أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٩)

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) أي الدين ، وحذف لظهوره ، أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبينا لكم. (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي ، أو يبين حال من الضمير فيه. (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب (ما جاءَنا) فقد جاءكم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي ، وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(٢٠)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) أي وجعل منكم أو فيكم ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى ، وقيل : لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكا. (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله ، وقيل : المراد بالعالمين عالمي زمانهم.

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ)(٢٢)

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومسكن المؤمنين. وقيل : الطور وما حوله. وقيل : دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل الشام. (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكنا لكم ، ولكن إن آمنتم وأطعتم لقوله لهم بعد ما عصوا (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ). (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) ولا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا وقالوا : ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر ، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على الله سبحانه وتعالى. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) ثواب الدارين ، ويجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ، والجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره وهو الذي يجبر الناس على ما يريده. (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) إذ لا طاقة لنا بهم.

١٢١

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢٣)

(قالَ رَجُلانِ) كالب ويوشع (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي يخافون الله سبحانه وتعالى ويتقونه. وقيل كان رجلان من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى عليه الصلاة والسلام ، فعلى هذا الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل ، ويشهد له أنه قرئ «الّذين يخافون» بالضم أي المخوفين ، وعلى المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي من الذين يخوفون من الله عزوجل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان والتثبيت وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الإصحار. (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم ، ولأنهم أجسام لا قلوب فيها ، ويجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة والسلام وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أو مما علما من عادة الله سبحانه وتعالى في نصرة رسله ، وما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه. (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مؤمنين به ومصدقين بوعده.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٢٥)

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد. (ما دامُوا فِيها) بدل من أبدا بدل البعض. (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما ، وقيل تقديره اذهب أنت وربك يعينك.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) قاله شكوى بثه وحزنه إلى الله سبحانه وتعالى لما خالفه قومه وأيس منهم ، ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه‌السلام والرجلان المذكوران وإن كانا يوافقانه لم يثق عليهما لما كابد من تلون قومه ، ويجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه ، ويحتمل نصبه عطفا على نفسي ، أو على اسم إن ورفعه عطفا على الضمير في (لا أَمْلِكُ) ، أو على محل إن واسمها ، وجره عند الكوفيين عطفا على الضمير في نفسي. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) بأن تحكم لنا بما نستحقه وتحكم عليهم بما يستحقونه ، أو بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

(قالَ فَإِنَّها) فإن الأرض المقدسة. (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم. (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، ويؤيد ذلك ما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء ، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل : إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل ، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا ، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه ، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم. روي : أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام

١٢٢

يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه ، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحا لهما وزيادة في درجتهما ، وعقوبة لهم ، وأنهما ماتا فيه مات هارون ، وموسى بعده بسنة. ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)(٢٨)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) قابيل وهابيل ، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل ، فقال لهما آدم : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته ، فازداد قابيل سخطا وفعل ما فعل. وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال : (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ). (بِالْحَقِ) صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق ، أو حال من الضمير في اتل ، أو من نبأ أي ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ظرف لنبأ ، أو حال منه ، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها ، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى ، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قربانا. قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنده ، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملا سمينا. (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده. (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك. (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا ، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه ، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) قيل : كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله سبحانه وتعالى لأن الدفع لم يبح بعد ، أو تحريا لما هو الأفضل قال عليه الصلاة والسلام : «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل». وإنما قال : (ما أَنَا بِباسِطٍ) في جواب (لَئِنْ بَسَطْتَ) للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأسا ، والتحرز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء.

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣٠)

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة ، والمعنى إنما استسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي ، وإثمك ببسطك يدك إلي ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. وقيل معنى بإثمي بإثم قتلي ، وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك ، وكلاهما في موضع الحال أي ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما ، ولعله لم يرد معصية أخيه وشقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفا فأريد أن يكون لك لا لي ،

١٢٣

فالمراد بالذات أن لا يكون له لا أن يكون لأخيه ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته وإرادة عقاب العاصي جائزة.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع. وقرئ «فطاوعت» على أنه فاعل بمعنى فعل ، أو على أن (قَتْلَ أَخِيهِ) كأنه دعاها إلى الإقدام عليه فطاوعته ، وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دينا ودنيا ، إذ بقي مدة عمره مطرودا محزونا. قيل قتل هابيل وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء. وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)(٣١)

