أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) عطف التكذيب بآيات الله على الكفر ، وهو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(٨٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك والاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراما فقال : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم ، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما. روي (أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف القيامة لأصحابه يوما وبالغ في إنذارهم ، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين ، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ، ويسيحوا في الأرض ، ويجبوا مذاكيرهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فنزلت.

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله ، فيكون حلالا مفعول كلوا ومما حال منه تقدمت عليه لأنه نكرة ، ويجوز أن تكون من ابتدائية متعلقة بكلوا ، ويجوز أن تكون مفعولا وحلالا حال من الموصول ، أو العائد المحذوف ، أو صفة لمصدر محذوف وعلى الوجوه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٨٩)

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه. (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به. وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم (عَقَّدْتُمُ) بالتخفيف ، وابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» وهو من فاعل بمعنى فعل. (فَكَفَّارَتُهُ) فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب إثمه وتستره ، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام «من حلف على يمين ورأي غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير». (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) من أقصده في النوع أو القدر ، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية ، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره : أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون ، أو الرفع على البدل من إطعام ، وأهلون كأرضون. وقرئ «أهاليكم» بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف ، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض.

١٤١

وقيل هو جمع أهلاة. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا وهو ثوب يغطي العورة. وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار. وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط ، والكاف في محل الرفع وتقديره : أو إطعامهم كأسوتهم. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أو إعتاق إنسان ، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الإيمان قياسا على كفارة القتل ، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي واحدا منها. (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) فكفارته صيام ثلاثة أيام ، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ «ثلاثة أيام متتابعات» ، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا ولم ترو سنة. (ذلِكَ) أي المذكور. (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم. (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر ، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير ، أو بأن تكفروها إذا حنثتم. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أعلام شرائعه. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٩٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ) أي الأصنام التي نصبت للعبادة. (وَالْأَزْلامُ) سبق تفسيرها في أول السورة. (رِجْسٌ) قذر تعاف عنه العقول ، وأفرده لأنه خبر للخمر ، وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال : إنما تعاطي الخمر والميسر. (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه. (فَاجْتَنِبُوهُ) الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.

واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية ، بأن صدر الجملة ب (إِنَّما) وقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وسماهما رجسا ، وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شرّ بحت أو غالب ، وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح ، ثم قرر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال تعالى :

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٩٢)

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصود بالبيان ، وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصلاة والسلام «شارب الخمر كعابد الوثن».

وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم ، والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث إنها عماده والفارق بينه وبين الكفر ، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إيذانا بأن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمرا به. (وَاحْذَرُوا) ما نهيا عنه أو مخالفتهما. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ

١٤٢

فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوليكم ، فإنما عليه البلاغ وقد أدى ، وإنما ضررتم به أنفسكم.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٩٣)

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) مما لم يحرم عليهم لقوله : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي اتقوا المحرم وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة. (ثُمَّ اتَّقَوْا) ما حرم عليهم بعد كالخمر. (وَآمَنُوا) بتحريمه. (ثُمَّ اتَّقَوْا) ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي. (وَأَحْسَنُوا) وتحروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها. روي (أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر) فنزلت. ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة ، أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبينه وبين الله تعالى ، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره ، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى ، أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب والشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام ، وبعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فلا يؤاخذهم بشيء ، وفيه أن من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار لله محبوبا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) نزلت في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالصيد ، وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وهم محرمون ، والتقليل والتحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال ، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه. (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) ليتميز الخائف من عقابه وهو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه وقلة إيمانه ، فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بعد ذلك الابتلاء بالصيد.

(فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) فالوعيد لاحق به ، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٩٥)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون جمع حرام كرداح وردح ، ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم ، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفا ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «خمس يقتلن في الحل والحرم ، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور». وفي رواية أخرى «الحية» بدل «العقرب» ، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ ، واختلف في أن هذا النهي هل

١٤٣

يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب. (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ذاكرا لإحرامه عالما بأنه حرام عليه قبل ما يقتله ، والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان ، بل لقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ولأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي : أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت. (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) برفع الجزاء ، والمثل قراءة الكوفيين ويعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم ، وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها ، وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثل كما في قولهم مثلي لا يقول كذا ، والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل. وقرئ «فجزاء مثل ما قتل» ، بنصبهما على فليجز جزاء ، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل ، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما ، والقيمة عند أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى وقال : يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثمن هدي تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالا من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته ، أو وصفته ورفعته بخبر مقدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها ، فإن الأنواع تتشابه كثيرا. وقرئ «ذو عدل» على إرادة الجنس أو الإمام. (هَدْياً) حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة ، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه. (بالِغَ الْكَعْبَةِ) وصف به هديا لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به ، وقال أبو حنيفة يذبح بالحرم ويتصدق به حيث شاء. (أَوْ كَفَّارَةٌ) عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف. (طَعامُ مَساكِينَ) عطف بيان أو بدل منه ، أو خبر محذوف أي هي طعام. وقرأ نافع وابن عامر كفارة (طَعامُ) بالإضافة للتبيين كقولك : خاتم فضة ، والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مدا. (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما ، وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدلي الحمل وذلك إشارة إلى الطعام ، وصياما تمييز للعدل. (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) متعلق بمحذوف أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام ، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل. (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد محرما في الجاهلية أو قبل التحريم ، أو في هذه المرة. (وَمَنْ عادَ) إلى مثل هذا. (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح. (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) مما أصر على عصيانه.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٩٦)

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء ، وهو حلال كله لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». وقال أبو حنيفة لا يحل منه إلا السمك. وقيل يحل السمك وما يؤكل نظيره في البر. (وَطَعامُهُ) ما قذفه أو نضب عنه. وقيل الضمير للصيد وطعامه أكله. (مَتاعاً لَكُمْ) تمتيعا لكم نصب على الغرض. (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي ولسيارتكم يتزودونه قديدا. (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) أي ما صيد فيه ، أو الصيد فيه فعلى الأول يحرم على المحرم أيضا ما صاده الحلال وإن لم يكن له فيه مدخل ،

١٤٤

والجمهور على حلة لقوله عليه الصلاة والسلام «لحم الصيد حلال لكم ، ما لم تصطادوه أو يصد لكم» (ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي محرمين وقرئ بكسر الدال من دام يدام. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٩٧)

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) صيرها ، وإنما سمي البيت كعبة لتكعبه. (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح ، أو المفعول الثاني (قِياماً لِلنَّاسِ) انتعاشا لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار ، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم. وقرأ ابن عامر «قيما» على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله ونصبه على المصدر أو الحال. (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) سبق تفسيرها والمراد بالشهر الشهر الذي يؤدى فيه الحج ، وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه وقيل الجنس. (ذلِكَ) إشارة إلى الجعل ، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها ، دليل حكمة الشارع وكمال علمه. (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٩٩)

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها ، أو لمن أصر عليه ولمن أقلع عنه.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول أتى بما أمر به من التبليغ ولم يبق لكم عذر في التفريط. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠٠)

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها ، رغب به في مصالح العمل وحلال المال. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة ، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير ، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر ، وآثروا الطيب وإن قل. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين أن تبلغوا الفلاح. روي : أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه وإن كانوا مشركين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)(١٠٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمعنى : لا تسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم وإن

١٤٥

تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم ، وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال وهو أنه مما يغمهم والعاقل لا يفعل ما يغمه ، وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء. وقيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيئ كهين ، أو شيء كصديق فخفف. وقيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت وأبيات ويرده منع صرفه. (عَفَا اللهُ عَنْها) صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها. إذ روي أنه لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قال سراقة بن مالك : أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعاد ثلاثا فقال : «لا ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم» فنزلت أو استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها. (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم ، ويعفو عن كثير وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما(أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضيان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلا أجبت ، فقال رجل : أين أبي فقال في النار ، وقال آخر من أبي فقال : حذافة وكان يدعى لغيره) فنزلت.

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار. (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق بسألها وليس صفة لقوم ، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها. (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي بسببها حيث لم يأمروا بما سألوا جحودا.

