أمثال القرآن

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

أمثال القرآن

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: معراج
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6632-94-7
الصفحات: ٥٥٢

اضرار الفقر تعم جميع المجتمع ، فإنَّ الفقر منشأ كثير من الذنوب منها : السرقة والاعمال المنافية للعفة وغير ذلك.

وقد جاء في رواية أخرى للامام الصادق عليه‌السلام : «ولو أنَّ الناس ادوا زكاة اموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً لاستغنى بما فرض الله وأنَّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا الا بذنوب الأغنياء». (١)

وحسب هذه الرواية فإنَّ الحقوق الشرعية الواجبة مثل الخمس والزكاة تسد حاجة المحتاجين ، واذا ما تم العمل بهذه الواجبات ، فإنَّ هذه المعضلة ستُجتث جذورها بالكامل.

يطرح هنا تساؤل وهو : ما الحاجة إلى الانفاق والتبرعات المستحبة إذا كانت التبرعات الواجبة تعمل عملها وتسد حاجة الفقراء إلى المال؟ وعلى هذا فما دور الآية ٢٦١ من سورة البقرة في هذا المجال؟

يمكننا الاجابة عن هذا السؤال بطريقتين :

الاولى : قد يتخلّف بعض المتمولين والاغنياء عن وظائفهم الشرعية ولا يدفع ما عليه من الزكاة الواجبة ـ كما هو الحال في الوقت الحاضر فان كثيراً من المتمولين غير موفقين في دفع ما عليهم من الزكاة الواجبة ، وفي هذه الحالة يأتي دور الصدقات والتبرعات المستحبة لتملأ الفراغ الناشئ عن عدم دفع الاغنياء لما عليهم من صدقات واجبة.

وعلى هذا ، فالمحسنون من المؤمنين يقومون بدور الاغنياء العصاة ويتحملون نتائج عصيانهم ، هذا اضافة إلى ما يتحملون من دفع الصدقات الواجبة عليهم.

الثانية : إنّ الزكاة وغيرها من التبرعات الواجبة والمفروضة على الاغنياء تسد الحاجة الضرورية للفقراء إذا ما دفعت. واما الانفاق فدوره يبرز في التوسيع على الفقراء ليبلغ بهم مستوى رفاهي نسبي ومعتد به.

في النتيجة : إذا اخذنا بنظر الاعتبار مستوى الفقر ونوعيته في المجتمع يمكننا الحكم في ضوئه على مستوى اقترابنا من المجتمع الاسلامي المطلوب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٦ ابواب ما تجب فيه الزكاة ، الباب الاول ، الرواية السادسة.

٨١

٤ ـ دراسة المشبَّه في آية الانفاق

للمفسرين رأيان في تحديد المشبّه في الآية ٢٦١ من سورة البقرة ، فبعض قال بأنه المال المنفق ، حيث شُبِّه بالحبة المباركة التي تنتج سبعمائة حبة.

وقال بعض آخر : بأنَّ المشبَّه هو المنفِق الذي ينمو ويتكامل إلى مستوى رفيع جداً.

اكثر المفسرين يعتقد بأنَّ المشبَّه هو المال المنفق ويقدرون جملة محذوفة هنا لتكون حقيقة الآية كالتالي : (مثل اموال الذين ينفقون ..).

ونحن نعتقد أنَّ الآية لا تحتاج إلى التقدير ، وحسب الظاهر فإنَّ المشبَّه هو الإنسان المنفِق الذي تعلو شخصيته وتتكامل وتنمو إلى مستوى سبعمائة ضعف ، ومصداق هذا الاعتقاد هو الايات والروايات التي دلت على أنَّ الإنسان كالنبات ينمو ويتكامل.

أولاً : يقول الله في الايات ١٧ و ١٨ من سورة نوح : (واللهُ أنْبَتَكُم مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً ثم يُعيدُكُمْ فيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجاً) فقد شُبّه الإنسان هنا بالنبات الّذي يُزرع لينمو ويتكامل ثم يجف ثم يحيا مرة أخرى ثم يجف ثم يحيا وهكذا ...

ثانياً : يقول الله في الآية ٣٧ من سورة آل عمران : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَريا ...) فقد استخدم هنا مادة الانبات للاشارة إلى تربية مريم من قبل زكريا ، والشاهد هو تشبيه تربية الإنسان بتنمية الزرع بعد انباته.

ثالثاً : جاء في حديث نقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إياكم وخضراء الدمن!» قيل وما خضراء الدمن؟ قال : «المرأة الحسناء في منبت السوء» (١) فقد شبه الإنسان هنا بالنبات الذي قد ينبت في مكان سيء.

من جانب آخر ، انَّ في هذا الحديث خطاباً واضحاً ووصية مهمة للشباب المقبلين على تشكيل عائلة. ففي هذا الحديث يوصي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمنين أنْ لا يجعلوا الجمال المقياس الوحيد لانتخاب الزوجة بل اضافة اليه ينبغي النظر إلى العائلة ، أي المكان الذي تربت فيه الزوجة ، وذلك رغم أنَّ الجمال بحد ذاته قيمة إلّا أنّه يرضي الزوج في الفترة الوجيزة الاولى من

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٤١ ، أبواب مقدمات النكاح ، الباب ٧ ، الحديث ٧. والدمن تعني المزبلة.

٨٢

الحياة المشتركة ، أمّا القيم الأساسية والمهمة في الحياة العائلية ، وهي التربية والثقافة والفكر والقيم المكتسبة في البيت فيبرز دورها في المراحل اللاحقة من حياة الإنسان. والجميلة إذا لم تتميز بسيرة حسنة واخلاق جميلة بدلت محيط العائلة المقدس إلى جهنم يصعب تحملها.