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة والضمير في ليري ، لله سبحانه وتعالى ، أو للغراب ، وكيف حال من الضمير في (يُوارِي) والجملة ثاني مفعولي يرى ،! والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى. (قالَ يا وَيْلَتى) كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك ، والويل والويلة الهلكة. (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) لا أهتدي إلى مثل ما أهتدى إليه ، وقوله : (فَأُوارِيَ) عطف على (أَكُونَ) وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى هاهنا لو عجزت لواريت ، وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفا. (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل ، وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه ، إذ روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)(٣٢)

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) بسببه قضينا عليهم ، وأجل في الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم ، من جراك فعلته ، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل ، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشؤه من أجل ذلك. (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق. (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل ، وجرأ الناس عليه ، أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل ، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا ، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها. (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر.

١٢٤

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٣٣)

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يحاربون أولياءهما وهم المسلمون ، جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما. وأصل الحرب السلب والمراد به هاهنا قطع الطريق. وقيل المكابرة باللصوصية وإن كانت في مصر. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي مفسدين ، ويجوز نصبه على العلة أو المصدر لأن سعيهم كان فسادا فكأنه قيل : ويفسدون في الأرض فسادا. (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي قصاصا من غير صلب إن أفردوا القتل. (أَوْ يُصَلَّبُوا) أي يصلبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال ، وللفقهاء خلاف في أنه يقتل ويصلب أو يصلب حيا ويترك أو يطعن حتى يموت. (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا. (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ينفوا من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع إن اقتصروا على الإخافة. وفسر أبو حنيفة النفي بالحبس ، وأو في الآية على هذا للتفصيل ، وقيل : إنه للتخيير والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق. (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) ذل وفضيحة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣٥)

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء مخصوص بما هو حق الله سبحانه وتعالى ويدل عليه قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أما القتل قصاصا فإلى الأولياء يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه ، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب ، وأن الآية في قطاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي ، من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه وفي الحديث «الوسيلة منزلة في الجنة». (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى والفوز بكرامته.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من صنوف الأموال (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ليجعلوه فدية لأنفسهم. (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) واللام متعلقة بمحذوف تستدعيه لو ، إذ التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض ، وتوحيد الضمير في به والمذكور شيئان إما لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله تعالى: (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). أو لأن الواو ومثله بمعنى مع. (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) جواب لو ، ولو بما في حيزه خبر إن والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تصريح بالمقصود منه ، وكذلك قوله :

١٢٥

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) وقرئ (يَخْرُجُوا) من أخرج وإنما قال (وَما هُمْ بِخارِجِينَ) بدل وما يخرجون للمبالغة.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٩)

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما ، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى : والذي سرق والتي سرقت ، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بإضمار وتأويل. والسرقة : أخذ مال الغير في خفية ، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة والسلام «القطع في ربع دينار فصاعدا» وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح ، والمراد بالأيدي الأيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهما ، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) اكتفاء بتثنية المضاف إليه ، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب ، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه. (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(فَمَنْ تابَ) من السراق. (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي بعد سرقته. (وَأَصْلَحَ) أمره بالتقصي عن التبعات والعزم على أن لا يعود إليها. (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة. وأما القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين لأن فيه حق المسروق منه.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٠)

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قدم التعذيب على المغفرة إيتاء على ترتيب ما سبق ، أو لأن استحقاق التعذيب مقدم أو لأن المراد به القطع وهو في الدنيا.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٤١)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعا أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة. (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والواو تحتمل الحال والعطف. (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) عطف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر محذوف أي هم سماعون ، والضمير للفريقين ، أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب ، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول

١٢٦

أي ؛ قابلون لما تفتريه الأحبار ، أو للعلة والمفعول محذوف أي : سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه. (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا في البغضاء ، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم ، أو سماعون منك لأجلهم والإنهاء إليهم ، ويجوز أن تتعلق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي : سماعون ليكذبوا لقوم آخرين. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، إما لفظا : بإهماله أو تغيير وضعه ، وإما معنى : بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده ، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له ، أو في موضع الرفع خبرا لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به. (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أفتاكم محمد بخلافه (فَاحْذَرُوا) أي احذروا قبول ما أفتاكم به. روي (أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما ، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم ، وقال له : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ، ورفع فوقكم الطور ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ، قال : نعم. فوثبوا عليه فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد). (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) ضلالته أو فضيحته (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو الخلود في النار ، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٤٢)

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كرره للتأكيد. (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام كالرشا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب في المواضع الثلاثة بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق ، وقرئ بفتح السين على لفظ المصدر. (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخيير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض ولهذا قيل : لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم ، وهو قول للشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميا لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم ، والآية ليست في أهل الذمة ، وعند أبي حنيفة يجب مطلقا. (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس. (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي أمر الله به. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فيحفظهم ويعظم شأنهم.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)(٤٣)

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ، و (فِيها حُكْمُ اللهِ) حال من التوراة إن رفعتها بالظرف ، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث

١٢٧

في كلامهم لفظا كموماة ودوداة. (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم ، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب. (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعما يوافقه ثانيا ، أو بك وبه.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤٤)

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) يهدي إلى الحق. (وَنُورٌ) يكشف عما استبهم من الأحكام. (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وبهذه الآية تمسك القائل به. (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها بشأن المسلمين ، وتعريضا باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم. (لِلَّذِينَ هادُوا) متعلق بأنزل ، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم. (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، والراجع إلى ما محذوف ومن للتبيين. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) رقباء لا يتركون أن يغير ، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا. (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها. (ثَمَناً قَلِيلاً) هو الرشوة والجاه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) مستهينا به منكرا له. (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله (الْكافِرُونَ) و (الظَّالِمُونَ) و (الْفاسِقُونَ) ، فكفرهم لإنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه. ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها ، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٤٥)

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ) وفرضنا على اليهود. (فِيها) في التوراة. (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي أن النفس تقتل بالنفس. (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، والعين بالعين ، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، أو مستأنفة ومعناها : وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس ، وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالظرف ، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى ، وقرأ نافع (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع. (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي ذات قصاص ، وقراءة الكسائي أيضا بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفصيل. (فَمَنْ تَصَدَّقَ) من المستحقين. (بِهِ) بالقصاص أي فمن عفا عنه. (فَهُوَ) فالتصدق. (كَفَّارَةٌ لَهُ) للمتصدق يكفر الله به ذنوبه. وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه. وقرئ «فهو كفارته له» أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها

١٢٨

بالتصدق له لا ينقص منها شيء. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القصاص وغيره. (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٤٧)

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي وأتبعناهم على آثارهم ، فحذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه ، والضمير للنبيون. (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) مفعول ثان عدي إليه الفعل بالباء. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقرئ بفتح الهمزة. (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) في موضع النصب بالحال. (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) عطف عليه وكذا قوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) ويجوز نصبهما على المفعول له عطفا على محذوف أو تعلقا به وعطف.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) «عليه» في قراءة حمزة ، وعلى الأول اللام متعلقة بمحذوف أي وآتيناه ليحكم ، وقرئ : «وأن ليحكم» على أنّ أن موصولة بالأمر كقولك : أمرتك بأن قم أي وأمرنا بأن ليحكم. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) عن حكمه ، أو عن الإيمان إن كان مستهينا به ، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه كان مستقلا بالشرع وحملها على وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٤٨)

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي القرآن. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) من جنس الكتب المنزلة ، فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس. (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) ورقيبا على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات ، وقرئ على بنية المفعول أي هومن عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى ، أو الحفاظ في كل عصر. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزل الله إليك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للا تتبع لتضمنه معنى لا تنحرف ، أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلا عما جاءك. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أيها الناس. (شِرْعَةً) شريعة وهي الطريق إلى الماء شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية. وقرئ بفتح الشين. (وَمِنْهاجاً) وطريقا واضحا في الدين من نهج الأمر إذا وضح. واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ، ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب ، وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن ، هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية ، أم تزيغون عن الحق وتفرّطون في العمل. (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد

١٢٩

ووعيد للمبادرين والمقصرين. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)(٤٩)

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، ويجوز أن يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أن يضلوك ويصرفوك عنه ، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك. روي (أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم ، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فنزلت. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم المنزل وأرادوا غيره. (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى ، فعبر عنه بذلك تنبيها على أن لهم ذنوبا كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها ، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد :

أو يرتبط بعض النّفوس جمامها

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) لمتمردون في الكفر معتدون فيه.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٥٠)

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) الذي هو الميل والمداهنة في الحكم ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى. وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ ، و (يَبْغُونَ) خبره ، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ «أفحكم الجاهلية» أي يبغون حاكما كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم. وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي عندهم ، واللام للبيان كما في قوله تعالى : (هَيْتَ لَكَ) أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله سبحانه وتعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٥١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) إيماء على علة النهي ، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضادتكم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم ، وهذا التشديد في وجوب مجانبتهم كما قال عليه الصلاة والسلام : «لا تتراءى ناراهما» ، أو لأن الموالي لهم كانوا منافقين. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم.

١٣٠

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)(٥٢)

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعنى ابن أبي وأضرابه. (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موالاتهم ومعاونتهم. (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار. روي (أن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله ، فقال ابن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية موالي) فنزلت. (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين. (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) يقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء ، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. (فَيُصْبِحُوا) أي هؤلاء المنافقون. (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالرفع قراءة عاصم وحمزة والكسائي على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعا بغير واو على أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ ، وبالنصب قراءة أبي عمرو ويعقوب عطفا على أن يأتي باعتبار المعنى ، وكأنه قال : عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا ، أو يجعله بدلا من اسم الله تعالى داخلا في اسم عسى مغنيا عن الخبر بما تضمنه من الحدث ، أو على الفتح بمعنى عسى الله أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين فإن الإتيان بما يوجبه كالإتيان به. (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) يقول المؤمنين بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين وتبجحا بما منّ الله سبحانه وتعالى عليهم من الإخلاص أو يقولونه لليهود ، فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) وجهد الأيمان أغلظها ، وهو في الأصل مصدر ونصبه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم ، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ولذلك ساغ كونها معرفة أو على المصدر لأنه بمعنى أقسموا. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) إما من جملة المقول أو من قول الله سبحانه وتعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل أحبط أعمالهم فما أخسرهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٥٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) قرأه على الأصل نافع وابن عامر وهو كذلك في الإمام ، والباقون بالإدغام وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها ، وقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث فرق : بنو مدلج وكان رئيسهم ذا الحمار الأسود العنسي ، تنبأ باليمن واستولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غدها وأخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الليلة فسرّ المسلمون وأتى الخبر في أواخر ربيع الأول. وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، فأجاب من محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجند من المسلمين وقتله وحشي قاتل حمزة. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ

١٣١

فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالدا فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه سبع فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم فرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يده ، وفي إمرة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام. (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قيل هم أهل اليمن لما روي (أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا). وقيل الفرس لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه. وقيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء الناس. والراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ومحبة الله تعالى للعباد إرادة الهدى والتوفيق لهم في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة ، ومحبة العباد له إرادة طاعته والتحرز عن معاصيه. (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) عاطفين عليهم متذللين لهم ، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل ، واستعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف والحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة. (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه ، وقرئ بالنصب على الحال. (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفة أخرى لقوم ، أو حال من الضمير في أعزة. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلب في دينه ، أو حال بمعنى أنهم مجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين ، فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، واللومة المرة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان. (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف. (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يمنحه ويوفق له (وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفضل. (عَلِيمٌ) بمن هو أهله.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٥٦)