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٣)

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقّوها وخلوا سبيلها ، فلا تركب ولا تحلب ، وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها ، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وإن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر ، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا : قد حمي ظهره ، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع ، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة. (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى. (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم ، أو الآمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٠٤)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه. (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال ، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين ، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٠٥)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما

١٤٦

لالزموا ولذلك نصب أنفسكم. وقرئ بالرفع على الابتداء. (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام «من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه». والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت. و (لا يَضُرُّكُمْ) يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ «لا يضيركم» والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ (لا يَضُرُّكُمْ) بالفتح ، و (لا يَضُرُّكُمْ) بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ)(١٠٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) أي فيما أمرتم شهادة بينكم ، والمراد بالشهادة الإشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ «شهادة» بالنصب والتنوين على ليقم. (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة. (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر. (اثْنانِ) فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف. (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان. (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) عطف على اثنان ، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعا. (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها. (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي قاربتم الأجل. (تَحْبِسُونَهُما) تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض ، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم ، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما. (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل أي صلاة كانت. (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن ارتاب الوارث منكم. (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) مقسم عليه ، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضا من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبا لطمع. (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المقسم له قريبا منا ، وجوابه أيضا محذوف أي لا نشتري. (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها ، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه ، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن. (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إن كتمنا. وقرئ «لملاثمين» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٠٧)

(فَإِنْ عُثِرَ) فإن اطلع. (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فعلا ما أوجب إثما كتحريف. (فَآخَرانِ) فشاهدان آخران. (يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) من الذين جنى عليهم وهم الورثة. وقرأ حفص (اسْتَحَقَ) على البناء للفاعل وهو الأوليان. (الْأَوْلَيانِ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي : هما الأوليان أو خبر (آخَرانِ) أو مبتدأ خبره آخران ، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان.

١٤٧

وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم (الْأَوَّلِينَ) على أنه صفة للذين ، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم. وقرئ «الأولين» على التثنية وانتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان. (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أصدق منها وأولى بأن تقبل. (وَمَا اعْتَدَيْنا) وما تجاوزنا فيها الحق. (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين الباطل موضع الحق ، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته ، أو يوصي إليهما احتياطا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم ، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت ، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت ، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى. إذ روي أن تميما الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما ، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، فحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما ، ثم وجد الإناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا : قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (فَإِنْ عُثِرَ) فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه. ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١٠٨)

(ذلِكَ) أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد. (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أن ترد اليمين على المدعين. بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم. (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) ما توصون به سمع إجابة. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. فقوله تعالى :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١٠٩)

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف له. وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال ، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم ، أو منصوب بإضمار اذكر. (فَيَقُولُ) أي للرسل. (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي إجابة أجبتم ، على أن ماذا في موضع المصدر ، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار ، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد ولذلك (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) أي لا علم لنا بما لست تعلمه. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم ، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم. وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك ، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة. وقرئ «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ) ، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء. وقرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع.

١٤٨

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(١١٠)

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) بدل من يوم يجمع وهو على طريقة (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة ، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة. أو نصب بإضمار اذكر. (إِذْ أَيَّدْتُكَ) قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ «آيدتك». (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بجبريل عليه الصلاة والسلام ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي كائنا في المهد وكهلا ، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء ، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم ، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتهل. (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) سبق تفسيره في سورة «آل عمران». وقرأ نافع ويعقوب طائرا ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعني اليهود حين هموا بقتله. (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ظرف لكففت. (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين. وقرأ حمزة والكسائي إلا «ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١١٢)

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي أمرتهم على ألسنة رسلي. (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون مفسرة. (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) مخلصون.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) منصوب بالذكر ، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيها على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم. (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة. وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة. وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك ، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب. وقرأ الكسائي تستطيع ربك أي سؤال ربك ، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف. والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام ، من ماد الماء يميد إذا تحرك ، أو من ماد إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة. (قالَ اتَّقُوا اللهَ) من أمثال هذا السؤال. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته وصحة نبوتي ، أو صدقتم في ادعائكم الإيمان.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ(١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١٤)