كما شاهدنا في الايات والروايات السابقة ، فإنَّ الإنسان شبّه بالنبات الذي ينمو ويتكامل ، وبهذا يمكن أنْ نستدل على أنَّ المُراد من المشبَّه في الآية هو الإنسان نفسه. وفي النتيجة يكون مفهوم الآية كالتالي : أيها الإنسان أنت كالنبات والإنفاق بمثابة الماء الذي يسقي النبات ليمنحه حياة ونمواً. وبعبارة أخرى : إنَّ الانفاق يُحيي في الإنسان الصفات العليا مثل السخاء والعطاء والمروة والانصاف والشجاعة وغير ذلك.

إنَّ هذه الصفات في البداية تكون (فعلاً) أو عملاً مجرداً ، واذا ما تكررت تصبح عادة وفي صورة الاستمرار تصبح (حالات) وفي النهاية تكون (ملكة) (١) وجزءاً من وجود الإنسان.

وعلى هذا ، فالانفاق ، قبل ان تكون له عوائد مادية ، له مردودات معنوية ، وكلما كان الانفاق عن اخلاص اشد وكلما كان اطهر وانسب كلما كانت هذه المردودات اكثر وأوسع. وقد نكون جميعاً جربنا عطاءنا مسكيناً لم يصّرح بحاجته لنا مقداراً من المال (رغم حاجتنا له) وجدنا في ذلك لذة معنوية احسسناها بكل وجودنا ، وبلغنا إثر ذلك هدوءاً باطنياً وحالة روحانية ومعنوية خاصة.

ذلك هو النمو والتعالي الذي تشير اليه الآية من خلال مثلها. إنَّ الله القادر والحكيم بامكانه أنْ يغني الجميع ويجتث جذور الفقر من المجتمعات ، لكنه شاء أن تكون هناك فجوة بين الفقراء والأغنياء يسعى المؤمنون في ملئها ليروا آثار أعمالهم الحسنة وبركات انفاقهم في الدنيا ويشعروا بهذه الاثار ويبلغوا اثر ذلك الدرجات العليا من الكمال والمعنوية. وعلى هذا فلا نمن على الله بالانفاق ولا على المنفق عليه ، بل الله هو الذي يمن علينا أنْ وفقنا لهذا العمل العظيم (اللهم وفقنا لما تحب وترضى).

__________________

(١) ان الملكة تعني (الصفة الراسخة في البدن) ، وتوضيح ذلك : إذا حصلت للانسان هيئة خاصة من جراء فعل ما قيل لهذه الهيئة : (كيفية نفسانية) ، واذا كانت هذه الكيفية سريعة الزوال قيل لها : (حال) ، واذا كانت بطيئة الزوال كانت ملكة أو عادة (موسوعة دهخدا ينقلها عن الجرجاني).

٨٣

ومن مجموع ما مضى يمكننا ان نفسر الآية ٢٦١ من سورة البقرة بصراحة من دون حاجة إلى تقدير جملة محذوفة. رغم ذلك فانا لا نصر على تفسيرنا بل نعتبر أنَّ كلا التفسيرين مقبولان ، أي يمكننا القول : الآية تفيد أنَّ مال الفرد المنفق ينمو كما أنَّ شخصيته تنمو من خلال نمو وتكامل خصالها الحسنة. (١)

نمو المال المنفق في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

في مجال نماء المال المنفق ، للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كلام جميل ننقله هنا : «ما تصدق احد بصدقة من طيب ـ ولا يقبل الله الا الطيب ـ إلَّا أخذها الله الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون اعظم من الجبل». (٢)

في هذه الرواية نرى عدة نقاط أهلاً للإنتباه :

الاولى : الرواية صرحت بأنَّ الله ياخذ الصدقة بيمينه وهذا أمر يطرح تساؤلاً : هل لله جسم وأعضاء؟

من البديهي أنّ الله غير مجسم ، وتعبير (الاخذ باليمين) كناية عن قدرة الله الكاملة ، وذلك لأنَّ اليمنى عند الإنسان غالباً اقوى ، لذلك كان مفهوم العبارة أنَّ الله يأخذ الصدقة بقدرة كاملة مع احترام.

الثانية : انّ ما يحضى بالأهمية في الإسلام هو كيفية العمل ودوافعه لا كميته وظاهره. وعلى هذا ، فإنّ اعطاء تمرة حلال لمسكين من دون منة ولا أذى افضل عند الله من تمر كثير غير حلال أو تزامن مع منة أو أذى.

الثالثة : وفقاً لهذه الرواية ، فإنّ المال المنفق ينمو إلى سبعمائة ضعف أو أكثر. وعلى هذا الأساس ، فإنَّ المال يبقى عند الله ينمو ويرد إلى صاحبه يوم القيامة ليكون سبباً لانقاذه من نار الجحيم.

__________________

(١) الاستاذ كغيره من محققي علم الاصول يجوّز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. وبناء على هذا الرأي يتمكن المتكلم النطق بلفظ وارادة عدة معاني منه. وللمزيد راجع انوار الاصول ١ : ١٤١ فما بعدها.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٧٠٢ ، وقد جاء نفس المضمون في روايات اهل البيت عليهم‌السلام في وسائل الشيعة ج ٦ ، ابواب الصدقة الباب ٧ ، الحديث ٥ ـ ٨.

٨٤

(الانفاق) في تعابير القرآن الجميلة

لاجل بيان اهمية الانفاق في الإسلام وقيمته في القران ، وردت في القرآن تعابير كثيرة عن هذا الأمر ، وهي اهل للالتفات والدقة نكتفي هنا بذكر نموذجين منها :

(الأول :) جاء في الآية الشريفة ٢٤٥ من سورة البقرة ما يلي : (مَنْ ذَا الّذِي يَقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعَافاً كَثِيْرَةً)

التعبير بالقرض الحسن عن الانفاق تعبير بديع ومدهش. كيف يمكن لله القادر والمالك لكل شيء أنْ يقترض من الإنسان الفقير والمحتاج لربه في كل حركاته وسكناته وحتى في الشهيق والزفير؟ ومع لحاظ أنَّ القرض الربوي في الإسلام حرام فإنّ التعبير عن الانفاق بالقرض الحسن لا يكشف إلّا عن اهمية الانفاق وتشجيع للعباد لاجل اداء هذا العمل بإخلاص.