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) لما نهى عن موالاة الكفرة ذكر عقيبه من هو حقيق بها ، وإنما قال (وَلِيُّكُمُ اللهُ) ولم يقل أولياؤكم للتنبيه على أن الولاية لله سبحانه وتعالى على الأصالة ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين على التبع. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم ، أو بدل منه ويجوز نصبه ورفعه على المدح. (وَهُمْ راكِعُونَ) متخشعون في صلاتهم وزكاتهم ، وقيل هو حال مخصوصة بيؤتون ، أي يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة حرصا على الإحسان ومسارعة إليه ، وإنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فطرح له خاتمه. واستدل بها الشيعة على إمامته زاعمين أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها ، والظاهر ما ذكرناه مع أن حمل الجمع على الواحد أيضا خلاف الظاهر وإن صح أنه نزل فيه فلعله جيء بلفظ الجمع لترغيب الناس في مثل فعله فيندرجوا فيه ، وعلى هذا يكون دليل على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها وأن صدقة التطوع تسمى زكاة.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ومن يتخذهم أولياء. (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أي فإنهم هم الغالبون ، ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه فكأنه قيل : ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم ، وتعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزّ بهم.

١٣٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٥٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) نزلت في رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما. وقد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا ولعبا إيماء إلى العلة وتنبيها على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة والبغضاء ، وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار على قراءة من جره وهم أبو عمرو والكسائي ويعقوب ، والكفار وإن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم ، ومن نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين. (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك المناهي. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان حقا يقتضي ذلك. وقيل إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(٥٨)

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) أي اتخذوا الصلاة ، أو المنادة وفيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة. روي : أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله ، قال : أحرق الله الكاذب ، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه وأهله. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهزء به ، والعقل يمنع منه.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(٥٩)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) هل تنكرون منا وتعيبون ، يقال نقم منه كذا إذا أنكره وانتقم إذا كافأه. وقرئ (تَنْقِمُونَ) بفتح القاف وهي لغة. (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) الإيمان بالكتب المنزّلة كلها. (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) عطف على (أَنْ آمَنَّا) وكأن المستثنى لازم الأمرين وهو المخالفة أي : ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه ، أو كان الأصل واعتقاد أن أكثركم فاسقون فحذف المضاف ، أو على ما أي : وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون ، أو على علة محذوفة والتقدير هل تنقمون منا إلا أن آمنا لقلة إنصافكم وفسقكم ، أو نصب بإضمار فعل يدل عليه هل تنقمون أي : ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي: وفسقكم ثابت معلوم عندكم ولكن حب الرياسة والمال يمنعكم عن الإنصاف. والآية خطاب ليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن يؤمن به فقال : أؤمن (بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) إلى قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى : لا نعلم دينا شرا من دينكم.

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٦٠)

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أي من ذلك المنقوم. (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) جزاء ثابتا عند الله سبحانه وتعالى ، والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت هاهنا موضعها على طريقة قوله :

تحيّة بينهم ضرب وجيع

١٣٣

ونصبها على التمييز عن بشر. (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه الله ، أو بشر من ذلك دين من لعنه الله ، أو خبر محذوف أي هو من لعنه الله وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ، ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت ، وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام. وقيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير. (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على صلة من وكذا (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) على البناء للمفعول ، ورفع (الطَّاغُوتَ) و (عَبَدَ) بمعنى صار معبودا ، فيكون الراجع محذوفا أي فيهم أو بينهم ، ومن قرأ «وعابد الطاغوت» أو (عَبَدَ) على أنه نعت كفطن ويقظ أو عبدة أو (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة ، ومن قرأ (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بالجر عطفه على من ، والمراد (مِنْ) الطاغوت العجل وقيل الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى. (أُولئِكَ) أي الملعونون. (شَرٌّ مَكاناً) جعل مكانهم شرا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم ، وقيل (مَكاناً) منصرفا. (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وقدح اليهود ، والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلالة.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ(٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٢)

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) نزلت في يهود نافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في عامة المنافقين. (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك ، والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلي دخلوا وخرجوا ، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالا أفادت أيضا لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظنه ولذلك قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي من الكفر ، وفيه وعيد لهم.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود أو من المنافقين. (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) أي الحرام وقيل الكذب لقوله : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَالْعُدْوانِ) الظلم ، أو مجاوزة الحد في المعاصي. وقيل (الْإِثْمِ) ما يختص بهم والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم. (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام خصه بالذكر للمبالغة. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لبئس شيئا عملوه.