١٤٩

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها. (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى. (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في ادعاء النبوة ، أو أن الله يجيب دعوتنا. (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك ، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) أي يكون يوم نزولها عيدا نعظمه. وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا. وقرئ «تكن» على جواب الأمر. (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من لنا بإعادة العامل أي عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا. روي : أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا. وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا. وقرئ «لأولانا وأخرانا» بمعنى الأمة أو الطائفة. (وَآيَةً) عطف على (عِيداً). (مِنْكَ) صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي. (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها. (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥)

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) إجابة إلى سؤالكم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم (مُنَزِّلُها) بالتشديد. (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) أي تعذيبا ويجوز أن يجعل مفعولا به على السعة. (لا أُعَذِّبُهُ) الضمير للمصدر ، أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر. (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي من عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا فإنهم مسخوا قردة وخنازير ، ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم. روي: أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام فتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال : ليس منهما ولكن اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا. وقيل كانت تأتيهم أربعين يوما غبا يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبدا ، ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه‌السلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة وثمانون رجلا. وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعفوا وقالوا : لا نريد فلم تنزل. وعن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله لمقترحي المعجزات. وعن بعض الصوفية : المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف ، فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها ، فقال لهم عيسى عليه الصلاة والسلام : إن حصلتم الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها ، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم ، فبين الله سبحانه وتعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة ، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ولا يستقر له فيضل به ضلالا بعيدا.

١٥٠

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)(١١٦)

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم ، ومن دون الله صفة لإلهين أو صلة اتخذوني ، ومعنى دون إما المغايرة فيكون فيه تنبيه على أن عبادة الله سبحانه وتعالى مع عبادة غيره كلا عبادة ، فمن عبده مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده أو القصور ، فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلان باستحقاق العبادة وإنما زعموا أن عبادتهما توصل إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وكأنه قيل : اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله سبحانه وتعالى. (قالَ سُبْحانَكَ) أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك. (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله. (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه ، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. وقوله في نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس الذات. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١١٨)

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) عطف بيان للضمير في به ، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا راجع ، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني ، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن (اعْبُدُوا اللهَ). (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي رقيبا عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) بالرفع إلى السماء لقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) والتوفي أخذ الشيء وافيا ، والموت نوع منه قال الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها). (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات. (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مطلع عليه مراقب له.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه ، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب ، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم ، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد والتعليق بأن.

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)

١٥١

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقرأ نافع (يَوْمِ) بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف ، أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع. وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح ، لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف. (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) بيان للنفع. (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تنبيه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح وأمه ، وإنما لم يقل ومن فيهن تغليبا للعقلاء وقال (وَما فِيهِنَ) اتباعا لهم غير أولي العقل إعلاما بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية ، وإهانة لهم وتنبيها على المجانسة المنافية للألوهية ، ولأن ما يطلق متناولا للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا».

١٥٢

(٦) سورة الأنعام

مكية غير ست آيات أو ثلاث آيات من قوله :

(قُلْ تَعالَوْا) وهي مائة وخمس وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد ، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو لم يحمد ، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون ، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات ، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها. (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أنشأهما ، والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن. ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة الضلال ، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد ، وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات. ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، ويكون بربهم تنبيها على أنه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكونهم وتعيشهم ، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر ، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. ومعنى ثم : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان ، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل ، وعلى الثاني متعلقة ب (يَعْدِلُونَ) والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(٢)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه ، أو خلق أباكم فحذف المضاف. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة. وقيل الأول ما بين الخلق والموت ، والثاني ما بين الموت والبعث ، فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها. وقيل الأول النوم والثاني الموت. وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي ، وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغير ، وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه. (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم ، فإن من

١٥٣

قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا ، فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث ، والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(٣)

(وَهُوَ اللهُ) الضمير لله سبحانه وتعالى و (اللهُ) خبره. (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق باسم (اللهُ) والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير ، كقوله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أو بقوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) والجملة خبر ثان ، أو هي الخبر و (اللهُ) بدل ، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا ، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما ، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥)

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مِنْ) الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض ، أي : ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن. (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه.