ويبدو أنَّ ذكر هذه النقطة ضروري ، وهي أنَّ (القرض الربوي) ناظر إلى العباد وسلوكهم بينما القرض الحسن ناظر إلى رب العباد ، وهو يعني أنَّ من يقرض الله قرضاً فالله يرجعه مع اضعاف مضاعفة. والنقطة المدهشة كثيراً هنا هي أنَّ يَد الفقير ـ حسب الآية والروايات المذكورة ـ هي يد الله ، وبيته هو بيت الله. وفي الحقيقة ان ما يوضع في يد الفقير يوضع في يد الله ، ولذلك كانت الروايات توصينا بأنْ نضع ايدينا في مستوى ادنى من يد الفقير عند التصدق إليه ، لأجل أنْ يَأخذها من أيدينا ، ولأنَّ يده هي يد الله وقدرته الكاملة ، وهو الذي يستلم المال من المتصدق. حذارا أن تصدر منا اهانة أو تحقير لفقير.

وقد تكررت العبارة المذكورة هنا في الآية ١١ من سورة الحديد ، كما قد اضيف لها جملة أخرى : (مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ ...)

الثاني : جاء في الآية ٩٢ من سورة آل عمران : (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شِيءٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ...)

وكذا جاء في الآية الشريفة ٢٦٧ من سورة البقرة (يَا أيَّها الَّذِينَ آمنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُم وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ) ، أي عليكم أن لا تنفقوا الا من الطيبات فلا تنفقوا من الاشياء التي لا فائدة فيها أو مضرة مثل الملابس الخلقة أو الفواكه والمأكولات الفاسدة وما

٨٥

شابه ذلك ، بل تذهب الآية إلى ابعد من ذلك لتأمر بانفاق ما يحبه الإنسان ، والذي هو أهل لان يعطى بيد الله ، فإنَّ غير ذلك ليس أهلاً لوضعه بيد الله ، فالانفاق بالاكل ينبغي أنْ يكون من النوع الذي يحبه المنفق له ولعياله وفي الملابس من النوع الذي يحب لبسه المنفق واهل بيته.

إنَّ نظام القيم الحاكم في الإسلام يحكى عن منح الإسلام القيمة والاهمية لكيفية العمل لا كميته ومقداره ، ولهذا يضاعف الله أجرة تمرة واحدة ألف ضعف ، بينما لا يفعل ذلك في تمرة أُخرى ؛ لأنَّها قد لا تكون مكتسبة من حلال أو قد تنفق بنية الرياء وما شابه. ننقل هنا حكاية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تكشف عن دقائق الانفاق :

كان الرسول يعدُّ العدة لاحد غزواته وكان المسلمون يتبرعون لاجل هذه الغزوة .. فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا : مراء ، وهذا القول صدر من المنافقين الذين لا يا من احد من لسانهم ، وجاء أبو عقيل ، الذي ما كان مورده يسعه للتصدق فاضطر للعمل ليل نهار لاجل الاشتراك في هذه التعبئة الجماهيرية ، بنصف صاع فقال المنافقون : إنّ الله لغني عن صدقة هذا ، فنزلت الآية ٧٩ من سورة التوبة : (الّذِيْنَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ والّذينَ لَا يَجِدُونَ إلّا جُهْدَهُم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُم سَخِرَ اللهُ مِنْهُم وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ) (١)

__________________

(١) انظر الامثل ٦ : ١٣٠ ـ ١٣٣.

٨٦

المثل السادس :

الإنفاق مع المنِّ والأذى

يقول الله تعالى في الآية ٢٦٤ من سورة البقرة :

(يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ والأذَى كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلَا يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِيْنَ)

المثلان الخامس والسادس كلاهما حول الانفاق لكنهما غير مكررين ، بل إنَّ المثل الخامس حكى فضل الانفاق وقيمته ، أمّا في المثل السادس فالحديث عن الانفاق ذات الصبغة السلبية وأنَّ المؤمنين لا ينبغي أنْ يبطلوا صدقاتهم وانفاقهم بالمنّ وأذى الآخرين.

الشرح والتفسير

الآية بدأت حديثها بخطاب المؤمنين ، ومعنى ذلك أنَّ ما ورد في الآية من اوامر فهي خاصة بالمؤمنين ، وشرطها الاول هو الايمان وأن الذي خرج مصداقاً عن هذه الآية وكان غير عامل بها فهو ليس بمؤمن.

عبارة (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ والأذَى) تفيد أنَّ شيئين يبطلان الصدقة ، الأول : المنّ ، والثاني : ايصال الاذى للاخرين ؛ وذلك لأنَّه قد لوحظ أنَّ البعض يتصدق على آخرين لكن صدقته تتزامن مع اذى إلى آخر العمر ، بأن يقول له : (لولاي لكنت محتاراً وما كان لك شأن واعتبار) أو (خذ هذا المبلغ ولا تريني وجهك بعد ذلك).

٨٧

ليس المنّ والاذى هما الوحيدان اللذان يبطلان الصدقة ، بل قطع كلام الفقير الذي يريد حكاية حاله ومشاكله أيضاً أمر غير صحيح ومرفوض.

جاء في رواية : «لا تقطعوا على السائل مسألته ، فلولا أنَّ المساكين يكذبون ما افلح من ردهم». (١)

لا بأس هنا ان نبتّ بتوضيح مفردة (المنّ). إنَّ أصل هذه المفردة هو (مَن) وهو وزن خاص ، وقد استخدمت هذه المفردة للاشارة إلى المعنى المراد في الآية ؛ لأجل أنَّ الشخص المانَّ يحمِّل الممنون عليه عبئاً وثقلاً يشعر به.