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)(٦٣)

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروّ وتحري إجادة ، ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسبة أقبح من مواقعه المعصية ، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(٦٤)

١٣٤

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

ونظيره من المجازات المركبة : شابت لمة الليل. وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ). (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة ، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك : سبني سب الله دابره. (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتا لغاية الجود ، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه ، وتنبيها على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإكرام. (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته ، لا على تعاقب سعة وضيق في ذات يد ، ولا يجوز جعله حالا من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها ، ولا من اليدين إذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك. والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشرك فيه الآخرون لأنهم رضوا بقوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) كلما أرادوا حرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين ، وللحرب صلة أوقدوا أو صفة نارا. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فلا يجازيهم إلا شرا.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به. (وَاتَّقَوْا) ما عددنا من معاصيهم ونحوه.(لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها. (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وجعلناهم داخلين فيها. وفيه تنبيه على عظم معاصيهم وكثرة ذنوبهم ، وأن الإسلام يجب ما قبله ، وإن جل وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بإذاعة ما فيهما من نعت محمد عليه الصلاة والسلام والقيام بأحكامها. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث إنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم ، أو القرآن (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ، أو يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار. فيجتنونها من رأس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض بين بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض ، ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين. (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)

١٣٥

عادلة غير غالية ولا مقصرة ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل مقتصدة متوسطة في عداوته. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي بئس ما يعملونه ، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٦٧)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا ولا خائف مكروها. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فما أديت شيئا منها ، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة ، فإن غرض الدعوة ينتقض به ، أو فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) من حيث أن كتمان البعض والكل سواء في الشفاعة واستجلاب العقاب. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (رِسالاتِهِ) بالجمع وكسر التاء. (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) عدة وضمان من الله سبحانه وتعالى بعصمة روحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعرض الأعادي وإزاحة لمعاذيره. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) لا يمكنهم مما يريدون بك. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى الله تعالى إليّ إن لم تبلغ رسالتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت». وعن أنس رضي الله تعالى عنه ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال : انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس. وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد به تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد ، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم افشاؤه.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٦٨)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي دين يعتد به ويصح أن يسمى شيئا لأنه باطل. (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإذعان لحكمه ، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه والمعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له ، والمراد إقامة أصولها وما لم ينسخ من فروعها. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم ، فإن ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٩)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) سبق تفسيره في سورة «البقرة» والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز إن والتقدير : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك كقوله :

فإنّي وقيّار بها لغريب وقوله :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

١٣٦

أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، وهو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم وميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح ، كان غيرهم أولى بذلك. ويجوز أن يكون والنصارى معطوفا عليه ومن آمن خبرهما وخبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

ولا يجوز عطفه على محل إن واسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر ، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ وخبر إن معا فيجتمع عليه عاملان ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ، ولأنه يوجب كون الصابئين هودا. وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها في موضع الرفع بالابتداء. وقيل (الصَّابِئُونَ) منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز بالواو. (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) في محل الرفع بالابتداء وخبره. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر والراجع محذوف ، أي : من آمن منهم ، أو النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه. وقرئ و «الصابئين» وهو الظاهر و «الصابيون» بقلب الهمزة ياء و «الصابون» بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفا ، أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات ولم يتبعوا شرعا ولا عقلا.

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)(٧٠)

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم. (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف. (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) جواب الشرط والجملة صفة رسلا والراجع محذوف أي رسول منهم. وقيل الجواب محذوف دل عليه ذلك وهو استئناف ، وإنما جيء ب (يَقْتُلُونَ) موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لها واستفظاعا للقتل وتنبيها على أن ذلك من ديدنهم ماضيا ومستقبلا ومحافظة على رؤوس الآي.

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي وحسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب لا تكون بالرفع على أنّ أن المخففة من الثقيلة ، وأصله أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن فصار : أن لا تكون وإدخال فعل الحسبان عليها وهي للتحقيق تنزيل له منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم ، وأن أو أن بما في حيزها ساد مسد مفعوليه. (فَعَمُوا) عن الدين أو الدلائل والهدى. (وَصَمُّوا) عن استماع الحق كما فعلوا حين عبدوا العجل. (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ثم تابوا فتاب الله عليهم. (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرة أخرى. وقرئ بالضم فيهما على أن الله تعالى عماهم وصمهم أي رماهم بالعمى والصمم ، وهو قليل واللغة الفاشية أعمى وأصم. (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير ، أو فاعل والواو علامة الجمع كقولهم : أكلوني البراغيث ، أو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم. وقيل مبتدأ والجملة قبله خبره وهو ضعيف لأن تقديم الخبر في مثله ممتنع. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم على وفق أعمالهم.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٧٢)