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) يعني القرآن وهو كاللازم مما قبله كأنه قيل : إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم ، أو كالدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره ، ولذلك رتب عليه بالفاء. (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة ، أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)(٦)

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أهل زمان ، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة. وقيل ثمانون. وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم. قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها. (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ) أي المطر أو السحاب ، أو المظلة فطن مبدأ المطر منها. (مِدْراراً) أي مغزارا. (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي لم يغن ذلك عنهم شيئا. (وَأَنْشَأْنا) وأحدثنا. (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) بدلا منهم ، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم.

١٥٤

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)(٨)

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) مكتوبا في ورق. (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) فمسوه ، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ، ولأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع ، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ)(لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعنادا.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه ، والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم. (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٩)

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب ، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان ، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك ، وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة. والمعنى ولو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول ملكا لمثلناه رجلا كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي ، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته ، وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية ، وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم. وقرئ «لبسنا» بلام واحدة و «للبّسنا» بالتشديد للمبالغة.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١١)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يرى من قومه. (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله ، أو فنزل بهم وبال استهزائهم. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال كي تعتبروا ، والفرق بينه وبين قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) أن السير ثمة لأجل النظر ولا كذلك ها هنا ، ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣)

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا ، وهو سؤال تبكيت. (قُلْ لِلَّهِ) تقريرا لهم وتنبيها على أنه المتعين للجواب بالإنفاق ، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) التزمها تفضلا وإحسانا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم

١٥٥

النظر أي : ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة ، فيجازيكم على شرككم. أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في. وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم. (لا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم أو الجمع. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع رأس مالهم. وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم ، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي : وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان (وَلَهُ) عطف على لله. (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) والمعنى ما اشتملا عليه ، أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل مسموع. (الْعَلِيمُ) بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء ، ويجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤)

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) إنكار لاتخاذ غير الله وليا لا لاتخاذ الولي. فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما ، أنا فطرتها أي ابتدأتها. وجره على الصفة لله فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ «فطر» وقرئ بالرفع والنصب على المدح. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يرزق ولا يرزق ، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. وقرئ «ولا يطعم» بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير الله ، والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية ، وببنائهما لفاعل على أن الثاني من أطعم بمعنى استطعم ، أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله : (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ). (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق أمته في الدين. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقيل لي ولا تكوننّ ، ويجوز عطفه على قل.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)(١٦)

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب ، والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي يصرف العذاب عنه. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم (يُصْرَفْ) على أن الضمير فيه لله سبحانه وتعالى. وقد قرئ بإظهاره والمفعول به محذوف ، أو يومئذ بحذف المضاف. (فَقَدْ رَحِمَهُ) نجاه وأنعم عليه. (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي الصرف أو الرحمة.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(١٨)

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) ببلية كمرض وفقر. (فَلا كاشِفَ لَهُ) فلا قادر على كشفه. (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) بنعمة كصحة وغنى. (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكان قادرا على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ).

١٥٦

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أمره وتدبيره. (الْخَبِيرُ) بالعباد وخفايا أحوالهم.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١٩)

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) نزلت حين قالت قريش : يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله. والشيء يقع على كل موجود ، وقد سبق القول فيه في سورة «البقرة». (قُلِ اللهُ) أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة. (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) أي بالقرآن ، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة. (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين ، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر ، أو من الثقلين ، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة ، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم ، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. (قُلْ لا أَشْهَدُ) بما تشهدون. (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي بل أشهد أن لا إله إلا هو. (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) يعني الأصنام.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢١)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل. (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من أهل الكتاب والمشركين. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كقولهم : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحرا. وإنما ذكر (أو) وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. (إِنَّهُ) الضمير للشأن. (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فضلا عمن لا أحد أظلم منه.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(٢٣)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) منصوب بمضمر تهويلا للأمر. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ، وقرأ يعقوب «يحشرهم» ويقول بالياء. (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها ، ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) أي كفرهم ، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها ، من فتنت الذهب إذا خلصته. وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب ، أو لأنهم قصدوا به الخلاص. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم لم تكن بالتاء و (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع على أنها الاسم ، ونافع وأبو