من جانب آخر ، فإنَّ انعام الشخص على آخر يقال له (منّ) وهو على قسمين :

الأول : المنّ العملي بأنْ ينعم شخص عملياً على شخص اخر ، وهذا أمر مستحسن.

الثاني : المنّ الادعائي بان ينعم شخص على اخر بالقول دون العمل ، فهو عملياً لم ينعم عليه أبداً. وقد استخدمت هذه المادة في القرآن المجيد عشرين مرة.

من موارد استخدام هذه المادة هو ما جاء في الآية ١٧ من سورة الحجرات : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَىَّ إسْلَامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم أنْ هَدَاكُم للإيمَانِ)

فالمنُّ الاول في الآية هو منٌّ إدعائي ، وذلك لأنّ الاعراب لم يمنوا على النبي بأي نعمة. فإنَّ المريض إذا جاء طبيباً وطلب منه الدواء فكتب الطبيب الدواء له وشفى من جرّاء استخدام هذا الدواء ، فهل هذا يعني انعام المريض ومنه على الطبيب؟!

أمّا المنُّ الثاني في الآية فهو مَنٌّ عَمَلَيٌ ؛ وَذلك لأنّ الله أنعم عليهم نعمة الإسلام ، فَمَنَّ عليهم بهذا العطاء.

وعلى هذا ، فالمَنّ الصادر من الله يعني البذل والعطاء أو المنّ العملي ، أمّا المنّ الصادر من الإنسان فيحتمل كلا المعنيين العملي والادعائي. والمنّ الأول في الآية هو منّ ادعائي وقولي.

ثم تمثل الآية هؤلاء الاشخاص بقطعة من الحجر وتقول : (... كالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ باللهِ واليَومِ الآخر فَمَثَلهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٦ ، ابواب الصدقة الباب ٢٢ ، الحديث ٣.

٨٨

يَقْدِرُونَ عَلى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا ...)

فالذي ينفق مع منّ واذى (كالكافر المرائي) انفاقه غير مقبول عند الله ؛ لأنَّ الإيمان هو شرط القبول ، ومثل هذين (أي المان والمؤذي من جهة والكافر المرائي من جهة اخرى) كمثل صفوان ، أي قطعة من الحجر تراكمت عليها طبقة من التراب بحيث تبدو صالحة للزراعة ، فاذا بوابل (مطر) يصيبها ليكشف عن واقعها الصلد المتحجر وعدم صلاحيتها للزراعة ، فيجدون أنفسهم (لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ) فذهبت مساعيهم هباءً ؛ لأنَّ عَملهم لم يكن عن علم ومعرفة بل كان بناءً على النظر إلى الظاهر لا الباطن والعمق.

الغيث نعمة يمكنه أنْ يروي المزارع وينمي البذور ، كما يمكنه ان يدمر الزرع. كذلك سائر آيات الله فهي تفيد المؤمنين والصالحين من بركاتها ، كما تفضح وتضل الكافرين والمنافقين.

إنَّ كلفة وزحمة المزارع الذي يزرع بذور الاخلاص والمزارع الذي يزرع بذور الرياء واحدة لكنَّ حاصل الزرعين ليس واحداً ، فاحدهما يحصل على سبعمائة ضعف والآخر قد لا يحصل على ادنى شيء بل يفقد كل ما كان لديه.

خطابات الآية

١ ـ خطابات القرآن المجيد غالباً ما تكون عامة (يا أيُّها النَّاس) و (يا بَنِي آدَمَ) و (يا أيُّها الإنْسَانُ) و (يَا أيُّها الَّذِين آمَنُوا) وهذا يعني تعميم خطابات القرآن لجميع البشر مهما كان جنسهم ومهما كانت قوميتهم ، ولذلك لا نجد في خطاباته عبارات من قبيل : (يا أيُّهَا العَرَبُ) أو (يا قريش) وما شابه ذلك.

هذه الخطابات تتضمن نقطة ظريفة وهي عولمة الدين الاسلامي ، أي ان الإسلام دين لا يختص بقوم أو بلدٍ أو قبيلة أو جنس بل هو للجميع اينما وجدوا.

٢ ـ إنَّ الرياء والتظاهر عمل لا أساس له ولا تواصل ، والمترائي والمتظاهر يحكم عليه بالفضيحة ؛ وذلك لأنَّ كلّ وقتٍ يحتمل أنْ طروّ ظاهرة تكشف عن وجه الحقيقة ، كما كشف الوابل في الآية عن حقيقة الصخرة المتحجرة.

٣ ـ إنَّ الذين ينفقون مع المنِّ والأذى كالحجارة وقلوبهم بشدة الحجارة. وما يلفت

٨٩

الانتباه هنا هو أنَّ المطر اللطيف يكشف عن قسوة قلوب هؤلاء وطبيعتهم. إنَّ الغيث يروي البذرة لتنمو ، لكن دوره هنا هو تدمير هذه البذرة. إنَّ الغيث من الآيات الالهية تنفذ في قلب المترائي فتغسل فيه طبقة الرياء وتكشف عن صلابة القلب ، ليفتضح صاحبه.

٤ ـ انّ المترائين والمنفقين ، الذين يمنون ، لا يحصلون على ثمرة من جرّاء عملهم هذا ، كما هو الحال بالنسبة للمزارع الذي ينثر البذور في الارض الصلبة فانه يفقد بذوره كما تذهب مساعيه هباء ، وفي النهاية لا يحصل على أي ثمرة ، كذا المنفق مع الرياء فهو لا يحصل على أي ثواب كما يفقد المال المنفق.