١٣٧

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي في عبادته أو فيما يختص به من الصفات والأفعال. (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم فإنها دار الموحدين. (وَمَأْواهُ النَّارُ) فإنها المعدة للمشركين. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي وما لهم أحد ينصرهم من النار ، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق ، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأن يكون من كلام الله تعالى نبه به على أنهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقربا إليه وهو معاديهم بذلك ومخاصمهم فيه فما ظنك بغيره.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧٤)

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي أحد ثلاثة ، وهو حكاية عما قاله النسطورية والملكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) وما في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدئ جميع الموجودات إلا إله واحد ، موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة ومن مزيدة للاستغراق. (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) ولم يوحدوا. (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر ، أو ليمسن الذين كفروا من النصارى ، وضعه موضع ليمسنهم تكريرا للشهادة على كفرهم وتنبيها على أن العذاب على من دام على الكفر ولم ينقلع عنه فلذلك عقبه بقوله :

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) أي أفلا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا. وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٧٥)

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله سبحانه وتعالى بالآيات كما خصهم بها ، فإن إحياء الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه‌السلام وهو أعجب ، وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق ، أو يصدقن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ويفتقران إليه افتقار الحيوانات ، بين أولا أقصى ما لهما من الكمال ودل على أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرا من الناس يشاركهما في مثله ، ثم نبه على نقصهما وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة ، ثم عجب لمن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة فقال : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجبين أي إن بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٧٦)

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ، وهو وإن

١٣٨

ملك ذلك بتمليك الله سبحانه وتعالى إياه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر الله تعالى به من البلايا والمصائب ، وما ينفع به من الصحة والسعة وإنما قال ما نظرا إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأسا ، وتنبيها على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية ، وإنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بالأقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٧٧)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أن تدعوا له الألوهية ، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة. وقيل الخطاب للنصارى خاصة. (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شريعتهم. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) ممن شايعهم على بدعهم وضلالهم. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كذبوه وبغوا عليه ، وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع.

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٧٩)

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي لعنهم الله في الزبور والإنجيل على لسانهما. وقيل إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت لعنهم الله تعالى على لسان داود فمسخهم الله تعالى قردة ، وأصحاب المائدة لما كفروا دعا عليهم عيسى عليهم‌السلام ولعنهم فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل. (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم.

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له ، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٨١)

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) من أهل الكتاب. (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يوالون المشركين بغضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي لبئس شيئا قدموه ليردوا عليه يوم القيامة (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) هو المخصوص بالذم ، والمعنى موجب سخط الله والخلود في العذاب ، أو علة الذم والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأنه كسبهم السخط والخلود.

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) يعني نبيهم وإن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا عليه‌السلام. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) إذ الإيمان يمنع ذلك. (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن دينهم أو متمردون في نفاقهم.

١٣٩

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(٨٢)

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن قبول الحق إذا فهموه ، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود. وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر.

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٨٣)

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) عطف على (لا يَسْتَكْبِرُونَ) وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأبيهم عنه ، والفيض انصباب عن امتلاء ، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة ، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها. (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا ، أو للتبعيض بأنه بعض الحق. والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله. (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بذلك أو بمحمد. (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ، من الذين شهدوا بأنه حق ، أو بنبوته ، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (٨٤)

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين ، والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم آمنتم؟ و (لا نُؤْمِنُ) حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل ، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله ، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين. أو بكتابه ورسوله فإن الإيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئة وتعظيما ، ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف ، والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عامل الأولى مقيدا بها أو نؤمن.

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ(٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٨٦)

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أي معتقده. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا النظر والعمل ، أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور. والآيات الأربع روي (أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعث إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابه فقرأه ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين ، فأمر جعفرا أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن) وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلا من قومه وفدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم سورة يس فبكوا وآمنوا.

١٤٠