافع ويعقوب وحفص (حَرَّمَ) على البناء للفاعل. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة. (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) بتحليل الحرام وتحريم الحلال. قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح. (بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١)

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) ما يعلن وما يسر ، أو ما بالجوارح وما بالقلب. وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) يكتسبون.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا ، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله ، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه الصلاة والسلام «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه» وفرق أبو حنيفة رحمه‌الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فإن الفسق ما أهل لغير الله به ، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا. (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ) ليوسوسون. (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من الكفار. (لِيُجادِلُوكُمْ) بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله ، وهو يؤيد التأويل بالميتة. (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال ما حرم. (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك ، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٢)

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل. وقرأ نافع ويعقوب (مَيْتاً) على الأصل. (كَمَنْ مَثَلُهُ) صفته وهو مبتدأ خبره. (فِي الظُّلُماتِ) وقوله : (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل ، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا

١٨٠