٥ ـ بناء على التفكير الفلسفي لاكثر المدارس ، وبناء على ما يعتقده عامة الناس ، فإنَّ المال شيء ثمين ، والغنى يُعدُّ من القيم. وحسب ما يرى الإسلام ـ مع الاخذ بنظر الاعتبار اهمية المال ودوره في الحياة الدنيا ـ فإنَّ مفاهيم مثل الايمان والايثار والشهادة و.. لها قيمة اكبر من المال. ومن جملة تلك القيم التي يعتقد بها الإسلام هي احترام الانسانية وحفظ حرمة المؤمن وكرامته.

وعلى هذا ، هل يمكن عدُّ عمل الشخص ، الذي يمنح مبلغاً لمسكين أمام أعين الناس ويُذهب بذلك اعتباره وماء وجهه ، صدقة أو انفاقاً؟ وهل من الصحيح أنْ يتوقع هذا الشخص الأجر والثواب من الله؟

من المؤسف أنَّ نظام القيم للمذاهب المادية هو المال ، ومظهره الراهن هو الدولار ، وهو بامكانه ان يبرر كل شيء حتى الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية.

من تلك الجرائم هو مبايعة الإنسان وبخاصة البنات والبنين الصغار ، فإنَّ دلالي البشر يقومون بشراء البنات والبنين من الدول الفقيرة وبخاصة الشرقية بابخس قيمة ثم يبيعونهم في الدول الغربية المدافعة عن حقوق البشر بمبالغ باهضة. وقد يساء استخدام هؤلاء الاطفال بقطع اعضائهم وزرعها في أجسام بعض المتمولين في العالم الغربي ، كما قد يستخدمون لاغراض جنسية وتجارية.

ومن جملة اجراءات الغربيين التي بررتها دولاراتهم هي (الديمقراطية) التي تشكل البنية الاساس لدعوى حقوق البشر عندهم ، فقد تم المعاملة على هذه القضية بالدولارات. ومثل

٩٠

ذلك هو أصوات الشعب الجزائري المظلوم حيث أبطلت وبتوا علاوة على ذلك بسلسلة من اجراءات تعسفية ومجازر جماعية ، لكنّ مدعيي حقوق البشر في الجزائر عمي وصم وبكم ، فلا سمعوا بهذه المجازر ولا رأوا صورها ولا غير ذلك.

إنَّ ذلك في الحقيقة من الاثار القيمة للدولار ؛ وذلك لأنَّ هذه الحوادث تؤمّن مصالحهم ، بل انفسهم مباشرة أو بشكل غير مباشر يقومون بهذه الاجراءات ؛ حفظاً لمصالحهم.

هذا الامر لا ينحصر في الجزائر بل الامر عام في العالم أجمع ، فإنَّ أي حكومة في العالم تؤمن مصالحهم ولا تحول دون زيادة مواردهم تعد حكومة جيدة مهما كانت قبلية أو بدوية أو لا يلحظ فيها أي دور لآراء الناس ، بينما الحكومة التي تعرض مصالحهم واموالهم للخطر فهي حكومة غير انسانية ومخالفة لحقوق البشر ولو كانت تحضى بمعالم انسانية عالية وتدار بواسطة نظام سياسي متقدم.

إنَّ الأمر في الإسلام يختلف ، فنظام القيم فيه يبتني على قيم من قبيل الايمان والكمال الانساني وكرامة الإنسان واعتباره وشرفه وحيثيته الرفيعة.

سيرة الائمة في الإنفاق والبذل

إنَّ طريقة بذل الائمة وكيفيتها من الحكايات التي يُعتبر ويُتعلم منها الدروس. ينقل العلامة المجلسي عند ذكر سيرة الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام الحكاية الجميلة التالية التي ملؤها العبر والدروس :

«خرج الحسن والحسين عليهما‌السلام وعبد الله بن جعفر (زوج زينب عليها‌السلام) حجاجاً ففاتهم اثقالهم ، فجاعوا وعطشوا فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا : هل من شراب؟ فقالت : نعم فاناخوا بها وليس الا شويهة في كسر الخيمة ، فقالت : احلبوها وامتذقوا لبنها ، ففعلوا ذلك وقالوا لها : هل من طعام؟ قالت : لا إلَّا هذه الشاة ، فليذبحنّها احدكم حتى اهيئ لكم شيئاً تأكلون. فقام اليها أحدهم فذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا ثم اقاموا حتى ابردوا فلما ارتحلوا قالوا لها : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه ، فاذا رجعنا سالمين فالمي بنا فانا صانعون اليك خيراً ، ثم ارتحلوا.

٩١

واقبل زوجها واخبرته عن القوم والشاة ، فغضب الرجل وقال : ويحك تذبحين شاتي لاقوام لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش.

ثم بعد مدة الجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة ، فدخلاها وجعلا ينقلان البعير اليها ويبيعانه ويعيشان منه فمرت العجوز في بعض سكك المدينة ، فاذا الحسن عليه‌السلام على باب داره جالس فعرف العجوز وهي له منكرة ، فبعث غلامه فردها فقال لها : يا امة الله تعرفيني؟ قالت : لا. قال انا ضيفك يوم كذا. فقالت العجوز بأبي أنت وأمي فامر الحسن عليه‌السلام فاشترى لها ما شاء الصدقة ألف شاة (١) وامر لها بألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى اخيه الحسين عليه‌السلام فقال : بكم وصلك اخي الحسن؟ فقالت : بألف شاة والف دينار ، فامر لها بمثل ذلك ، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر عليه‌السلام فقال : بكم وصلك الحسن والحسين عليهما‌السلام؟ فقالت : بألفي دينار وألفي شاة فامر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار». (٢)

الصدقة تدفع ميتة السوء (٣)

لقد قلنا سابقاً : إنَّ الصدقة تفيد المنفق قبل أنْ يفيد منها المحتاج ، وقد درسنا في السطور السابقة ما يترتب على الصدقة من صفات كمالية اضافة إلى الاجر والثواب المعنوي ، ونقول هنا : بأنَّ الصدقة تدفع البلاء والموتة السيئة ، والرواية التالية تكشف عن هذا الامر.