١٥٧

عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم (أَنْ قالُوا) ، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب. (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة ، كما يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها). وقد أيقنوا بالخلود. وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٢٥)

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي بنفي الشرك عنها ، وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وقرأ حمزة والكسائي ربّنا بالنصب على النداء أو المدح. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشركاء.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلو القرآن ، والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم ، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول ، فقال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان إني لأرى حقا فقال أبو جهل كلا. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطية جمع كنان وهو ما يستر الشيء. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) يمنع من استماعه ، وقد مر تحقيق ذلك في أول «البقرة». (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاءوك يجادلونك ، وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها ، والجملة إذا وجوابه وهو (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب ، ويجادلونك حال لمجيئهم ، ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاءوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له ، والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو أسطارة أو أسطار جمع سطر ، وأصله السطر بمعنى الخط.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٧)

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي ينهون الناس عن القرآن ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به. (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينأون عنه فلا يؤمنون به كابي طالب. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) وما يهلكون بذلك. (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) جوابه محذوف أي : لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها ، أو يطلعون عليها ، أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا. وقرئ «وقفوا» على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفا. (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) تمنيا للرجوع إلى الدنيا. (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) استئناف كلام منهم على وجه الإثبات كقولهم : دعني ولا أعود ، أي وأنا لا أعود تركتني ، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني ، وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد ، ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء. وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب الثاني على الجواب.

١٥٨

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(٢٩)

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني ، والمعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم ، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا. (وَلَوْ رُدُّوا) أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور. (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والمعاصي. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوا به من أنفسهم.

(وَقالُوا) عطف على لعادوا ، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا ، أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا. (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) الضمير للحياة (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٣١)

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ ، وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه ، أو عرفوه حق التعريف. (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) كأنه جواب قائل قال : ماذا قال ربهم حينئذ؟ والهمزة للتقريع على التكذيب ، والإشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب. (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء. (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم أو ببدله.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) إذ فاتهم النعيم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء الله البعث وما يتبعه. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) غاية لكذبوا لا لخسر ، لأن خسرانهم لا غاية له. (بَغْتَةً) فجأة ونصبها على الحال ، أو المصدر فإنها نوع من المجيء. (قالُوا يا حَسْرَتَنا) أي تعالي فهذا أوانك. (عَلى ما فَرَّطْنا) قصرنا (فِيها) في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها ، أو في الساعة يعني في شأنها والإيمان بها. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئا يزرونه وزرهم.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٣٢)

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية. وهو جواب لقولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا). (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها ، وقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة». (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أي الأمرين خير. وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به ، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(٣٣)

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله :

ولكنّه قد يهلك المال نائله

والهاء في أنه للشأن. وقرئ «ليحزنك» من أحزن. (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الحقيقة. وقرأ نافع

١٥٩

والكسائي (لا يُكَذِّبُونَكَ) من أكذبه إذا وجده كاذبا ، أو نسبه إلى الكذب. (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها ، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم ، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم ، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب. روي أن أبا جهل كان يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به. فنزلت.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤)

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه دليل على أن قوله : (لا يُكَذِّبُونَكَ) ، ليس لنفي تكذيبه مطلقا. (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر. (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لمواعيده من قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) الآيات. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٣٥)

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ) عظم وشقّ (إِعْراضُهُمْ) عنك وعن الإيمان بما جئت به. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية ، أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية ، وفي الأرض صفة لنفقا وفي السماء صفة لسلّما ، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي ، أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل ، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي ولو شاء الله جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته ، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) بالحرص على ما لا يكون ، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٣٧)

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون. (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان. (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي آية بما اقترحوه ، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا. (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) مما اقترحوه ، أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل ، أو آية إن جحدوها هلكوا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله قادر على إنزالها ، وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء ، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. وقرأ ابن كثير (يُنَزِّلَ) بالتخفيف والمعنى واحد.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(٣٨)

١٦٠