مرَّ يهودي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السام عليك (٤) فاجاب الرسول : «وعليك» ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ هذا اليهودي يعضه اسود في قفاه فيقتله» ، قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أنْ انصرف فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ضعه» فوضع الحطب

__________________

(١) رغم الولاء الظاهر الذي كان يبديه الناس لحكومة معاوية ، إلّا أنّ قلوب كثيراً منهم أو اكثرهم كانت مع الأئمة ، ويبدو أنَّ بذل الامام الحسن هذا كان من محل تبرعات الناس وانفاقهم وعطائهم لأهل البيت.

(٢) بحار الانوار ٤٣ : ٣٤٨.

(٣) يراد من ذلك الموت الذي يحصل اثر الإحتراق أو الموت بالتقطيع ارباً ارباً وما شابه.

(٤) هذه الطريقة من السلام تعارفت عند بعض المسلمين ، وهو أمر يؤسف له ، ويبدو أنَّ عملهم هذا ناشىء عن الجهل بما يعني هذا السلام ، الذي هو نوع من اللعن.

٩٢

فاذا اسود في جوف الحطب عاض على عود فقال : «يا يهودي أي شيء عملت اليوم؟» فقال : ما عملت عملاً إلَّا حطبي هذا احتملته فجئت به وكان معي كعكتان فاكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بها دفع الله عنه» وقال : «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان». (١)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٦ ، ابواب الصدقة ، الباب ٩ ، الحديث ٣ ، ونجد هناك روايات أخرى بهذا المضمون.

٩٣
٩٤

المثل السابع :

الإنفاق اللائق

يقول الله الرازق في الآية ٢٦٥ من سورة البقرة :

(وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أنْفُسِهِم كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وابِلٌ فأتَتْ أُكَلَها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ)

رغم أنَّ هذا المَثل كَسَابقه عن الإنفاق لكن يختلف عنه في أنَّه يعكس الجوانب الايجابية للانفاق والمناظر الجميلة له غير تلك المناظر التي تحدث عنها المثل السابق والتي تزامنت مع المنّ والأذى ، لأنَّ الحديث هنا عن الانفاق المتزامن مع الاخلاص.

الشرح والتفسير

يقول الله في هذه الآية : إنّ مثل الذين ينفقون باخلاص ومن دون رياء وأذى كمثل البستان في مكان مرتفع ذات تربة خصبة يسقيها الغيث ، والشمس تسطع عليها من كل مكان ، فكانت النتيجة هي محاصيل وافرة ومضاعفة ، قياساً لمحاصيل الأراضي المماثلة ، والذين ينفقون بمثابة البستان ويكون انفاقهم كمحاصيل هذا البستان وافراً ومتضاعفاً.

إنَّ دَوافِع الإنفاق عند هؤلاء وفقاً لهذه الآية هي كالتالي :

الاول : (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) وهذا اشارة إلى الحديث المعروف عن الامام علي عليه‌السلام : «ما عبدتك خوفاً من نارك» رغم أنَّ نَاره مخيف تصورها فضلاً عن واقعها.

«ولا طمعاً في جنتك» رغم أنَّ نعمها ثمينة وقيِّمة جداً ولا يمكنها أن تدخل في مخيلة الانسان. (١)

__________________

(١) لمعرفة المزيد من النعم الجسمانية والروحانية في الجنة راجع تفسير نفحات القرآن ٦ : ١٨٩ فما بعدها.

٩٥

«لكن وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك» (١) أي أنَّ أهليته للعبادة هي التي دفعت الامام للعبادة لا الخوف والطمع.

إنَّ النوع الاول من العبادة هو عبادة العبيد ؛ لأنَّ العبد يَمتثل الاوامر خوفاً من مولاه وسوطه. والنوع الثاني من العبادة هو عبادة التجار ؛ لأنَّ العبادة هنا يُتوخَّى منها الثمن والعوض. والنوع الاخير من العبادة هو عبادة الاحرار ، حيث إنَّ اطاعتهم لمولاهم لا خوفاً ولا طمعاً بل لله خالصة. (٢)

وقد تكون الآية الشريفة هنا ناظرة إلى النوع الاخير من العبادة ، أي أنَّ الإنفاق هنا لم يتوخَّ منه إلّا وجه الله ورضوانه.

الثاني : الدافع الثاني للمنفقين في الآية الشريفة هو بلوغ الكمالات النفسانية والملكات الروحانية ، حيث قالت الآية : (تَثْبِيتاً لأنْفُسِهِمْ) ، وقد جاء في مفردات الراغب أنَّ التثبيت يعني التقوية والتحكيم. بالطبع ليس المراد من التثبيت في الدعاء (اللهُمَّ ثَبِّتْ أقْدَامَنَا) هو تقوية الاقدام وتحكيمها ، بل المراد تقوية خطى الاقدام وتحكيم هذه الخطى. (٣)

خطابات الآية

١ ـ في هذا المثل شُبِّه المنفِق بالجنة (٤) والبستان الذي يقع في ارضٍ مرتفعة ، وفي هكذا أرض توجد عدة خصائص هي كالتالي :

الف ـ نور الشمس من العوامل المهمة لنمو النباتات ، والارض المرتفعة تنال نور الشمس من كل صوب ؛ لأنه لا شيء يحول دون السطوع المباشر عليها.

__________________

(١) بحار الانوار ٦٧ : ١٨٦.

(٢) هذا مضمون لكلمة قصيرة للامام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة الكلمة ٢٣٧.

(٣) الآية (٢٦٥ من سورة البقرة) شاهد اخر على ما ذهبنا إليه في المثل السادس من أنَّ المشبّه ليس المال المنفق بل نفس الشخص المنفق ، فإنَّ الآية هنا تصرح في تشبيه شخصية المنفِق بالجنة (البستان).

(٤) الجنة من مادة (جن) وتعني التستر ، وقد استخدمت في البستان باعتبار أنَّ اشجاره تستر الأرض وتغطيها. وعلى هذا ، فليس كل بستان جنة. واطلاق مفردة (الجن) على الموجود المعروف باعتبار أنه غير مرئي بل مستتر ومختفي. واطلاق المجنون على من سلب عقله باعتبار ان عقله يتحجم ويتعطل ويتستر.

٩٦

باء ـ جو المناطق المرتفعة كثيراً ما يكون نقياً وذلك يعد من عوامل نمو الاشجار وإثمارها.

جيم ـ الأراضي المرتفعة محفوظة من السيول والفيضانات ، بينما البساتين التي تقع في السهول والوديان والشواطئ كثيراً ما تكون عرضة للفيضانات.

دال ـ أنَّ جمال وعظمة بستان يقع في مرتفع اكثر بكثير من جمال وعظمة بستان في سهل.

وعلى هذا ، فإنَّ منفقين كهؤلاء يتلقون انوار الهداية اكثر من غيرهم هذا أولاً.

وثانياً : ينالون من نسيم بذل الله وعطاءه النقي بشكل افضل.

وثالثاً : قلما يكونون عرضة للبلايا وميتة السوء.

ورابعاً : يبدون محبوبين عند الاخرين اكثر ؛ لما يحضون به من معنويات عالية.

المشكلة الوحيدة لهكذا بساتين هي أنًها محرومة من امكانية جريان قنوات وسواقي فيها ، ولاجل ذلك ينزل الله وابلاً من المطر كثرته تروي تربة البستان بالمقدار الكافي.

٢ ـ أشارت الآية الشريفة إلى نوعية المطر (وابل) وهي قد تكون ناظرة بذلك إلى درجات الانفاق ؛ باعتبار أنَّ الوابل أو المطر الكثير يروي البستان بالكامل ونتيجة ذلك هو الثمار والفواكه الكثيرة أمّا المطر القليل فلا يروي الاشجار ولا ينضج الثمار جيداً.

هناك فرق في الانفاق في سبيل الله بين أن يكون المنفق بحاجة إلى المال المنفَق وبين أنْ لا يكون هناك حاجة له. رغم أنَّ الإنفاق في كلا الحالتين رضاء لوجه الله.

كما أنَّ هناك فرقاً بين أنْ يصل المال المنفق إلى من يحتاجه حقاً وبين أنْ يصل بيد من لا يحتاجه حقاً.

ذيل الآية القائل : (واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيْرٌ) شاهد قيِّم على ما قلناه في المقطع السابق حيث إنَّ مضمون هذا الذيل هو أنَّ الله بصير وعليم بكون هذا المنفِق انفق رغم حاجته للمال أو لا أو أنَّه انفقه للمستحق أم لا.

٣ ـ موضوع الانفاق في الايات الشريفة ٢٦٢ و ٢٦٣ و ٢٦٥ من سورة البقرة هو انفاق المال والثروة ، فالايات تحدثت عن الانفاق في الثروات من المال والثياب والمأكولات والادوية والكتب والقرطاسية ووسائل العمل وما شابه ذلك ، إلّا أنَّ الآية الثالثة من سورة البقرة وسّعت نطاق الانفاق ليشمل كل ما انعم من نعم. وقد عدت الآية الانفاق من صفات

٩٧

المؤمنين (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (١)

وحسب هذه الآية فإنَّ موضوع الإنفاق عام ويشمل جميع نعم الله وارزاقه ، مثل الموارد التالية :

ألف ـ العلم ، على العلماء أن يبذلوا من علمهم ، وذلك من خلال تعليم الآخرين ، وإلّا حُوكموا كالمحتكرين في محكمة العدل الإلهي.

وقد جاء في رواية للامام الصادق عليه‌السلام «زَكَاةُ العِلْمِ نَشْرُهُ». (٢)

باء ـ نفوذ الكلام وهو من ارزاق الله ، ومن المستحسن أنْ ينفق منه. فاذا شاهدت اختلافاً بين زوج وزوجته أو بين الجيران أو بين شريكين أو بين الاخوة والاخوات أو بين اهالي قرية و.. فمن المستحسن استخدام النفوذ للمصالحة.

جيم ـ الاعتبار والجاه في المجتمع ، وهذه نعمة الهية أخرى ينبغي أنْ ينفق منها ، فاذا ما كان مظلوم متورطاً في مخالب ظالم وكان بالامكان الشفاعة لهذا المظلوم باستخدام الوجاهة والاعتبار الاجتماعي وانقاذه من مخالب الظالم فلا ينبغي التكاسل ، بل ينبغي العمل باشتياق.

د ـ الاولاد ، وهي من اكبر نعم الله وينبغي انفاقها في سبيل الله متى ما اقتضت الحاجة ، كما حصل ذلك للشعب الايراني اثناء الثورة الاسلامية والحرب المفروضة فقد ضحّوا باولادهم دون أنْ يبخلوا بشيء من ذلك.

ه ـ الفكر ، وهو من أثمن نعم الله على الانسانية وينبغي انفاقه وبذله عند المشورة لاعانة الاخرين إلى مستوى يعد الإنسان خلاله مستشاراً صالحاً وناصحاً.

__________________

(١) وقد جاء مثل هذا التعبير في سورة الرعد الآية ٢٢ ، وسورة النساء الآية ٣٩ وسورة فاطر الآية ٢٩ وآيات متعددة أخرى.

(٢) ميزان الحكمة ، الباب ١٥٨٧ الحديث ٧٦٠٣. وفي الباب روايات أخرى عينت زكاة خاصة لكل شيء وقد جاء في رواية : (على كل جزء من اجزائك زكاة واجبة لله عزوجل بل على كل شعرة بل على كل لحظة) وقد عدت بعض الروايات مانع الزكاة كافراً أو سارقاً وفي روايات أخرى اردفت أنواعاً موحشة من العذاب لمانع الزكاة ، للمزيد راجع ميزان الحكمة ، الباب ١٥٨٠ ـ ١٥٨٢.

٩٨

طرق الانفاق وإعانة الاخرين

للاعانة والانفاق طرق مختلفة ، والطريق المتعارف عند الناس هو الانفاق المالي النقدي وغير النقدي للمحتاجين ، وهو أمر مستحسن إلّا أنَّ هناك طرقاً افضل واكثر تأثيراً تفي بهذا العمل الخير ، وهو تشكيل منظمات ومؤسسات خاصة للاعانة والانفاق المنظم.

لقد تشكلت هكذا مؤسسات على مستوى واسع في بعض المحافظات الايرانية وهي تسعى لجمع التبرعات من جهة ، ومن جهة أخرى تستقصي المحتاجين لاعانتهم بمختلف الطرق ، مثل إعداد وسائل البيت الرخيصة من بعض المؤسسات والشركات والدوائر.

وقد تكفلت بعض هذه المؤسسات قضية دراسة الاطفال وتحمل نفقاتهم والاشراف عليهم من هذا الجانب ، وارتقى بعض من هؤلاء الاطفال الدرجات العليا ودخلوا الجامعات وتخرجوا منها.

وتقوم بعض منها بنشاطات ثقافية اضافة إلى الاعانات المالية ، وذلك من قبيل تشكيل دورات تعليمية تثقيفية لمختلف الاعمار.

على المسلمين في العصر الراهن أنْ يلتفتوا إلى هذا النوع من الانفاق المنظم اكثر. ورغم أنَّ بعض الدوائر الحكومية تكفلت بهذه القضية إلّا أنّ كثرة المحتاجين والفقراء في عصرنا هذا يستدعي وجود مؤسسات خيرية منسجمة على نطاق واسع.

جمعيات اعانة السجناء والمرضى من ضمن الطرق الاخرى المنسجمة والجيدة التي اشرنا اليها في السطور السابقة.

إنَّ الالتفات إلى الابتكار والابداع (١) في مجال الاعانات لهذه المؤسسات والجمعيات يؤدي إلى انتاجية اكثر ، بحيث تتم الاعانات والمساعدات بالافادة من اقل مقدار ممكن من الامكانيات.

لقد قلنا سابقاً : إنَّ الصدقة كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تمنع من ميتة السوء ، وهنا حديث اخر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه : «إنَّ الله لا اله إلَّا هو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة والحرق والغرق

__________________

(١) ومن هذه الابداعات هو تنظيم جماعات لارسالهم إلى المناطق المحرومة وبخاصة المناطق الحدودية للبت في النشاطات الثقافية ، مثل بناء المدارس والمساجد والمستوصفات وغير ذلك ، وهذه المجاميع يمكنها ان تصد أو تحد من الهجمات الثقافية لاعداء الإسلام من امثال (الوهابية).

٩٩

والهدم والجنون ، وعد سبعين باباً من السوء». (١)

بالطبع ، كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس هراء بل يحكي عن الواقع. وهذه آثار حقيقية للصدقة فاذا احيت هذه السنة الحسنة لزالت الكثير من مشاكلنا الاجتماعية والشخصية كذلك.

٤ ـ في آية المثل السابع يُلاحظ أربع خصائص :

الاولى : الأرض المرتفعة. الثانية : اشجار البستان. الثالثة : الوابل أو المطر الشديد.

والرابعة : الثمار والفواكه الكثيرة. وكلٌّ من هذه تشبيهات من ناحية ، ومن ناحية أخرى تعبّر عن اعضاء الإنسان وصفاته أو النعم الالهية التي يتمتع بها هذا الموجود.

التعابير التالية عن التشابيه الأربعة الماضية جاءت في أحد التفاسير :

لقد شبه روح الإنسان وقلبه بالارض المرتفعة التي يقع فيها البستان ، أمّا اعمال الإنسان الصالحة واللائقة فقد شبهت بالانفاق والبذل في سبيل الله ، وقد شبهت رحمة الله ونعمه وهدايته التكوينية والتشريعية (٢) بالمطر الكثير (الوابل) الذي يروي الاشجار والاعمال الصالحة والملكات الفاضلة لتنمو. واما الفضائل النفسية والصفات الروحية والاخلاقية البارزة من قبيل الايثار والجود والسخاء والبذل والتواضع والخضوع وحب الغير فقد شبهت بثمار البستان وفواكهه المباركة.

الهدف من هذه التشابيه وهذا المثل ـ كغيره من الامثال ـ هو التكامل الوجودي للانسان وبلوغ درجة القرب إلى الله ، وبتعبير آخر : صيرورة الإنسان عبداً خالصاً لله ، وذلك هو الهدف من خلق الإنسان وجميع الموجودات ذات الشعور والاحاسيس ، (٣) وذلك عبارة أخرى عن ايصال الإنسان إلى مقام يؤهله للدخول في خطاب الآية اللطيفة والمهدئة : (يا أيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فادخُلِي فِي عِبَادِي وادْخُلي جَنَّتِي) (٤)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٦ ، ابواب الصدقة ، الباب ٩ ، الحديث ١.

(٢) المراد من الهداية التشريعية هو آيات القرآن المجيد والوحي واقوال وسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمراد من الهداية التكوينية هو الاعدادات والإمدادات الغيبية التي تطرأ على قلب الإنسان المؤمن وروحه لتهديه إلى الصواب.

(٣) يقول الله في الآية ٥٦ من سورة الذاريات : (وَمَا خَلَقْتُ الإنسَ والجِنَّ إلّا لَيَعْبُدُون.)

(٤) الفجر الآيات ٢٧ ـ ٣٠.

١٠٠